ميشيل بوبير

قصة تمثيلة للكاتب الفرنسي «هنري بيك»

وكان الكاتب يستطيع أن يسميها غير هذا الاسم، وأن يتخذ أي اسم من أسماء أشخاصها عنوانًا لها. فجميع أشخاص هذه القصة خليقون أن يعطوها أسماءهم؛ لأنهم جميعًا خليقون بالعناية، مثيرون في نفسك رغبة الاستطلاع، وباعثون فيها عاطفة قوية، عاطفة الإعجاب حينًا وعاطفة الإشفاق حينًا آخر، وعاطفة الغضب مرة وعاطفة الرضا مرة أخرى. كلهم خليقٌ بالعناية، وكلهم يصلح موضوعًا لبحث نفسي منتج قوي يلذ العقل ويلذ الشعور معًا. وقد يكون هذا الاسم الذي اختاره المؤلف أظهر أسماء القصة، وقد يكون هذا الشخص الذي آثره الكاتب أشد أشخاص القصة استثارة لإعجاب الجماهير وعامة القراء والنظارة. ولكني أوثر على هذا الشخص مع إعجابي به وعطفي عليه شخصين آخرين: أحدهما يستحق الإعجاب المطلق والإجلال الذي لا حد له، والآخر يستحق شيئًا من الإشفاق غير قليل ويدعو مع استحقاقه للإشفاق إلى شيءٍ كثير من الروية والتفكير.

وليس هؤلاء الأشخاص الثلاثة وحدهم هم الذين يستحقون العناية ويضطرون القارئ إلى التأمل فيهم والتفكير في أمرهم، بل هناك أشخاص ثلاثة آخرون كلهم خليقٌ بالتفكير، وكلهم يستثير في نفسك عاطفة قوية كما قلت. وفي الحق إني لست أدري: أنحن بإزاء قصة واحدة، أم قصتين، أم قصص ثلاث، أم أكثر من هذه القصص الثلاث أيضًا؟ بل في الحق إني لست أدري: أنحن بإزاء قصة، أو قصص تدرس الأشخاص وحياتهم النفسية القيمة، أم نحن بإزاء قصة أو قصص تدرس طائفة من الأخلاق وضروبًا من أطوار النفس الإنسانية عامة وألوانًا من الحياة الإنسانية من حيث هي؟ وقد نكون بإزاء هذه القصص جميعًا، وقد نستطيع أن ننظر إلى هذه القصة من جميع هذه الأنحاء. فمن أراد درس الأشخاص وما يمتازون به من قوة وضعف، وما يتصفون به من خلال تدعو إلى الإعجاب ونقائص تثير الغضب؛ وجد فيها حاجته، ومن أراد درس الآراء والنظريات الخلقية والعلمية وما بينها وبين حياة الناس من صلة وما لها في حياة الأفراد والجماعات من أثرٍ؛ يجد فيها حاجته. ماذا أقول؟! إنك تستطيع أن تلتمس فيها شيئًا آخر غير الأشخاص وحياتهم وعواطفهم، وغير النظريات العلمية وصلاتها وآثارها، تستطيع أن تلتمس فيها السياسة ومكانها من أهواء الأفراد والجماعات، وأثرها في نفوس الأفراد والجماعات أيضًا. تستطيع أن تجد في هذه القصة الممتعة هذا كله وأكثر من هذا كله، وأنت تجده في دعةٍ وهدوء واطمئنان لا يحول بينك وبين الحزن الشديد ولا يحرمك الابتسامة الخالصة الصافية، ولكنه يعطيك منهما حظًّا معتدلًا يتيح لك أن تتعظ ولكن في غير يأس، وأن ترضى ولكن في غير إسراف، ويجلي لك الحياة كما هي مملوءة بالخير والشر، قد امتزج فيها الحلو والمر، والتأم فيها النعيم والشقاء. وأنت إلى هذه اللذة العقلية والقلبية لا تحرم اللذة الفنية أيضًا؛ فاللفظ سهل حلو منوع رشيق، والأسلوب عذب سائغ مريح. تقرأ فلا يخيل إليك أنك تقرأ، وإنما تحس أنك تحيا وتشهد هذه الحركات والأطوار المختلفة التي تكون الناس وحياة الناس.

ولكني لا أريد أن أطيل في تقريظ القصة أو نقدها، فهي في نفسها طويلة، وإنما أريد أن أظهرك عليها في تلخيصٍ شديد ودون إلحاحٍ في المقدمات. وكيف أظهرك على هذه القصة التي هي في حقيقة الأمر طائفة من القصص، دون أن أقدم إليك أشخاصها قبل كل شيء؟ فحياتهم معقدة، ونفوسهم على سذاجتها شديدة التركيب، وكلهم يمثل لونًا من ألوان الناس وناحية من نواحي الحياة الاجتماعية. فهم ليسوا أفرادًا، وإنما هم جماعات، وحظوظهم من الحياة ليست حظوظ الأفراد، وإنما هي النتائج الطبيعية التي تنتهي إليها حياة الجماعات وما يختلف عليها من الأطوار.

تجد في هذه القصة شخص هذا الرجل الذي كان غنيًّا واسع الغنى ومثريًا ضخم الثروة، وشريفًا مؤثل المجد، نشأ في أسرة منصرفة إلى ما يدعو إليه الشرف من ضروب المجد والزخرف والزينة واللهو. ولكنه انصرف إلى العلم، فأحبه وتهالك عليه، ووقف على تحصيله والنبوغ فيه جهوده وأوقاته وثروته، وأبلى في ذلك أحسن البلاء، ولكنه لم يظفر من هذا كله بشيء، وإنما استقبل الهرم والشيخوخة في فقرٍ وبؤس وشقاء. على أن هذا كله لم يغير من هذه النفوس الراضية التي كونها البحث العلمي وعلمها أن تكون جلدة قوية شديدة الاحتمال، فهي مبتسمة أبدًا، وهي راضية أبدًا، وهي طيبة شديدة الميل إلى العفو والمغفرة ومعونة الضعفاء والإغضاء عن هفوات الناس، هذا الشخص هو البارون «فون ديرهلويك».

وتجد في القصة شخصًا آخر نشأ في أسرةٍ بائسة معدمة، فذاق ألوان الألم وتقلب في ضروب الشقاء، ولكنه أحب العلم كما أحبه ذلك الرجل الغني، ولم يقف عليه مالًا ولا ثروة، وإنما وقف عليه ذكاءً وقوة فوفق لكثير، وإذا هو يظفر بالاختراع بعد الاختراع، وإذا هو يستعين بالأغنياء وأصحاب الثروة على تحقيق آماله العلمية، فيخدعونه ويعبثون به، ويستغلون ذكاءه وعلمه، وهو يعلم هذا ولا يحسن الدفاع عن نفسه، فيتعزى عن آلام الحياة بالعلم مرة وبالخمرة مرة أخرى، حتى يعرض له الحب، فإذا هو قد أضاء نفسه وملأ قلبه ونظم حياته وبرأه من داء الخمر، فانصرف إلى العلم وجدَّ فيه، وفرغ للحب واستعان به، وإذا هو عالم، وإذا هو غني قد ظفر بكل ما كان يريد من علمٍ وحب وسعادة. ولكنه لا يكاد يستمتع بنتيجة هذه الحياة الطويلة الشاقة، حتى تظهر له الخيانة فتقضي على كل ما كان قد حصل وأفاد، وتصرفه عن هذا البحث المنظم المنتج إلى ذلك البحث المشوش المضطرب، تصرفه عن العلم والحب إلى العلم والخمر، فما يزال يبحث ويشرب حتى يقتله البحث والشرب. وهذا الشخص هو «ميشيل بوبير»، والذي اتخذ الكاتب اسمه عنوانًا لهذه القصة.

وتجد فيها شخصًا آخر ذكيًّا قوي الذكاء، غنيًّا موفور الغنى، قد اجتهد في أن يجعل ذكاءه وثروته وسيلة إلى استغلال العلم والعلماء، ولكن ذكاءه أعظم من ثروته، وأمله أوسع من جهده، فهو يمضي أمامه غير مقدر للظروف ولا متبصر في العواقب، مستغل هذا العالم وآثاره، فيفقره ويفقر نفسه، ولكنه يجد في نفسه من القوة ما ينهضه من كبوته، فما يزال يمضي في طريقه متخلصًا من كل ضائقة، ناهضًا من كل عثرة، حتى يعرض له الحب الآثم من جهة والحرص على الثراء من جهةٍ أخرى، وإذا هو قد انتهى إلى الضائقة التي لا مخلص منها، وإذا هو بين اثنين: الموت والسجن، فيؤثر الموت، وهذا الشخص هو: «ديلا روزويه» زعيم الأسرة التي تدرسها هذه القصة.

ثم تجد في هذه القصة شخصًا رابعًا هو امرأة، هذه المرأة خليقة بإعجابك كله، وخليقة بإشفاقك كله، وخليقة أن تكون المثل الأعلى للنساء. أحبت زوجها، وكلفت به وأخلصت له، وقدمت له ثروة ضخمة يوم تزوجته، ووقفت حياتها كلها على معونته وتشجيعه ومواساته وتربية ابنتها. أخلصت في هذا كله راضية مبتسمة، ثم أحست من زوجها الخيانة والإثم، فتألمت ولكن في صمت، وبكت ولكن في استخفاء، ثم رأت زوجها وقد تورط في الإثم وألحت عليه أثقال الحياة، فعفت له عن خيانته وردت إليه قلبها وحبها كاملين، وبدأت تغتبط بهذه الحياة المقبلة يملؤها البؤس والشقاء، ولكن يضيئها الحب والوفاء. غير أن زوجها يسألها أيهما خليق بالعناية والحرص: الحياة أم الشرف؟ فتجيبه: الشرف. فتقتل زوجها بهذا الجواب، وتعرض أسرتها لحياة ملؤها الشر والمكروه، على أنها تحتمل هذا الشر راضية مطمئنة، وتجاهده قوية جلدة، وتكاد تنتصر عليه. قد أخلصت لزوجها ما عاش، وهي الآن مخلصة لابنتها، وهي تكاد تجني ثمرة هذا الإخلاص، ولكن الخيانة كانت تنتظرها، فهي لا تظفر من هذه الحياة الطويلة الشاقة إلا بهذا الإذعان المر الهادئ للقضاء، وهذه المرأة هي زعيمة الأسرة التي يدرسها الكاتب في هذه القصة.

وامرأة أخرى تجدها في هذه القصة، خليقة بالتفكير والروية، خليقة بالعناية والدرس؛ لأنها تمثل التربية السيئة وأثرها في الحياة، ولأنها تمثل هذه الظروف المنكرة التي تعرض للشباب ولما يتهيأ لمقاومتها، فتفسد عليه أمره وتصرفه عن طريق الرشد إلى طريق الغي والفساد. نشأت في ثروة وعز بين أب يحبها ويسرف في حبها، وأم تؤثرها وتحنو عليها، فلم تذق للشقاء طعمًا ولم تبل مرارة الحاجة، ولم تعرف كيف تحتمل الحرمان، وإنما كانت موضوع عناية هذين الأبوين حتى شبت ناعمة راضية طامعة، لا ترضى من الحياة بما فيها، وإنما تستزيدها الخير وتطلب إليها ما لا تملك. وقد قرأت كتبًا وقصصًا أفسدت عليها عقلها أو كادت تفسده، فهي منصرفة إلى الخيال مغرقة في الأمل، لا ترى الحياة كما هي ولا ترضاها كما هي. ثم عرض لها فتى جميل فاتن غني، أظهر لها الحب فأحبته وما كان إلا مخادعًا، ثم حاولت أن تقاومه وتتقي شره فلم تجد إلى ذلك سبيلًا، فتورطت في الإثم، ولكنها استطاعت بعد ذلك أن تندم وتمحو خطيئتها. وما كان أسعدها بأن تجد الحياة الهادئة المستقيمة، وأن تخلص لزوج يحبها ويكلف بها، وقد وجدت هذا كله وكادت تظفر بالسعادة لولا أنها أرادت أن تكون هذه السعادة خالصة صافية، فاعترفت لزوجها بالإثم فقتلت زوجها بهذا الاعتراف، واضطرت هي إلى أن تتردى في الهوة التي كانت قد خلصت منها فعاشت فيها حينًا، ثم جاهدت حتى خلصت منها مرة أخرى، ولكنها لم تجد بعد هذا الخلاص إلا الحزن والشقاء والندم الذي اتخذته قرينًا لحياتها، وهذه الفتاة هي «هيلين» بطلة هذه القصة.

وهل أذكر لك هذا الفتى المخادع الذي أشرت إليه والذي لا يرى الحياة إلا لعبًا ولهوًا، ولا يرى الأخلاق إلا سخفًا وهزؤًا، والذي لا يرى النساء إلا لذة ومتعة؟ …

وهل أذكر لك هذه الخادم التي أحبت سادتها ووفت لهم وشاركتهم في الخير وأعانتهم على الشر، ولكنها رأت آثام الحياة ونقائصها، فآثرت أن تترك هذه الآثام والنقائص وأن تفارق باريس.

هؤلاء هم أشخاص القصة، كلهم كما قلت خليق بالعناية والتفكير. أفأنت محتاج بعد هذا كله أن ألخص لك القصة تلخيصًا مفصلًا، أم ترى مثلي أني أستطيع بعد هذا التفصيل أن أوجز لك هذا التلخيص إيجازًا؟

•••

نحن في باريس في بيت «ديلا روزويه» نرى ذلك العالم الشيخ الذي أشرت إليه في أول هذا الفصل يتحدث إلى زعيمة الأسرة، وهما يعرضان الحياة وما فيها من لذةٍ ومن ألم، يذكران الفقر والغنى، والصحة والمرض، والموت والحياة. وصاحبة البيت تسأل جليسها عن قريب له من الأشراف: هو الكونت «دي ريفاي»، قدم إليها منذ حين، وكأنها تفكر في أن تتخذه زوجًا لابنتها، فلا يذكره الشيخ إلا بسوء، فهو شريف مؤثل المجد، ولكنه رجل لا خلق له ولا دين ولا كرامة ولا مبدأ، ينفق مائة ألف فرنك في الميسر، ولكنه لا ينفق فلسًا واحدًا في الصدقة. ويتصل بين الجليسين هذا الحديث، حتى تحس المرأة أن زائرين قد أقبلوا، فتنصرف، وإذا الخادم يدخل ومعه رجل آخر ينازعه ويدافعه، وهو ميشيل بوبير، فينصرف الخادم ويتحدث الرجلان، فتعرف من حديثهما ما قدمت لك في وصفهما، وتعرف أن ميشيل بوبير هذا رجل ذكي عالم بمخترعاته، ولكنه فقير يستغله التجار الذين يتجرون بمخترعاته، ومنهم صاحب هذا البيت. وقد أقبل هذا العالم المخترع بعد أن أسرف في شرب الخمر متعمدًا؛ ليحاسب هذا الرجل، وليستخلص منه حقوقه. وما هي إلا أن يقبل صاحب البيت، فيدافع العالم عن نفسه حينًا، حتى إذا أحس منه الإصرار على المقاومة أراد أن يفرغ له، فيسأل الشيخ عن حاجته، فإذا الشيخ قد أقبل يسأله المعونة على الحياة، ولكن الرجل يعتذر وينصرف الشيخ العالم راضيًا عاذرًا. ويخلو صاحب البيت إلى مطالبه، فلا يكادان يتحدثان حتى نفهم أن ميشيل بوبير صاحب حق، وأنه قد استكشف في معمله طائفة من الألوان يستغلها صاحب البيت ولا يعطيه من ربحه شيئًا. وقد أقبل يطلب حسابه، وصاحب البيت يدفعه عن نفسه بشيءٍ من المال يعرضه عليه فيأبى إلا الحساب. وهما في هذا الجدال إذ تقبل «هيلين» فتتحدث إلى أبيها في دعةٍ ودل ودعابة، وتسخر من هذا الرجل السكران الذي يهذي ويصيح، ويتحدث إليها أبوها في رفقٍ وحب وإكبار، حتى إذا انصرفت الفتاة كان قد تغير في نفس هذا العالم السكران كل شيء، لأنه أحب الفتاة وكلف بها، فهو لا يطلب حسابًا وهو لا يقبل مالًا، وهو يحس أن صاحبه في حاجة إلى المعونة فيعرض عليه معونته، ولكنه يخطب إليه ابنته، فيأبى الرجل؛ لأن ابنته لا ينبغي أن تكون سلعة يتجر بها، ومع ذلك فإن الرجلين يفترقان على خير ما يفترق الناس.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فنحن حيث كنا في الفصل الأول، وقد مضى حين على ما قدمت لك، ونحن نرى صاحبة البيت وحدها محزونة كئيبة تنتحب وتتحدث إلى نفسها بكلامٍ يفطر القلوب، فيه رثاء لحال المرأة المخلصة الوفية التي قدمت نفسها وحبها ومالها للرجل، فانتفع بهذا كله في أثرة وعقوق، ثم انصرف عن امرأته إلى إثمه وخيانته. وقد دخلت عليها ابنتها، فهما يتحدثان، ونفهم من حديثهما أن زعيم الأسرة شقي مثقل بالهموم، يكتم أمره عنهما جميعًا، وأن امرأته تريد أن تتبين مصدر هذا فلا توفق، وهي تلوم زوجها على إسرافه، وتعاتب ابنتها في ترفها. وما هي إلا أن تعرضها للزواج، فإذا الأم تذكر ميشيل بوبير والفتاة تزدريه لأنها رأته سكران. ولكنه قد انصرف عن الخمر وأصلح من أمره ونظم حياته، فهو رجل مستقيم طيب النفس طاهر القلب ذكي الفؤاد، خليق أن يكفل السعادة لزوجته. ولكن الفتاة لا تسمع لشيءٍ من هذا وهي لا تريد أن تتزوج، وقد تركتها أمها وانصرفت تريد أن تزور قبر أبويها.

أحقٌّ أن الفتاة لا تريد أن تتزوج؟ كلا! إنها تحب، وتريد أن تتزوج. انظر إليها، لم تكد تخلو إلى نفسها حتى دعت الخادم وأمرتها أن تذهب إلى الكونت دي ريفاي، فتنبئه بأنها وحدها الآن، وأنها تريد أن تراه. وانظر إليها وقد خلت إلى نفسها، وهي تذكر حبها لهذا الشاب وألمها بهذا الحب وإعجابها بهذا الفتى الذي يحبها ويأبى الزواج. وقد أقبل هذا الفتى، فلا يكاد يتحدث حتى نحس منه غرورًا وفجورًا وحرصًا على اللذة وحدها، وازدراءً لقواعد الأخلاق والحياة الاجتماعية، وهو يدعو الفتاة إلى الهرب معه والفتاة تأبى إلا الزواج. وقد اختصما وهما يكادان يفترقان، ولكن زعيم الأسرة قد أقبل ذاهلًا مضطربًا، وقد دفعت إليه الخادم كتابًا، قرأه فلم يزدد إلا ذهولًا واضطرابًا. وانظر إليه يمسك صاحب ابنته ويريد أن يخلو إليه، فإذا انصرفت ابنته وتحدث الرجلان، رأينا زعيم الأسرة يطلب إلى صاحبه المعونة المالية فيأباها عليه، وقد انتهى به الجزع إلى أقصاه، فهو يقص أمره ويا شر ما يقص! فقد اضطرته أعماله المالية إلى التزوير؛ فإما أن يجد المال وإما أن يلقى في السجن، وقد سمع صاحبه لهذا ثم نهض وهو يرى أنه ليس من هذا المأزق مخرج إلا الموت. وتقبل زعيمة الأسرة، فتخلو إلى زوجها وتسأله عن أمره، وما تزال تلح عليه حتى تظفر منه بالجواب، وتعلم أن الأسرة قد فقدت ثروتها كلها. ولكن هذا شيء ميسور يمكن احتماله إذا ظفرت الأسرة بما كان يجمعها من حب، وأنى لها هذا الحب والرجل يخون امرأته وينفق حياته في اللهو والإثم! ولكن الرجل تائب معتذر، وهو يستعطف امرأته ويتضرع إليها وقد طابت له نفسها فهي تعفو عنه، وهما خليقان أن يستأنفا حياةً سعيدة على ما فيها من فقر وبؤس. ولكن الرجل يسأل امرأته وقد عرف أن الفقر لا يخيفها: هبي رجلًا بين اثنتين؛ إما أن ينقذ حياته، وإما أن ينقذ شرفه، فما أخلق الأمرين بهذا الرجل؟ تجيبه: إنقاذ الشرف، فيقول الرجل لنفسه: لقد قتلتني. ثم يطلب إلى امرأته بعض الأمر، فإذا انصرفت إلى الغرفة المجاورة قتل نفسه.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت أشهرٌ على هذا، ونحن في ضاحية من ضواحي باريس، في بيت لا تظهر عليه النعمة، ولكنه ليس سيئ الحال. ونحن نرى الأم تتحدث إلى ذلك الشيخ العالم الذي رأيناه في الفصل الأول، ونفهم من حديثهما أن المرأة تلتمس لابنتها عمل مربية في أسرة غنية شريفة، وأن هذا الشيخ قد وجد لها ما تريد، ولكنه ينصح لها ألا تقر ابنتها على هذا، وأن تحبب إليها الحياة وتأسيس أسرة. فتجيبه: إن ابنتها ترفض الزواج رفضًا قاطعًا، وإنهما قد سئمتا هذه الحياة في هذا البيت الذي أسكنهما فيه ميشيل بوبير قريبًا من معمله. وقد فهمنا أن ميشيل بوبير قد صلح أمره، حتى أصبح رئيس مصنع ضخم، وحتى أصبح غنيًّا يحبه العمال ويخلصون له. وهما في هذا الحديث إذ يقبل أحد العمال، فيدعو السيدة إلى المصنع ويلح في هذه الدعوة، فتنصرف المرأة وتترك الشيخ مع ابنتها، فينصح الشيخ للفتاة ألا تتم ما أرادت وينصح لها بالزواج ولكنها تأبى، وما يزال بها حتى تنبئه جلية أمرها؛ ذلك أنها لقيت بعد موت أبيها عاشقها الكونت، فأظهر حبًّا لها وعطفًا عليها، ثم أرادها على الإثم فدافعته وامتنعت عليه، ولكنها رأت منه الشر وعلمت أنه لن يتركها حتى يفتك بها ولو جثة هامدة فأسمحت، وهي الآن تريد أن تكفر عن سيئتها بحياةٍ هادئة لا لذة فيها ولا حب. ولكن الخادم أقبلت تستأذن لهذا العاشق، فينصح الشيخ برده، وتأبى الفتاة إلا استقباله؛ لأنها تطمع منه في أن يتزوجها، فينصح الشيخ أن تتركه معه حينًا فتفعل. ويتحدث الرجلان، فإذا الشيخ يلوم الشاب ويؤنبه، وإذا الفتى لا يظهر أمام هذا اللوم إلا ازدراءً لكل خلق وعبثًا بكل فضيلة واحتقارًا للزواج، بل احتقارًا لصاحبته، فهو إنما أقبل ليلتمس عندها اللذة، أليس قد أسمحت له مرة؟ فلِمَ لا تمضي في هذا الإسماح حتى إذا انصرفت عنها نفسه التمس اللذة عند غيرها؟! والفتاة تسمع هذا كله في مخبئها، وإذا هي قد أقبلت مغضبةً ثائرة، فبلغت من تحقير هذا الشاب وازدرائه بكلامٍ غليظ ما شاءت أن تبلغ. ولكننا نسمع ضجيجًا، ونرى الأم مقبلة ومعها ميشيل بوبير ومن ورائهما طائفة من العمال وأهل القرية وكلهم يصيحون بحياة ميشيل بوبير. ولست أطيل عليك بتلخيص هذا القسم اللذيذ من القصة، فحسبك أن تعلم أن ميشيل بوبير قد عرض حياته للخطر لينقذ عماله من كارثة، وأقبل العمال يشكرونه ويهنئونه. وكانت في ذلك خطب تمس السياسة الفرنسية عقب الحرب. وانصرف هؤلاء الناس جميعًا إلا ميشيل بوبير. وإذا نحن نرى الشيخ يتقدم إلى الأم يخطب إليها ابنتها لنفسه، فنرى اضطراب الأم والفتاة وغضب ميشيل. ولكننا فهمنا أن هذا الشيخ لم يتقدم بهذه الخطبة إلا ليعلن أمام ميشيل وأمام الفتى أنه على شرفه ومكانته يكبر الفتاة ويراها أهلًا للاقتران بأرفع الناس مكانة وأعظمهم شرفًا.

•••

فإذا كان الفصل الرابع، فنحن في باريس في بيت لم نعرفه من قبل، وقد تم الزواج بين هيلين وميشيل بوبير. ولست ألخص لك ما بين الأم وابنتها من حديث، ولا هذه الصلوات الحارة التي يتقدم بها الزوج إلى امرأته، ولكن يكفي أن تعلم أن هذا الزوج ما زال يذكر حبه وتأثير هذا الحب في حياته حتى أثر في امرأته تأثيرًا شديدًا فأحبته. ولكن أرادت ألا تخدعه ولا تشغله، فاعترفت له بإثمها وسألته أن يعفو عنها. ولم يكد الرجل يسمع هذا حتى ثار ثائره وهمَّ بامرأته يريد أن يقتلها، ثم انصرف عنها صائحًا وترك البيت. وهي الآن تبكي وتنتحب، ولكنها قد سئمت الحياة وندمت على ما كان منها من صدقٍ وإخلاص، وإذا هي تدعو الخادم وترسلها إلى عاشقها. وما هي إلا لحظات حتى يأتي هذا العاشق وقد أزمعت الفتاة باكية أن تعيش عيشة الإثم بعد أن لم توفق لعيشة الطهر. وقد أسدل الستار ورُفع، وإذا أنت ترى ميشيل سكران يترنح سكرًا وهو يتغنى سوء حظه، وما زال يتغنى حتى يسقط صريعًا أمام باب الدار، وإذا هذا الباب يفتح وتخرج منه امرأته ومعها عاشقها، فيكادان يطآن جسمه في طريقهما.

•••

فإذا كان الفصل الخامس، فنحن في معمل ميشيل بوبير، نرى هذا الشيخ العالم يتحدث إلى الطبيب، فنفهم من حديثهما أن ميشيل بوبير قد جُن، وأنه أشرف على الموت، وأن الخمر هي التي انتهت به إلى هذه الحال. ثم يخرج الطبيب وتأتي أم الفتاة، فنفهم أنها قد وقفت نفسها على صهرها منذ ظهر إثم ابنتها، فانقطعت للعناية به والسهر عليه، وهي تحبه كما تحب ابنها وتشفق عليه إشفاقًا شديدًا، والشيخ يذكر لها ابنتها ويستعطفها عليها وينبئها بأن قد فسد ما بينها وبين عاشقها، فلا يجد منها إلا سخطًا وإعراضًا؛ فهي لا تعرف ابنتها ولا تريد أن تعرفها، ولكنها تنظر فإذا ابنتها مقبلة، وإذا هي قد نسيت كل شيء، وأطبقت ذراعيها على هذه الفتاة الآثمة تقبلها وتصفح عنها وتلح عليها في العودة إلى حيث كانت حتى لا يراها زوجها. غير أن هذه الفتاة إنما أقبلت لترى زوجها وهي تلح في هذا، وأمها تدافعها. ولكن انظر هذا ميشيل بوبير قد أقبل ذاهلًا مفقود الرشد يخيل إليه أن أم امرأته أمه، وهو يهذي بكلامٍ لا خير فيه. فإذا رأى امرأته أنكرها ولم يعرف من أمرها شيئًا، ولكن امرأته تلح حتى يخلو إليها، فتحاول أن تحدثه عن نفسها وأن تذكره ما كان من أمرها، فلا يذكر شيئًا، أو قُل: إنه يألم ويشتد ألمًا لهذه الذكرى، وإذا هو مختنق، وإذا هو يدعو إلى المعونة، فتحاول امرأته أن تدعو أمها فيتبعها صائحًا: إنك تسرقين الماس. وانظر إليه قد عمد إلى شيء فاستخرجه، فإذا قطع ضخمة من الماس ملأت المعمل نورًا، تلك هي نتيجة بحثه العلمي قد انتهى إليها بين السكر والبحث، فاستطاع أن يحول الفحم إلى ماس، وإلى هذه النتيجة كان يسعى طول حياته، وقد ظفر بها، ولكن أدركه الجنون. وانظر إليه الآن يظهر هذه النتيجة ويحرص عليها، ولكنه مضطرب ذاهب القوى، فهو يسقط صريعًا، وتسقط قطعة الماس من يده فتتحطم، ويدخل الشيخ ومعه أم الفتاة، فإذا نظر إلى هذا الصريع ومن حوله قطع الماس قال: لقد فقد الناس عالمًا كبيرًا، وفقد العلم سرًّا عظيمًا.

يناير سنة ١٩٢٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤