عصر المجهول١

الإبداع إحساس جديد يبدأ غامضًا، رغبة ملحة في تجاوز الحدود القديمة إلى آفاق من الحياة أوسع وأرحب وأكثر جمالًا وحريةً وعدلًا.

لكن عبارة «لا تتجاوزي الحدود» تصاحبني منذ الولادة حتى الموت، قد أخضع لهذه العبارة وأَلْزم الدار والجدران الأربع، أجلس في مقعدي وأُغلق عيني وأذني عما يحدث في العالم الخارجي.

إنه نوع من الراحة لا شك، يصاحب الإنسان حين يتخلى عن المسئولية ويقول لنفسه: وأنا مالي؟ فليذهب العالم إلى الحرب أو للنهاية، وليُقتَل الآلاف ويجوع الآلاف، إنها ليست مسئوليتي، لست مسئولًا عن العالم!

قلت لنفسي ذلك، وأغلقت نفسي عن العالم، لم أعد أتابع الأخبار أو الإذاعات العالمية أو المحلية، شعرت بنوع من الراحة المؤقتة، لم أعد أسمع أخبار الحروب والكوارث والمجاعات والجرائم والقتل والاعتداءات على أرض الغير وحقوق الآخرين.

كلما كنت أتابع هذه الأخبار يزداد يقيني بأننا نعيش في غابة كبرى، يحكمها قانون عالمي يفتقد العدالة في عالم قبيح. هناك ارتباط وثيق بين العدل والجمال أو بين الظلم والقبح، إنه الترابط بين الإبداع والرغبة في التعبير عن هذا الظلم أو هذا القبح لتصبح الحياة أكثر جمالًا أو أقل قبحًا.

ومن هنا ارتباط الإبداع بحرية التعبير، الإبداع يعبر عن نفسه بالضرورة، فإذا فرضنا عليه الصمت مات.

لهذا لم أَلْزم داري طويلًا؛ فالصمت قاتل للنفس الإنسانية، لا يمكن أن يعيش الإنسان وحيدًا داخل جدران أربعة، لا بد أن يخرج إلى العالم وإن كان قبيحًا، لا بد أن يسمع الأخبار والإذاعات وإن كانت مؤلمة.

ثُمَّ من أين يأتي الإبداع إذا أغلقتُ عيني وأذني عما يحدث حولي في العالم الكبير؟ هل يمكن لهؤلاء الذين نسميهم مبدعين أو فنانين أو أدباء أو أديبات؟ هل يمكن أن يعيشوا في عزلة عن الحياة؟

هل يمكن مثلًا أن تقوم الحرب العالمية الثالثة دون أن يتأثر هؤلاء المبدعون والمبدعات؟

لقد غيرت الحرب العالمية الأولى ثُمَّ الثانية كثيرًا من القيم الإبداعية، بما فيها الفن والعلم والفلسفة والتاريخ وكل مجالات المعرفة، ومنها معرفة النفس أو علم النفس.

لقد قلبت الثورة الرأسمالية في أوروبا كثيرًا من قيم العصور الوسطى رأسًا على عَقِب.

وفي جامعات أوروبا اليوم مواد علمية جديدة تقوم على محاولة إنسانية جديدة لإعادة فهم وتفسير الفلسفات والنظريات التقليدية وتطويرها بحيث تكون وسيلة لتحرير الإنسان وليست وسيلة للقهر والاستعباد.

ويتبنى هذا الاتجاه الجديد بعض الحركات في أوروبا مثل الخضر والشباب والنساء والسود وغيرهم.

كذلك أحدثت الثورة الاشتراكية في روسيا هزة في العالم شرقًا وغربًا، نتج عنها الكثير من التغيير في القيم الاجتماعية والإبداعية.

وأحدثت حرب الخليج هزة في العالم وفي بلادنا العربية لا يمكن أن ينجوَ من آثارها أيُّ إنسان مبدع. كذلك الهزة التي صاحبت انهيار الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، وهذه الأزمات الاقتصادية الحادة التي تواجه دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وتُنذِر بانهيار الإمبراطوريات الرأسمالية أيضًا.

نحن نعيش عصر التغيرات الكبرى، وهو عصر يبدو للكثيرين مُخيفًا مُرعِبًا يقود إلى المجهول، لكنه عصر الإبداعات الكبرى أيضًا إلى تميز فترات الانتقال من عصر إلى عصر أو من حضارة إلى حضارة.

١  الجريدة اليومية «العالم اليوم»، ص١٤، ١٩ يناير ١٩٩٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤