شَاعِرُ مِصْرَ

دعوتَ خَيالي فاستجابتْ خواطري
وحدَّثني قلبي بأنكَ زائرِي
عَشِيَّةَ أغرَى بي الدُّجى كلَّ صائحٍ
وكلَّ صدًى في هَدْأَةِ الليلِ عابِرِ
أقولُ: مَنِ السَّارِي؟ وأنتَ مُقَارِبِي
وأهتفُ بالنَّجْوَى، وأنتَ مجاوِرِي
أُحِسُّكَ مِلْءَ الكونِ رُوحًا وخاطِرًا
كأنَّكَ مبعوثُ الليالِي الغوابِرِ
ومَثَّلَ لي سمْعي خُطَاكَ، فَخِلْتُهَا
صَدَى نبأٍ من عالم الغيبِ صادرِ
سوى خطراتٍ من بنانٍ رفيقةٍ
طَرَقْتَ بها بابي فَهَبَّتْ سرائِرِي
عرفتُك، لم أسمعْ لصوتِكَ نَبْأَةً
وشِمْتُكَ، لم يَلْمَحْ مُحَيَّاكَ ناظِرِي
أرى طَيْفَ معشوقٍ، أرى روحَ عاشقٍ
أرى حُلْمَ أجيالٍ، أرى وجهَ شاعِرِ

•••

إِلَيْكَ ضِفافَ النيلِ، يا روحَ حافظٍ
فَجَدِّدْ بها عهدَ الأنيسِ المُسَامِرِ
وساقِطْ جَنَاها من قوافيكَ سَلْسَلًا
رَخِيمًا كأرْهَامِ الندى المُتَنَاثِرِ
سَرَتْ فيه أرواحُ النَّدَامَى، وصَفَّقَتْ
كئوسٌ على ذِكْرِ الغريب المسافِرِ
نَجِيَّ الليالي القاهريَّات: طُفْ بها
خَيَالَةَ ذكرى، أو عُلَالَةَ ذاكرِ
وجُزْ عَالَم الأشباح، فالليلُ شاخِصٌ
إليكَ، وأضواءُ النجومِ الزَّوَاهِرِ
وطالِعْ سماءً في مَعَارجِ قُدْسِهَا
مَرَحْتَ بوُجْدَانٍ من الشِّعْرِ طاهِرِ
وسَلْسَلْتَ من أندائِها وشُعَاعِهَا
جَنَى كَرْمَةٍ لم تَحْوِهَا كَفُّ عاصِرِ
تَدَفَّقَ بالخمرِ الإلهيِّ كأسُها
فغرَّدَ بالإلْهَامِ كلُّ مُعَاقِرِ
عَلَى النِّيل رُوحانيةٌ من صفَائِهَا
وَلَأْلَاءُ فجرٍ عن سَنَا الخُلْدِ سَافِرِ
فصافِحْ بعينيكَ الدِّيارَ فطالَمَا
مَدَدْتَ على آفاقِهَا عينَ طائِرِ
وخُذْ في ضِفَافِ النهر مَسْرَاكَ، واتَّبِعْ
خُطَا الوَحْيِ في تلك الحقولِ النَّواضِرِ
حدائقُ فرعَوْنٍ بدفَّاقِ نهرِهَا
وَجَنَّتُهُ ذاتُ الجَنَى والأزَاهِرِ
وفي شُعَبِ الوادي، وفوقَ رمالِهِ
عِصِيُّ نَبِيٍّ، أو تَهَاوِيلُ ساحِرِ
صوامِعُ رُهْبَانٍ، مَحَاريبُ سُجَّدٍ،
هياكِلُ أربابٍ، عروشُ قَيَاصِرِ
سَرَى الشِّعرُ في باحاتها روحَ ناسِكٍ
وترديدَ أنفاسٍ، ونَجْوَى ضمائرِ
وهمسَ شِفَاهٍ تَثْمَلُ الروحُ عندَه
وتَسْبَحُ في تِيهٍ من السِّحْرِ غامِرِ
هو الشعرُ، إيقاعُ الحياةِ وشَدْوُها
وحُلْمُ صِبَاها في الرَّبِيعِ المُبَاكِرِ
وصوتٌ بأسرارِ الطبيعةِ ناطِقٌ
ولكنَّه روحٌ، وإبداعُ خاطِرِ
ووَثْبَةُ ذِهنٍ، يَقنصُ البرقَ طائرًا
ويغزو بروجَ النَّجْمِ غيرَ مُحاذِرِ
فيا دُرَّةً لم يحوِهَا تاجُ قيصرٍ
ولا انتظمتْ إلَّا مفارقَ شاعِرِ
تَأَلَّهَ فيكِ القلبُ واستكبَرَ الحِجَى
على دَعَةٍ، من تَحْتِهَا روحُ ثائِرِ
إذا اعترضَ الجبَّارُ ضَوْءَكِ شامِخًا
تَلَقَّيْتِهِ كِبْرًا بِبَسْمَةِ ساخِرِ
لَمستِ حديدَ الْقَيْدِ فانْحَلَّ نَظْمُهُ
وأطلقتِ أسرَى من براثِنِ آسِرِ
وما زِدْتِ في الأحداثِ إلَّا صلابةً
إذا النَّارُ نالتْ من كِرَام الجَوَاهِرِ
يزينُ بكِ العافِي سقيفةَ كُوخِهِ
فتخشَعُ حَيْرَى نيِّراتُ المقاصِرِ
أضاعوك في أرضِ الكنوزِ، وما دَرَوْا
بأنَّكِ كَنْزٌ ضَمَّ أغْلَى الذَّخَائِرِ
وهُنْتِ على مهدِ الفنونِ، وطالما
سموت بسلطانٍ من الفَنِّ قاهِرِ
إذا افتقدَ التاريخُ آثارَ أمَّةٍ
أشَرْتِ بما خلَّدتِه من مآثِرِ

•••

سَلامًا، سَلامًا، شاعرَ النيل: لم يزَلْ
خيالُكَ يَغْشَى كلَّ نادٍ وسامِرِ
وشعرُكَ في الأفْوَاهِ إنشادُ أمةٍ
تغنَّتْ بماضٍ واستعزَّتْ بحاضِرِ
هتفتَ بها حيًّا، فلا تَأْلُ خالدًا
هُتَافَكَ، وانفضْ عنكَ صَمْتَ المقابِرِ

•••

صَدَاكَ، وإن لم تُرْسِلِ الصوتَ، مالئٌ
سَمَاعَ البَوَادِي والقُرى والحَوَاضِرِ
وذِكْرَاكَ نَجْوَى البائسينَ، إذا هَفَتْ
قلوبٌ، وحارتْ أدمُعٌ في المحَاجِرِ
يَدُلُّ عليكَ القلبَ أنَّاتُ بائِسٍ
ونظرةُ محْزونٍ، وإطراقُ سادِرِ
وما أنتَ إلَّا رائِدٌ من جماعَةٍ
تَوَالَوْا تِبَاعًا بالنُّفُوسِ الحَرَائِرِ
صَحَتْ بادياتُ الشرقِ تحتَ غُبَارِهِمْ
على شَدْوِ أقلامٍ ولمعِ بواتِرِ
وفي القِمَمِ الشمَّاءِ، من صَرَخَاتِهِم
صَدَى الرعدِ في عَصْفِ الرياحِ الثَّوائِرِ
يُضيئونَ في أفْقِ الحياةِ كَأَنَّهُمْ
على شَطِّهَا النَّائي منارةُ حائِرِ
فيا شاعرًا غَنَّى فَرَقَّ لشَجْوِهِ
جَفاءُ اللَّيالي، واعتِسافُ المقادِرِ
لَكَ الدهْرُ، لا، بل عالَمُ الحِسِّ والنُّهَى
خميلةُ شادٍ آخذٍ بالمشَاعرِ

•••

فَنَمْ في ظلالِ الشَّرْقِ، واهْنَأْ بمضْجَعٍ
نَدِيٍّ بأنفاسِ النَّبِيِّينَ عاطِرِ
ووَسِّدْ ثراهُ الطُّهْرَ جَنْبَكَ وانتَظِمْ
لِداتكَ فيه، فَهْوَ مَهُد العَبَاقِرِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤