أسئلة الإبداع المعلَّقة١

هل يكتب المبدعون ما يجول في أذهانهم، أم يُنصتون لآراء الآخرين ويضعونها في اعتبارهم؟ ولماذا يُفرِّق النحاتون والرسامون في المعاملة بين الموديل الأنثى والموديل الذكر؟ وهل يخشى الناس الإبداع لأنَّه يخلخل لهم قناعات ثابتة موروثة؟

في معارض الفنانين الرواد ممن يُطلَق عليهم العباقرة كان يصدمني دائمًا ذلك العدد الهائل من اللوحات لنساء عاريات، كنت أسأل نفسي دائمًا: لماذا يكون جسد المرأة العاري هو الموديل لهؤلاء الفنانين الرجال؟!

كنت أحرص على رؤية معارض الفنانات من النساء، ولم يكن لي (مهما حاولت) أن أعثر على لوحة واحدة لرجل عارٍ! وأسأل نفسي: لماذا تُعطي الفنانة للرجل (الموديل) الحرية في أن يبقى بملابسه، على حين يفرض الفنان الرجل على الموديل أن تكون عارية؟

•••

أحيانًا يأتيني بالبريد إنتاج شابات أو شباب يكتبون الشعر أو القصة أو يرسمون اللوحات أو يؤلِّفون الموسيقى أو الأغاني، وغير ذلك من ألوان الإبداع المتعددة. وقد ألتقي بهم وأسمع منهم حكايات تُذكِّرني بنفسي حين كنت في مثل عمرهم، فتاة صغيرة قادمة من الريف لا تملك سوى كشكول أزرق وقلم رصاص، وحُلم كبير أكبر من الهرم الأكبر يتلخص في جملة واحدة بسيطة: «أن أعبر عن نفسي بالكلمات المكتوبة أو المنطوقة أو الرسم أو بالموسيقى، أو أي شيء آخر موجود في هذا الوجود.»

إذا عُدت بذاكرتي إلى الوراء أكثر من أربعين عامًا، حين كنت في العشرين من العمر، كيف كانت الطرق مسدودة، كيف كان أغلب الناس من حولي يقولون لي: لا يمكن أبدًا أن تكتبي ما يجول في دماغك! اقرئي ما كتبه العباقرة والرواد واكتبي مثلهم! لا يمكن أن تكتبي الأدب إذا لم تدرسي الأدب! حين يعرفون أنني أدرس الطب وليس الأدب يصيحون: مش معقول! إيش جاب ده لده!

لو سمعت كلام الناس من حولي لما أقدمت على الكتابة، فما بال أن أكتب ما يجول في دماغي؟ لولا الثقة التي أعطتها لي أمي وأبي منذ الطفولة لفقدت الثقة تمامًا في ذلك الشيء الذي أسميه دماغي، ربما توقف دماغي عن العمل واعتمدت في حياتي على دماغ الآخرين ممن يسمونهم العباقرة أو الرواد أو كبار المفكرين.

في أعماقي كنت أقول لنفسي: «هل هؤلاء العباقرة لهم دماغ أعظم من دماغي؟ ألم تلدهم أم مثل أمي؟» إنها عبارة كنت أسمعها من أمي، ومن جدتي لأبي الريفية، سمعتها ذات يوم وأنا في الخامسة من عمري تقول لابنها: «ويعني هو الملك أحسن منك في إيه يا ابني، مش والداه بطن زي بطني دي؟!» وتخبط جدتي بيدها الكبيرة المشققة على بطنها الضامر وتضحك بصوتها المنطلق، تؤكد بصوتها وحركتها القوية أن بطنها مثل بطن المرأة التي ولدت الملك!

كنت في الخامسة من العمر، وانحفرت في ذهني فكرة أن بطون كل النساء واحدة، وأن أبي مثل الملك، وُلد من بطن من هذه البطون، ويمكن لأبي أن يكون الملك أو أفضل من الملك كما تقول جدتي، المهم هو الإرادة والإصرار والجهد!

في العاشرة من عمري حين سمعت الناس من حولي يقولون إني بنت ولا يمكن أن أفعل ما يفعله أخي؛ لأنَّه ولد، كنت أثور عليهم وأقول لهم عبارة جدتي: ويعني هو الولد أحسن مني في إيه، مش والداه بطن أمي زي ما ولدتني؟!

أصبحت هذه العبارة في دماغي، أدافع بها عن حقي في الحياة والإبداع، وكل شيء مثل أخي وأكثر، إذا كنت أكثر منه إرادةً وتصميمًا وجُهدًا، المسألة إذن هي الإرادة والتصميم والجهد وليس أي شيء آخر.

عادت إليَّ هذه الذكريات وأنا أجلس مع عدد من الشابات والشباب المبدعين الذين يسمعون من الناس كل يوم ما يُثبط همتهم، ويقتل حماسهم، ويُفقدهم الثقة في أنفسهم، هذه العبارات التقليدية التي تعوَّد الناس في بلادنا أن يقولوها للشباب أو الشابات:
  • قصائد شعر إيه يا ابني! خليك في الكيميا والعلوم.

  • يعني إيه ترسمي يا بنت؟ اطلعي دكتورة في الطب تكسبي فلوس!

  • يعني إيه تكتب مِن دماغك يا ابني! لازم تقرأ اللي كتبوه غيرك اللي أحسن منك؟

  • فاكر نفسك عبقري؟! كان غيرك أشطر!

دار الحديث بيني وبين هؤلاء الشباب والشابات، قالوا لي: لا أحد يساعدنا، والجميع يضعون أمامنا العراقيل. قلت لهم: هذا طبيعي؛ فالإبداع في حد ذاته شيء جديد يفزع منه الناس لأنه يختلف عن القديم الذي ورثوه عن الأسلاف.

أحد هؤلاء الشباب اسمه «هاني طنطاوي»، طالب بكلية الصيدلة لكنه يكتب الشعر، يقول له الناس من حوله: ما علاقة الصيدلة بالشعر؟ ويرد عليهم هاني بأبيات من الشعر فيقول:

لأني أحب الشعر،
وشيء في صدري يتفجر،
هو حياة كالماء،
في حيوية هو يتحرك،
وفي قوته كالداء،
ترى هل يكون حبًّا حقًّا،
أم هو سراب في الهواء؟

جاءني شعر «هاني طنطاوي» بالبريد، قصائد تنفجر كالنافورات، أحاسيس مكبوتة من الحب والحنين والرغبة في التعبير عما يجول في قلبه ودماغه، لا أحد يريد أن ينشر كلماته الساخنة الخارجة لتوها من القلب الموجوع. قلت له: اكتب واكتب، واسكب نفسك على الورق، ولا يهمك ما يقوله الناس لك. أنت تريد أن تكون شاعرًا، وهم يريدون لك أن تكون أجزجي أو صيدلي، لكن إرادتك أقوى من إرادتهم؛ فالمهم هو الإرادة والتصميم والجهد وليس أي شيء آخر، ويمكنك أن تكون صيدليًّا وشاعرًا في الوقت ذاته.

وفتاة شابة من الريف الفقير اسمها «ناهد العاصمي»، تدرس العلوم السياسية، لكنها تحب الأدب والقصة، أرسلت إليَّ بعض قصصها القصيرة، سألتني: هل يمكنني الجمع بين الأدب والسياسة؟ قلت لها: إن الفاصل بين الأدب والسياسة غير موجود مثل الفاصل بين الطب والأدب، مثل الفاصل بين العمل والفن، إن أردت التعبير عن نفسك بصدق فسوف تكتشفين أن كل هذه الفواصل مزيفة ومصنوعة.

وشابة من القاهرة اسمها «أمل محمود»، درست الفن التشكيلي، أرسلت إليَّ صورًا لبعض لوحاتها، تريد أن تنزع الأقنعة عن الوجوه، إحدى لوحاتها تقول: لا نعرف أنفسنا ونخشى النظر في المرآة؛ لأننا قد نجد صورًا مشوهةً تعكس صراعات عالم قبيح، أو قد لا نجد صورة على الإطلاق، لتكن هذه اللوحة دعوة لمحاربة مسوخ المستقبل «أنفسنا»، دعوة لمواجهة عالم قبيح، دعوة لمعرفة الحقيقة، دعونا ننظر في المرآة بلا أقنعة.

هذه ليست إلا نماذج قليلة لما يأتيني في البريد من إبداعات الشابات والشباب، إبداعات تشق طريقها بصعوبة في عالم قبيح لا يفهم إلا لغة المال أو الربح، وفي مجال الفن لا يفهم إلا «العُري» باسم الحداثة أو ما بعد الحداثة، أو «التغطية» باسم الأصالة أو القيم الأصيلة.

•••

بين هذين الاتجاهين يتمزق الشباب والشابات، وخاصةً في مجال الفن التشكيلي. سألت أحد الفنانين المعروفين من رواد الحداثة أو ما بعد الحداثة: لماذا لا محجبة؟ ابتسم وشرد طويلًا ثُمَّ قال: مش عارف ليه!

معظم هؤلاء الرجال الفنانين يرَوْن المرأة موديلًا صامتًا وعاريًا، الصمت والعري هما اللوحة الغالبة عند هؤلاء الرسامين، أو المرأة المتوارية وراء حجاب، المختزلة إلى خطوط تجريدية دينية، ترمز إلى الملاك الطاهر، السيدة مريم العذراء، أو واحدة من نساء النبي المقدسات، أو تكون العكس تمامًا، المرأة الشيطان حواء الآثمة العارية.

لم أجد نفسي ولا أمي ولا جدتي في أية لوحة من لوحات هؤلاء الفنانين الرجال العباقرة الرواد! لم أجد بنات البلد الشغالات في البيوت والحقول والمصانع والمدارس والمستشفيات، وجدت نساء عاريات جالسات في وضع ساكن صامت أمام الفنان الرجل.

أنا لست ضد التعرية من أجل الكشف في الطب أو العلم والفن، لكن في هذه اللوحات لماذا لا يحدث العري إلا للموديل الأنثى الشابة؟! لم أشهد لوحة واحدة لرجل عارٍ! لم أشهد لوحة واحدة لعجوز عارٍ أو عاريةٍ.

لماذا يدور هذا الفن دائمًا حول جسد الأنثى الشابة الموديل الأثيرية عند معظم الفنانين؟!

ألا يمكن للمرأة المرتدية ملابسها أن تشغل خيال هؤلاء الفنانين من الرجال؟

وهل الرجل العاري هو الموديل عند النساء الرسامات الفنانات؟

نحن هنا أمام مشكلة تاريخية منذ نشوء العبودية، حين انفصل جسد المرأة عن روحها، وأصبحت المرأة مجرد الجسد، يُعرَّى أو يُغطَّى حسب الحاجة. إن الرجل لا يُعرَّى في الفن إلا يُغطَّى بالحجاب؛ لأنه لا يعتبر نفسه مجرد جسد.

إن المرأة الفنانة لا تفرض على الرجل الموديل أن يتعرى من ملابسه، كما يفرض الفنان الرجل على الموديل الأنثى أن تتعرى. ترسم المرأة الرجل في أدواره المختلفة في الحياة، وهو يزرع، وهو يحارب، وهو يتكلم … إلخ.

تنظر المرأة الفنانة إلى الرجل كإنسان متعدد الأدوار في الحياة، أمَّا الرجل الفنان فهو ينظر إلى المرأة داخل دور واحد محدود بحدود الجسد العاري أو الجنس.

هذا عن الرواد وعباقرة الماضي، أمَّا اليوم فإن الشباب يثورون على هذه النظرة التقليدية في الفن، بدأت عين الرجل أو الشاب الفنان الجديد تنجذب إلى نساء غير عاريات وغير محجبات، إلى نساء يشتغلن، أيديهن وعقولهن، ويكافحن في الحياة مثل الرجل.

لم تعد الموديل المثالية هي ذات الأنامل الناعمة الرقيقة العاطلة عن العمل، بل الأصابع القوية التي تمسك القلم كما تمسك المشرط وتفتح بطن المريض، أو التي تمسك الفأس وتزرع لنا ما نأكل، تشبه يد جدتي الفلاحة الكبيرة المشققة، تخبط بها على بطنها وتقول: كلنا خرجنا من البطن دي!

١  الأهالي، ٩ / ١٢ / ١٩٩٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤