على موسيقى الشعر … ترقص الخيول١

بدأ الأدباء والفنانون والصحفيون في بلادنا يناقشون موضوعات لم تكن محل نقاش، مثل: هل الموسيقى حرام؟ ومنذ خمسين عامًا حين كنت طفلة في الخامسة كان أبي (وهو أستاذ دين وفقه ولغة) يقرأ لي أبيات الشعر ويهز رأسه على أنغام موسيقى الشعر. والناس جميعًا — وعلى رأسهم الشعراء — يعرفون أن الكلمات حين تُرتَّب بشكل متَّسق منسجِم العبارات الصحيحة، لها موسيقى تَطرَب لها آذان الناس. وآذان الخيول أيضًا تُطربها الموسيقى، فتهز رءوسها وتُحرِّك أرجلها بحركات راقصة متسقة مع النغم. وقرأ لي أبي وأنا طفلة من كتاب الأغاني للأصفهاني، وقال لي إن أجود الخيول كانت تُعرَف عند العرب والمسلمين بقدرتها على تذوق الموسيقى والرقص على الأنغام بحركة متْقَنة ليس فيها حركة نشاز.

وإذا كان أسلافنا القدامى قد حكموا على الجواد الجيد بقدرته على تذوق الموسيقى والرقص على أنغامها، فهل نحكم اليوم على الإنسان الذي يتذوق الموسيقى بأنه إنسان فاسد أو خليع؟!

لقد اتضح لأسلافنا أن الجواد الذي يتذوق الموسيقى أكثر تهذيبًا من الجياد الأخرى؛ بمعنى أنه قادر على التحكم في حركة جسمه العشوائية الفوضوية لتصبح حركة محكومة بإيقاع الموسيقى، وهي حركة عقلية تمامًا؛ فإن خلايا المخ هي التي تتحكم في حركة الجسم حين تصلها الموسيقى عن طريق الأذن، ويتحول النغم في خلايا المخ إلى إحساس بالسعادة، وترسِل هذه الخلايا الشفرة عبر الأعصاب وتبدأ عضلات الجسم في التعبير عن السعادة بتلك الحركات المنسجمة مع إيقاع الموسيقى.

منذ وُلدنا من بطون أمهاتنا ونحن نَطْرَب لسماع الموسيقى، بل إن الجنين في بطن أمه يَطْرَب للصوت المنغوم؛ فالأصوات تمشي مع دم الأم إلى جسم الجنين وأذنيه الناشئين، ويُولَد الطفل من بطن أمه عاشقًا للموسيقى، حاملًا في خلاياه الإحساس بالطرب كشفرات إلكترونية داخل الجينات والكروموسومات. وكشفت الأبحاث الأخيرة عن الغموض الذي كان سائدًا حول عبقرية بعض الأطفال أن جزءًا من القدرة الإبداعية أو العبقرية تورث مع الجينات في خلايا الجسم، والجزء الآخر يُكتسَب عن طريق التعليم والتدريب والشجاعة والحرية في الكشف عن الإبداع الجديد.

وقد نجح أسلافنا في تدريب الخيول على تذوق الموسيقى والرقص على أنغامها. وفي التجارِب الحديثة استطاعت بعض أنواع القرود العزف على البيانو والتمييز بين النغمة الموسيقية والنغمة النشاز. ويمكن للإنسان المُدرَّب على سماع الموسيقى أن يُفرِّق بين اللحن الموسيقي وبين اللحن النشاز، بصرف النظر عن الآلة التي يُعزَف عليها اللحن، طبلة كانت أم مزمارًا أو بيانو أو جيتارًا أو كمنجة؛ فاللحن الموسيقي الجميل لا يُفرِّق بين آلة شرقية أو آلة غربية، والأذن الإنسانية الفنانة تعلو فوق الآلة وفوق تضاريس الجبال والحدود الجغرافية التي تُقسِّم البشر إلى شرق وغرب أو شمال وجنوب أو يسار ويمين. فهل نتهم فنَّانًا بالعمل لحساب الغرب إذا تذوق لحنًا يعزفه البيانو أو الجيتار؟ أو نتهمه بالعمل لحساب المعسكر الشرقي لأنه تذوق لحنًا تعزفه آلة شرقية من هناك؟

إننا نعرف اللهَ في جمال الطبيعة، لم يَرَ أحد مِنَّا الله بعينه، ولا سمعه بأذنه، ولكننا عرفنا الله بعيوننا حين رأينا جمال الزرع الأخضر تحت أشعة الشمس، وعرفنا اللهَ بآذاننا حين سمعنا موسيقى المياه في النهر وغناء العصافير في الصبح …

١  نُشر بجريدة الأهرام، في ١٩ / ٥ / ١٩٨٨م، ص١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤