الحنين إلى الدفء والعدل١

في أعماقي حنين إلى دفء العلاقات، إلى الصدق في الحب، إلى جمال العدل بين البشر، أجلس خلف نافذتي الزجاجية أطل على أشجار غابة جامعة ديوك، غابة ضخمة من الشجر يختفي داخله أعداد من الباحثين في علم الغابات، والباحثين عن الحب أيضًا، شباب كلهم وشابات.

منذ أيام عثروا على جثة فتاة، قُتِلَت داخل الغابة منذ أسابيع دون أن يعرف البوليس. قالت فينسيا (إحدى طالباتي في فصل المرأة والإبداع): ربما اغتصبها رجل ثُمَّ قتلها. حوادث الاغتصاب تطفو على سطح الأحداث، هل زادت هذه الحوادث عن ذي قبل؟ وترد فينسيا: لا، ولكن التبليغ عنها أصبح أكثر. فينسيا تركب دراجتها وفوق ظهرها حقيبتها وتخترق الغابة في النهار وفي الليل دون خوف، تذكِّرني بابنتي؛ ملامحها وشجاعتها.

شمس يناير في مدينة ديرهام قوية دافئة، تذكِّرني بالشمس في الوطن، تُذيب برودة الغربة والبُعد عن الأهل والأصدقاء، أشعر بالألفة مع هذه الأشعة الذهبية ذات الملمس القطيفي الدافئ، يسمُّونها في أمريكا شمس الجنوب، ولاية نورث كارولينا تُعتبَر من الجنوب. بيني وبين كلمة «الجنوب» نوع من الود، الجنوب هو الوطن، حيث الحرارة والحب والصداقة والبشرة السمراء؛ مثل أهلي الفلاحين والفلاحات في قريتي على شط النيل وسط الدلتا. الشمال هو الصقيع، واحمرار الأنف، والاستعمار، امتداد الأنف للتدخل في شئون الغير، الاعتداء المسلح علينا لاغتصاب الأرض أو القطن أو البترول أو المواد الخام.

بالأمس رأيت الرئيس الأمريكي الجديد بيل كلينتون فوق شاشة التليفزيون يتكلم بصوت رقيق عن إسرائيل التي تخرق قرارات الأمم المتحدة، فلا يعاقبها أحد، بل تحاول الولايات المتحدة حمايتها. ويغضب واحد من الطلبة السود في جامعة ديوك ويقول في أحد الاجتماعات: صدام حسين يقذف بضع رصاصات في الهواء لا تُصيب أحدًا فإذا بالقنابل الأمريكية تدكُّ بغداد، وحاكم الصرب «سلوبودان» يقتل الآلاف من شعب البوسنة فلا يتحرك أحد، هكذا يتشكل النظام العالمي الجديد!

(١) راحة نفسية!

الجو هنا بالجامعة يتيح للطلبة نوعًا من الحرية الفكرية، وكذلك يمكن للأساتذة أن يعبِّروا عن آرائهم في محاضراتهم دون خوف من الطرد. أشعر بنوع من الراحة (النفسية على الأقل) أنني أستطيع أن أنقد السياسة الأمريكية داخل جامعة أمريكية.

وتقول فينسيا: عندنا حرية فكرية بشرط عدم تهديد النظام السائد، من يهدد النظام قد يتعرض للقتل مثل مارتن لوثر كينج.

كان اليوم هو ١٥ يناير ١٩٩٣م، اليوم إجازة في جميع الجامعات والمصالح في الولايات المتحدة، إنه اليوم الذي وُلد فيه مارتن لوثر كينج، أصبح إجازة رسمية قومية للاحتفال بذكرى هذا الزعيم الأمريكي الأسود الذي دفع حياته ثمنًا لتحرير إخوانه من الأفارقة السود في أمريكا. أصبح رمزًا من رموز النضال ضد العنصرية ومن أجل العدالة والحرية.

«هايدي»، واحدة من طالباتي، سوداء البشرة، تكشف عن أسنانها البيضاء في ابتسامة عريضة وتقول: أنا مدينة بحريتي لمارتن لوثر كينج، لولا نضاله ونضال غيره من الزعماء السود أمثال مالكولم إكس ما استطعت دخول جامعة ديوك. قبل خريف عام ١٩٦١م لم يكن بجامعة ديوك أيُّ طالب أو طالبة من السود، كانت جامعة ديوك للطلاب البيض فقط، وفي خريف ١٩٦١م دخل أول طالب أسود في هذه الجامعة يحصل على الدكتوراه، وفي خريف ١٩٦٣م دخل أول طالب أسود يحصل على البكالوريوس، واليوم كم ترَيْن من الوجوه السوداء بين الطلاب والطالبات؟ رغم تزايد العدد إلا أن السود هنا في الجامعة ما زالوا أقلية بالنسبة للبيض، وما زال أيضًا بعض الانفصال، على الأقل النفسي أو الاجتماعي. لا توجد اليوم قوانين في الجامعة (كما كانت) تفصل بين السود والبيض، لكن جذور العنصرية لا تزال عالقة بالتقاليد والثقافة، تطفو على السطح أحيانًا، بعد أحداثٍ مثل تلك التي وقعت في لوس أنجلوس منذ عامين.

(٢) كريات!

اليوم الجمعة ١٥ يناير ١٩٩٣م، إجازة ذكرى مارتن لوثر كينج، أتمشى بين الأشجار داخل غابة جامعة ديوك، مساحات من الخضرة لا نهائية، أتوقف عند ملاعب التنس، أرى طالبة سوداء تلعب مع طالب أبيض، يتعانقان تحت أشعة الشمس. في المساء دعتني «هايدي» لمشاهدة مسرحية عن مارتن لوثر كينج ومالكولم إكس، بأسبوع واحد. التقى الزعيمان الأسودان في غرفة فقيرة في فندق بحي هارلم بمدينة نيويورك.

(عشت في هذا الحي بعض الوقت في خريف ١٩٦٥م، حين كنت أدرس في جامعة كولومبيا)، وبعد ثلاث سنوات من هذا اللقاء قُتل مارتن لوثر كينج، أُطلق عليه الرصاص وهو يخطب، تمامًا مثلما أُطلق الرصاص على مالكولم إكس وهو يخطب بين الناس.

في اليوم التالي دعتني فينسيا لمشاهدة فيلم مالكولم إكس، من إخراج «سبايك لي»، وهو مخرج أمريكي أسود، اشتهر في السنين الأخيرة، يتبنى أيضًا قضايا السود، ويناضل عن طريق السينما ضد العنصرية والتفرقة بين البشر. جزء من الفيلم تم تصويره في مصر، شارك فيه بعض شباب المخرجين المصريين، قرأت اسم ابني، ضمن المشاركين في الفيلم، ورأيت الأهرامات وشوارع الوطن، وحرارة الناس في بلادنا ودفء العلاقات. ومالكولم إكس في زيارته لمكة للحج بعد أن أصبح مسلمًا، يناضل مع الأفارقة السود المسلمين في أمريكا ضد الظلم والقهر. في شبابه الأول كان مالكولم إكس ضائعًا مثل عدد كبير من الشباب السود من الطبقات الفقيرة في أمريكا، أصبح مُهرِّجًا في البارات والحانات يتعاطى المخدرات إلى أن دخل السجن، وهناك بدأ يُفيق ويدرك الظلم الواقع عليه وعلى أمثاله من السود الفقراء.

قاعة السينما كانت مليئة بالوجوه السوداء، نساء ورجال وأطفال. رأيت طفلة تبكي حين انطلقت الرصاصات وسقط مالكولم إكس وانهمر دمه غزيرًا فوق الأرض وراء المنصة، واندفعت نحوه زوجته وأطفاله، ثُمَّ تجمع من حوله الناس الذين كان يخطب فيهم عن الحرية والعدل.

(٣) ليس حزينًا!

في اليوم التالي فوق شاشة التليفزيون رأيت امرأة سوداء تخاطب بيل كلينتون في اجتماع عام، كانت تناديه باسمه عاريًا من الألقاب وتقول له: «بيل، ماذا ستفعل يا بيل من أجل أمثالي من الفقراء العاطلين بلا عمل؟! إنك تحاول عدم التفرقة بين الشباب لدخول الجيش، بصرف النظر عن ميولهم الجنسية، فماذا ستفعل يا بيل لتلغي التفرقة بين الناس على أساس طبقاتهم الاجتماعية؟!»

يضحك بيل كلينتون، يحاول بالضحك إخفاء الحرج، ربما لأنه يبدو مُرحِّبًا بالسؤال، ويُسهب في الإجابة: «أنا مشغول طول الوقت بالخطة الاقتصادية لأعالج هذه المشاكل الاقتصادية الحادة التي نتجت عن سياسة الحزب الجمهوري السابق، وعلى رأسها البطالة، ومشكلات الصحة والتعليم والمخدرات والإيدز.»

يغضب أحد أعضاء الحزب الجمهوري ويقول: ليس حزبنا هو سبب هذه المشاكل، ونحن في انتظار ما ستفعله يا بيل كلينتون؛ فالمهم هو العمل وليس الكلام.

انتعشت «لورا» بهذا الحوار، إنها شابة بيضاء تنتمي إلى حزب الجمهوريين، تعادي حزب الديموقراطيين وعلى رأسهم بيل كلينتون وتقول: تكلَّف حفل تتويج بيل كلينتون ليجلس على عرشه في البيت الأبيض ٢٥ مليون دولار، كان من الممكن إنفاقها لتوفير المساكن أو الوظائف أو الطعام للفقراء داخل الولايات المتحدة نفسها، ولا أقول الصومال أو أثيوبيا أو غيرهما من بلاد أفريقيا أو آسيا أو حتى يوغوسلافيا في أوروبا، أو البرازيل في قارتنا الأمريكية في الجنوب، نحن نعيش تحت ضغط اقتصادي كبير، وأصبح الناس في أمريكا يعملون ساعات أكثر نظير أجور أقل فأقل.

قلت لها: وهل كانت سياسة جورج بوش أفضل؟

قالت: بالطبع.

قلت: وماذا عن حرب الخليج؟

قالت: كسبنا الحرب ولم نخسر شيئًا.

قلت: قتلتم نصف مليون عربي في الخليج من أجل السيطرة على البترول، أتسمِّين هذا مكسبًا؟!

قالت: نعم، كسب لنا في أمريكا، وخسارة لكم في بلادكم العربية، لكن هذه هي الحرب.

إن «لورا» واحدة من أستاذات علم الجيولوجيا، هي ضد حركات تحرير المرأة، وترى أن المرأة (حسب الإنجيل ومبادئ المسيحية) يجب أن تكون زوجة مطيعة لزوجها متفرغة لشئون البيت والأطفال.

قلت لها: ولماذا تعملين أستاذة جيولوجيا؟

قالت: لأنني غير متزوجة وليس عندي أطفال.

تذكِّرني «لورا» بزميلة لي مصرية تعمل أستاذة في الطب الباطني بجامعة القاهرة، تذكِّرني بعدد غير قليل من النساء المتعلمات في الجامعات، واللائي لم يلعب التعليم دورًا كي يفتح عقولهن على الثقافة أو الوعي بحقوقهن الإنسانية.

وفي فصل المرأة والإبداع قالت فينسيا الشابة التي تجاوزت العشرين بقليل: الطاعة نقيض الإبداع لأنها تقتل القدرة العقلية على النقد، إذا تربت النساء على الطاعة فقدن الإبداع؛ ولهذا يقل عدد النساء المبدعات أو العبقريات عن عدد الرجال العباقرة.

وصاح طالب جالس في مؤخرة الفصل: لو كنتُ امرأة لفضَّلت أن أكون زوجةً وأُمًّا عن أكون عبقرية، العبقرية تسلب من المرأة أنوثتها وتحوِّلها إلى رجل!

وردت فينسيا: ولماذا تتكلم عن المرأة؟ تكلم عن نفسك ودعنا نحن النساء نتكلم عن أنفسنا.

١  نُشر بمجلة روز اليوسف، ٤ / ١ / ١٩٩٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤