خمسمائة رسالة إلى النخبة الثقافية!١

أصبحت الكتابة في الصحف بالنسبة لي مثل شربة زيت الخروع، لكني مدفوعة لكتابة هذا المقال بسبب ما هو أشد مرارة، وهي أزمة النخبة الثقافية في بلادنا. وفي رأيي إن هذه النخبة (أو ما تُسَمَّى النخبة) هي أحد الأسباب الرئيسية وراء أزمة الفكر أو الصحافة أو الإعلام أو الثقافة، أو الاقتصاد أو السياسة أو الديمقراطية؛ لأن هذه المجالات كلها مترابطة، ولا يمكن الفصل بينها، ومنذ نشوء الدولة المصرية القديمة مرورًا بالعهود الملكية إلى عهد عبد الناصر والسادات ومبارك، تلعب هذه النخبة المثقفة دورًا مزدوجًا بحكم كونها الطبقة العازلة بين الحكم والشعب. ولا يمكن أن ننكر أن هناك أفرادًا من هذه النخبة المثقفة لا يلعبون هذا الدور المزدوج، لكن هؤلاء يعيشون في معظم الأحوال بعيدًا عن منابر الإعلام والصحافة؛ وبالتالي لا ينطبق عليهم تعبير «النخبة»؛ إن كلمة «النخبة» هنا تعني هؤلاء المعترَف بهم من قِبَل السلطة القائمة كرُموز للفكر والثقافة في بلادنا، تتردد أسماؤهم.

هؤلاء في رأيي هم السبب الرئيسي وراء الأزمة الثقافية والصحفية التي نعيشها وليس السبب ارتفاع نسبة الأمية، أو الناس البسطاء العاديين. إن هذه النخبة هي السبب وراء ظهور قوانين معادية للفكر وحرية الصحافة مثل قانون ١٤٨ لعام ١٩٨٠م الذي ينظم الصحافة في مصر، أو غيرها من القوانين المقيدة للحريات. هذه النخبة شاركت في صنع هذه القوانين بسكوتها، وصمتها، أو هروبها من التصدي أو النقد الصحيح، وليس بعد موت الحاكم أو فوات الأوان. هذه النخبة هم الكهنة القدامى في عهد الفراعنة الذين كانوا يمثِّلون الطبقة العازلة أو الوسيطة بين الشعب والإله. هؤلاء أنصاف الآلهة الذين رأيتهم بعيني خلال الثلاثين عامًا الماضية، هم هم، لا تتغير الوجوه إلا قليلًا حين يُفتَح الباب قليلًا لبعض الوجوه المحتجبة. رأيتهم جالسين في هذه الاجتماعات، فما إن ينطق حاكم مصر بكلمة ما حتى تتحول إلى نظرية عظيمة، وفلسفة جديدة، اسمها الناصرية أو الساداتية أو المباركية.

ينكفئون فوق وجوههم حتى يحظى الواحد منهم على المصافحة أو مجرد ملامسة أطراف الأصابع، رأيتُهم يتبارَوْن في الكلام وإلقاء قصائد المدح، أو قصائد النقد، لكن أي نقد؟ إنه النقد الذي يدغدغ الأذن دون أن يؤلم، أو النقد الذي يُصيب أحدًا من الوزراء الذين لا حول لهم ولا قوة.

إن الملك يشعر بالحرج حين يرى أمامه ملَكيين أكثر منه، كذلك يشعر بالحرج أي رئيس حين يرى أن كل ما يقوله، وإن كان نقل موظف، يصبح معجزة من المعجزات تستحق الإشادة والإطناب والنفخ في الأبواق والمزامير. ويحدث الشيء نفسه فيما يتعلق بحرم رئيس الدولة. هذه النخبة من أنصاف الآلهة لا يَعتبرون هذا السلوك نفاقًا، ولهم تبريراتهم الفلسفية العميقة لموضوع النفاق هذا، يقولون: لا بد من حماية الحكم القائم، أو رئيس الدولة الحالي؛ لأن البديل غير موجود أو أسوأ، في كل عهد يكررون هذه الفلسفة، وهم يدركون تمامًا أن النفاق لا يحمي الحاكم أبدًا، بل العكس هو الصحيح.

وهناك أربعة أضرار رئيسية لهذه النخبة الثقافية:
  • أولًا: إنهم يضربون مثلًا سيِّئًا للأجيال الجديدة القادمة، سواء من الحكام أو المحكومين، يُصبح النفاق كالدم يتوارثه الصغار عن الكبار.
  • ثانيًا: إنهم يُروِّجون القيم الازدواجية في السلوك، التي تتمثل في الخضوع أو الطاعة أو امتهان النفس مع الأقوى، والغطرسة أو التسلط أو الإهمال مع الأقل قوة، وهكذا تضيع حقوق الناس.
  • ثالثًا: إنهم باحتلالهم معظم المنابر الفكرية والصحفية والثقافية والإعلامية في بلادنا يحجبون الآخرين ذوي العقول الأعمق والأكثر فكرًا وإبداعًا، حيث إن مثل هؤلاء يُفضِّلون حياة العزلة مع العمل الهادئ.
  • رابعًا: هذه النخبة من أنصاف الآلهة لا يتحملون النقد، وإذا نقدهم أحد أخرجوا أظافرهم وأنيابهم وملئوا الصحف والإعلام صراخًا ودفاعًا عن أنفسهم. وفي ظل هذه الضوضاء يختلط الحابل بالنابل، ولا يبقى إلا صوتهم العالي يطنُّ في آذان الناس.

ماذا يفعل الآخرون بعقولهم التي تفكر وتبدع، ومع ذلك عاجزين عن السير في موكب النفاق؟ ليس أمامهم إلا إصدار منابرهم الخاصة، وهنا يقف لهم قانون الصحافة يسد الطريق، قانون أصدره السادات منذ عشرة أعوام مع قوانين أخرى تقيِّد الحريات. في ظل قانون الصحافة مُنِعَت مجلات وحُرِمَت من الترخيص، ومنها مجلتنا «نون»، وأرسلنا خمسمائة رسالة إلى هذه النخبة المثقفة في مصر ليتكلموا، وكان ردهم كالعادة هو الصمت والسكوت. بعضهم قال لنا: اذهبوا إلى قبرص وخذوا الترخيص من هناك ثُمَّ تعالوا واطبعوها في مصر كما تفعل بعض المجلات، تعتبر مكتبها في القاهرة ممثِّلًا لشركة أجنبية. وقال آخرون: اذهبوا إلى أحد الأحزاب، وادفعوا مبلغًا من المال أو أعطوهم نسبة من إيرادات الإعلانات على أن تنشروا أخبار الحزب في مجلتكم.

وبالطبع لم نقبل كل هذه الحلول؛ لأنها ليست حلولًا وإنما نوعًا من التحايل والالتواء والمشاركة في الإبقاء على قانون الصحافة الذي كان يمكن أن يتغير بالمواجهة بدلًا من التحايل والدخول من نافذة وليس الباب الصحيح.

في هذا الخضم من النفاق هناك أقلام نادرة شجاعة وقفت وكتبت وهاجمت قانون الصحافة من جذوره، لكن كل ذلك يتم على نطاق ضيق، وفي مجالات محدودة؛ ذلك أن المجلات الواسعة والطرق المفتوحة على الجماهير العريضة كلهم محتكَرة بواسطة هذه النخبة.

١  نُشر بجريدة الأهالي، في ١٤ مارس ١٩٩٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤