طفل الأنبوبة وصراع العصر١

في كل عصر من العصور البشرية كان هناك صراع بين علماء الطبيعة وبين علماء الفلسفة والأخلاق والاجتماع وغيرها مما تُسَمَّى الآن بالعلوم الإنسانية.

حينما اكتشف علماء الطبيعة أن الأرض كُروية ثار علماء الفلسفة؛ لأنهم كانوا يتصورون أن الأرض مسطَّحة، لكن التصور الفلسفي شيء والحقيقة الموضوعية المجسَّدة شيء آخر، وفي كل العصور انتصرت الحقيقة الموضوعية المجسدة على التصورات الفلسفية.

ويحدث الصراع دائمًا عقب أيِّ اكتشاف علمي جديد ينقل البشرية من مرحلةٍ إلى مرحلة، ويكمن الصراع في أن العلوم الطبيعية تتطور وتتغير وتكتشف الجديد بأسرع وأجرأ من العلوم الإنسانية؛ فالعلوم الطبيعية دوافعها للتقدم أكثر إلحاحًا لأنها تلبي الحاجات الضرورية عند الإنسان وتعوضه عن نقصه أو ضعفه البيولوجي في مواجهة الحياة واحتياجاتها.

إن الإنسان من الناحية البيولوجية أضعف من بعض الحيوانات مثلًا في الجري أو السمع. الغزال مثلًا يجري أسرع من الإنسان، ولتعويض هذا النقص في ضعف عضلات الساقين اكتُشفت العجلة والسيارة والقطار. الإنسان لا يطير كالطيور، وقد عوَّضَ هذا النقص البيولوجي أو عدم وجود الجناحين باكتشافه الطائرة. والإنسان له قدرة محدودة جدًّا على السمع أو الرؤية، وعوض عن هذا النقص البيولوجي باكتشاف الأجهزة السمعية والبصرية كالنيسكوب والميكروسكوب.

ولعل أهم قصور اعترض الإنسان هو قصوره البيولوجي فيما يخص الحمل والإنجاب. منذ فترة بعيدة كان الإنسان لا يستطيع أن يحدد نسله، وبسبب ذلك كان يمكن أن ينجب عددًا من الأطفال أكثر من طاقته واحتياجاته، يمثلون عليه عبئًا نفسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا لا يعرف كيف التخلص منه، كذلك مثَّلَت الزيادة السكانية في بعض المجتمعات مشكلة ملحَّة؛ لذلك سعت العلوم الطبيعية ومنها علم البيولوجي حتى اكتُشفت حبوب منْع الحَمْل التي نَقلت البشرية من مرحلة العبودية البيولوجية للنسل المفروض على الإنسان أو المجتمع إلى مرحلةٍ أكثر تحرُّرًا وتقدُّمًا.

(١) فكرة «التبني»

وبالمثل أيضًا كان الإنسان منذ فترة قريبة لا يستطيع أن يعالج عقمه، ظل الرجل أو المرأة العاقر أسيرًا لقصوره البيولوجي، يمنعه هذا القصور من ممارسة عواطف الأبوة أو الأمومة. إن عواطف الأبوة والأمومة في الإنسان عواطف طبيعية تحتاج إلى إشباع؛ ولهذا جاءت فكرة «التبني» كحل اجتماعي لمشكلة نفسية إنسانية، وهي الرغبة في إشباع عواطف الأبوة أو الأمومة، ثُمَّ نجحت العلوم الطبيعية أخيرًا في علاج عقم الرجال والنساء بواسطة طفل الأنبوبة وإنشاء بنوك الأجنة، أصبح في مقدور أي رجل أو امرأة عاقر أن يكون لهما طفل.

لكن العلوم الإنسانية وأهمها علم الفلسفة والأخلاق والأديان كانت دائمًا تصارع أيَّ اكتشاف جديد، لكنها كانت دائمًا تنهزم وتضطر نفسها لتواكب التقدم السريع في العلوم الطبيعية؛ والسبب في ذلك أن العلوم الإنسانية علوم نظرية تعتمد على الفكر النظري أو الكلمة المجردة، لكن العلوم الطبيعية تلبي حاجة الإنسان اليومية العملية.

(٢) صراع حول الحبوب

لم يحدث في تاريخ البشرية أن تراجع علم بيولوجي أمام علم الفلسفة أو الدين، مثلًا فيما يخص حبوب منع الحمل حدث صراع شديد، وحاولت العلوم الإنسانية — ومنها علم الفلسفة والأخلاق — سد الطريق أمام حبوب منع الحمل، لكن سرعان ما انتشرت الحبوب في جميع الدول والبلاد حتى البلاد الشديدة التزمُّت والتي رفضت الحبوب وصارعت طويلًا كالبلاد الكاثوليكية. أيضًا حين أُنشئت بنوك الدم وبنوك اللبن، ثُمَّ أخيرًا بنوك العيون وبنوك القلوب وغيرها من أعضاء الإنسان التي نجح الطب الحديث في تخزينها في البنوك ونقلها من إنسان إلى إنسان، حدث الصراع نفسه وثار علماء الفلسفة والأخلاق والدين، لكن الصراع انتهى — كما ينتهي دائمًا — بانتصار العلوم الطبيعية التي تُلبِّي حاجة الإنسان الصحية الكاملة جسمًا ونفسًا وعقلًا، وما زالت العلوم الطبيعية تسعى لإنشاء بنوكٍ لمخ الإنسان بأمل نقل المخ أيضًا، وأحدثت هذه الفكرة أيضًا صراعًا فلسفيًّا وأخلاقيًّا ودينيًّا، إلا أنه لم يكن في مثل ضراوة هذا الصراع القائم الآن حول طفل الأنبوبة وبنوك الأجنة.

كان من المنطقي فلسفيًّا أن يثير إنشاء بنوك القلوب أو بنوك المخ صراعًا أشد من إنشاء بنوك الأجنة؛ وذلك أن المخ أو القلب أهم عضو في جسم الإنسان وليس له بديل، أمَّا البويضة أو الحيوان المنوي فهي تُفرَز في جسم الإنسان بأعداد كبيرة جدًّا، لكن نقل القلب مثلًا من إنسان إلى إنسان لن يؤديَ إلى تكوين إنسان آخر أو جنين أو طفل. مشكلة بنوك الأجنة أنها تقود إلى ولادة أطفال جدد عن طريق رحم المرأة وعن غير الطريق البيولوجي المعتاد. وقد سبق لحبوب منع الحمل أن فصلت بين الممارسة الجنسية أو البيولوجية وبين الإنجاب، لم يعد من الضروري أن كل ممارسة بيولوجية تقود إلى ولادة طفل، كذلك بعد بنوك الأجنة وطفل الأنبوبة لم يعد من الضروري أن كل ولادة طفل تنتج عن ممارسة بيولوجية أو جنسية.

(٣) انتصار إنساني

إن فصل الإنجاب أو التناسل عن العلاقات البيولوجية والجنسية انتصار إنساني على كثير من المشاكل النفسية والبيولوجية من أجل الحصول على طفل وإشباع عواطف الأبوة أو الأمومة.

لكن علماء النفس والأخلاق والدين لا يصارعون من أجل هذا، إن الصراع الأساسي الدائر في العالم الآن حول مشكلة «النسب»، إن طفل الأنبوبة لا يُنسَب بيولوجيًّا لأب معين أو أم معينة؛ بمعنى أنه نتج عن اتحاد بويضة امرأة مجهولة بحيوان منوي لرجل مجهول؛ إذ يستطيع أي رجل عاقر أو أي امرأة عاقر أن يذهب إلى بنك الأجنة، ويحصل على طفل من سلالة ممتازة، ينمو بشكل طبيعي وصحي، مثل الأطفال الآخرين الذين تلدهم الأمهات في ظل العلاقات الزوجية الطبيعية. والمُصابون بالعقم لا يهمهم معرفة النسب البيولوجي، ولكن كل ما يهمهم هو أن يكون لهم طفل وأن يمارسوا عواطف الأبوة أو الأمومة؛ فالأمومة الإنسانية ليست مجرد بيولوجيا فقط أو نسب بيولوجي، ولكنها مشاعر نفسية وعاطفية، وكم رأينا كثيرًا من الأسر العواقر تتبنى أطفالًا تحبهم وترعاهم بحنانٍ أكثر من آبائهم أو أمهاتهم البيولوجيين، وكم رأينا زوج الأم مثلًا الذي أحب أطفال زوجته بمثل ما أحب أطفاله البيولوجيين.

(٤) الأبوة والأمومة

الصراع الدائر بين علم البيولوجي وعلم الفلسفة والأخلاق والدين ليس صراعًا من أجل العواطف الإنسانية أو المحبة الأبوية أو الأمومة؛ وذلك أن إنشاء بنوك الأجنة أو طفل الأنبوبة لن يقضيَ بحالٍ من الأحوال على عواطف الأب أو الأم، بل بالعكس إنه سيجردهما من الأنانية البيولوجية، ويتدرب الإنسان على أن يرعى ويحب أطفالًا لم يلدهم بيولوجيًّا.

لكن المشكلة الفلسفية والأخلاقية تدور حول «التوريث»؛ فالنسب البيولوجي أبويًّا أو أمويًّا كان مطلوبًا في التاريخ البشري من أجل الميراث، وكانت الأنانية البيولوجية البدائية تمنع الإنسان من أن يُورِّث أطفالًا لم يلدهم بيولوجيًّا، لكن التطور الإنساني وازدياد درجة الإنسانية في الإنسان جعلت بعض الناس قادرين على توريث أطفال لم يلدهم، مثلًا زوج الأم الذي يُورِّث أطفاله بمثل ما يُورِّث أطفال زوجته، وأنا شهدت حالات من هذا النوع في بلادنا وفي بلاد أخرى، ثُمَّ هؤلاء الآباء أو الأمهات الذين ليس عندهم ما يُورِّثونه، هل يمثل لهم طفل الأنبوبة مشكلة؟

إن التقدم البيولوجي دائمًا في صف الإنسان والإنسانية. أي تقدم علمي لا بد أن يكون في صف الإنسان والتقدم، بما في ذلك اكتشاف الذرة. إن الذرة في مجتمع إنساني عادل تصبح في خدمة الإنسان، ومن أجل صحته وعلاجه وتلبية حاجاته. لكن الذرة في مجتمع غير عادل تصبح وسيلة للحرب والقتل.

كذلك أيضًا، إن حبوب منع الحمل أو بنوك الأجنة يمكن أن تكون في المجتمع الإنساني العادل من أجل الإنسان المرأة والرجل، ومن أجل صحته وعلاجه وتلبية حاجاته النفسية والعاطفية والبيولوجية، لكنها في المجتمع غير العادل يمكن أن يُساء استخدامها.

(٥) الوراثة البيولوجية

لا شك أن العالم البشري يتقدم نحو الإنسانية، سواء على مستوى الفرد أو مستوى المجتمع، في الأنظمة الملكية القديمة (وفي بعض البلاد اليوم) كان العرش يُورَّث بيولوجيًّا، بمعنى أن الأولاد البيولوجيين هم الذين يرثون آباءهم أو أمهاتهم في الحكم، لكن العالم تقدَّم وأصبح الحكم في النظام الجمهوري مثلًا لا يُورَّث عن طريق الأبناء أو البنات، وإنما عن طريق الانتخاب، ويصل إلى الحكم الشخصُ الأكفأ وليس الابن البيولوجي.

وإذا كانت الدولة في النظام الجمهوري قد تخلصت من الأنانية البيولوجية، فمن الطبيعي أيضًا أن يتخلص الإنسان الفرد من أنانيته البيولوجية، في الأسرة يشعر بالحب والأبوة أو الأمومة للأطفال جميعًا، إلا أن نشوء النسب الأبوي في التاريخ قد جفف العواطف الإنسانية وربطها بالجنس والتناسل البيولوجي فقط.

١  أخبار اليوم، ٢ / ٧ / ١٩٨٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤