الفصل الرابع

منتخبات من آثار بديع الزمان

(١) الرسائل

(١-١) من رسائله المدحية

سيوف الحق

كتب إلى الشيخ أبي العباس الفضل بن أحمد الإسفرائيني وزير محمود بن سبكتكين عندما فتح بهاضية في الهند:
إن الله وهو العلي العظيم المعطي ما شاء، منَّ على الإنسان بهذا اللسان، خلق ابن آدم وأودع فكيه مضغة لحم يصرفها في القرون الماضية، ويخبر بها عن الأمم الآتية، يخبر بها عما كان بعد ما خُلِق، وعما يكون قبل أن يُخلق، ينطق بالتواريخ عما وقع من خطب، وجرى من حرب، وكان من يابس ورطب، وينطق بالوحي عما سيكون بعد، وصدق عن الله بالوعد، ولم ينطق التاريخ بما كان، ولا الوحي بما يكون بأن الله تعالى خص أحدًا من عباده، ليس النبيين، بما خص به الأمير السيد يمين الدولة، وأمين الملة، ودون الجاحد إن جحد أخبار الدولة العباسية، والمدة المروانية، والسنين الحربية، والبيعة الهاشمية، والأيام الأموية، والإمارة العدوية، والخلافة التيمية، وعهد الرسالة، وزمان الفترة. ولولا الإطالة لعددنا إلى عاد وثمود بطنًا بطنًا، وإلى نوح وآدم قرنًا قرنًا. ثم لم يجد قائل مقالًا أنَّ ملكًا وإن علا أمره، وعظم قدره، وكبر سلطانه، وهبت ريحه، طرق الهند فأسر طاغيتها بسطة ملك ثم خلاه، وعرض الأرض قوة قلب وصبح سجستان وهي المدينة العذراء، والخطة العوراء، والطية الغراء، فأَخَذَ ملكها إِخْذَةَ عزٍّ وعنفٍ، ثم خلاه تخلية فضل ولطف، ثم لم يلبث أن خاض البحر إلى بهاضية والسيل والليل جنودها، والشوك والشجر سلاحها، والضح١ والريح طريقها، والبر والبحر حصارها، والجن والإنس أنصارها، فقتل رجالها، وغنم أموالها، وساق أقيالها،٢ وكسر أصنامها، وهدم أعلامها، كل ذلك في فسحة شتوة قبل أن يتطرقها الصيف، توسطها السيف، وهو الله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.

ثم حكمت علماء الأمة، واتفق قول الأئمة أن سيوف الحق أربعة وسائرها للنار، سيف رسول الله في المشركين، وسيف أبي بكر في المرتدين، وسيف علي في الباغين، وسيف القصاص في المشركين، وسيوف الأمير، وفقه الله، في مواقفه لا تخرج عن هذه الأقسام، فسيفه بظاهر هراة فيمن عطل الحد واتهم بأنه ارتد، وسيفه بظاهر غزنة سد في وجه العقوق، نوعًا من الكفر والفسوق، وسيفه بظاهر سجستان في من نبَّه الحرب بعد رقودها، وخلع الطاعة بعد قبولها. وسيفه الآن في ديار الهند سيف قرنت به الفتوح، وأثنت عليه الملائكة والروح، وذلت الأصنام، وعز به الإسلام، والنبي عليه السلام، واختص بفضله الإمام، واشترك في خيره الأنام، وأرخت بذكره الأيام، وأحفيت بشرحه الأقلام.

وسنذكر من حديث الهند وبلادها، وغلظ أكبادها، وشدة أحقادها، وقوة اعتقادها، وصدق جلادها، وكثرة أجنادها نُبَذًا ليعلم السامع أي غزوة غزاها الأمير السيد. إنها بلاد لو لم تُحيها السحاب بدَرِّها، لأهلكتها الشمس بحرها، فهي دولة بين الماء والنار، ونوبة٣ بين الشمس والأمطار، تقدمها صعاب الجبال وتحجبها رحاب القفار، ويعصمها ملتف الغياض،٤ وتحفها طواغي الأنهار، حتى إذا خُرقت هذه الحجب خُلِص إلى عدد الرمل والحصى رجالًا، وشبه الحبال أفيالًا، وأنزاع المخاض جلادًا، ومستاف الجمال طعانًا، وأركان الجبال ثباتًا، ثم لا يعرفون غدرًا ولا بيانًا، ولا يخافون موتًا ولا حياة، ولا يبالون على أي جنبيه وقع الأمر، وينامون وتحتهم الجمر، وربما عمد أحدهم لغير ضرورة داعية، ولا حمية باعثة، فاتخذ لرأسه من الطين إكليلًا، ثم قور قحفه٥ فحشاه فتيلًا، ثم أضرم في الفتيل نارًا ولم يتأوه، والنار تحطمه عضوًا فعضوًا، وتأكله جزءًا فجزءًا. فأما محرق نفسه ومغرقها، وآكل لحمه، ومفصل عظمه، والرامي بها من شاهق، فأكثر من أن يعد، وأقلهم من يموت حتف أنفه، فإذا مات هذه الميتة أحدهم سُبَّ بها أعقابه، وعظم عندهم عقابه.
بلادٌ هذه حالها، وفيلة تلك أهوالها، وجبال في السماء قلالها،٦ وفلاة يلمع آلها، وغياض ضيق مجالها، وأنهار كثيرة أوحالها، وطريق طويل مطالها، ثم الهند ورجالها، والهنداونية واستعمالها. زحم الأمير السيد، أدام الله ظله، هذه الأهوال بمنكبه محتسبًا لنفسه، معتمدًا نصر الله وعونه، فركض إليهم بعونٍ من الله لا يُخذل، ومدد من التوفيق لا يفتر، وقلب من الأهوال لا يجبن، وحث على المطلوب لا يقصر، وسيف على الضريبة لا ينكل، فسهل الله له الصعب، وكشف به الخطب، ورجع ثانيًا من عنانه بالأسارى تنظمهم الأغلال، والسبايا تنقلهم الجمال، والفيلة كأنها الجبال، والأموال ولا الرمال.

فتح ذخره الله عن الملوك السالفة الخالية، الكفرة الطاغية، الجبابرة العاتية، حتى وسمه بناره، وجعله بعض آثاره، والحمد لله معز الدين وأهله، ومذل الشرك وحزبه، وصلى الله على محمد وآله.

الأب والابن

وكتب إلى الشيخ الإمام أبي الطيب سهل مادحًا خلف بن أحمد ومؤرخًا ما وقع من ابنه حين ثار عليه:
ولما وقع بخراسان ما وقع من حرب، وجرى ما جرى من خطب، واضطربت الأمور، واختلفت السيوف، والتقت الجموع، وظفر من ظفر، وخسر من خسر، كتبني الله في الأعلين مقامًا، ثم ألهمني من الامتداد، عن تلك البلاد، والإقلاع عن تلك البقاع. واعترضنا في الطريق الأتراك، وأحسن الله الدفاع عن خير الأعلاق٧ وهو الرأس، بما دون الأعراض وهو اللباس، فلم نجزع لمرض الحال، مع سلامة النفس، ولم نحزن لذهاب المال، مع بقاء الرءوس. وسرنا حتى وردنا عرصة٨ العدل، وساحة الفضل، ومربع الحمد، ومشرع٩ المجد، ومطلع الجود ومنزع الأصل، ومشعر الدين ومفرع الشكر، ومصرع الفقر، «حضرة» الملك العادل أبي أحمد خلف بن أحمد، فكان ما أضعناه، كأنا زرعناه، فأنبت سبع سنابل. وكان ما فقدناه، كأنا أقرضناه، هذا الملك العادل، وكأنما سمي خلفًا، ليكون عن كل فائت خلفًا، وعن كل ما مضى عوضًا، وكأنما جئناه ليضيق علينا العالم، ويبغض إلينا بني آدم، فيجعل حبسنا سجستان وقيدنا الإحسان. وكأنما خلق للدنيا تحجيلًا،١٠ وللملوك تخجيلًا، وكأن هذا العالم قد أحسن عملًا، فجُعِل هذا الملك ثوابه، وكأن هذا الملك قد أذنب مثلًا فجُعِل هذا العالم عقابه. وكأنه جسم والعَرَض عفاته،١١ وكأنه ذاته، والمكارم صفاته. فهو البحر يمشي على رجلين، والمجد يتصور في العين، والعدل يتقسم، والجود يتجسم، والنجم يتكلم. فلما التقينا فرشت الأرض بيدي فرشًا، ونقشت التراب بفمي نقشًا، وخطا إليَّ خطوات كادت الأرض لا تسعها، وكادت الملائكة ترفعها، ثم إنه زيف بلقياي وفود الكلام، كما زيفت بلقياه ملوك الأنام، وأفسدني على الناس، من جميع الأجناس، فما أرضى غيره أحدًا، ولا أجد مثله أبدًا، وإن طلبت ملكًا في أخلاقه، مت ولم ألاقهِ، أو كريمًا في جواده، عدمت قبل جوده. فحرس الله سلطانه من ملك وسع أرزاقي، فضيق أخلاقي، وأغلى ثمني فما يشتريني أحد، وعظم أمري فما يسعني بلد، وهذا وصف إن أطلته طال، ونشر الأذيال، واستغرق القرطاس بل الأنفاس، واستنفد الأعمار بل الأعصار، ولم يبلغ المعشار، وأفنى الأقلام، بل الكلام، ولم يبلغ التمام.
ما ظن الشيخ بملك شهدت له الفراسة رضيعًا، بأن لا يكون وضيعًا، والمحافل فطيمًا، بأن يكون سمحًا كريمًا. والشواهد صبيًّا، بأن ينزل مكانًا عليًّا. والشمائل غلامًا، أن يكون ملكًا همامًا. فلما أيفع١٢ وارتفع، طالبته الهمة العليا برفض الدنيا، حتى يؤدي فرض الله في الحج، فقام عن سرير الملك إلى سبيل النسك، فحج البيت ودرس العلم حتى علم ناسخ الكتاب ومنسوخه ومباحه ومحظوره، ومتن الحديث وصدره.
وكان استخلف على رعيته بعض خدمه وأوصى بهم كبيرًا، لا يظلمهم نقيرًا١٣ فبسط ذلك العامل يده في المظالم يحتقبها،١٤ والمحارم يرتكبها، فكرَّ١٥ عليهم كرَّة القمر، ورجع إليهم رجعة المطر، فحاربه وقهره، ومحا الله أثره، ثم حملت له الأعداء العصيَّ، وحنت إليه القسيَّ، والله من ورائه، يكلؤه من أعدائه، فما مر يوم من تلك السنين إلا نقصهم وازداد. فكم ركن هدم، وجيش هزم، وكيد عدم. فلما أقاموا طويلًا، ولم يغنوا فتيلًا، لم يكن أكثر من أن جاءوه أمراء، فعادوا فقراء، ولبثوا أسراء، ورجعوا صاغرين، وانقلبوا خاسرين. وتبعهم كيده النافذ، ومكره الآخذ، يقفو آثارهم، ويكسع أدبارهم، واشتملت جريدة ما لقي من الحروب، مع أبناء الذنوب، وأولاد الدروب، على بضع عشرة حربًا أخفُّها مع بضعة عشر ألف رجل، وكتب الله له في جميعها النصر، عادة في ملك صحب الدهر، فلم يشرب الخمر، ولم يسمع الزمر، ولم يعرف النقر، ولم يلعب القَمْر،١٦ تشحن دور الملوك بالمعازف، وداره بالمصاحف، وتأنس مجالسهم بالقِيان، ومجلسه بالقرآن، ويألف أبوابهم حملة الظلم، وبابه حملة العلم. وتعبث أيديهم بالعود، ويده بالجود، وتلعب أناملهم بالمزامر، وأنامله بالدفاتر، يدَّخرون الدراهم، ويدَّخر المكارم، ويقتنون الجواهر، ويقتني المآثر، ويعدون نفيس الأعلاق، ويعد نفيس الأخلاق، وكثيرًا ما ينشدني:
فهنَّ إذا جمعتهنَّ دراهمٌ
وهنَّ إذا فرقتهن مكارمُ
ألمَّ بهذه السدة، في هذه المدة فرجع بثلاثين ألف دينار، وقد نزلت بهذا المقام، في هذه الأيام، فاختلت بين الخيل والخَوَل،١٧ ومجلسي بين الحلي والحلل، وسيأتيه العم بتفصيل ما أجملت.
ثم إن لهذا الملك عند الله تعالى دعاءً مستجابًا يصعد بلا حجاب، واعتبر ذلك في خطب وقع في هذه السنة فكشفه الله بدعائه، ورد الكيد في نحر أعدائه. وكان بعض أولاده — كرمهم الله تعالى — يشرب في السر شرب المصر، فبلغه الخبر فقصه، على من اختصه، وذهبت النفرة طولًا وعرضًا، وجر الحديث بعضه بعضًا، وأفضى إلى استمالة قلوب العسكر، لركوب المنكر، من إظهار العصيان والعقوق، برفع المنجنوق١٨ وضرب البوق، وطابقه على ذلك جملة من الجنود ليسعوا في الظلم، فلا يؤخذوا بالجرم، وينسلوا عن لجام الشرع، ويأمنوا عليه ألم الردع، ودب الشيطان بينهم ودرج، وأولج هذا الابن وخرج، وأتبعه الملك العادل بأكثر حجابه وزعماء بابه، ونفر من غلمانه ليرده إلى مكانه، فلما بلغوا معسكره صاروا معه يدًا واحدة، وقدمًا قاصدة، وأظهروا شعار الدولة والعصيان على وليهم وولي نعمهم، ومالك لحمهم ودمهم، واتصل الخبر فكادت العقول تطير والقلوب تطيش ولم يُؤمَن من الحاضرين أن يكونوا مع الغائبين، ومن المقيمين أن يكونوا كالذاهبين. فلما جن الليل أردفهم بجماعة من الأعراب، وقام إلى المحراب، يستنجد الله تعالى على ولده، ويسأله أن يجعله في يده، فلما التقت الفئتان أوحى الله تعالى إلى الرعب أن يدهشه وإلى الرمل أن يوحشه، فقهر ذلك الجمع وقسر، وقص جناحه وكسر، وأفلت الكل وأسر، ولجأ من أفلت إلى ابن سمجور وحارب في عسكره، فلما التقى الجمعان بباب هراة وفي عسكره الحاجب النادب، وزعيم بابه الذاهب، أوحى الله تعالى إلى فرسيهما فوقفا، فأسر كل واحد منهما وحده، وأسر من كان معهما بعده، فكُبِّلوا في الحديد وردُّوا إلى مولاهم، فلما مثل الحاجب بين يديه قال: كيف رأيت الله يا ظالم نفسه! ألم أشترك وحيدًا، ألم أربك وليدًا، ألم أغنك فقيرًا، ألم أرفعك حقيرًا، ألم تهرب مستجيرًا، ألم تكن للظالمين نصيرًا، ألم تأتني أسيرًا، ألست به جديرًا، ألست عليه قديرًا؟! فما أجاب بأفصح من السكوت، فلما سمع الملك العادل صليل الحديد في رجليه، بعد وسواس المنطقة عليه، رثى لشقوته، فعفا عن قدرته، وتلك عادته فيمن خصه بجرم، ولا يعفو عن مستوجب حدًّا، ولو عز جدًّا، ثم إنه أطلق عن ولده وحبس من كان يسعى في الدولة بفساد.

وذكر الشيخ أبو فلان أن أبا فلان زاد على خراجه توابع ونوافل وضعف عليه مؤنًا ولواحق، وأمرني أن أكاتبه ليرفع من الزيادة ما أثبت، ويحصد من النكاية ما أنبت، فقلت: اللهم غفرًا كيف يحتشمني، وهل يوقر فضلي، من لا يوقر أصلي! وكيف أكاتب سلطانًا لا يعلم أن الدرهم يؤخذ من مالي خبيث الأحدوثة قليل المغوثة. إن رأى الشيخ أن يعفيني من مكاتبته.

وهلم إلى ملك وجد خراجين لم تزل الملوك من أسلافه يستأدونهما ويسمون الأول أصيلًا ويتأولون في الثاني تأويلًا، ويسمون أحدهما فرضًا، والآخر قرضًا، فعمد إلى الخراج الأول فتحيفه،١٩ وإلى الآخر فحذفه. فأما أبو فلان فإن استصوب الشيخ أن يعرض عليه الفصل من كتابي عرض، ولا يستوحش من خشونة الأقوال، فهي من خشونة الأفعال من جهته، فإن جاز لنا أن نقول، ثم إن استأنف الحسنى عرَّفني لأحسن الخطاب، وأعرف ما خبث مما طاب، ويتوب الله على من تاب.

استعطاف

وكتب إلى أبي بكر الخوارزمي:

أنا لقرب الأستاذ — أطال الله بقاءه — كما طرب النشوان مالت به الخمرُ، ومن الارتياح للقائه، كما انتفض العصفور بلله القَطرُ، ومن الامتزاج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذْبُ، ومن الابتهاج بمرآه، كما اهتزَّ تحت البارح الغُصُنُ الرطْبُ. فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان؟ وكيف اهتزازه لضيف في بردة جمال. وجلدة حمال:

رثُّ الشمائِل منهج الأثوابِ
بكرت عليه مغيرة الأعرابِ

وهو أيده الله ولي أنعامه بإنفاذ غلامه إلى مستقري، لأفضي إليه بسري، إن شاء الله تعالى.

(١-٢) من رسائل العتاب والاعتذار

زهد واعتذار

وكتب إلى الأمير أبي أحمد خلف بن أحمد معاتبًا ومدلًّا:

كتابي — أطال الله بقاءك — وقد كنت نذرت ألا أخاطب حضرته، ثم روى لي القاضي حديثًا طرق إلى نقض ما نذرت طريقًا، وسمعت منشدًا ينشد:

لحى اللهُ صعلوكًا مُناهُ وهمُّهُ
من العيشِ أن يلقى لبوسًا ومطعما
فقلت أنا معنيُّ هذا البيت؛ لأني قاعد في البيت، آكل طيب الطعام، وألبس لين الثياب، ويفاض عليَّ نُزُل،٢٠ ولا يُفوض إليَّ شغل، ويملأ لي وطب،٢١ ولا يدفع بي خطب، وهذا والله عيش العجائز، والزمن العاجز، وكنت أيام مقام الأمير أرى المسافة بين الرتب قريبة، وأجدني أولًا كالثاني وثانيًا كالأول، وأرى الآن ترتيبًا جديدًا، وتفاوتًا بعيدًا، وكنت أحسبني متأخرًا إذا شاء تقدم، ومتواضعًا لو أراد تعظم، ومَسُودًا لو زاحم مَن ساد، لملك الوساد. وأراني الآن مُحْوجًا إلى التأخر، مُلْجأ إلى التصغر، ولعل جُرْمًا تصوَّر، أو رأيًا تغير، أو اعتقادًا أخلف، أو ظنًّا اختلف، فإن لم يكن شيء مما سردت وأوردت، فالغلط في صدر القصة كان، وفي عجزها بان، وإن كان كذا فبالله ما أرضى، ولو صارت السماء أرضًا، ولا أريد، ولو انقطع الوريد.٢٢ وإني لأستحيي من الله أن أرى لي المثل الأدنى وفي القوس مِنْزَعٌ أنا، وإن لم أكن بالعراق أمير البصرة، وببخارى زعيم الحضرة، فما زعجني عنه همذان فقر إلى جوع وعري، ولا ساقني إلى سجستان طمع في شبع وري، وإنما نحوم حول المراد:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليلٌ من المالِ
لا يكثر الأمير عليَّ من خلعه وصلاته،٢٣ فوالله لو علمت أن قصارى أمري سجستان أليها،٢٤ وضياعها أقتنيها، وغلمانها أشتريها، وأموالها أتسع فيها، ولا مطمع في زيادة بعد، لآثرت الزهد على الطلب. الرأس — أيد الله الأمير — كثير الخيوط، والضيف كثير التخليط، وصب هذا الماء خير من شربه، وبُعْدى هذا الضيف أولى من قربه.
وكأني بالأمير يقول، إذا قرئت هذه الفصول: الهمذاني رأى بهذه الحضرة من الإنعام، ما لم يره في المنام، فكيف من الأنام، ولعله أنشأ هذا الكتاب سكران، فعدل به عادل السكر عن طريق الشكر، وكأنه نسي مورده، الذي أشبه مولده، وإنما رفع لحنه، حين أشبع بطنه، واللئيم إذا جاع ابتغى، وإذا شبع طغى، والهمذاني لو ترك بجلدته، يرقص تحت رعدته، ما تربع في قعدته، ولا تجشأ من معدته. ولكنه حين لبس الحلة، وركب البغلة، وملك الخيل والخول تمنى الدول، ورأس اللئيم يحتمل الوهن، ولا يحتمل الدهن، وظهر الشقي يحمل عِدْلَين من الفحم، ولا يحمل رطلين من الشحم، ولولا الشعير ما نهقت الحمير، ولو لم يتسع حاله، لم يتسع محاله، وكذا الكلب يزمن حين يسمن، ولا يتبع حين يشبع، وعند الجوع يهم بالرجوع، وهذا المقترح.٢٥ من دعاه! ولو لم يكن عقبًا ما تدحرج.

ذكرت هذه الكلمات ليعلم الأمير أني لم أنسها، ومع تصور هذه الجملة أغار على لحظاته، وأؤاخذ الأمير بحركاته وسكناته، وأرى أنه سعد مني بأكثر مما سعدت منه، وآنف أن يقال سماه الهمذاني حيث سما سواه، ويقاس على هذا ما عداه، اللهم إلا أن أكون ضيفًا كالأضياف يقيم اليوم ويرحل غدًا، فلا أنافس أحدًا. والأمير — أيده الله — يأخذ هذا المعنى فيكسره لفظًا ليِّن المأخذ، سهل المقطع، ويرقيه إلى سمعه ويجيب عبده في الحال بما عنده، والسلام.

الأدب والذهب

وكتب رقعة إلى مستميحٍ عاوده مرارًا:
عافاك الله، مَثَلُ الإنسان في الإحسان مَثَلُ الأشجار في الإثمار، سبيل من أتى بالحسنة. أن يرفه إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي. أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتولع بالجود، ولكن هذا الخلق النفيس، لا يساعده الكيس، وهذا الطبع الكريم، ليس يحتمله الغريم، ولا قرابة بين الأدب والذهب، قلما جَمَعَتْ بينهما. والأدب لا يمكن ثَرْدُه٢٦ في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، ولي مع الأدب نادرة.
جهدت في هذه الأيام بالطبَّاخ، أن يطبخ من جيميَّة الشمَّاخ٢٧ لونًا فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكتَّاب فلم يقبل، واحتيج في البيت إلى شيء من الزيت فأنشدت شيئًا من شعر الكميت ألفًا ومائتي بيت فلم يُغْنِ. ولو وقعت أرجوزة العجَّاج في توابل السكباج ما عدمتها عندي، ولكن ليست تقع فما أصنع؟! فإن كنت تحسب اختلافك إليَّ إفضالًا عليَّ، فراحتي ألا تطرق ساحتي وفرجي ألا تجي، والسلام.

ملامة

وله يعاتب بعض أصدقائه على التعبيس وعدم البشاشة:

الوحشة — أطال الله بقاء الشيخ — تقتدح في الصدر اقتداح النار في الزَّند، فإن أطفئت بارت وتلاشت، وإن عاشت طارت وطاشت، والقطرُ إذا تدارك على الإناء امتلأ وفاض، والعث إذا ترك فرخ وباض، ونحن أولو هذه الصنعة لا يطردنا سوط كالجفاء، ولا يعقلنا شرك كالنداء، ثم على كل حال، ننظر من عال، على الكريم نظر إدلال، وعلى اللئيم نظر إذلال، فمن لقينا بأنفٍ طويل، لقيناه بخرطوم فيل، ومن لحظنا بنظرٍ شَزْر، بعناه بثمن نَزْر، وعندي أن الشيخ الرئيس لم يغرسني ليقطعني فتاه، ولا اشتراني ليبيعني سواه.

ويحك! سلمت عليه الغداة فرد جوابًا يرد مثله على الوكلاء، بشطر الإيماء، واقتصر من البشاشة، على تحريك الشاشة، ومن الإقبال، على تعويج السبال، وعهدي بذلك الرئيس يخرق إليَّ بساطه عَدْوًا، وسماطة حَبْوًا، فهذا الفاضل أجل من والده الفقيه، أيده الله، يوصيه بحسن العشرة معي من بعد، فللتيه يوم، وللجبروت قوم، وما أريد بعد هذا الإعتاب إعتابًا، ولا عن هذه الواقعة جوابًا، فإني لا أمكنه بعدها من أن يستهين، ولا أسلم عليه حتى يهين. والحمد لله رب العالمين.

تثقيف وتقويم

وكتب إلى الشيخ أبي عبد الله الحسين بن يحيى:٢٨

كتابي — أطال الله بقاءَ الشيخ — وللشيخ لذةٌ في السبِّ والعتب، وطبيعةٌ في العنف والعسف، فإذا أعوزه من يغضب عليه، فأنا بين يديه، وإذا لم يجد من يصونه فأنا زبونه، والولدُ عبدٌ ليست له قيمة، والظفر به غنيمة، والوالد مولى أحسن أم أساء، فليفعل ما شاء، لا يعدمه الله مني جسدًا لا يتألم بالضرب، وقلبًا لا يتظلَّم من العتب، هنيئًا (له) ما استحل من عِرضي وأكل من لحمي، فما يأكل إلا لحمه، ولا يضيم إلا بعضه.

وكأني به وقد استجد إخوانًا ولا بأس، فإن كانت للجديدة لذة فللقديم حرمة، والأخوة بُرْدة لا تضيق عن اثنين، ولو شاء لعاشرنا في البَيْن. وكان سألني أن أرود له منزلًا ماؤه روي، ومرعاه غذي، وأكاتبه لينهض إليه راحلته، فهاك نيسابور ضالته التي نشدتها، وقد وجدتها، وخراسان منيته التي طلبتها، وقد أصبتها، وهذه الدولة بغيته التي أردتها، فقد وردتها، فإن صدقني رائدًا، فليأتني قاصدًا، وإن رضيني مشيرًا فليجئني سريعًا، وهيهات أن يترك أروند وهضابها، وترمذ وشعابها، وماوسًا ورياضها، فيعتاض عنها كرم العهد، ولو علم أن رياض الأخوة أنضر، وشعاب المروءة أطيب، وأنه لا يعدم من نيسابور مثل تلك المتنزهات، وخيرًا من تلك المتوجهات، لحث إليها ركابه.

وأما أنا وأخباري بهذه الناحية، فمتقلب في ثوب العافية، موفر بهذه الحضرة، مرموق بعين القبول، هذه جملة حالي ووراءها تفصيل، منها عليه دليل.

وأما الأخ أبو سعيد — جعلني الله فداءه، ورزقني لقاءه — فقد شكرت بره، ولولا إشفاقي من ضعف تركيبه، ولطف ترتيبه، وعلمي أنه لا يحتمل وعثاء السفر لسألت الشيخ إهداءه إليَّ لأتولى تعليمه وتقويمه، لكنه رطب العظام، لطيف الأركان، لا أخاطر بإنهاضه من ذلك المكان، حتى يعقد مخه في عظامه، وأثق بقوة ألواحه. وبلغني أنه ابتدأ مجمل اللغة فأين بلغ منه؟ والشيخ لا يحمل عليه بعويص اللغة حتى يعلم سهلها، ولا يأخذه بما أخذني به، فالعمر لا يتسع للعلوم أجمع فلينفق على أحسنها، ويكفيه من اللغة علم مستحسنها، دون مستهجنها، ومن الإعراب معرفة أصوله، وما لا غناء به عنه من فروعه، ثم يأخذ به علوم كتاب الله تعالى حتى يرد على قرة عين لي ولك، وصلى الله على محمد وآله.

فاقة وخصاصة

وكتب هذه الرسالة اعتذارًا:

كتابي وقد توسطت الشباب وتطرفت الشيب، وقبضت من إثر الزمان، ونظرت في عقب الأمور، وطرت مع الملوك، ووقعت مع الخطوب:

ورافقتها والجن تنهى وتأمرُ
ففارقتها والموت خزيانُ ينظرُ
وعددت من سني خمسًا وعشرين، وما عددت أشهرها، حتى حلبت أشطرها،٢٩ ولا سلمت رسنها،٣٠ حتى استوفيت ثمنها، وأنا بما منح الله الأستاذ كل يوم من مزيد منتظم الأمور، موفور السرور، والحمد لله حق حمده، والصلاة على رسوله محمد عبده.
وقول الأستاذ نعمةٌ لو صادفت أرضًا، وصنيعةٌ لو أصابت موضعًا، فكأنني به يقول: هذا الكافر للنعمة طوانا حين نشرناه، وجفانا حين برزناه، وغاب سنين فلا كتابَ شكرٍ كتب، ولا قصيدة مدحٍ نظم، ولا يومًا من أيامي ذكر، ولا يدًا من أيادي نشر. وإن فعلت فلأني خراساني، وأعز موجود في الخراسانية، الإنسانية. ولو رآني الأستاذ وأنا في قميص بأذنين، وقباء٣١ ضيق الرُّدْنَيْن،٣٢ وعمامة كقبة الحجاج، وخف فاسد المزاج، أعلاه جراب، وأسفله خراب على بِرذَوْن٣٣ عبدي التقطيع، يرقص كالرضيع. لعلم كيف تجري الفرسان وكيف يمسخ الإنسان.

وقد علم الله أنني فارقت تلك الحضرة مفارقة أبينا الجنة، ولكن الحر لا يجنح إلى القيامة، على الدعامة بالهامة، إذا وجد وجهًا خصيبًا، ومرعى رطيبًا. والله لقد رأيت يدي محيت أفواه الأمراء والوزراء، وقد نظرت يمنة، فلم أر إلا محنة، وعطفت يسرة، فلم أر إلا حسرة:

فإن مت لم أهلك وفي النفس حاجةٌ
وفي العمر إلا قد قضيتُ قضاءها

لا شماتة

جواب إلى من كتب إليه يهنئه بمرض خصمه أبي بكر الخوارزمي:
الحرُّ — أطال الله بقاءك — ولا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإن وجدت فهي عواري، وإن محن الزمان وإن مطلت فستنفد، وإن لم تُصِبْ فكأن قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن أفلت فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت، وما أقبح الشماتة، بمن أمِنَ الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقب كل لفظة، والدهر غرثان٣٤ طعمه الخيار،٣٥ وظمآن شربه الأحرار، فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أم يُسَرُّ العاقل بسلاح قاتله؟! وهذا الفاضل، شفاه الله، وإنْ ظاهر بالعداوة قليلًا، فقد باطنَّاه ودًّا جميلًا، والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد، فلا تتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزُّن لمرضته، وقاه الله المكروه، ووقاني سماع السوء فيه، بحوله ولطفه.

(١-٣) من رسائل القدح والذم

قاضي السوء

وكتب إلى القاضي أبي القاسم علي بن أحمد يشكو أبا بكر الحيري:
الظلامةُ — أطال الله بقاء القاضي — إذا أتت من مجلس القضاء لم ترق إلا إلى سيد القضاة، وما كنت لأقصر سيادته على الحكام، دون جميع الأنام. لولا اتصالهم بسببه، واتسامهم بلقبه، وهم القضاة اتسموا بسمته، متطفلين على قسمته. ألهم أديمٌ في الصحة كأديمه، أو قديمٌ في الشرف كقديمه، أو حديثٌ في الكرم كطريفه؟ فهنيئًا لهم الأسماء وله المعاني، ولا زالت لهم الظواهر وله الجواهر، ولا غرو إن سموا قضاة فما كل مائه ماء ولا كل سقف سماء، ولا كل سيرة عَدْل العُمَرين،٣٦ ولا كل قاض قاضي الحرمين، ويا لثارات القضاء! ما أرخص ما بيع، وأسرع ما أضيع، وألبسته الأنذال قبل خلو الديار وموت الخيار، ألا يغارون لحلي الحسناء، على السوداء، ومركب أولي السياسة تحت الساسة، ومنزل الأنبياء من تصدر الأغنياء، وحمى البزاة من صيد البغاث، ومربع الذكور من تسلط الإناث، ويا للرجال وأين الرجال؟
وُلي القضاء من لا يملك من آلاته غير السبال، ولا يعرف من أدواته غير الاختزال، ولا يتوجه من أحكامه إلا في الاستحلال، ولا يرى التفرقة إلا في العيال، ولا يحسن من الفقه غير جمع المال، ولم يتقن من الفرائض إلا قلة الاحتفال وكثرة الافتعال، ولم يدرس من أبواب الجدل إلا قبح الفعال وزور المقال. ذاك أبو فلان الفلاني أضاعه الله كما أضاع أمانته، وخان خزانته، ولا حاطه من قاضٍ في صولة جندي وسبلة كردي، فما أشبهه في قضاياه، وتحيره بين خطاياه، إلا بالصبي يسلم إلى عديله، ويلف وجهه في منديله، ويجتمع عليه أترابه فيحني قذاله.٣٧ وكل رفعة بصفعة، ويسأل عن ضاربها، فإن غلظ في صاحبها، أعيد على وجهه اللف، وعلى قذاله الكف، وكذا من شغل أيام صباه بما شغل، وفعل أيام الشباب ما فعل، ثم جلس للقضاء كهلًا، ووسع كل شيء جهلًا.

وبعدُ، فإن القضاء من القضية، والحية لا تلد غير الحية، فمن اعتزى إلى أب كأبيه، واقترن بأخٍ كأخيه، لم يُلَمْ على جهله، فهو الشيء من أهله، والفرع في أصله. والعلم — أطال الله بقاء القاضي — شيء كما تعرفه بعيد المرام، لا يصاد بالسهام، ولا يقسم بالأزلام، ولا يُرى في المنام، ولا يضبط باللجام، ولا يُورث عن الأعمام، ولا يكتب للئام. وزرع لا يزكو في كل أرض حتى يصادف من الحرص ثرى طيبًا، ومن التوفيق مطرًا صيبًا، ومن الطبع جوًّا صافيًا، ومن الجهد روحًا دائمًا ومن الصبر سقيًا نافعًا، والعلم علق لا يُباع ممن زاد، وصيد لا يألف الأوغاد، وشيء لا يدرك إلا بنزع الروح، وغرض لا يصاب إلا بافتراش المدر، واستناد الحجر، ورد الضجر، وركوب الخطر، وإدمان السهر، واصطحاب السفر، وكثرة النظر، وإعمال الفكر، ثم هو معتاص على من زكا زرعه، وخلا ذرعه، وكرم أصله وفرعه، ووعى بصره وسمعه، وصفا ذهنه وطبعه، فكيف يناله من أنفق صباه على الفحشاء، وشغل سلوته بالغنى وخلوته بالغناء، وأفرغ جِدَّه على الكيس، وهزله على الكأس. والعلم ثمر لا يصلح إلا للغرس، ولا يغرس إلا في النفس، وصيد لا يقع إلا في البذر، ثم لا ينشب إلا في الصدر، وطائر لا يخدعه إلا قفص اللفظ، ثم لا يعقله إلا شَرَك الحفظ، وبحر لا يخوضه الملاح، ولا تطيقه الألواح، ولا تهيجه الرياح، وجبل لا يتسنم إلا بخطا الفكر، وسماء لا يصعد إليها إلا بمعراج الفهم، ونجم لا يلمس إلا بيد المجد.

أيكفي أن يصبح المرء بين الزق والعود، ويمسي موجبات الحدود، حتى يتم شبابه، وتشيب أترابه، ثم يلبس دَنيَّته، ليخلع دينيته، ويسوي طيلسانه ليحرف يده ولسانه، ويقصر سباله ليطيل حباله، ويبدي شقاشقه ليغطي مخارقه، ويبيض لحيته ليسود صحيفته، ويظهر روعه، ليخفي طمعه، ويغشي محرابه، ليملأ حرابه، ويكثر دعاءه، ليحشو وعاءه، ويرجو أن يخرج من بين هذه الأحوال عالمًا، ويقعد حاكمًا، هذا إذا المجد كالوه يقفزان. كلا حتى ينسى الشهوات، ويجوب الفلوات، ويعتضد المخابر، ويحتضن الدفاتر، وينتج الخواطر، ويحالف الأسفار، ويعتاد القفار، ويصل الليلة باليوم، ويعتاض السهر من النوم، ويحمل على الروح، ويجني على العين، وينفق من العيش، ويخزن في القلب، ولا يستريح من النظر إلا إلى التحديق، ولا من التحقيق إلا إلى التعليق. وحامل هذه الكلف إن أخطأه رائد التوفيق، فقد ضل سواء الطريق، وهذا الحيري رجلٌ سفلة طلب الرئاسة بغير تحصل آلاتها، وأعجله حصول الأمنية عن تمحل أدواتها:

والكلب أحسن حالةً
وهو النهاية في الخساسهْ
ممن تصدر للريا
سة قبل إبان الرياسهْ

فولي المظالم وهو لا يعرف أسرارها، وحمل الأمانة وهو لا يعرف مقدارها، والأمانة عند الفاسق، خفيفة المحمل على العاتق، تشفق منها الجبال، ويحملها الجهال، وقعد مقعد رسول الله ، بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى، وبين البينة والدعوى، فقبحه الله من حاكم لا شاهد أعدل عنده من السلة والجام، يدلي بهما إلى الحكام. ولا مزكي أصدق لديه من الصُّفْر، ترقص على الظفر، ولا وثيقة أحب إليه من غمزات الخصوم، على الكيس المختوم، ولا وكيل أوقع بوفاقه من خبيئة الذيل، وحمَّال الليل، ولا كفيل أعزُّ عليه من المنديل والطبق، في وقتي الغسق والفلق، ولا حكومة أبغض إليه من حكومة المجلس، ولا خصومة أوحش لديه من خصومة المفلس، ثم الويل للفقير إذا ظُلم فما يغنيه موقف الحكم، إلا بالقتل من الظلم، ولا يجيره مجلس القضاء، إلا بالنار من الرمضاء.

وأقسم لو أن اليتيم وقع في أنياب الأسود، بل الحيات السود، لكانت سلامته منهما أحسن من سلامته إذا وقع بين غيابات هذا القاضي وأقاربه. وما ظنُّ القاضي بقوم يحملون الأمانة على متونهم، ويأكلون النار في بطونهم، حتى تغلظ قصراتهم٣٨ من مال اليتامى، وتسمن أكفالهم من مال الأيامى، وما ظنك بدارٍ عمارتها خراب الدور، وعُطلة القدور، وخلاء البيوت، من الكسوة والقوت، وما قولك في رجل يعادي الله في الفلس، ويبيع الدين بالثمن البخس، وفي حاكم يبرز في ظاهر أهل السمت، وباطن أصحاب السبت، فعله الظلم البحت، وأكله الحرام السحت،٣٩ وما رأيك في سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، ولص لا ينقب إلا خزانة الأوقاف، وكردي لا يغير إلا على الضعاف، وذئب لا يفترس عباد الله إلا بين الركوع والسجود، ومحارب لا ينهب مال الله إلا بين العهود والشهود؟!
وما زلت أبغض حال القضاة طبعًا وجبلَّة، حتى أبغضتهم دينًا وملة، وألعنهم دربة، حتى لعنتهم قُربة، بما شاهدت من هذا الحيري وقاسيت، وعانيت من خبطه وخطبه ما عانيت، وسأسوق حديثي معه: إنه أصلحه الله قد فتش أعطاف نيسابور فما وجد إلا رأسي دبَّة٤٠ وإلا لحيتي مذبَّة،٤١ فجنى لي على خمسة آلاف درهم أرقت في كسبها ماء العمر، وأخرجتها من أنياب الخطوب الحمر، وخمسة أشهر من عمري كل يوم منها خير من عمر شريح القاضي في أمر الباغ٤٢ المعروف بباغ أسد. عقد لي إجاره ثلاث سنين واحتملت دخله أيامًا قلائل، ثم لم يكن مثلي معه إلا مثل البخاري الذي ضمن حماره وخرج في طلبه، حتى عبر جيحون بسببه، يطلبه في كل منهلة، وينشده في كل مرحلة، وهو لا يجده، حتى جاوز خراسان، وانتهى إلى طبرستان، وأتى العراق، وطاف الأسواق، فلما لم يجده، وأيس عاد وقد طالت أسفاره، ولم يحصل حماره، حتى إذا حصل في بلده، بين أهله وولده، أحب الله أن يلطف له لطفًا ليعتبر به. فنظر ذات يوم إلى إصطبله فإذا الحمار بسرجه ولجامه، وثفره٤٣ وحزامه، قائمًا على المعلف ينش.

وأنا أيضًا ما زال يرددني في هذا الباغي بأمل يرخيه ويشده، وطمع يرسله ويمده، حتى صار الباغ بأرضه ومائه، وزرعه وبنائه، في يد الهمذاني. أليس — أطال الله بقاء القاضي — يعامل مثلي بمثلها إلا سخي أو سخيف، أما السخي فالذي لا يبالي بما يئول إليه عقباه، ولا يوجعه الصفع على قفاه، والله المستعان والقاضي الفاضل المستجار، ولعن الله الحيري ووقتًا قطعته بذكره، وقرطاسًا دنسته باسمه، والحمد لله.

جفوة ونفار

وكتب إليه رجل عزل عن ولاية حسنة يستمد وداده فأجابه بهذه الرسالة التي عارضها الكثيرون:
وردت رقعتك! — أطال الله بقاءك — فأعرتها طرف التعزُّز، ومددت إليها يد التقزُّز، وجمعت عنها ذيل التحرُّز،٤٤ فلم تند على كبدي، ولم تحظ بناظري ويدي، وخطبت من مودتي ما لم أجدك لها كفؤًا، وطلبت من عشرتي ما لم أرك لها رضا. وقلت: هذا الذي رفع عنا أجفان طرفه، وشال بشعرات أنفه، وتاه بحسن قده، وزها بورد خده، ولم يسقنا من نوئه،٤٥ ولم نسر بضوئه، والآن إذ نسخ الدهر آية حسنه، وأقام مائدة غصنه، وفثأ٤٦ غرب عُجبه، وكفَّ زهو زهره، وانتصر لنا منه بشعرات كسفت هلاله،٤٧ وأكسفت باله، ومسخت جماله، وغيرت خاله، وكدَّرت شرعته،٤٨ جاء يستقي من جُرْفنا جَرْفًا، ويغرف من طيبنا غرفًا، فمهلًا أبا الفضل مهلًا:
أرغبت فينا إذ علا
ك الشعر في خدٍّ قَحِلْ٤٩
وخرجتَ عن حد الظبا
ء وصرت في حد الإبلْ
الآن تطلب عشرتي
عُدْ للعداوة يا خَجِلْ

وتناسيت أيامك إذ تكلمنا نزرًا، وتلحظنا شَزْرًا، وتجالس من حضر، ونسترق إليك النظر، ونهتز لكلامك، ونهش لسلامك:

ومن لك بالعين التي كان مدةً
إليك بها في سالف الدهر ينظرُ

أيام كنت تتمايل، والأعضاء تتزايل، وتتغانج، والأجساد تتفالج، وتتلفت، والأكباد تتفتت، وتخطر وترفل، والوجد يعلو بنا ويسفل، وتُدبر، وتُقبل، فتَمْنى وتخبُل، وتصد وتُعرض، فتُضني وتُمرض:

وتبسم عن ألْمَى كأن منورًا
تخلل حرَّ الرمل غض له ندي

فاقصر الآن فإنه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة عرضت، وأيام انقضت:

وعهد نفاق مضى
وخطب كساد نزلْ
وخدٌّ كأن لم يكن
وخطٌ كأن لم يزلْ
يوم صار أمس، وحسرة بقيت في النفس، وثغرٌ غاض ماؤه فلا يرشف، وريقٌ خدع فلا ينشف، وتمايل لا يُعجب، وتثن لا يطرب، ومقلة لا تجرح ألحاظها، وشفة لا تفتن ألفاظها، فحتام تدل وإلام، ولِمَ نحتمل، وعلامَ، وآن أن تذعن الآن. وقد بلغني الوقت ما أنت متعاطيه من تمويه يجوز بعد العشاء في الغسق، وتشبيه يفتضح عند ذوي البصر، وإفنائك لتلك الشعرات حفًّا وحصًّا،٥٠ وإسباغك لها نتفًا وقصًّا، وسيكفينا الدهر مئونة الإنكار عليك بما يزف إليك، من بنات الشعر وأمهاته.

فأما ما استأذنتَ رأيي فيه من الاختلاف إلى مجلسي فما أقل نشاطي لك وأضيق بساطي عنك، وأشبع قلبي منك، وأشد استغنائي عن حضورك، فإن حضرت فأنت كغاش نروض عليه الحلم، ونتعلم به الصبر، ونتكلف فيه الاحتمال ونغضي منه الجفن على قذى، ونطوي منه الصدر على أذى، ونجعله للعيون تأديبًا وللقلوب تأنيبًا.

ما لك يا أبا الفضل، تعتاض من الرغبة عنا رغبة فينا! ومن ذلك التدلل علينا تذللًا لنا! ومن ذلك التعالي تبصصًا، ومن الغالي ترخصًا! وما بال الدهر أبدلك من التزايد تنقصًا، ومن التسحب على الإخوان تقمصًا. ولئن اعتضت عن ذلك الذهاب رجوعًا، لقد اعتضنا عن هذا النزاع نزوعًا، فأنا برحلك وجانبك، ملقى حبلك على غاربك، لا أوثر قربك، ولا أنده٥١ سربك، ولو أحببت أن أوجعك لقلت:
ما يفعل الله باليهودِ
ولا بعادٍ ولا ثمودِ
ولا بفرعون إذ عصاهُ
ما يفعلُ الشعرُ بالخدودِ

(١-٤) من رسائل السب والشتم

شكوى وسعاية

كتب إلى الشيخ الفضل بن أحمد الإسفرائيني وهو أول من استوزر لمحمود بن سبكتكين فاتح السند والهند:
كتابي والثمرة، أدام الله عز الشيخ الجليل، تخرج من أكمامها، فتكون مرَّة قبل تمامها، ثم تصير مزَّة كثيرًا من أيامها، ثم تكون فجة عفصة،٥٢ ثم لا يزال الليل والنهار ينضجانها حتى تصبح رطبًا جنيًّا، وتؤكل حلوًا هنيًّا، وقد تصورني الشيخ الجليل حجرًا لا يؤثر فيَّ الماء والنار، ولا ينضجني الليل والنهار، وللشباب نزقة طيش ثم يربعون، إذا جاء الأربعون، وينزعون، وإن كانوا لا يوزعون.

ولقد نظرت في المرآة فوجدت الشيب يتلهث وينهب، والشباب يتأهب ويذهب، وما أسرج هذا الأشهب إلا لسير، وأسأل الله خاتمة خير، وأنا أرجو أن يكون ما نسبني إليه ولي النعمة — أدام الله علوه — من الظلم والعدوان مطايبة ومزاحًا، فإن كان اعتقادًا فلأمي الويل، وسال بي السيل. فأما الخراج وتوابعه فوالله ما أحوج عاملًا إلى اقتضائه، إنما الحديث في جزاف يطلب، ومحال يكتب. فأما حقوق الديوان أصلًا وفرعًا فلا يدعي العمال عليَّ باقيًا إلا غرمت للدرهم دينارًا، أمجنون أنا! وأما الشركاء فهم يفدونني بالأمهات والآباء. وقد سمع الشيخ الجليل كلامهم والذكرى تنفع المؤمنين.

ومما أطرف به المجلس العالي، زاده الله شرفًا، أنه كان في جيرتنا رجل يُكنى أبا الهول، كنا نسميه أسطوانة المسجد لكثرة صلاته، وكان له عم موسر لا عقب له، فرزق ولدًا على كبر السن. فحمل أبا الهول فرط غمه، أن زوى الله عنه ميراث عمه. على ترك الصلاة أصلًا، فكان لا يؤدي فرضًا ولا نفلًا، ولا يرد سلامًا، ولا يعمل في الخير عملًا …

وقد وجدت لأبي الهول عِدْلًا٥٣ وهو أبو فلان. كان فيما مضى يعتق في كل شهر عبدًا، ويصلي بالليل وردًا، ويتخذ مصانع وربطًا، فرجع من الحضرة، وقد سلخه الله من كل خير، وضربه في قالب عير، فهو الآن لا يشهد جامعًا ولا جمعة، ولا يصلي في الظاهر ركعة، ولا يعطي فقيرًا حبَّة، ولا يرزق طفل منه محبة. وقد اتخذ نقباءَ وأعوانًا، وارتبط رجالة وفرسانًا. وقد ملأ الرستاق والبلد أجعالًا،٥٤ وما سُجن أحد قبلي على سعاية، ولولا أمرٌ خصَّني لرأيت حقًّا لله أن أنهض إلى المجلس العالي لتصوير حاله، وقد طويت هذا الكتاب على ما عاملني به، وإذا كانت هذه حالي، وأنا أمشي بالنهار على الماء، وأعرج بالليل إلى السماء، علم الشيخ الجليل حال العامة. وإذا أنعم بالنظر في الرقعة التي طويت كتابي هذا عليها، وفي جواب القاضي في آخرها وعلى ظهرها، علم صدق ما يقوله العبد.

وللشيخ الجليل في تأهيل العبد للجواب وزجر هذا الطويل عما يتعطاه رأيُهُ العالي إن شاء الله.

الوجه اللحيم

وكتب إليه أيضًا في شأن أبي البختري:
جزى الله الشيخ الجليل، السيد النبيل، أفضل ما جازى مولى عن عبده، وأضعف الله له من عنده، ومن قال جزاك الله خيرًا فقد أولى جميلًا، وأعطى جزيلًا، وما قصر من اتخذ الله وكيلًا. وما بي — أدام الله تمكين الشيخ الجليل — مال حصل، أو حق وصل. إني لا أعدم في كنفه المال، وأبلغ في دولته الآمال. ولكن أبا البختري حماني لذيذ النوم، ومنعني بياض اليوم. أنَّى يكون مثلي وأنا سحتب٥٥ ضرب، يعبث به صفعان كأنه درب، وكنت أسمع بطرار٥٦ كأنه النبل، ولم أسمع بمختال كأنه الطبل، ويقولون لص كالحية في الظلم، وطرار كالزَّلم،٥٧ فأما طرار كالسلم،٥٨ ولص في طول المنارة، وعَرض الغرارة، فلا إلى هذا الحر، وعنوان الأحمق كنيته، ثم بنيته، ثم حليته، ثم مشيته، ووالله ما أعرف معنى أبي البختري، فهلا أبو حامد، وأبو خالد، وإن امرأة تقعد مدة تعصر بطنها وظهرها، وتعد يومها وشهرها، ثم تسميه أبا البختري لرعناء لا تستحق مهرها، وخليقةٌ أن تطمَّ نهرها، فلا تلد دهرها. ثم الوجه اللحيم، لا يحمله كريم، والأنف السمين، لا ينقله الأمين، والقطف سير الحمير، والهرولة مشية الخنازير.

مجمع الرذائل

وكتب إلى عمار بن الحسين:
ما أجد لعمَّار مثلًا إلا الغراب، لا يقع إلا مذمومًا على أي جنب وقع، إن نعب فروعة النذير، وإن حجَلَ فمشية الأسير، وإن شحج فصوت الحمير، وإن أكل فدبر البعير، وإن سرق فبلغة الفقير. كذلك عمَّار إن حُذِفتْ عينه فالحين،٥٩ وإن حُذِفتْ ميمه فالشَّيْن، وإن حُذِفتْ راؤه فالرَّيْن، وإن صحِّف خطه فالمَيْن،٦٠ وإن لاصقته فالمعاذير الكاذبة، وإن استقصيته فالوجه العبوس، وإن صدقته فالظفر اللئيم، وإن كذبته فالعقاب الأليم، وإن زرته فالحجاب الثقيل، وإن لم تزره فالعتاب الطويل.

تعريض

وكتب في نقض قصيدة أبي بكر الخوارزمي:

سألت، أمتع الله بك عن الخوارزمي وشعره، وقلت إني لأجد فيه بيتًا لو رُئي في المنام لأوجب الغسل حسًّا، وبعده بيتًا إذا سرد ينقض الطهارة مسًّا، ولعمري إن هذين البيتين لو كانا تينتين ما نبتا في أرض، أو تمرتين ما جنيتا من غصن. فكذلك إذا كانا شعرين يبعد أن يصدرا عن صدر، أو يطبعا من طبع، أو يصبا على قالب قلب، أو يكونا نفسَي نَفْس، فقد يسمن الشاعر ثم يغث، ويجيد القائل ثم يرث، ولكن لا كما تراه في شعر أبي بكر. وما كنت لأكشف تلك الأسرار، وأهتك هذه الأستار، وأظهر منه العار والعوار، لولا ما بلغنا عنه من اعتراض علينا في ما أملينا، وتجهيز قدح علينا في ما روينا، من مقامات الإسكندري، من قوله إنا لا نحسن سواها، وإنا نقف عند منتهاها. ولو أنصف هذا الفاضل لراض طبعه على خمس مقامات، أو عشر مفتريات. ثم عرضها على الأسماع والضمائر، وأهداها إلى الأبصار والبصائر، فإن كانت تقبلها ولا تزجُّها، أو تأخذها ولا تمجُّها، كان يعترض علينا بالقدح، وعلى إملائنا بالجرح، أو يقصر سعيه ويتداركه وهنه، فيعلم أن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة لا مناسبة بين المقامتين لا لفظًا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر، حقيق بكشف عيوبه. والسلام.

ساكن الإصطبل

وكتب إليه أيضًا:

قد بعث إليَّ الشيخ — أطال الله بقاءه — بأصل مال مجونه، وأصان إن شاء الله عن فروعه، فأما القسمة الواقعة لفلان فلو كان حماري لنفشت على بطنه التبن، ونقلت على ظهره اللبن. أفأؤدي عنه الغرامة، لا ولا كرامة، أنا والله لا أربط في الإصطبل، مثل ذلك الطبل، إني لأنفس بالعذار، على ذلك الحمار. مَنْ ذلك الثور حتى يحتمل منه الجور! الموت ولا هذا الصوت، والمنية، ولا هذه الدنية، والسلام.

(١-٥) من الرسائل الأهلية

إغراء

كتب إلى أبيه يستقدمه إلى هراة:
كتابي — أطال الله بقاء سيدنا — من بوشنج، أسوة بيعقوب في ولده، إذ ظعن إليه من بلده، وليس العائق سور الأعراف،٦١ ولا رمل الأحقاف، ولا جبل قاف،٦٢ فلم لا ينشط، والله لا يضيع بذلك المكان درهمًا إلا عوَّضه دينارًا، ولا يعدم هناك دارًا، إلا أفدته ديارًا. أخاف والله أن أموت وفي النفس حاجة لم أقضها، ومُنْيَة لم أحظَ ببعضها. لا يفعل سيدنا الشيخ، والضنُّ بالولد أولى من الضن بالبلد، وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج، وأن يرتب له عمارة شتوية تسعه والشيخ الفاضل العم فليتفضلا وليقوما ويرحلا. ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله أجمعين، فما يعجبني لقاء ليس له بقاء، ولا وصل بعده فراق. فإن لم يمكن استصحاب القوم فلا يتأخر بنفسه، فسيرد على خمسمائة نيران، وألف أكار، وأحوالٍ منتظمة وأسباب مستقيمة.

غَيْرِي خالُك

وكتب إلى ابن أخته:

أنت ولدي ما دمتَ والعلمُ شأنُك، والمدرسةُ مكانُك، المحبرة حليفُك، والدفتر أليفُك، فإن قصَّرت ولا إخالك، فغَيْرِي خالك، والسلام.

فضيلة القصد

وكتب أيضًا إلى وارث مال:
وصلت رقعتك يا سيدي، والمصاب لعمر الله كبير، وأنت بالجزع جدير، ولكنك بالصبر أجدر، والعزاء عن الأعزة رُشد كأنه الغي، وقد مات الميت فليحي الحي، فاشدد على مالك بالخَمْس،٦٣ فأنت اليوم غيرك بالأمس.
قد كان ذلك الشيخ، رحمه الله، وكيلك، تضحك ويبكي لك، وقد مولك بما ألف بين سُراه٦٤ وسيره، وخلفك فقيرًا إلى الله غنيًّا عن غيره. وسيعجم الشيطان عودك٦٥ فإن استلانه رماك بقوم يقولون: خير المال ما أتلف بين الشراب والشباب، وأنفق بين الحباب٦٦ والأحباب، والعيش بين الأقداح والقِداح،٦٧ ولولا الاستعمال لما أريد المال. فإن أطعتهم فاليوم في الشراب وغدًا في الخراب، واليوم وا طَرَبا للكاس، وغدًا وا حَرَبا من الإفلاس.
يا مولاي، ذلك الخارج من العود يسميه العاقل فقرًا، والجاهل نقرًا، وذلك المسموع من الناي هو اليوم في الآذان زمر، وغدًا في الأبواب سمر،٦٨ والعمر مع هذه الآلات ساعة، والقنطار في هذا العمل بضاعة. وإن لم يجد الشيطان مغمزًا في عودك من هذا الوجه رماك بآخرين يمثلون الفقر حذاء عينك، فتجاهد قلبك وتحاسب بطنك، وتناقش عينك، وتمنع نفسك، وتبوء في دنياك بوزرك، وتراه في الآخرة في ميزان غيرك. لا. ولكن قصدًا بين الطريقين، وميلًا عن الفريقين، لا منع ولا إسراف. والبخل فقر حاضر وضير عاجل، وإنما يبخل المرء خيفة ما هو فيه، فليكن لله في مالك قسط، وللمروءة قسم، فصل الرحم ما استطعت، وقدر إذا قطعت. فلأن تكون في جانب التقدير، خير لك من أن تكون في جانب التبذير.

(٢) المقامات

(٢-١) من المقامات الأدبية

المقامات القريضية

حدثنا عيسى بن هشام قال: طرحتني النوى مطارحها حتى إذا وطئت جرجان الأقصى، فاستظهرت على الأيام بضياعٍ أجلت فيها يد العمارة، وأموال وقفتها على التجارة، وحانوت جعلته مثابة،٦٩ ورفقة اتخذتها صحابة وجعلت للدار، حاشيتي النهار، وللحانوت ما بينهما، فجلسنا يومًا نتذاكر القريض وأهله، وتِلْقاءنا شابٌّ قد جلس غير بعيد ينصت وكأنه يفهم، ويسكت وكأنه لا يعلم، حتى إذا مال الكلام بنا ميله، وجر الجدال فينا ذيله، قال: قد أصبتم عُذَيقَه، ووافيتم جُذَيلَه،٧٠ ولو شئت للفظت وأفضت، ولو قلت لأصدرت وأوردت، ولجلوت الحق في معرض بيان يُسْمِعُ الصُّمَّ، ويُنْزِلُ العُصْم.٧١

فقلت: يا فاضل ادْنُ فقد مَنَّيت، وهاتِ فقد أثنيت. فدنا وقال: سلوني أجبكم، واسمعوا أعجبكم، فقلنا: ما تقول في امرئ القيس؟ قال: هو أول من وقف بالديار وعَرَصَاتها، واغتدى والطير في وُكُنَاتها، ووصف الخيل بصفاتها، ولم يَقُلِ الشعر كاسبًا، ولم يجد القول راغبًا، ففَضَلَ مَن تفتق للحيلة لسانه، وانتجع للرغبة بنانه.

قلنا: فما تقول في النابغة؟ قال: يثلِبُ إذا حَنِق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا رهب، ولا يرمي إلا صائبًا.

قلنا فما نقول في زهير؟ قال: يذيبُ الشعر والشعر يذيبُه، ويدعو القول والسحر يجيبه.

قلنا: فما تقول في طرفة؟ قال: هو ماء الأشعار وطينتها، وكنز القوافي ومدينتها، مات ولم تظهر أسرار دفائنه، ولم تفتح أغلاق خزائنه.

قلنا: فما تقول في جرير والفرزدق، وأيهما أسبق؟ فقال: جرير أرق شعرًا، وأغزرُ غزْرًا، والفرزدق أمتن صخرًا، وأكثر فخرًا، وجرير أوجع هجوًا، وأشرف يومًا. والفرزدق أكثر رَوْمًا، وأكرم قومًا، وجرير إذا نسب أشجى، وإذا ثلب أردى، وإذا مدح أسنى، والفرزدق إذا افتخر أجزى. وإذا احتقر أزرى، وإذا وصف أوفى.

قلنا: فما تقول في المحدَثين من الشعراء والمتقدمين منهم؟ قال: المتقدمون أشرف لفظًا، وأكثر من المعاني حظًّا، والمتأخرون ألطف صنعًا وأرق نسجًا.

قلنا: فلو أريت من أشعارك، ورويت لنا من أخبارك، قال: خذهما في معرض واحد، وقال:

أما تروني أتغشَّى طِمْرًا٧٢
ممتطيًا في الضر أمرًا مرا
مضطبنًا٧٣ على الليالي غمرا
ملاقيًا منها صروفًا حمرا
أقصى أماني طلوع الشعرى٧٤
فقد عنينا بالأماني دهرا
وكان هذا الحر أعلى قدرا
وماء هذا الوجه أغلى سعرا
ضربت للسرا قبابًا خضرا
في دار دارا وإوان كسرى
فانقلب الدهر لبطن ظهرا
وعاد عرف العيش عندي نكرا
لم يبق من وَفْريَ إلا ذكرا
ثم إلى اليوم هلم جرا
لولا عجوز لي بسُرَّ مَنْ را٧٥
وأفرخٌ دون جبال بُصْرَى
قد جلب الدهر عليهم ضرا
قتلت يا سيادة نفسي صبرا
قال عيسى بن هشام: فأنلته ما تاح، وأعرض عنا فراح. فجعلت أنفيه وأثبته، وأنكره وكأني أعرفه، ثم دلتني عليه ثناياه فقلت: الإسكندري والله، فقد كان فارقنا خِشْفًا،٧٦ ووافانا جِلْفًا، ونهضت على إثره، ثم قبضت على خصره، وقلت: ألست أبا الفتح، ألم نربك فينا وليدًا، ولبثت فينا من عمرك سنين، فأي عجوز لك بسر من را؟! فضحك إليَّ وقال:
ويحك هذا الزمان زورُ
فلا يغرنَّك الغرورُ
لا تلتزم حالةً ولكن
دُرْ بالليالي كما تدورُ

المقامة الجاحظية

حدثنا عيسى بن هشام قال: أثارتني ورفقة وليمة فأجبت إليها للحديث المأثور عن رسول الله : لو دعيت إلى كُراع٧٧ لأجبت، ولو أهدي إليَّ ذراع لقبلت. فأفضى بنا السير إلى دار:
تُركتْ والحسن تأخذه
تنتقي منه وتنتخبُ
فانتقت منه طرائفه
واستزادت بعض ما تهبُ
قد فرش بساطها، وبسطت أنماطها، ومد سماطها، وقوم قد أخذوا الوقت بين آس مخضود،٧٨ وورد منضود، ودَنٍّ مفصود، وناي وعود، فصرنا إليه وصاروا إلينا. ثم عكفنا على خوان قد ملئت حياضه، ونورت رياضه، واصطفت جفانه، واختلفت ألوانه، فمن حالك بإزائه ناصع، ومن قان تلقاءه فاقع، ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرغفان،٧٩ وتفقأ عيون الجفان، وترعى أرض الجيران، وتجول في القصعة، كالرُّخ٨٠ في الرقعة. يزحم باللقمة للقمة، ويهزم بالمضغة المضغة، وهو مع ذلك ساكت لا ينبس بحرف. ونحن في الحديث نجري معه حتى وقف بنا على ذكر الجاحظ وخطابته، ووصف ابن المقفع وذُرابته، ووافق أول الحديث آخر الخوان، وزلنا عن ذلك المكان، فقال الرجل: أين أنتم من الحديث الذي كنتم فيه؟ فأخذنا في وصف الجاحظ ولَسَنِه،٨١ وحسن سننه في الفصاحة وسننه فيما عرفناه، فقال: يا قوم لكل عمل رجال، ولكل مقام مقال، ولكل دار سكان، ولكل زمان جاحظ، ولو انتقدتم، لبطل ما اعتقدتم.
فكل كشر له عن ناب الإنكار، وأشم بأنف الإكبار، وضحكت له لأجلب ما عنده، وقلت: أفدنا وزدنا، فقال: إن الجاحظ في أحد شقي البلاغة يقطف،٨٢ وفي الآخر يقف، والبليغ من لم يقصِّر نظمه عن نثره، ولم يُزْرِ كلامه بشعره، فهل ترون للجاحظ شعرًا رائعًا؟
قلنا: لا، قال: فهلموا إلى كلامه، فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام،٨٣ يستعمله، نفورٌ من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟ فقلنا: لا، قال: فهل تحب أن تسمع من الكلام ما يخفف عن منكبيك وينم على ما في يديك، فقلت: إي والله. قال: فأطلق لي عن خِنْصرك،٨٤ بما يعين على شكرك، فنلته ردائي، فقال:
لعمر الذي ألقى عليَّ ثيابه
لقد حشيت تلك الثياب به مجدا
فتى قمرته المكرمات رداءه
وما ضربت قدحًا٨٥ ولا نصبت نردا٨٦
أعد نظرًا يا من حباني ثيابه
ولا تدع الأيام تهدمني هدَّا
وقل للألى إن أسفروا أسفروا ضحى
وإن طلعوا في غمة طلعوا سعدا
صلوا رحم العليا وبُلُّوا لهاتها٨٧
فخير الندى ما سحَّ وابله نقدا

قال عيسى بن هشام: فارتاحت الجماعة إليه، وانثالت الصلات عليه، وقلت لما تآنسنا: من أين مطلع هذا البدر، فقال:

إسكندرية داري
لو قر فيها قراري
لكن ليلي بنجدٍ
وبالحجاز نهاري

(٢-٢) من المقامات الفكاهية

المقامة المضيرية

حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بالبصرة، ومعي أبو الفتح الإسكندري، رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التجار فقُدمت إلينا مَضِيرة،٨٨ تُثنى على الحضارة، وتترجرج في الغَضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية، رحمه الله، بالإمامة، في قصعة يزل عنها الطرف. ويموج فيها الظرف، فلما أخذت من الخوان مكانها، ومن القلوب أوطانها، قام أبو الفتح الإسكندري يلعنها وصاحبها، ويمقتها وآكلها، ويثلبها وطابخها، وظنناه يمزح، فإذا الأمر بالضد، وإذا المزاح عين الجد، وتنحى عن الخوان، وترك مساعدة الإخوان، ورفعناها فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلبت لها الأفواه،٨٩ وتلمظت لها الشفاه، واتقدت لها الأكباد، ومضى في إثرها الفؤاد، ولكنا ساعدناه على هجرها، وسألناه عن أمرها، فقال: قصتي معها أطول من مصيبتي فيها، ولو حدثتكم بها لم آمن المقت وإضاعة الوقت، قلنا: هات.
قال: دعاني بعض التجار إلى مضيرة وأنا ببغداد، ولزمني ملازمة الغريم، والكلب لأصحاب الرقيم،٩٠ إلى أن أجبته إليها وقمنا، فجعل طول الطريق يثني على زوجته، ويفديها بمهجته، ويصف حذقها في صنعتها، وتأنقها في طبخها، ويقول: يا مولاي، لو رأيتها، والخرقة في وسطها، وهي تدور في الدور، من التنور إلى القدور، ومن القدور إلى التنور، تنفث بفيها النار، وتدق بيديها الأبزار. ولو رأيت الدخان وقد غبر في ذلك الوجه الجميل، وأثر في ذلك الخد الصقيل، لرأيت منظرًا تحار فيه العيون. وأنا أعشقها لأنها تعشقني، ومن سعادة المرء أن يرزق المساعدة من حليلته، وأن يسعد بظعينته، ولا سيما إذا كانت من طينته. وهي ابنة عمي لحًّا، طينتها طينتي، ومدينتها مدينتي، وعمومتها عمومتي، وأرومتها أرومتي. لكنها أوسع مني خُلقًا، وأحسن خَلقًا. وصدعني بصفات زوجته، حتى انتهينا إلى محلته. ثم قال: يا مولاي، ترى هذه المحلة. هي أشرف محال بغداد يتنافس الأخيار في نزولها. ويتغاير الكبار في حلولها. ثم لا يسكنها غير التجار. وإنما المرء بالجار. وداري في السِّطَّة٩١ من قلادتها، والنقطة من دائرتها. كم تقدر يا مولاي، أنفق على كل دار منها؟ قله تخمينًا، إن لم تعرفه يقينًا. قلت: الكثير. فقال: يا سبحان الله ما أكبر هذه الغلط، تقول الكثير فقط! وتنفس الصعداء، وقال سبحان من يعلم الأشياء.
وانتهينا إلى باب داره. فقال: هذه داري كم تقدر يا مولاي، أنفقت على هذه الطاقة. أنفقت والله عليها فوق الطاقة، ووراء الفاقة. كيف ترى صنعتها وشكلها؟ أرأيت بالله مثلها؟! انظر إلى دقائق الصنعة فيها وتأمل حسن تعريجها فكانما خُط بالبركار. وانظر إلى حذق النجَّار في صنعة هذا الباب. اتخذَه من كم؟ قل: ومن أين أعلم. هو ساجٌ من قطعة واحدة لا مأروض٩٢ ولا عفن. إذا حُرك أنَّ، وإذا نُقر طنَّ. من اتخذه يا سيدي؟ اتخذَه أبو إسحاق بن محمد البصري، وهو، والله، رجل نظيف الأثواب، بصير بصنعة الأبواب، خفيف اليد في العمل. لله در ذلك الرجل! بحياتي لا استعنتَ إلا به على مثله.

وهذه الحلقة تراها؟ اشتريتها في سوق الطرائف من عمران الطرائقي بثلاثة دنانير معزية، وكم فيها يا سيدي من الشبه؟ فيها ستة أرطال، وهي تدور بلولب في الباب. بالله دورها، ثم انقرها وأبصرها، وبحياتي عليك لا اشتريت الحَلَق إلا منه فليس يبيع إلا الأعلاق.

ثم قرع الباب ودخلنا الدهليز وقال: عمرك الله يا دار، ولا خربك يا جدار، فما أمتن حيطانك، وأوثق بنيانك، وأقوى أساسك! تأمل بالله معارجها وتبين دواخلها وخوارجها، وسلني: كيف حصلتها، وكم من حيلة احتلتها، حتى عقدتها؟ كان لي جار يكنى أبا سليمان يسكن هذه المحلة وله من المال ما لا يسعه الخزن، ومن الصامت ما لا يحصره الوزن. مات رحمه الله وخلف خلفًا أتلفه بين الخمر والزمر، ومزَّقه بين النرد والقَمْر، وأشفقت أن يسوقه قائد الاضطرار، إلى بيع الدار، فيبيعها في أثناء الضجر، أو يجعلها عوضةً للخطر. ثم أراها، وقد فاتني شراها، فأتقطع عليها حسرات، إلى يوم الممات، فعمدت إلى أثواب لا تنض٩٣ تجارتها، فحملتها إليه وعرضتها عليه، وساومته على أن يشتريها نسية،٩٤ والمدبر يحسب النسية عطية، والمتخلف يعتدها هدية، وسألته وثيقة بأصل المال ففعل وعقدها لي، ثم تغافلت عن اقتضائه حتى كادت حاشية حاله ترق فأتيته فاقتضيته، واستمهلني فأنظرته، والتمس غيرها من الثياب فأحضرته، وسألته أن يجعل داره رهينة لدي، ووثيقة في يدي، ففعل. ثم درجته بالمعاملات إلى بيعها حتى حصلت لي بجد صاعد، وبخت مساعد، وقوة ساعد، ورب ساع لقاعد، وأنا بحمد الله مجدود في مثل هذه الأحوال محمود، وحسبك يا مولاي، أني كنت منذ ليال نائمًا في البيت مع من فيه إذ قرع علينا الباب، فقلت: من الطارق المنتاب؟ فإذا امرأة معها عقد لآل، في جلده ماء ورقة آل، تعرضه للبيع، فأخذته منها إخْذَةَ خَلْسٍ، واشتريته بثمن بخس، وسيكون له نفع ظاهر، وربح وافر، بعون الله ودولتك. وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم سعادة جدي في التجارة، والسعادة تنبط الماء من الحجارة، الله أكبر! لا ينبئك أصدق من نفسك، ولا أقرب من أمسك، اشتريت هذا الحصير في المناداة، وقد أخرج من دور آل الفرات، وقت المصادرات وزمن الغارات. وكنت أطلب مثله منذ الزمن الأطول فلا أجد. والدهر حبلى ليس يُدرَى ما يلد، ثم اتفق أني حضرت باب الطاق. وهذا يعرض في الأسواق. فوزنت فيه كذا وكذا دينارًا. تأمل بالله دقته ولينه، وصنعته ولونه، فهو عظيم القدر، لا يقع مثله إلا في الندر. وإن كنت سمعت بأبي عمران الحصيري فهو عمله. وله ابن يخلفه الآن في حانوته لا يوجد أعلاق الحصر إلا عنده. فبحياتي لا اشتريت الحصر إلا من دكانه، فالمؤمن ناصح لإخوانه، ولا سيما من تحرَّم بخوانه.
ونعود إلى حديث المضيرة، فقد حان وقت الظهيرة، يا غلام، الطست والماء، فقلت: الله أكبر ربما قرب الفرج، وسهل المخرج، وتقدم الغلام، فقال: ترى هذا الغلام؟ إنه رومي الأصل عراقي النشء. تقدم يا غلام واحسر عن رأسك، وشمر عن ساقك، وانفضْ عن ذراعك، وافتر عن أسنانك، وأقبل وأدبر. ففعل الغلام ذلك، وقال التاجر: بالله من اشتراه! اشتراه والله، أبو العباس، من النخاس. ضع الطست، وهات الإبريق، فوضعه الغلام وأخذه التاجر وقلبه وأدار فيه النظر ثم نقره، فقال: انظر إلى هذا الشبه٩٥ كأنه جذوة اللهب، أو قطعة من الذهب، شبه الشام، وصنعة العراق، ليس من خلقان٩٦ الأعلاق، قد عرف دور الملوك ودارها. تأمل حسنه وسلني: متى اشتريته؟! اشتريته والله عام المجاعة، وادخرته لهذه الساعة. يا غلام، الإبريق، فقدمه، وأخذه التاجر فقلبه، ثم قال: وأنبوبه منه. لا يصلح هذا الإبريق إلا لهذا الطست، ولا يصلح هذا الطست إلا مع هذا الدست، ولا يحسن هذا الدست إلا في هذا البيت. ولا يجمل هذا البيت إلا مع هذا الضيف.

أرسل الماء يا غلام، فقد حان وقت الطعام، بالله ترى هذا الماء ما أصفاه! أزرق كعين السنور، وصاف كقضيب البلور، استُقي من الفرات واستعمل بعد البيات، فجاء كلسان الشمعة، في صفاء الدمعة، وليس الشأن في السقاء، الشأن في الإناء، لا يدلك على نظافة أسبابه، أصدق من نظافة شرابه. وهذا المنديل! سلني عن قصته، فهو نسج جرجان، وعمل أرجان، وقع إليَّ فاشتريته، فاتخذت امرأتي بعضه سراويل، واتخذت بعضه منديلًا، ودخل في سراويلها عشرون ذراعًا، وانتزعت من يدها هذا القدر انتزاعًا، وأسلمته إلى المطرز حتى صنعه كما تراه وطرزه. ثم رددته من السوق، وخزنته في الصندوق، وادخرته للظراف، من الأضياف، لم تذله عرب العامة بأيديها، ولا النساء لمآقيها، فلكل علق يوم، ولكل آلة قوم.

يا غلام، الخوان، فقد طال الزمان، والقصاع، فقد طال المصاع،٩٧ والطعام، فقد كثر الكلام، فأتى الغلام بالخوان، وقلبه التاجر على المكان، ونقره بالبنان، وعجمه بالأسنان، وقال: عمر الله بغداد فما أجود متاعها، وأظرف صناعها!

تأمل بالله هذا الخوان، وانظر إلى عرض متنه، وخفة وزنه، وصلابة عوده وحسن شكله، فقلت: هذا الشكل، فمتى الأكل؟! فقال: الآن. عجل يا غلام، الطعام. لكن الخوان قوائمه منه.

قال أبو الفتح: فجاشت نفسي وقلت: لقد بقي الخبز وآلاته، والخبز وصفاته، والحنطة من أين اشتريت أصلًا، وكيف اكترى لها حملًا، وفي أي رحى طحن، وإجَّانة٩٨ عجن، وأي تنور سجر، وخباز استأجر، وبقي الحطب من أين احتطب، ومتى جلب وكيف صفف حتى جفف وحبس، حتى يبس. وبقي الخباز ووصفه، والتلميذ ونعته، والدقيق ومدحه، والخمير وشرحه، والملح وملاحته، وبقيت السكرجات٩٩ من اتخذها، وكيف انتقذها،١٠٠ ومن عملها، والخل كيف انتقى عنبه، أو اشترى رطبه، وكيف صهرجت معصرته واستخلص لبه. وكيف قُيِّر حبه،١٠١ وكم يساوي دنه؛ وبقي البقل كيف احتيل له حتى قطف، وفي أي مبقلة رصف، وكيف تؤنق حتى نُظف، وبقيت المضيرة كيف اشتري لحمها، ووُفي شحمها، ونصبت قدرها، وأججت نارها، ودقت أبزارها، حتى أجيد طبخها وعقد مرقها، وهذا خطب يطم، وأمر لا يتم.
فقمت، فقال: أين تريد؟! فقلت: حاجة أقضيها، فقال: يا مولاي تريد كنيفًا يُزْري بربيعي الأمير، وخريفي الوزير، قد جصص أعلاه وصهرج أسفله، وسُطح سقفه وفرشت بالمرمر أرضه، يزل عن حائطه الذر فلا يعلق، ويمشي على أرضه الذباب فيزلق، عليه باب غيرانه١٠٢ من خليطي ساجٍ وعاج، مزدوجين أحسن ازدواج، يتمنى الضيف أن يأكل فيه. فقلت: كل أنت من هذا الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب.

وخرجت نحو الباب، وأسرعت في الذهاب، وجعلت أعدو وهو يتبعني ويصيح يا أبا الفتح! المضيرة. وظن الصبيان أن المضيرة لقب لي فصاحوا صياحه فرميت أحدهم بحجر، من فرط الضجر، فلقي رجلٌ الحجر بعمامته فغاص في هامته. فأخذت من النعال بما قدُم وحدُث، ومن الصفع بما طاب وخبث، وحشرت إلى الحبس، فأقمت عامين في ذلك النحس، فنذرت أن لا آكل مضيرة ما عشت. فهل أنا في ذا يا آل همدان ظالم؟!

قال عيسى بن هشام: فقبلنا عذره ونذرنا نذره، وقلنا: قديمًا جنت المضيرة على الأحرار، وقدمت الأراذل على الأخيار.

(٢-٣) من المقامات القصصية

المقامة البشرية

حدثنا عيسى بن هشام قال: كان بشر بن عوانة العبدي صعلوكًا فأغار على ركب فيهم امرأة جميلة فتزوج بها وقال: ما رأيت كاليوم! فقالت:

أعجب بشرًا حور في عيني
وساعد أبيض كاللجينِ
ودونه مسرح طرف العينِ
خمصانة ترفل في حجلينِ١٠٣
أحسن من يمشي على رجلين
لو ضم بشر بينها وبيني
أدام هجري وأطال بيني١٠٤
ولو يقيس زينها بزيني
لأسفر الصبح لذي عينينِ

قال بشر: ويحك! مَن عنيت؟ فقالت: بنت عمتك فاطمة، فقال: أهي من الحسن بحيث وصفتِ. قالت: وأزيد وأكثر، فأنشأ يقول:

ويحك يا ذات الثنايا البيض١٠٥
ما خلتني منك بمستعيض
فالآن إذ لوحت بالتعريض
خلوت جوًّا فاصفري وبيضي١٠٦
لا ضم جفناي على تغميض
ما لم أشل عرضي من الحضيض١٠٧

فقالت:

كم خاطب في أمرها ألحا
وهي إليك ابنة عم لحا
ثم أرسل إلى عمه يخطب ابنته، ومنعه العم أمنيته، فآلى ألا يُرْعِي١٠٨ على أحد منهم إن لم يزوجه ابنته، ثم كثرت مضراته فيهم، واتصلت معرته إليهم، فاجتمع رجال الحيِّ إلى عمه وقالوا: كفَّ عنا مجنونك فقال: لا تلبسوني عارًا، وأمهلوني حتى أهلكه ببعض الحيل، فقالوا: أنت وذاك، ثم قال له عمه: إني آليت أن لا أزوج ابنتي هذه إلا ممن يسوق إليها ألف ناقة مهرًا ولا أرضاها إلا من نوق خزاعة، وغرض العم كان أن يسلك بشر الطريق بينه وبين خزاعة فيفترسه الأسد؛ لأن العرب قد كانت تحامت عن ذلك الطريق وكان فيه أسد يُسمى داذًا وحية تُدعى شجاعًا يقول فيها قائلهم:
أفتك من داذٍ ومن شجاع
إن يك داز سيد السباع
فإنها سيدة الأفاعي
ثم إن بشرًا سلك ذلك الطريق فما نصفه١٠٩ حتى لقي الأسد وقمص مهره فنزل وعقره، ثم اخترط سيفه إلى الأسد واعترضه، وقطه١١٠ ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه:
أفاطم لو شهدت ببطن خبتٍ
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرًا
إذًا لرأيت ليثًا زار ليثًا
هزبرًا أغلبًا لاقى هربزا
تبهنس١١١ ثم أحجم عنه مهري
محاذرة فقلت: عقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض إني
رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالًا١١٢
محددة ووجهًا مكفهرا
يكفكف غيلة إحدى يديه
ويبسط للوثوب عليَّ أخرى
يدل بمخلبٍ وبحد نابٍ
وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي الحد أبقى
بمضربه قراع الموت أثرا١١٣
ألم يبلغك ما فعلت ظباه
بكاظمة غداةَ لقيت عمرا
وقلبي مثل قلبك ليس يخشى
مصاولة فكيف يخاف ذعرا
وأنت تروم للأشبال قوتًا
وأطلب لابنه الأعمام مهرا
ففيم تسوم مثلي أن يولي
ويجعل في يديك النفس قسرا
نصحتك فالتمسْ يا ليث غيري
طعامًا إن لحمي كان مرا
فلما ظن أن الغش نصحي
وخالفني كأني قلت هجرا
مشى ومشيت من أسدين راما
مرامًا كان إذ طلباه وعرا
هززت له الحسام فخلت أني
شققت به لدى الظلماء فجرا
وجدت له بجائشة أرته
بأن كذبته ما منته غدرا
وأطلقت المهند من يميني
فَقَدَّ له من الأضلاع عشرا
فخر مجدلًا بدمٍ كأني
هدمت به بناء مشمخرا
وقلت له يعز عليَّ أني
قتلت مناسبي جلدًا وقهرا
ولكن رمت شيئًا لم يرمه
سواك فلم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارًا
لعمر أبيك قد حاولت نكرا
فلا تجزع فقد لاقيت حرًّا
يحاذر أن يُعاب فمت حرا
فإن تك قد قُتلت فليس عارًا
فقد لاقيت ذا طرفين حرَّا
فلما بلغت الأبيات عمه ندم على ما١١٤ منعه تزويجها، وخشي أن تغتاله الحية فقام في أثره وبلغه وقد ملكته سَورة الحية، فلما رأى عمه أخذته حمية الجاهلية فجعل يده في فم الحية وحكم سيفه فيها فقال:
بشرٌ إلى المجد بعيدٌ همه
لما رآه بالعراء عمه
قد ثكلته نفسه وأمه
جاشت به جائشة تهمه
قام إلى ابنٍ للفلا يؤمه
فغاب فيه يده وكمه
ونفسه نفسي وسمي سمه
فلما قتل الحية قال عمه: إني عرضتك طمعًا في أمر قد ثنى الله عناني عنه، فارجع لأزوجك ابنتي. فلما رجع جعل بشر يملأ فمه فخرًا حتى طلع أمرد كشق القمر على فرسه مدججًا في سلاحه، فقال بشر: يا عمي، إني أسمع حس صيد، وخرج فإذا بغلامٍ على قيد، فقال: ثكلتك أمك يا بشر، إن قتلت دودة وبهيمة تملأ ماضغيك فخرًا! أنت في أمان إن سلمت عمك. فقال بشر: مَن أنت لا أم لك، قال: اليوم الأسود والموت الأحمر، فقال بشر: ثكلتك من سَلَحتك.١١٥ فقال: يا بشر، ومن سلحتك.
وكر كل واحد منهما على صاحبه، فلم يتمكن بشر منه، وأمكن الغلام عشرون طعنة في كلية بشر كلما مسه شبا السنان١١٦ حماه عن بدنه إبقاء عليه، ثم قال: يا بشر كيف ترى، أليس لو أردت لأطعمتك أنياب الرمح؟ ثم ألقى رمحه واستل سيفه فضرب بشرًا عشرين ضربة بعرض السيف ولم يتمكن بشر من واحدة، ثم قال: يا بشر سلم عمك واذهب في أمان، قال: نعم ولكن بشريطة أن تقول لي من أنت، فقال: أنا ابنك. فقال: يا سبحان الله ما قارنت عقيلة قط فأنَّى لهذه المنحة! فقال: أنا ابن المرأة التي دلتك على ابنة عمك، فقال بشر:
تلك العصا من هذه العُصَية١١٧
هل تلد الحيةُ إلا الحيهْ
وحلف لا ركب حِصانًا ولا تزوج حَصانًا،١١٨ ثم زوج ابنة عمه لابنه.

المقامة الأسدية

حدثنا عيسى بن هشام قال: كان يبلغني من مقامات الإسكندري ومقالاته بما يَصْغَى إليه النَّفُور،١١٩ وينتفض له العصفور، ويروي لنا من شعره ما يمتزج بأجزاء النفس رقة، ويغمض عن أوهام الكهنة دقة، وأنا أسأل الله بقاءه، حتى أرزق لقاءه، وأتعجب من قعود همته بحالته، مع حسن آلته، وقد ضرب الدهر شئونه بأسداد١٢٠ دونه، وهلم جرًّا، إلى أن اتفقت لي حاجة بحمص، فشحذت إليها الحرص، في صحبة أفراد كنجوم الليل، أحلاس١٢١ لظهور الخيل، وأخذنا الطريق ننتهب مسافته، ونستأصل شأفته، ولم نزل نفري أسنة النجاد بتلك الجياد، حتى صرن كالعصي، ورجعن كالقسي.
وتاح لنا وادٍ في سفح جبل ذي ألاءٍ وأثل١٢٢ كالعذارى يسرحن الضفائر وينشرن الغدائر، ومالت الهاجرة بنا إليها، ونزلنا نغور ونغور، وربطنا الأفراس بالأمراس، وملنا مع النعاس، فما راعنا إلا صهيل الخيل. ونظرت إلى فرسي وقد أرهف أذنيه، وطمح بعينيه، يجذُّ١٢٣ قوى الحبل بمشافره، ويخدُّ خدَّ الأرض بحوافره، ثم اضطربت الخيل فأرسلت الأبوال وقطعت الحبال، وأخذت نحو الجبال، وطار كل واحدٍ منا إلى سلاحه فإذا السبع في فروة الموت، قد طلع من غابه، منتفخًا في إهابه، كاشرًا عن أنيابه، بطرف قد ملئ صلفًا، وأنف قد حُشي أنفًا، وصدر لا يبرحه القلب، ولا يسكنه الرعب، وقلنا خطب ملم، وحادث مهم، وتبادر إليه من سرعان١٢٤ الرفقة فتى:
أخضر الجلدة في بيت العرب
يملأ الدلو إلى عقد الكرب١٢٥
بقلب ساقه قدر، وسيف كله أثر، وملكته سورة الأسد فخانته أرض قدمه، حتى سقط ليده وفمه، وتجاوز الأسد مصرعه إلى من كان معه، ودعا الحين أخاه بمثل ما دعاه فصار إليه، وعقل الرعب يديه، فأخذ أرضه، وافترش الليث صدره، ولكني رميته بعمامتي وشغلت فمه، حتى حقنت دمه. وقام الفتى فَوَجَأ١٢٦ بطنه حتى هلك الفتى من خوفه، والأسد للوجأة في جوفه، ونهضنا في إثر الخيل فتألفنا منها ما ثبت وتركنا ما أفلت، وعدنا إلى الرفيق لنجهزه.
فلما حثونا الترب فوق رفيقنا
جزعنا ولكن أي ساعة مجزع
وعدنا من الفلاة وهبطنا أرضها، وسرنا حتى إذا ضمرت المزاد،١٢٧ ونفد الزاد أو كاد يدركه النفاد، ولم نملك الذهاب ولا الرجوع، وخفنا القاتلَين الظمأ والجوع، عنَّ لنا فارس فصمدنا صمده، وقصدنا قصده، ولما بلغنا نزل عن حر فرسه، ينقش الأرض بشفتيه، ويلقي التراب بيديه، وعمدني من بين الجماعة فقبل ركابي، وتحرم بجنابي، ونظرت فإذا هو وجه يبرق برق العارض المتهلل، وقوام متى ما ترق العين فيه تسهل، وعارض قد اخضر، وشارب قد طرَّ،١٢٨ وساعد ملآن، وقضيب ريان، ونجار تركي، وزي ملكي.

فقلنا: ما لك لا أبا لك! فقال: أنا عبد بعض الملوك همَّ من قتلي بهَمٍّ، فهمت على وجهي إلى حيث تراني. وشهدت شواهد حاله، على صدق مقاله، ثم قال: أنا اليوم عبدك، ومالي مالك، فقلت: بشرى لك وبك. أَدَّاك سيرك إلى فناءٍ رحب، وعيش رطب.

وهنأتني الجماعة، وجعل ينظر فتفتننا ألحاظه، وينطق فتقتلنا ألفاظه، فقال: يا سادة، إن في سفح الجبل عينًا وقد ركبتم فلاةً عوراء، فخذوا من هنالك الماء، فلوينا الأعنة إلى حيث أشار، وبلغناه وقد صهرت الهاجرة الأبدان وركب الجنادب١٢٩ العيدان، فقال: ألا تقيلون١٣٠ في هذا الظل الرحب، على هذا الماء العذب، فقلنا: أنت وذاك.
فنزل عن فرسه وحل منطقته، ونحى قُرْطُقته،١٣١ فما استتر عنَّا إلا بغلالة تنم على بدنه، فما شككنا أنه خاصم الوالدان، ففارق الجنان، وهرب من رضوان، وعمد إلى السروج فحطها، وإلى الأفراش فحشها، وإلى الأمكنة فرشها، وقد حارت البصائر فيه، ووقفت الأبصار عليه، فقلت: يا فتى، ما ألطفك في الخدمة، وأحسنك في الجملة، فالويل لمن فارقته، وطوبى لمن رافقته، فكيف شكر الله على النعمة بك؟! فقال: ما سترونه مني أكثر. أتعجبكم خفتي في الخدمة، وحسني في الجملة، فكيف لو رأيتموني في الرفقة، أريكم من حذقي طرفًا، لتزدادوا به شغفًا؟ فقلنا: هات، فعمد إلى قوس أحدنا فأوتره وفوَّق سهمًا فرماه في السماء، وأتبعه بآخر فشقه في الهواء.
وقال: سأريكم نوعًا آخر، ثم عمد إلى كنانتي فأخذها وإلى فرسي فعلاه، ورمى أحدنا بسهمٍ أثبته في صدره، وآخر طيره من ظهره، فقلت: ويحك ما تصنع؟! قال: اسكت يا لكع،١٣٢ والله ليشدن كل منكم يد رفيقه، أو لأغصنه بريقه.
فلم ندر ما نصنع وأفراسنا مربوطة، وسروجنا محطوطة، وأسلحتنا بعيدة وهو راكب ونحن رجالة، والقوس في يده يرشق بها الظهور، ويمشق بها البطون والصدور، وحين رأينا الجد، أخذنا القد،١٣٣ فشد بعضنا بعضًا وبقيت وحدي لا أجد من يشد يدي، فقال: اخرج بإهابك، عن ثيابك، فخرجت. ثم نزل عن فرسه وجعل يصفع الواحد منا بعد الآخر، وينزع ثيابه، وصار إليَّ، وعليَّ خُفان جديدان، فقال: عليَّ خلعه، ثم دنا إليَّ لينزع الخف، ومددت يدي إلى سكين كان معي في الخف، وهو في شغله فأثبته في بطنه، وأبنته من متنه، فما زاد على فمٍ فغره،١٣٤ وألقمه حجره.
وقمت إلى أصحابي فحللت أيديهم وتوزعنا سلب القتيلين، وأدركنا الرفيق وقد جاد بنفسه، وصار لرمسه، وصرنا إلى الطريق ووردنا حمص بعد ليالٍ خمس، فلما انتهينا إلى فُرْضَة١٣٥ من سوقها رأينا رجلًا قد قام على رأس ابن وبُنَيَّة، بجرابٍ وعُصيَّة وهو يقول:
رحم الله من حشا
في جرابي مكارمه
رحم الله من رنا
لسعيد وفاطمه
إنه خادم لكم
وهي لا شك خادمه

قال عيسى بن هشام: فقلت إن هذا الرجل هو الإسكندري الذي سمعت به، وسألت عنه فإذا هو فدلفت إليه، وقلت: احتكم حكمك، فقال: درهم، فقلت:

لك درهمٌ في مثله
ما دام يسعدني النفس
فاحسب حسابك والتمس
كيما أنيل الملتمس

وقلت له: درهم في اثنين في ثلاثة في أربعة في خمسة حتى انتهيت إلى العشرين ثم قلت: كم معك؟ قال: عشرون رغيفًا، فأمرت له بها، وقلت: لا نصر مع الخذلان، ولا حيلة مع الحرمان.

(٢-٤) من مقامات الكدية

المقامات المكفوفية

حدثنا عيسى بن هشام، قال: كنت أجتازُ في بعض بلاد الأهواز، وقصاراي لفظةٌ شَرُودٌ أصيدها، وكلمة بليغة أستزيدها، فأدَّاني السير إلى رقعة فسيحة من البلد، وإذا هناك قوم مجتمعون على رجل يستمعون إليه وهو يخبط الأرض بعصا على إيقاع لا يختلف، وعلمت أن مع الإيقاع لحنًا، ولم أبعد لأنال من السماع حظًّا، أو أسمع من الفصيح لفظًا، فما زلت بالنظارة أزحم هذا وأدفع ذاك حتى وصلت إلى الرجل، وسرَّحت الطرف منه إلى حُزُقَّة١٣٦ كالقرنبى، أعمى مكفوف، في شملة صوف، يدور كالخُذروف،١٣٧ متبرنسًا بأطول منه، معتمدًا على عصا فيها جلاجل يخبط الأرض بها على إيقاع غَنِج، بلحنٍ هزج، وصوت شج، من صدر حرج، وهو يقول:
يا قوم قد أثقل ديني ظهري
وطالبتني طلتي١٣٨ بالمهر
أصبحت من بعد غنًى ووفر
ساكن قفرٍ وحليف فقر
يا قوم هل بينكم من حُرِّ
يعينني على صروف الدهر
يا قوم قد عيل لفقري صبري
وانكشفت عني ذيول الستر
وفض ذا الدهر بأيدي البتر
ما كان لي من فضة وتبر
آوي إلى بيتٍ كقيد شبر
خامل قدرٍ وصغير قدر
لو ختم الله بخير أمري
أعقبني عن عسر بيسر
هل من فتى فيكم كريم النَّجْر١٣٩
محتسب فيَّ عظيمَ الأجر
إن لم يكن مغنمًا للشكر

قال عيسى بن هشام: فرق له والله قلبي، واغرورقت له عيني، فنلته دينارًا كان معي، فما لبث أن قال:

يا حسنها فاقعة١٤٠ صفراء
ممشوقة منقوشة قوراء
يكاد أن يقطر منها الماء
قد أثمرتها همة علياء
نفس فتى يملكه السخاء
يصرفه فيه كما يشاء
يا ذا الذي يعنيه ذا الثناء
ما يتقصَّى قدرك الإطراء
امض إلى الله لك الجزاء
ورحم الله من شدها في قرن١٤١ مثلها، وآنسها بأختها، فناله الناس ما نالوه، ثم فارقهم وتبعته وعلمت أنه متعامٍ لسرعة ما عرف الدينار، فلما نظمتنا خلوة مددت يمناي إلى يُسْرَى عضديه وقلت: والله لتريني سرك، أو لأكشفن سترك، ففتح عن توءمتي لَوْز.١٤٢ وحدرت لثامه عن وجهه فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري، فقلت: أنت أبو الفتح! فقال: لا.
أنا أبو قلمون
في كل لون أكون
اخترْ من الكسب دونًا
فإن دهرك دون
زج الزمان بحمقٍ
إن الزمان زبون١٤٣
لا تكذبن بعقلٍ
ما العقل إلا الجنون

المقامة الفزارية

حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت في بعض بلاد فزارة مرتحلًا نجيبة، وقائدًا جنيبة،١٤٤ يسبحان بي سبحا، وأنا أهم بالوطن فلا الليل يثنيني بوعيده، ولا البعد يلويني ببيده، فظللت أخبط ورق النهار بعصا التسيار، وأخوض بطن الليل، بحوافر الخيل، فبينا أنا في ليلة يضل فيها الغطاط،١٤٥ ولا يبصر فيها الوطواط، أسيح سيحًا ولا سانح إلا السبع، ولا بارح إلا الضبع، إذ عنَّ لي راكب تام الآلات يوم الأثلات، يطوي إليَّ منشور الفلوات، فأخذني منه ما يأخذ الأعزل، من شاكي السلاح. لكني تجلدت فقلت أرضك لا أم لك فدونك شرط الحداد، وخرط القتاد، وخصمٌ ضخم، وحمية أزدية، وأنا سلم إن شئت، وحرب إن أردت، فقل لي من أنت؟

فقال: سِلْمًا أصبت، فقلت: خيرًا أجبت، فمن أنت؟ قال: نصيح إن شاورت، فصيح إن حاورت، ودون اسمي لثام، لا تميطه الأعلام.

قلت: فما الطُّعْمة؟١٤٦ قال: أجوب جيوب البلاد، حتى أقع على جفنة جواد، ولي فؤاد يخدمه لسان، وبيان يرقمه بنان، وقصاراي كريم يخفض لي جنيبته،١٤٧ وينفض إليَّ حقيبته، كابن حر طلع عليَّ بالأمس، طلوع الشمس، وغرب عني بغروبها، لكنه غاب ولم يغب تذكاره، وودع وشيعتني آثاره، ولا يُنْبئك عنها، أقرب منها، وأومأ إلى ما كان لبسه.

فقلت: شحاذ ورب الكعبة أخَّاذ، له في الصنعة نفاذ، بل هو فيها أستاذ، ولا بد من أن ترشح له وتسح عليه.

فقلت: يا فتى، قد جليت عبارتك فأين شعرك من كلامك؟ فقال: وأين كلامي من شعري! ثم استمد غريزته، ورفع عقيرته بصوت ملأ الوادي وأنشأ يقول:

وأروع أهداه لي الليل والفلا
وخمس تمس الأرض لكن كلا ولا
عرضت على نار المكارم عوده
فكان معمًّا في السيادة مخولا
وخادعته عن ماله فخدعته
وساهلته من بره فتسهلا
ولما تجالينا وأحمد منطقي
بلاني من نظم القريض بما بلا
فما هز إلا صارمًا حين هزني
ولم يلقني إلا إلى السبق أولا
ولم أره إلا أغر محجلا
وما تحته إلا أغر محجلا
فقلت له: على رسلك يا فتى. ولك فيما يصحبني حكمك، فقال: الحقيبة بما فيها، فقلت: إنَّ١٤٨ وحاملتها، ثم قبضت بجمعي عليه وقلت: لا والذي ألهمها لمسًا، وشقها من واحدة خمسًا، لا تزايلني أو أعلم علمك، فحدر لثامه عن وجهه فإذا هو، والله، شيخنا أبو الفتح الإسكندري فما لبثت أن قلت:
توشحت أبا الفتح
بهذا السيف مختالا
فما تصنع بالسيف
إذا لم تك قتالا
فصُغْ ما أنت حليت
به سيفك خلخالا

المقامة الوصية

حدثنا عيسى بن هشام قال: لما جهز أبو الفتح الإسكندري ولده للتجارة أقعده يوصيه فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله :

يا بني، إني وإن وثقت بمتانة عقلك، وطهارة أصلك، فإني شفيق والشفيق سيئ الظن، ولست آمنًا عليك النفس وسلطانها، والشهوة وشيطانها فاستعن عليهما نهارك بالصوم، وليلك بالنوم، إنه لبوس ظهارته الجوع، وبطانته الجوع، وما لبسهما أسد إلا لانت سورته، أفهمتهما يا بن الخبيثة!

وكما أخشى عليك ذاك فلا آمن عليك لصين أحدهما الكرم، واسم الآخر القَرَم١٤٩ فإياك وإياهما. إن الكرم أسرع في المال من السوس، وإن القرم أشأم من البسوس،١٥٠ ودعني من قولهم: إن الله كريم! إنها خدعة الصبي عن اللبن، بل إن الله لكريم، ولكن كرم الله يزيدنا ولا ينقصه، وينفعنا ولا يضره، ومن كانت هذه حاله، فلتكرم خصاله، فأما كرم لا يزيدك حتى ينقصني، ولا يريشك حتى يبريني، فخذلان لا أقول عبقري، ولكن بقري، أفهمتهما يا بن المشئومة.

إنما التجارة تُنبط الماء من الحجارة، وبين الأكلة والأكلة ريح البحر، بيد أن لا خطر، والصين غير أن لا سفر. أفتتركه وهو معرض ثم تطلبه وهو معوز، أفهمتهما لا أم لك!

إنه المال عافاك الله فلا تنفقن إلا من الربح، وعليك بالخبز والملح، ولك في الخل والبصل رخصة ما لم تذمهما، ولم تجمع بينهما، واللحم لحمك وما أراك تأكله، والحلو طعام من لا يبالي على أي جنبيه يقع، والوجبات عيش الصالحين، والأكل على الجوع واقية الفوت، وعلى الشبع داعية الموت، ثم كن مع الناس كلاعب الشطرنج: خذ كل ما معهم واحفظ كل ما معك.

يا بني، قد أسمعتُ وأبلغت، فإن قبلت فالله حسبك، وإن أبيت فالله حسيبك،١٥١ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(٢-٥) من المقامات المدحية

المقامة الملوكية

حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت في منصرفي من اليمن، وتوجهي إلى نحو الوطن، أسري ذات ليلة لا سانح بها إلا الضبع، ولا بارح إلا السبع، فلما انتُضِيَ نصل الصباح، وبرز جبين المصباح، عنَّ لي في البراح،١٥٢ راكب شاكي السلاح، فأخذني منه ما يأخذ الأعزل، من مثله إذ أقبل، لكني تجلدت فوقفت، وقلت: أرضك لا أم لك، فدوني شرط الحداد، وخرط القتاد، وحمية أزْدية، وأنا سلم إن كنت، فمن أنت، فقال: سلمًا أصبت، ورفيقًا كما أحببت، فقلت: خيرًا أجبت، وسرنا فلما تخالينا، وحين تجالينا، أجلت القصة عن أبي الفتح الإسكندري، وسألني عن أكرم من لقيته من الملوك، فذكرت ملوك الشام، ومن بها من الكرام، وملوك العراق ومن بها من الأشراف، وأمراء الأطراف، وسقت الذكر، إلى ملوك مصر، فرويت ما رأيت وحدثته بعوارف ملوك اليمن، ولطائف ملوك الطائف، وختمت مدح الجملة، بذكر سيف الدولة، فأنشأ يقول:
يا ساريًا بنجوم الليل يمدحها
ولو رأى الشمس لم يعرف لها خطرا
وواصفًا للسواقي هبك لم تزر اﻟ
بحر ألم تعرف له خبرا!
من أبصر الدر لم يعدل به حجرا
ومن رأى «خلفًا» لم يذكر البشرا
زره تزر ملكًا يعطي بأربعةٍ
لم يحوها أحدٌ وانظر إليه ترى
أيامه غررًا، ووجهه قمرا
وعزمه قَدَرا، وسيبه مطرا
ما زلت أمدح أقوامًا أظنهمُ
صفو الزمان فكانوا عنده كدرا
قال عيسى بن هشام، فقلت: من هذا الملك الرحيم الكريم، فقال: كيف يكون، ما لم تبلغه الظنون، وكيف أقول، ما لم تقبله العقول، ومتى كان ملك يأنف الأكارم، إن بعثت بالدراهم، والذهب، أيسر ما يهب، والألف، لا يعمه إلا الخلف، وهذا جبل الكحل قد أضر به الميل،١٥٣ فكيف لا يؤثر ذلك العطاء الجزيل؟ وهل يجوز أن يكون ملك يرجع من البذل إلى سرفه، ومن الخلق إلى شرفه، ومن الدين إلى كلفه، ومن الملك إلى كنفه، من الأصل إلى سلفه، ومن النسل إلى خلفه؟
فليت شعري من هذي مآثره
ماذا الذي ببلوغ النجم ينتظرُ

المقامة النيسابورية

حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بنيسابور، يوم جمعة، فحضرت المفروضة، ولما قضيتها اجتاز بي رجل قد لبس َدنية،١٥٤ وتحنك سُنية،١٥٥ فقلت لمُصلٍّ بجنبي: من هذا؟ قال: هذا سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، ولص لا ينقب إلا خزانة الأوقاف، وكردي لا يغير إلا على الضعاف، وذئب لا يفترس عباد الله إلا بين الركوع والسجود، ومحارب لا ينهب مال الله إلا بين العهود والشهود، وقد لبس دنيته وخلع دينيته، وسوى طيلسانه، وحرَّف يده ولسانه، وقصر سبابه، وأطال حباله، وأبدى شقاشقه، وغطى مخارقه، وبيض لحيته، وسود صحيفته، وأظهر ورعه، وستر طمعه.
قلت: لعن الله هذا، فمن أنت، قال: أنا رجل أُعرف بالإسكندري، فقلت: سقى الله أرضًا أنبتت هذا الفضل، وأبًا خلَّف هذا النسل. فأين تريد؟ قال: الكعبة، فقلت بخٍّ بخٍّ بأكلها ولما تُطبخ،١٥٦ ونحن إذًا رفاق.
قال: كيف ذلك وأنا مصعد وأنت مصوِّب، قلت: فكيف تصعد إلى الكعبة؟ قال: أما إني أريد كعبة المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومَشْعَر الكرم، لا مَشْعَر الحرم، وبيت السَّبي، لا الهَدْي١٥٧ وقبلة الصِّلات،١٥٨ لا قبلة الصلاة، ومِنَى الضيف، لا مِنَى الخيف،١٥٩ قلت: وأين هذه المكارم وأنشأ يقول:
بحيث الدين والملك المؤيد
وخد المكرمات به مورد
بأرض تنبت الآمال فيها
لأن سحابها خلف بن أحمد

المقامة الخلفية

حدثنا عيسى بن هشام قال: لما وليت أحكام البصرة، وانحدرت إليها على الحضرة، صحبني في المركب شاب كأنه العافية في البدن، فقال: إني في أعطاف الأرض وأطرافها ضائع لكني أعَد مُعَدَّ ألفٍ، وأقوم مقام صف، وهل لك أن تتخذني صنيعة، ولا تطلب مني ذريعة، فقلت: وأي ذريعة آكد من فضلك، وأي وسيلة أعظم من عقلك، لا بل أخدمك خدمة الرقيق، وأشاركك في السعة والضيق. وسرنا، فلما وصلنا البصرة غاب عني أيامًا فضقت لغيبته ذرعًا، ولم أملك صبرًا، فأخذت أفتش جيوب البلد حتى وجدته، فقلت: ما الذي أنكرته ولم هجرت، فقال: إن الوحشة تقدح في الصدر اقتداح النار في الزند، فإن أطفئت نارت وتلاشت وإن عاشت طارت طاشت، والقطر إذا تتابع على الإناء امتلأ وفاض، والعتب إذا ترك فرخ وباض، والحُرُّ لا يعلقه شَرَك كالعطاء، ولا يطرده سوط كالجفاء، وعلى كل حال، ننظر من عال، على الكريم نظر إدلال، وعلى اللئيم نظر إذلال، فمن لقينا بأنف طويل، لقيناه بخرطوم فيل، ومن لحظنا بنظر شزر، بعناه بثمن نزر، وأنت لم تغرسني ليقلعني غلامك، ولا اشتريتني لتبيعني خدامك، والمرء من غلمانه، كالكتاب من عنوانه، فإن كان جفاؤهم شيئًا أمرت به فما الذي أوجب، وإن لم تكن علمت به كان أعجب، ثم قال:

ظفرت يدا خلف بن أحمد إنه
سهل الفناء مؤدب الخدام
أَوَما رأيت الجود يجتاز الورى
ويحل من يده بدار مقام

قال عيسى بن هشام: ثم أعرض وتبعته أستعطفه وما زلت ألاطفه حتى انصرف، بعد أن حلف: لا أوردتُ من ساء عشرته، فوهبتُ له حرمته.

(٣) الديوان

(٣-١) من المديح

الملك السباق

قال يمدح أبا الحارث الفريغوني أمير جوزجان:

سل الملك الكريم إلام تبني
وأين وقد تجاوزت السماء
أجدك لا يراك الله إلا
علاءً أو عطاءً أو وفاء
ولو ذوبتني ما كنت إلا
ولاءً أو دعاءً أو ثناء
منحتك من سواء الصدر ودًّا
يكاد لفرطه يروي الظماء
أيعجزني إذا احتكوا هناء
وللكلبى إذا مرضوا شفاء!
جريتَ مع الملوك إلى مداها
ففتهم سناء وارتقاء
فضلتهم ندًى وفضلت مالا
ومن طلب الثناء رمى الثراء
أمَن جمعَ الدراهم واقتناها
كمن جمع النهى؟ ليسوا سواء
يكاد التخت يورق جانباه
ويقطر عوده لينًا وماء
إذا خطرت له قدماك تسعى
إلى أعواده أو قيل جاء

سيد الأمراء

وقال يمدح صاحب الجيش أبا علي:

عليَّ أن لا أريح العيسَ والقتبا
وألبس البيد والظلماء واليلبا
وأترك الخود معسولًا مقبلها
وأهجر الكأس يغدو شربها طربا
وطفلة كقضيب البان منعطفًا
إذا مشت وهلال الشهر منتقبا
تظل تنثر من أجفانها حبَبًا
دوني وتنظم من أسنانها حببا
قالت وقد علقت ذيلي تودعني
والوجد يخنقها بالدمع منسكبا
لا درَّ درُّ المعالي لا يزال لها
برقٌ يشوقك لا هونًا ولا كثبا
فقلت ردي قناع الصبر إن لنا
إليك أوبة مشتاق ومنقلبا
أبى المقام بدار الذل لي كرمٌ
وهمةٌ تصل التخويد والخببا
وعزمة لا تزال الدهر ضاربةً
دون الأمير وفوق المشتري طنبا
يا سيد الأمراء افخر، فما ملكٌ
إلا تمناك مولًى واشتهاك أبا
إذا دعتك المعالي عُرف هامتها
لم ترض كسرى ولا مَن قبله ذنبا
أين الذين أعدوا المال من ملكٍ
يرى الذخيرة ما أعطى وما وهبا
ما السيفُ محتطمًا، والسيلُ مرتكمًا
والبحر ملتطمًا، والليل مقتربا
أمضى شبًا منك، أدهى منك صاعقةً
أجدى يمينًا، وأدنى منك مطلبا
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا
لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يَخُن، والشمس لو نطقت
والليث لو لم يُصَد، والبحر لو عذبا
يا من يراه ملوك الأرض فوقهم
كما يرون على أبراجها الشهبا
لا تكذبن فخير القول أصدقه
ولا تهابن في أمثالها العربا
فما السموءل عهدًا، والخليل قرى
ولا ابن سعدى ندى، والشنفرى غلبا
من الأمير بمعشارٍ إذا اقتسموا
مآثر المجد فيما أسلفوا نهبا
ولا ابن حجر، ولا الذبيان يعشرني
والمازني، ولا القيسي منتدبا
هذا لركبته، هذا لرهبته،
هذا لرغبته، هذا إذا طربا

ابن السماء

وقال يمدح الأمير العنبري:

حي الأمير العنبري وقل له
يا كعبةً آمالنا حجاجه
أنت ابن بيت في السماء مكانه
سقفًا وفوق المشتري معراجه
أركبتني فرس الكرامة ملجمًا
وعليك بعد لجامه إسراجه
ولئن فعلت لأشكرنك في الورى
شكرًا تموج عليكم أمواجه
بمدائحٍ لا ينمحي ديباجها
وبخاطر لا ينتهي عجاجه

أنا العبد

ومن قصيدة قالها في مدح الأمير أبي علي ابن ناصر الدولة:

وما حالُ صب بالعراق فؤاده
أسيرٌ وثاوٍ في خراسان سائره
على أن في قرب الأمير وبسطه
لنا عوضًا لا يخلف الظن ماطره
ألم تر أن الملك قر قراره
إذا زُينت باسم الأمير منابره
سحابٌ ولكن الدنانير صوبه
وليثٌ ولكن الملوك عقائره
وأبلج كالصبح الأغر جبينه
ضياءً، وكالليل البهيم عساكره
تذل له الأقدار وهي جنوده
وتخدمه الأيام وهي عشائره
يموج به الحرب صافٍ أديمه
حفوزٌ لهامات الملوك حوافره
ألم تر غَرْشَسْتان كيف تغورت
معاقلها لما انتحتها بصائره
حنانيك حسادي كثيرٌ كما ترى
ومن حسنت عيناه تكثر ضرائره
ومن حل من علياك حيث تحلُّني
تصدَّى له قاصي المحل وقاصره
أنا العبد لا يأبى عليك ولاؤه
خلوصًا ولا تخطو ذراك مفاخره

بحر جواهر

وقال من قصيدة يمدح الأمير خلف بن أحمد:

وفي خَلَفٍ إن ألحقتنا يدُ المنى
لنا خَلَفٌ لا يخلف الظن ماطره
فلما وردنا موسم الملك أقبلت
وفود الغنى واستقبلتنا بوادره
ولما انجلى بدر الدجى من جبينه
أعرنا الثرى حر الوجوه تعافره
جلبنا إليه الفضل وهو أميره
وبعنا عليه بزه وهو تاجره
وبحت فقال الناس من ذا؟ وقال من
أجابهم: عبد الأمير وشاعره
ولاحت لنا منه عيوب كثيرة
ولا عيب فيه غير ما أنا ذاكره
ولادته في عالمٍ دون قدره
وفي زمنٍ مثل اسمه لا يقادره
وما ملك إلا يؤدي خراجه
إليه على رغمٍ ونحن نصادره
أيا جابر العظم المهيض لقاؤه
ولا يجبر العظم الذي هو كاسره
أتأمر لي ببدرة كل نظرةٍ
إلى الشغل باستيفاء ما أنت آمره
فإن يك بحرٌ أغرق الناس ماؤه
فإنك بحرٌ أغرقتني جواهرُه

يد الندى والنار

وله من قصيدة في خلف بن أحمد:

وليل كذا كره كمعناهُ كاسمه
كدينِ ابنِ عبادٍ كإدبار فائق
شققنا بأيدي العيس برد ظلامه
وبتنا على وعد من السير صادق
تزج بنا الأسفار في كل شاهق
وترمي بنا الآمال من كل حالق
كأن مطايانا شفارٌ كأنما
تمد إليهن الفلا كفَّ سارق
كأن نجوم الليل نظارة لنا
تعجب من آمالنا والعوائق
كأن نسيم الصبح فرضةُ آيسٍ
كأن سراب القيظ خجلةُ وامقِ
كأن سماء الدجن لولا انقشاعها
يَدَا خَلَفٍ عند الندا والصواعقِ

ابن خاقان

وقال يمدح يمين الدولة السلطان محمود بن سبكتكين:

تعالى الله ما شاء
وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج
أم الإسكندر الثاني
أم الرجعة قد عادت
إلينا بسليمان
أطلتْ شمسُ محمودٍ
على أنجم سامان
وأمسى آلُ بهرامٍ
عبيدًا لابن خاقان
إذا ما ركب الفيل
لحرب أو لميدان
رأت عيناك سلطانًا
على منكب شيطان
فمن واسطة الهند
إلى ساحة جرجان
ومن قاصية السند
إلى أقصى خراسان
على مقتبل العمر
وفي مفتتح الشان
فيومًا رُسُلُ الشاهِ
ويومًا رُسُلُ الخان
فما يعزبُ بالمغر
ب عن طاعتك اثنان
أيا والي بغداد
ويا صاحب همدان
تأمل مائتي فيلٍ
على سبعة أركان
يُقلبن أساطين
ويلعبن بثعبان
ويأجوج ومأجوج
من الجند تموجان

(٣-٢) من الرثاء

حزن وندم

وقال يرثي الأستاذ أبا بكر الخوارزمي:

حنانيك من نفسٍ خافت
ولبيك من كمدٍ ثابت
أبا بكرٍ اسمع وقل كيف ذا
ولست بمسمعةِ الصائت
تحملت فيك من الحزن ما
تحمله ابنك من صامت
حلفت لقد مت عن معشرٍ
غبيين عن خطر المائت
يقولون أنت به شامتٌ
فقلت الثرى بفم الشامت
وعزَّتْ عليَّ معاداته
ولا متدارك للفائت
وقال الأنام خلا الجوُّ لي
لعمري ولكن على عانت
أبيضُ ولكن إلى عاقر
وأصفرُ لكن على ساكت

(٣-٣) من الاعتذار

مخلص الود

وقال قصيدة طويلة في الصاحب ابن عباد منها هذا الاستعتاب والاعتذار إليه:

أكافي الكفاةِ استبق مني ومن دمي
حشاشة مجدٍ في البلاد مشرد
أفي موجب الفضل الذي أنت أهله
توعد مثلي، أم قضية سؤدد
أبعد مقاماتي لديك وهجرتي
إليك، وإنفاقي طريفي ومتلدي
وجوَّابة للأفق فيك طردتها
غدت بين منثور وبين مقصد
وقفت بها أستطلع الرأي منشدًا
وقلت — وأعلى الله قولك — جوِّد
فأين زماني بالخوان حضرته
وأين إلى الباب الرفيع ترددي
ومالي (وأبواب الرجا فيك جمةٌ)
وقفتُ بباب من رجائك موصد
ولا باعُ آمالي إليك بقاصر
ولا وجهُ أعمالي لديك بأسود
فماذا عسى الواشون خاضوا على دمي
ومن أي وجهٍ ثار لي أيُّ مؤيدِ
وأية نارٍ شبَّها أي موقدٍ
وأي عظيمٍ هاج من أيما دَدِ
فإن كنت حقًّا موعدي بكريهةٍ
فرأيك في تعجيل يومي عن غدي
وإن تَنوِ تحريكًا وتهذيب جانبٍ
فقد صكَّ في ذرعي وقد فُتَّ في يدي
حنانيك من ظن لمولاك جائرٍ
ولبيك من رأي على العبد معتدِ
ولم تمضها في مخلص الود نيةً
يروح إليه الموت منها ويغتدي
ولا أنا إلا في ولائك محتبٍ
ولا أنا إلا بالهوى لك مرتدِ
وعذري عند الله فيك ممهدٌ
وإن كان عند الناس غير ممهدِ
وعقد ولائي في ذراك مؤكدٌ
وإن لم يكن عقد المنى بمؤكد
ولست لأني واجدٌ منك مهربًا
أحث ركابي فَدْفَدًا بعد فدفدِ
ولكن سأبلي العذر في كل حالةٍ
بشكرك في يَومَيْ مغيبي ومشهدي
فتبدي لك الأيامُ ما أنا عنده
(ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّدِ)

(٣-٤) من الفخر

صولة النحيف

وقال يفتخر موطئًا لمدح الشيخ أبي نصر زيد:

خُلِقتُ كما ترى صعب الثقاف
أردُّ يدَ المعاند في الخلافِ
ولي جسدٌ كواحدةِ المثاني
له كبدٌ كثالثة الأثافي
هلم إلى نحيف الجسم مني
لتنظر كيف آثار النحاف
ألم ترَ أن طائشةً لظاها
نتيجة هذه القصب العجاف
صحبتُ الدهر قبل نباتِ فيه
فلا تغررك خافية الغداف
نزلت من الزمان ومن بنيه
على غصنين من شجر الخلاف
فلم أصحب عدوًّا في صديق
ولم أشرب ذعافًا في سلاف
ولم أرَ غيرَ معتنقين وجدًا
وبينهما خلافٌ في غلاف
على شفتيهما ضحك التهاني
وفي كبديهما وخز الأشافي

(٣-٥) من الشعر المطعم

قصيدة عربية فارسية

قرة عيني بذكا
محبتي أي فلكا
تريد أن تقتلني
نه درست كردي درلكا
وانْهَ حمى ليلك أن
ينصب دوني شركا
أما كفى صدغك لي
إلى الردى معتركا
وأنني لا أرقد اﻟ
ـليل وأرعى الفلكا
كأنما ألتحف اﻟ
ـجمر وأعلو الحسكا
أذابني فرط الضنا
وهدَّني طول البكا
أبحت روحي ودمي
بنى هداد روحكا
ورنه دهى بوسه زلب
يهل يَبُوسَم لَبَكا
فغاظه قولي له
فقال بس وي نه وكا
تريد تقبيل فمي
إليك لا أم لكا
لو لم يَنَمْ لم يحتلم
أحلست كلي فاركا
يا طرَّةً قد سلبتْ
من الغراب الحلكا
ومقلةً من نَفَثَتْ
فيه بسحر هلكا
هواك إذ أجحف بي
بأي علق فتكا
تفعل ألحاظك بي
ما تفعل الخمر بكا
وكرتو دا دم نه دهي
يا من إليه المشتكى
يَكْرَزْم جَامه درم
سسي قاضي وحكا
وقال إذ هددته
سبحان من أرفعكا
قاض إذا ما جنه اﻟ
ـليل يصيد السمكا
ينصب في أسفلهِ
لكل حوت شبكا
أفٍّ لقاضٍ يبتغي
من المعاصي دركا

هوامش

(١) الشمس.
(٢) الأقيال: جمع قيل، وهو الرئيس والملك من ملوك حمير.
(٣) دولة.
(٤) الغياض: جمع غيضة، وهي مجتمع الشجر في مغيض الماء.
(٥) قور الشيء: قطعه من وسطه خرقًا مستديرًا. والقحف: ما انفلق من الجمجمة فانفصل. أو إناء مثل قحف الرأس كأنه نصف قدح.
(٦) القلال: جمع قلة، وهي أعلى الجبل.
(٧) الأعلاق: الأشياء النفيسة.
(٨) العرصة: الساحة.
(٩) المشرع: المورد.
(١٠) التحجيل: بياض في قوائم الفرس.
(١١) العفاة: جمع عاف، وهو الفقير.
(١٢) أيفع: بلغ حد الشباب.
(١٣) النقير: الحفرة الصغيرة في ظهر النواة.
(١٤) احتقب الإثم: جمعه.
(١٥) يكلؤه: يرعاه.
(١٦) القمر: المراهنة واللعب في القمار.
(١٧) الخول: العبيد والإماء.
(١٨) لعله المنجنيق: آلة حربية تُرمى بها الحجارة.
(١٩) تحيف الشيء: تنقصه وأخذ من جوانبه.
(٢٠) نُزُل: ما يعد للضيف.
(٢١) وطب: زق.
(٢٢) الوريد: عرق في العنق.
(٢٣) الصلات: جمع صلة، وهي العطية.
(٢٤) أليها: أكون واليًا عليها.
(٢٥) الطالب بتحكم.
(٢٦) ثرده: أعده ثريدًا وهو الخبز المفتوت الملتوت بالمرق.
(٢٧) الشماخ والكميت والعجاج شعراء مشهورون.
(٢٨) يبسط في هذه آراء في التعلم والتعليم.
(٢٩) يقال: حلب أشطر الدهر؛ أي جربه وعرف خيره وشره.
(٣٠) الرسن: المقود.
(٣١) القباء: ثوب يلبس فوق الثياب.
(٣٢) الردن: أصل الكم أو طرفه الواسع.
(٣٣) البرذون: دابة الحمل الثقيلة.
(٣٤) غرثان: جوعان.
(٣٥) الخيار: جمع خير، وهو الكريم.
(٣٦) العمران: أبو بكر وعمر.
(٣٧) القذال: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس.
(٣٨) قصراتهم: رقابهم.
(٣٩) السحت: الحرام ومال الظلم.
(٤٠) دبة: طريقة.
(٤١) مذبة: ما يطرد به الذباب.
(٤٢) البستان.
(٤٣) سير في مؤخر السرج يوضع تحت ذنب الدابة.
(٤٤) أي الاحتراز منها.
(٤٥) المطر.
(٤٦) فثأ القدر تكن غليها.
(٤٧) أي إنه التحى فذهب جماله.
(٤٨) محل الماء.
(٤٩) جلد على عظم.
(٥٠) حلق الشعر.
(٥١) نده: صاح زاجرًا.
(٥٢) مرة تسبب القبض.
(٥٣) مماثل.
(٥٤) خرائب.
(٥٥) جريء.
(٥٦) لص يشق الثوب لسلب ما فيه.
(٥٧) السهم.
(٥٨) شجرة كبيرة.
(٥٩) الحين: الهلاك.
(٦٠) المين: الكذب.
(٦١) سور بين الجنة والنار.
(٦٢) جبل يقال إنه محيط بالأرض.
(٦٣) يقصد الأصابع الخمس.
(٦٤) السرى: السير ليلًا.
(٦٥) عجم العود: امتحنه.
(٦٦) الفقاقيع التي تطفو عند مزج الخمرة.
(٦٧) قداح الميسر.
(٦٨) شده بالمسمار.
(٦٩) مرجع.
(٧٠) أخذها من قول من قال: إذا عذيقها المرجب وجذيلها المحكك؛ أي إنه ابن بجدتها وعمدة فيها.
(٧١) إشارة إلى قول امرئ القيس:
فأنزل منه العصم من كل منزلِ
والعُصْم: جمع أعصم، وهو الظبي الذي في ذراعه بياض.
(٧٢) ثوب بالٍ.
(٧٣) حاملًا.
(٧٤) كوكب.
(٧٥) سر من را أو سر من رأى: بلدة قرب بغداد.
(٧٦) الخشف: ولد الظبي، ويريد به هنا غلامًا.
(٧٧) الكراع: مستدق الساق.
(٧٨) ملوي.
(٧٩) جمع رغيف.
(٨٠) واحد من حجارة الشطرنج.
(٨١) اللسن: طلاقة اللسان.
(٨٢) يقصر.
(٨٣) أي الكلام الذي لا تزينه المحسنات البديعية والبيانية.
(٨٤) يعني هات أعطنا شيئًا، أو كما يقول المنجمون: بيض الكتاب، أي ادفع شيئًا.
(٨٥) أحد السهام التي يتقامرون بها.
(٨٦) النرد تطلق اليوم على ما يسمونه (طاولة الزهر).
(٨٧) لحمة مدلاة في سقف الحنك.
(٨٨) لعلها تشبه ما نسميه اليوم كبة أرنبية أو الكبة بلبنية.
(٨٩) سال لعابها.
(٩٠) أهل الكهف، وكلبهم مشهور.
(٩١) الوسط.
(٩٢) المأروض: الذي أكلته الأرضة.
(٩٣) كاسدة، غير نافقة.
(٩٤) بيع بثمن مؤجل.
(٩٥) الشبه: النحاس الأصفر أو البرونز.
(٩٦) الرث البالي.
(٩٧) المجالدة والمقاتلة.
(٩٨) المركز الذي يعجن فيه.
(٩٩) آنية الطعام.
(١٠٠) كيف اتصلت إليه بالشراء.
(١٠١) الخابية.
(١٠٢) فواصله.
(١٠٣) خمصانة: ضامرة الكشح. الحجل: الخلخال.
(١٠٤) البين: الفراق.
(١٠٥) الثنايا: الأسنان.
(١٠٦) إشارة إلى قول كليب وائل للقبَّرة التي نزلت حماه:
يا لك قبرة بمحجر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
(١٠٧) أشل: أرفع.
(١٠٨) يبقي.
(١٠٩) نصفه: بلغ منتصفه.
(١١٠) قطعه عرضًا.
(١١١) تبختر.
(١١٢) حديدة السيف، وهو يعني أنيابًا.
(١١٣) الأثر: بضم الهمزة ندوب الجراح وثلمات السيوف.
(١١٤) ما مصدرية بمعنى أن.
(١١٥) من ألقتك من بطنها.
(١١٦) شبا السنان: حده.
(١١٧) العصا من العصية: مثل قديم فالعصا اسم فرس جذيمة الأبرش والعصية اسم أمها.
(١١٨) الحَصان: بفتح الحاء المرأة العفيفة.
(١١٩) النفور: وزن فعول: الكثير النفار.
(١٢٠) جمع سد.
(١٢١) ملازمين لها.
(١٢٢) شجر.
(١٢٣) يقطع.
(١٢٤) جمع سريع.
(١٢٥) الشطر الثاني من البيت مثل يراد به بلوغ الغاية والنهاية.
(١٢٦) شق.
(١٢٧) المزاد: جمع مزادة، وهي قربة الماء.
(١٢٨) طلع.
(١٢٩) نوع من الجراد.
(١٣٠) أي ألا تستسلمون إلى القيلولة، وهي النوم بعد الظهر.
(١٣١) قباء بلا بطانة.
(١٣٢) اللئيم.
(١٣٣) سير من جلد.
(١٣٤) فتحه.
(١٣٥) الفرضة: المنفرج.
(١٣٦) قصير كبير البطن. والقرنبى الخنفساء.
(١٣٧) لعبة للصبيان شبه بها امرؤ القيس: درير كخذروف الوليد … إلخ.
(١٣٨) الزوجة.
(١٣٩) الأصل.
(١٤٠) شديدة الصفرة.
(١٤١) النير.
(١٤٢) يقصد ما تقوله العوام: عيون لوزية.
(١٤٣) يشبه الزمان ببهيمة ترفس وقت الحلب.
(١٤٤) دابة أخرى يركبها إذا تعبت الأولى، وهكذا.
(١٤٥) القطا.
(١٤٦) الحرفة: أسلوب المعاش.
(١٤٧) فردة الحمل.
(١٤٨) إن هنا بمعنى نعم.
(١٤٩) القرم: شدة الشهوة إلى أكل اللحم.
(١٥٠) البسوس: خالة جسَّاس بن مرة، يضرب بها المثل في الشؤم؛ ذلك أنها كانت السبب في نشوب الحرب بين بكر وتغلب بأبيات من الشعر أوغرت بها صدر جساس فقتل كليب وائل في ناقة لرجل من جرم يسمى سعدًا كان كليب قد قتلها؛ لأنه وجدها في مرعاه وكان جساس قد حمى الرجل. أما الأبيات وتسمى بالموثبات فهي هذه:
لعمري لو أصبحت في دار منقذٍ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي
ولكنني أصبحت في دار غربةٍ
متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي
فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحلْ
فإنك في قوم عن الجار أمواتِ
ودونك أذوادي إليك فإنني
محاذرة أن يغدروا ببنياتي
وسر نحو جرم إن جرمًا أعزةٌ
ولا تك فينا لاهيًا بين نسواتِ
(١٥١) يحاسبك.
(١٥٢) الأرض الجرداء الواسعة.
(١٥٣) ما يكتحل به.
(١٥٤) قلنسوة القاضي.
(١٥٥) نسبة إلى أهل السنة.
(١٥٦) يعني زيارة الكعبة وثوابها.
(١٥٧) ما يساق من أنعام ليُضحى بها.
(١٥٨) العطايا.
(١٥٩) بلدة قرب مكة المكرمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤