الفصل الثالث

لماذا لا يعرف الاقتصاديون ما يفعلون؟

  • يبحث العلماء عن الصلات الإحصائية بين المسببات والنتائج. لكن الأحداث الاقتصادية تعتمد على اختيارات الأفراد، وهي أمر غير متوقع.

  • بالمثل، قيم الناس متباينة وشخصية، لذا لا يمكن التعامل معها إحصائيًّا.

  • لذا، لا ينبغي على الاقتصاديين البحث عن صلات لا وجود لها، بل عليهم التركيز على محاولة فهم الكيفية التي يختار بها الناس.

يؤمن اقتصاديو المدرسة النمساوية بأن العلوم الاجتماعية — كعلم الاقتصاد — هي علوم بالفعل، لكنها مختلفة إلى حدٍّ بعيد عن العلوم الطبيعية. في الواقع، لا يشبه علم الاقتصاد أي علم آخر.

يبحث متخصصو العلوم الطبيعية — الكيميائيون أو الفيزيائيون مثلًا — عن الصلات المتكررة بين الظواهر الطبيعية. وقد يلحظون أنه عندما ترتفع درجة حرارة أحد الغازات، فإنه يتمدد. وكل مرة تسخن هذا الغاز، يحدث الأمر عينه. وبناءً عليه يعتبرون هذا «قانونًا علميًّا» عامًّا؛ يقضي بأنك حين (وكلما) ترفع درجة حرارة أحد الغازات، فإن هذا الغاز يتمدد. وهم «يتنبئون» بأن الأمر عينه سيحدث في أي وقت في المستقبل أيضًا. ومن خلال قياس حجم التأثير قد يتوصلون إلى «ثابت» ما؛ أن حجم غاز معين يتمدد بواقع اثنين بالمائة، فرضًا، مقابل كل درجة مئوية ترتفع بها حرارته.

أثبت «المنهج العلمي» نجاحًا كبيرًا في مساعدتنا على التنبؤ بالعالم الطبيعي، ولهذا يظن معظم متخصِّصي العلوم الاجتماعية أن عليهم أن يفعلوا الأمر نفسه تقريبًا. فهم يؤمنون بأن عليهم البحث عن صلات وثوابت بين الظواهر «الاجتماعية»، مثلما يفعل الكيميائي أو الفيزيائي مع الظواهر الطبيعية. على سبيل المثال: قد يبحث علماء الاجتماع عن علاقة بين مدى الكثافة السكانية لمدينة ما ومعدل جرائم العنف في شوارعها. وبالمثل، قد يبحث الاقتصاديون عن الصلات بين الظواهر الاجتماعية في المجال الاقتصادي؛ كالعلاقة مثلًا بين مستوى الدخل في دولة ما ومقدار الادخار.

بهذه الطريقة، ينتهي الحال بالاقتصاديين بالبحث عن صلات بين المعايير الكبيرة للحياة الاقتصادية على مستوى المجتمع، كالدخل القومي والادخار والاستثمار والاستهلاك والواردات والصادرات والضرائب والإنفاق الحكومي والتوظيف وكثير غيرها؛ ما يطلق عليه «العناصر الاقتصادية الإجمالية». وهم ينظرون بغرض تحديد «الثوابت» — مثلًا أنه حين يرتفع الدخل في دولة ما بنسبة أربعة بالمائة، يرتفع المبلغ الإجمالي المدخر بنسبة واحد بالمائة — ما يسمى «الميل الحدي» للادخار.

أهمية التركيز على الأفراد

يعتقد الاقتصاديون النمساويون أن هذا النهج خاطئ تمامًا. وهم ينادون بأنه من المحال وجود أي قوانين أو ثوابت عامة بين هذه الإحصائيات، التي لا تعدو أن تكون إجماليات مختصرة للأشياء العديدة المتنوعة، بل المتصارعة، التي تحدث بالفعل على أرض الواقع. لنأخذ إحصائية على غرار دليل أسعار المستهلكين، الذي تنشره الحكومة كل شهر. يهدف هذا الدليل إلى بيان مستوى الأسعار، وكيفية تغيرها. لكن ميزس وغيره من النمساويين يوضحون أنه لا يوجد إطلاقًا ما يسمى ﺑ «مستوى الأسعار». فهناك ملايين من الأسعار المحددة، وكلها تتفاوت بعضها في مقابل بعض. (مثال على ذلك، الحركة اليومية المتذبذبة لأسعار سوق الأسهم.) يستجيب مختلف الأشخاص لهذه الأسعار بطرق مختلفة؛ فارتفاع السعر قد يقنع البعض بأن هذا هو وقت الشراء، وقد يرى آخرون أن هذا هو الوقت المناسب للبيع والحصول على العائد النقدي.

ما يحدث في الواقع إذن هو أن ملايين «الأفراد» يقدمون على خياراتهم؛ بالبيع أو الشراء، إنفاق الزيادة في الدخل أو ادخارها، الاستثمار في ماكينة جديدة أم لا، تعيين موظف جديد أم لا، وهكذا دواليك. وستعتمد خياراتهم على آرائهم وظروفهم، وقد يتخذ آخرون قرارات مختلفة. تخفي الإجماليات الاقتصادية ببساطة كل هذا التنوع الكبير تحت رقم إحصائي مفرد. فهي لا تخبرنا إلا بالقليل، وتضللنا كثيرًا، وهذا هو الأساس المتداعي الذي يقوم عليه «علم» الاقتصاد السائد.

يجب أن يكون علم الاقتصاد معنيًّا بتفهم الخيارات البشرية. فهو، حسب تعبير منجر، علم الاختيار. فالفعل «الاقتصادي» يتضمن النظر إلى الخيارات المختلفة، وتحديد ما علينا التخلي عنه لتحقيق كل إمكانية، ثم اتخاذ القرار على أساس أفضل توازن للألم في مقابل مكسب يناسب أغراضنا. وهذا يحدث فقط على مستوى الفرد. إن «الكيان الجمعي» — المجتمع أو الدولة أو العرق مثلًا — لا يملك عقلًا خاصًّا به، وليس لديه أغراض. الأفراد الذين يؤلفون هذا الكيان فقط هم من يملكون عقولًا وأغراضًا. الكيان الجمعي لا يقدم على فعل؛ فهو لا يدخر أو يستهلك أو يوظف الناس. الأفراد الذين يتألف منهم فقط هم من يفعلون ذلك. والأحداث الاقتصادية لا تنشأ بفعل «قوى» مجتمعية غير شخصية من نوع أو آخر. بل هي ببساطة نتائج للقرارات والأفعال الاقتصادية للأفراد.

لا يمكن إذن فهم الأحداث الاقتصادية إلا بواسطة تحليل ما يسببها؛ خيارات الأفراد تحديدًا. صك جوزيف شومبيتر اسمًا معبرًا (وإن كان غليظًا) لهذا النهج هو: «الفردانية المنهجية».

ليس هذا النهج معنيًّا بطبيعة المجتمع. فهو لا يقول إنه «لا وجود لما يسمى بالمجتمع» أو «الكل ليس أكبر من مجموع أجزائه». أيضًا هو ليس معنيًّا بتفضيل الفردانية السياسية على الاشتراكية. بل هو معني بنهج علم الاقتصاد؛ السبيل الأفضل لتفسير الأحداث الاقتصادية.

لماذا يخطئ الاقتصاديون؟

بناءً عليه، يعتبر النمساويون الاقتصاد الكلي مضلَّلًا ومضلِّلًا في جوهره؛ أولًا: هو يحاول الجمع بين الأفعال المتعارضة للأفراد وإصدار التنبؤات استنادًا إلى النتائج، وهو الأمر المستحيل ببساطة. إنه علم زائف. وأي محاولة لتطبيق الرياضيات بغرض تحديد «ثوابت» مفترضة بين الإجماليات الاقتصادية ما هي إلا علم زائف يقف على أرجل مرتعشة. فهذا يعني تطبيق عمليات حسابية على أشياء يستحيل الجمع بينها على نحو ملائم وبناء على تأثيرات افتراضية لا وجود لها. ولهذا السبب يتشكك النمساويون إجمالًا في استخدام الرياضيات والأساليب الإحصائية التي تعد ملمحًا بارزًا لعلم الاقتصاد السائد.

ثانيًا: يجب أن يكون علم الاقتصاد معنيًّا بمحاولة «تفهم» طبيعة الاختيار، وليس محاولة «التنبؤ» بما ستسفر عنه عملية الاختيار. فالأفراد متباينون ومعقدون، وعادة لا يعرفون تحديدًا ما سيختارون حتى تأتي اللحظة التي يواجَهون فيها بالخيار، وهو الأمر الذي سيتفهمه أي شخص ذهب لمتجر وهو ينوي شراء شيء ما وخرج منه وقد اشترى شيئًا آخر. لكن لو تمكنا من فهم «كيف» يختار البشر، فهذا هو علم الاقتصاد الحقيقي.

يزعم جمهور الاقتصاديين أنهم يملكون طريقة فردية خاصة بهم. فهم يفترضون أن «الوكلاء الاقتصاديين» (أي الأفراد) «عاقلون» و«يعظمون المنفعة» (بمعنى أنهم يقدمون على خياراتهم على أساس النفع الصافي المتحقق). وهذا النموذج للبشرية يفسر في واقع الأمر الكثير عن بنية مؤسساتنا الاقتصادية وآليات عملها.

سيرد النمساويون بالقول إنه بما أن الأفراد متباينون، فلن نستطيع أبدًا الدخول في عقل كل شخص ومراقبة عمليات تفكيره الخاصة. لهذا يكون الحديث عن الأفراد «العاقلين» و«المعظمين للمنفعة» في غير موضعه. وحتى إذا فعلنا هذا فسيستحيل علينا «التنبؤ» في ثقة بما سيختاره الناس بالفعل.

ومع ذلك، لدينا بعض الأفكار التي تساعدنا على «تفسير» صنع القرار الاقتصادي؛ لأننا أيضًا بشر، ولأننا نتخذ القرارات ولنا أغراض ونتصرف على نحو معين متناسب معها. وعلى نفس مقدار أهمية هذا الفهم الشخصي «الذاتي»، فإننا قادرون على تدارس الكيفية التي يؤثر بها العالم «الموضوعي» على خياراتنا؛ كيف، على سبيل المثال: يكتسب الأفراد المعلومات التي تشكل قراراتهم، على غرار أي الأحداث تجعلهم يؤمنون بأن معدنًا معينًا غير معروض منه ما يكفي أو أن منتَجًا معينًا من المرجح أن يُباع جيدًا. هذه، مجددًا، هي الدراسة الأكثر ملاءمة لعلم الاقتصاد من العلم الزائف الموجود في كتب الاقتصاد الكلي التقليدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤