خيال العاشق

تزوج علي الصناديقي من زينب رأفت بعد انقضاء عام كامل على مقتل زوجها السابق وابن عمها سليمان عيسى. أرعشتني قشعريرة وقلت لنفسي بحسرة: «سبقني». ولعل أكثر من شخص في شارعنا ردد ما قلت فيما بينه وبين نفسه. زينب وردة حيِّنا اليانعة، استبقنا جميعًا إلى طلب يدها ولكن أمها الشركسية المتعجرفة زوجتها ابن عمها سليمان. ساقط ابتدائية متخلف العقل، ومن ذوي الأملاك والدنيا حظوظ. يمين الله ما عرفنا الحزن الجماعي كما عرفناه في تلك الأيام. ومضى كلٌّ يضمد جراحه بالطريقة التي تناسبه. واكتشفت جثة الزوج ذات صباح بعطفة الحفناوي، واكتشفها أول ساعٍ للرزق، بياع اللبن. قتل وهو راجع إلى مسكنه آخر الليل. كانت الشوارع والحواري الفرعية تسبح في الظلام لم تدخلها الإنارة بعد، وكان الرجل من هواة السهر، ويعود كالعادة سكران أو مسطولًا. وجاءت التفاصيل — كما وردت في كوكب الشرق — مؤيدة مصرعه بضربة عصا غليظة أو آلة حادة على أم رأسه. ووضح أن الباعث على القتل هو السرقة فقد جرد من ساعته الذهبية وخاتمه الماسي ومحفظته. وزلزلت الجريمة الحي كله، وصارت حديث النساء والرجال في العباسية شرقيها وغربيها. وتنبأ أهل الخبرة بأن شيطان القتل لن يدعنا في سلام. وتبادلنا النظر في مقهى قشتمر في وجوم، معلنين الأسف، كاتمين أي بادرة ارتياح. وأرجعني نواح زينب إلى الماضي فاستثار المنسي من الذكريات. ولاحظ الفران أن عامله «بيضة» ينفق عن سعة، وأنه يبتاع الكونياك من خمارة الميدان بدلًا من الكحول الأحمر الذي كان يشتريه كل مساء من البقال، فسأله عن الخبر؛ فاعترف الرجل المدمن بأنه عثر على محفظة في عطفة الحفناوي، فاعتبرها رزقًا من الله. وبلَّغ الفران قسم الوايلي فقبض على بيضة، وحقق معه ثم حُول إلى المحاكمة بتهمة القتل والسرقة وقضي عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. هكذا انتهت قضية قتل سليمان عيسى. لا شك أن الحلم القديم استيقظ في قلوب كثيرة. واستيقظ في قلبي على وجه اليقين، ولكني انتظرت الوقت المناسب. كل عاشق قديم رسم خطة وانتظر الوقت المناسب طاويًا صدره على سره، وعلي الصناديقي فعل مثلنا ولكنه كان أقدر منا جميعًا على تدبير المناورة وانتهاز الفرصة كما كان — باعتراف الجميع — أجرأنا على الاقتحام، وفاز باللذة الجسور. كنا جميعًا من صغار الموظفين، أما هو فقد ورث عن أبيه محل مَني فاتورة بالغورية، فحاله المادية معدن بالإضافة إلى خبرة مبكرة بالحياة وتمتعه بإرادة صلبة وفحولة نادرة. في الوقت ذاته هدهدت أم زينب من عجرفتها؛ بسبب ترمل ابنتها الجميلة، واقتران اسمها بحكاية مصرع زوجها؛ فوافقت على الزوج الجديد مزدردة امتعاضها التقليدي. وكان من عادتي أن أعالج أحزاني بالمشي المنفرد في ميدان المستشفى الفرنسي وأرض المولد النبوي. ولما مررت بالبيت رقم ١٠ المكون من دورين على ناصية الميدان دهمتني ذكرى قديمة بعض الشيء، فدق قلبي دقة عنيفة انطلقت كإنذار مرعب. لا لأن علي الصنادیقي وعروسه يقيمان في الدور الأول، ولكن لمنظر تكرر مرتين قديمًا دون أن يثير ظنوني فمر بسلام. تذكرت أنني رأيت زينب في حياة زوجها السابق تدخل هذا البيت مرتين. يومها اعتقدت أنها تقوم بزيارة وانتهى الأمر. الساعة يلوح لي وجه آخر للمسألة. في ذلك الوقت كان الصناديقي يقيم في الدور الأول بمفرده بعد وفاة أبيه! قد يقال: إنها كانت تزور أسرة الشيخ محرم — أستاذنا القديم — المقيمة في الدور الأعلى، ولكن الشك يساورني في ذلك. لِمَ؟ إلام تريد هواجسي أن تقودني؟! أكان ثمة علاقة بين الصناديقي وزينب؟! الصنادیقي من ناحيته مثال للاستهتار والمجون، لا يرعوي عن فعل، ولا يعقله أدب أو خلق، وزينب من ناحيتها اعتُبرت في زمانها عصرية ولم يكن للدين ولا التقاليد أثر ملموس في بيتها، وحتى لو كان السبب المعلن للتردد على البيت هو زيارة آل محرم فهل يمنع ذلك من التسلل إلى مسكن الصنادیقي عند الذهاب أو الإياب؟! ليس شكًّا ما أتخيل ولكنه اليقين، وهي لم توافق على الزواج منه رغم كثرة المريدين إلا استجابة لتلك العلاقة الآثمة القديمة. لِمَ لا؟ يقينًا إنها لم تحب زوجها السابق ولم تحترمه، ولولا سطوة أبيها ما قبلت أن تتزوج منه. وقد انصرف عنها جميع عشاقها احترامًا لقدسية التقاليد المرعية، ولكن الصناديقي لم ينصرف ولم يسل، ولم يجد من قيمة ما يصده عن المغامرة. وأصر وألح حتى استجابت المرأة لعواطفه، ولبت نداءه. حاولت أن أنفض عن رأسي تلك الأفكار المحمومة ولكنني لم أستطع، وطاردتني كأنها حقيقة واقعة. وليتها وقفت عند ذلك الحد، ولكن ثمة فكرة سوداء انطلقت كما ينطلق عفريت من قمقم، وَسْوست لي بأن الصناديقي يكمن في قاع الجريمة التي أودت بحياة سليمان عيسى! لِمَ لا؟ إنه الوحيد بين أقراننا القادر على القتل. طالما عُرف بيننا بالانفعال الأهوج والعدوان، ومعاركه الشخصية لا تُحصى. ولا أنسى دهشتنا يوم وجه الاتهام إلى «بيضة» عامل الفرن، فإن أكثر من فرد قال: بيضة! .. مَن يتصور أن بيضة يمكن أن يَقتل؟

ولكن البعض تفلسف قائلًا: إن أبعد الناس عن شبهة القتل قد يقتل في لحظة جنون! كلا! بيضة لم يقتل ولكن سوء حظه ساقه للعثور على المحفظة التي تركها القاتل؛ لإيهام الشرطة بأن السرقة كانت الباعث على الجريمة لا الحب. دبر الشيطان فأحسن التدبير، ولكن هل شاركته زينب في مؤامرته؟ عند ذاك الفرض خذلني خيالي المحموم، أما جريمة الصناديقي فقد تمثلت إليَّ حقيقة واقعة. عبثًا .. عبثًا .. حاولت التملص من قبضتها. في الوقت نفسه لم أفاتح أحدًا بما يمور في أعماقي. أكره أن يسخر مني ساخر أو يتهمني بالجنون. وأسترق النظر إلى الصناديقي، ونحن بمجلسنا بمقهى قشتمر فأراه هادئًا أو ضاحكًا ينبض وجهه المتورد بحلاوة شهر العسل. أيمكن أن تمضي الجريمة بلا أثر تخلفه في القاتل؟! وأراه أحيانًا يسير في الشارع، وزينب تتأبط ذراعه كأكمل ما يكون الزوجان سعادة؛ فأذكر بأسًى بيضة الملقى في ظلمات التأبيدة بلا ذنب. وأتساءل أين العدل؟ وأين الرحمة؟ وأحاول مناقشة أخيلتي وتفتيتها فلا أستطيع، ولا أجد مَن أشركه في سرِّي لعله يخفف عني بعض ثقله. وقلت لنفسي منذرًا إني مريض، ولا بد من الشفاء قبل أن أتردى بلا أمل.

وخطرت لي فكرة لم أتردد في تنفيذها. حررت إليه خطابًا غفلًا من الإمضاء، وسجلته على الآلة الكاتبة في الوزارة. في جمل برقية أكدت له أني على علم تام بجريمته، وبعلاقته الآثمة السابقة بزينب، وبكل خطوة خطاها في ارتكاب جريمته، وتهددته بالانتقام القريب. وعنونت المظروف بعنوان مقهى قشتمر وأودعته صندوق البريد بيدي. كنا نجتمع كل مساء بالمقهى، ومرة جاء النادل بالخطاب للصناديقي، وهو يقول: تسلمته من عامل البريد صباحًا.

تناوله الشاب بدهشة قائلًا: أول خطاب يجيئني في المقهى.

وعلى سبيل الاحتياط تنحى جانبًا ليقرأه؛ أثار الخطاب اهتمام الجماعة لحظة ثم انخرطت في السمر. وجعلت أنا أراقبه من وراء وراء ملهوفًا على رؤية رد الفعل. هل يضحك ساخرًا؟ هل ينفعل ويغضب؟ لا هذا ولا ذاك؛ وجم وسكن وانخطف لونه. غاض من وجهه التألق والعنفوان، جمد وخمد وكأنه نام، والتفت أحدنا نحوه متسائلًا: خير؟

فأجاب وهو يدس الخطاب في جيبه، ويرجع إلى مجلسه: ليست خيرًا على أي حال!

– لِمَ والعياذ بالله؟

– مشكلة من مشكلات العمل، ولكن لا خطورة في الموضوع.

ونظر في ساعته، ثم قام وهو يقول: يستحسن أن أقوم بزيارة عاجلة.

وحيَّا وانصرف، لم يعد ثمة مجال للشك؛ انكشف المجرم ولم أخطئ في الحساب. ولكن ماذا بعد؟! لم يحضر في اليوم التالي ولا ما تلا ذلك من أيام، وسأل البعض عنه في بيته، فقيل لهم: إنه مشغول. وعلمنا بعد ذلك بأنه سافر في مهمة عاجلة إلى سوريا، ولكنه لم يعد من مهمته حتى اليوم! واضطرت زينب إلى الإقامة مع أمها في شارعنا. وعرفنا — كجيران — أنها مرضت بمرض عصبي، وأنها تعالج بالطب، وعولجت أيضًا بالزار ولكن دون جدوى. هكذا انتهت أسطورة زينب الجميلة وبدأت رحلة زينب المريضة إلى الأبد. لم أشعر بالنصر أو الارتياح إلا لحظات عابرة. اعتراني قلق وتطايرت برأسي الهواجس وخيَّم على قلبي هم ثقيل .. ماذا فعلت؟ .. ما جدوى ما فعلت؟ .. ما دور زينب الحقيقي في المأساة؟ وماذا أفاد ضحية الليمان من هذا كله؟ حقًّا تخيلت وحكمت على الآخرين، ولكن كيف يكون الحكم عليَّ أنا؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤