تأثيم المعرفة
نشرتُ إعلانًا في الصحف أطلب شغالة في البيت تساعدني في التنظيف والطبخ؛ فجاءني العشرات من خريجات وخريجي الجامعات. عملت لهم اختبارًا لأنتقي الأكثر ذكاءً ونظافةً وأمانةً. وفازت بالعمل فتاة شابة في الرابعة والعشرين من عمرها، تخرجت في كلية الآداب ولم تجد عملًا مثل غيرها من آلاف الخريجين، اسمها «أمل»، وجهها فيه لمعة الذكاء الفطري المطموس تحت طبقة من الشحوب والفقر واليأس ونقص الفيتامينات. اشتريت لها عددًا من علب الفيتامينات الطازجة، وملابس نظيفة، وأعطيتها بعض كتبي لتقرأ عن حقوقها كإنسانة. أقبلت أمل على العمل بهمة ونشاط، وأصبح بيتي نظيفًا، وتفتحت شهيتي للطعام بسبب مهارتها في الطبخ، ولم تعد قمصان نومي بلا أزرار؛ كانت «أمل» تجيد أيضًا «الخياطة»، حتى الجوارب القديمة بدأت ترتق ما فيها من ثقوب، ومربى «اللارنج» التي كنت أتوحم عليها منذ موت أمي منذ أكثر من ثلاثين عامًا بدأت أتذوق طعمها داخل برطمانات صغيرة. أعادت إليَّ التفاؤل الطفولي حيث كنت في السابعة من العمر، وأصبحتْ نكهة الطعام تتصاعد من بيتي، تنبعث في عقلي وجسدي وروحي نشوة وإحساس جديد بالحياة والحرية والأمل والحب!
أجل، الحب أيضًا، لقد فقدت شهيتي للحب مع الجوع المزمن الذي لازمني منذ انشغلت بالكتابة والتأليف والفكر والفلسفة وغير ذلك من الأمور غير النافعة في حياتنا الراهنة.
إلا أن هناك أنواعًا من البشر وفصائل من الحيوانات أو الكائنات التي تزِنُّ على خراب عشها، ربما أكون واحدة من هؤلاء، وإلا فلماذا ناديت على أمل ذات يوم؛ قلت لها: اسمعي يا أمل، أنت فتاة ذكية ونشيطة، ولا بد أن لك أحلامًا وطموحات في حياتك؟
قالت أمل: نعم، عندي حُلم واحد.
قلت: ما هو؟
قالت: أتعلم كومبيوتر.
قلت: يا سلام، بس كدة؟!
في دقائق اتصلت تليفونيًّا بمكتب كمبيوتر بجوار بيتي، التحقتْ فيه أمل في اليوم نفسه، بدأت التدريبات على الكمبيوتر. بعد شهرٍ واحدٍ أصبحت أمل تكتب بأصابعها العشرة بسرعة معقولة، وتعلمت مهارات أخرى على الكمبيوتر غير الكتابة، كنت أدفع لها كل شهر ثلاثمائة جنيه للتدريبات واقتحام مجالات جديدة في المعرفة. بعد ثلاثة أشهر أصبحت أمل من أمهر الكاتبات على الكمبيوتر باللغة العربية والإنجليزية، كانت تذهب إلى مكتب الكمبيوتر للتدريب ثلاث ساعات كلَّ يوم من السادسة حتى التاسعة مساءً، وكانت تقوم أيضًا بتنظيف البيت والطبخ ورعاية أموري، كما كانت تفعل قبل التحاقها بالمكتب.
كل صباح كانت تدق جرس البيت في الساعة التاسعة صباحًا، تقول لي صباح الخير، وعلى وجهها ابتسامة مشرقة، كل يوم كانت تأتي في موعدها في الصباح، تنتهي من أعمال البيت في الواحدة ظهرًا، وفي اليوم التالي أسمع الجرس، أعرف أنها هي، وكانت إجازتها يوم الجمعة من كل أسبوع.
وجاء العيد وأخذتْ ثلاثة أيام إجازة مثل موظفي الحكومة، أعطيتها الخميس والجمعة إجازة بعد إجازة العيد، وكان موعدها السبت الساعة التاسعة صباحًا كعادتها … وجاء السبت إلا أن «أمل» لم تأتِ. قلت ربما مريضة بعد أن أكلتْ «كعك» العيد، وسوف تأتي في الغد. إلا أن الغد جاء ولم تأتِ «أمل»، لم يرن جرس البيت في التاسعة، ولم يرن جرس التليفون أيضًا لتخبرني عن سبب غيابها، كانت تكلمني في التليفون حين تغيب لعذر طارئ.
لي صديقة اسمها سوسن أحكي لها عن همومي أحيانًا، جاءتني في زيارة فوجدتني جالسة يدي تحت خدي وليس في بيتي طعام، سألتني بسرعة: وفين أمل؟
– مش عارفة يا سوسن!
– مش عارفة إزاي؟
– بعد أجازة العيد مارجعتش.
– مش قلت لك بلاش تعلميها كمبيوتر، طبعًا يا ستي بعد ما اتعلمت ولقت شغلة أحسن لا يمكن ترجعلك تاني!
– يعني ما فيش حاجة اسمها وفاء في الدنيا؟
أطلقت صديقتي سوسن ضحكة ساخرة، وقالت: إذا تعارضت المصلحة الخاصة مع الوفاء انتصرت المصلحة، وأنا نصحتك وقلتلك بلاش تعلميها وإلا فقدتيها!
أجل، لقد فقدت «أمل» لأنني ساعدتها على التعليم وفتحت لها طريقًا للمعرفة … عضضت بنان الندم وقلت لنفسي: «لو لم أعلمها لبقيت في بيتي تشتغل!»
ألهذا حُرِمَت النساء من التعليم ليشتغلن في البيوت ويتفرغن لخدمة الأسرة من الرجال والأطفال والعجائز بدون أجر إلا طعامهن!
ألهذا حُرِمَ العبيد والأُجراء من التعليم ليعملوا في الأرض أو البيوت أو المصانع بأقل الأجور التي لا تكاد تسد الرمق؟!
ألهذا أصبح التعليم لا يؤدي إلى المعرفة الحقيقية، بل إلى نوع من التأهيل المهني أو الوظيفي فحسب؟
كانت هذه الأسئلة جميعًا واردةً في عقلي منذ وعيت الحياة، منذ رفضت الزواج وأنا في أول الصبا وقررت أن أتعلم وأسعى إلى المعرفة بأي ثمن وإن دفعتُ حياتي ثمن المعرفة.
إلا أن كل ذلك لم يطعمني أو ينفض التراب عن الرفوف في بيتي، أو يخيط لي الأزرار الساقطة في قميصي، أو يغسل لي ملابسي ويكويها.
هكذا نشرت إعلانًا جديدًا في الصحف أطلب شغالة، وجاءني العشرات من الخريجين والخريجات. عملت لهم اختبارًا ساعدتني فيه صديقتي سوسن، اختارت فتاة شابة خالية من الذكاء والطموح، وقالت لي: الشغل في البيوت لا يمكن أن يقوم به إلا الأغبياء المعدمون من الطموح!
وأدركت ما كنت أدركه منذ وعيت الحياة، لقد قامت الفلسفة العبودية في التاريخ البشري على تأثيم المعرفة، وأصبح الجهل فضيلة والغباء ميزة كبيرة.
وكانت خطيئة أمنا حواء أنها رفضت الجهل، ومدَّت يدها وأكلت من شجرة المعرفة! كان الإثم الأكبر في التاريخ العبودي هو «تذوق المعرفة» وليس «تذوق الجنس» كما أُشيع في الكتب التي لقنونا إياها في المدارس.
إلا أنني لمحت وسط الطابور فتاة شابة تشبه «أمل»، وجهها يضيء بلمعة الذكاء الفطري، التقت عيوننا في لحظة خاطفة وابتسمت؛ فأشرت لها بيدي، كانت ابتسامتها مثل الضوء لمست شيئًا بعيدًا في أعماقي، ربما طفلة السابعة ذات التفاؤل الساذج.