آلة التفكيك

كان البروفيسور تشالنجر في أسوأ حالاته المزاجية المُمكنة. وبينما كنتُ أقف بباب حجرة مكتبه، يدي على مقبض الباب، وقدمي على الدوَّاسة، سمعتُ حوارًا جرى على هذا النحو؛ كانت الكلمات تخرج كأنها قذائف، ويتردَّد صداها في أرجاء المنزل:

«أجل، أقول لك إنها المُكالَمة الخاطئة الثانية. الثانية في الصباح نفسه! أتظنُّ أن رجلًا من رجالات العلم يصحُّ أن يُقاطَع عملُه العظيم من أحمق ما على الطرف الآخَر من الهاتف؟ لن أقبل بذلك. أرسل هذا الأمر العاجل إلى المدير. أوه! أنت هو المدير. حسنًا، لمَ لا تقوم بعملك إذن؟ نعم، أنت تعمل بلا شك على تشتيت انتباهي عن عملي الذي يعجز عقلُك عن إدراك مدى أهميته. إليَّ بالمُراقِب. ليس موجودًا؟ كان عليَّ أن أتوقَّع ذلك. سوف أُقاضيك إن حدَث هذا الأمر ثانيةً. لقد قُضي أمر الديوك الناعقة. لقد فصلتُ فيه بنفسي. إذا كان هذا ما حدَث للديوك الناعقة، فلمَ لا يَحدُث للأجراس المُزعجة؟ المسألة منتهية. أريد اعتذارًا كتابيًّا. جيدٌ جدًّا. سأنظر في الأمر. عِمتَ صباحًا.»

في تلك اللحظة غامرتُ بالدخول إلى الغرفة. كانت لحظةً مشئومة بلا شك. وقفتُ قبالته وقد أنهى مكالمتَه للتوِّ، وبدا لي أسدًا ثائرًا. كانت لحيته السوداء الكثة مُنتفشةً من شدة الغضب، وصدره العريض ينتفخ سخطًا، وعيناه الرماديتان المتجبِّرتان تتفحَّصانني من رأسي إلى أخمص قدمي، بينما يُفرِغ غضبَه عليَّ أنا.

انفجر قائلًا: «الأوغاد، الملاعين، الكسالى، الذين يتقاضَون أكثر مما يستحقُّون! يُمكنني أن أسمع صوت ضحكاتهم بينما أنا أبسُط شكواي التي معي فيها كلُّ الحق. إنها مؤامرة تهدف إلى تكدير صفوي. والآن أنت؛ الشاب مالون، تأتي ليَكتمل بك هذا الصباح الكارثي. هل أنت هنا — إن كان لي أن أسأل — لأمرٍ يخصُّك؟ أم أن جريدتك الصفراء كلَّفتك بإجراء مقابلة معي؟ أنت مرحَّبٌ بك بصفتك صديقًا، أما بصفتِك الصحافية فوجودك يتخطَّى حدود المقبول.»

كنتُ أفتِّش في جيبي بارتباك، بحثًا عن خطاب مكاردل، حينما قفزَت إلى ذهنه مَظلمة جديدة. قلَّبَت يداه الضخمتان المُشعرتان الصحف الموضوعة على مكتبه، إلى أن استخرج أخيرًا من بينها قصاصة من صحيفة.

قال لي وهو يُلوِّح بالصحيفة في وجهي: «لقد كنتَ كريمًا بما يكفي بإشارتك إليَّ في واحد من تقاريرك الأخيرة. كان ذلك في سياق ملاحظاتك السخيفة إلى حدٍّ ما، بخصوص بقايا العَظَاءات المُكتشَفة حديثًا في محجر سولنهوفن الأثري؛ فقد بدأت إحدى الفقرات بهذه الكلمات: البروفيسور جي إي تشالنجر، الذي يُعدُّ أحد أعظم علمائنا المعاصرين …»

سألته: «وماذا في ذلك يا سيدي؟»

«لمَ هذه التوصيفات والقيود غير العادلة التي كبَّلتَني بها؟ ربما يُمكنك أن تَذكر لي مَن هم هؤلاء العلماء المُضارعون لي الذين تَزعُم أنهم يقفون على قدم المساواة معي، أو لعلهم يَفوقونني عظمة؟»

أقررتُ: «لقد خانني التعبير بشدة. بكل تأكيد، كان عليَّ أن أقول: أعظم علمائنا المُعاصرين على الإطلاق.» ففي النهاية، كان هذا هو ما أعتقده بصدق. وقد بدَّد اعترافي بخطئي غمامة غضبه.

قال لي: «يا صديقي العزيز الحديث السن، إيَّاك أن تظن أني كثير المطالب، لكنني محاط كما ترى بزملاء مخابيل مُشاكسين؛ مما يجعل المرء مضطرًّا إلى القيام بما يجب عليه فعله. إن الاعتداد بالذات أمرٌ غريبٌ عن طبيعتي، إلا أنه ينبغي لي أن أتمسَّك بموقفي أمام المُناوئين. هلم! اجلس هنا! تُرى ما سبب زيارتك لي؟»

كان عليَّ أن أخطو بحذر؛ لأنني كنتُ أعرف كم من السهل دفع الأسد إلى الزئير مرةً أخرى. فَتحتُ خطاب مكاردل، وقلت: «سيدي، هل تسمح لي بأن أقرأ عليك هذا الخطاب؟ إنه من مكاردل؛ المُحرِّر الذي أعمل معه.»

«أتذكَّر هذا الرجل … ليس من النوعية المناوئة من المحرِّرين.»

«إنه — على الأقل — يُكنُّ لك إعجابًا وتقديرًا كبيرَين. ولطالَما رجع إليك مرارًا وتكرارًا كلما احتاج إلى أرفع مُستوَيات الأداء في تحقيقٍ ما. وهذا هو الحاصل الآن.»

تحت تأثير ذلك الإطراء، بدا تشالنجر متباهيًا كطائر مُنتفِش الريش، وسألني: «وما الذي يَصبو إليه مُحرِّرك؟» كان يجلس واضعًا مرفقَيه على مكتبه، وقد تشابكَت يداه اللتان تُشبهان يدي الغوريلا، وانتصب شعر لحيته أمامه، وصوَّب إليَّ نظرةً ثابتة خَلَتْ من أي شر، بعينَيه الرماديتَين الواسعتَين نصف المغلقتَين بفعل تهدُّل جفنَيه العُلويَّين. كان رجلًا من العيار الثقيل في كل ما كان يفعله، وكانت كفَّة حسناته أرجح كثيرًا من كفة سيئاته.

سأقرأ عليك مذكرته التي كتبها لي. إنه يقول:

من فضلك، اتصل بصديقنا المبجَّل، البروفيسور تشالنجر، واطلب منه أن يَتعاون معنا بشأن الأمور الآتية: هناك رجل نبيل من لاتفيا، يُدعى ثيودور نِمور، يعيش في وايت فريارز مانشنز، في هامستد، يَزعم أنه اخترع آلة من طراز فريد، لدَيها القدرة على تفكيك أي جسم يُوضَع في مجال تأثيرها. تتحلَّل مادة الجسم وتتحوَّل إلى صورتها الجزَيئية أو الذرية. وعند عكس العملية، يُمكن إعادة تجميع الجسم. يبدو ذلك ادِّعاءً أهوج، ولكنْ ثمَّة دليل دامغ على أن للأمر أساسًا ما، وعلى أن الرجل قد وضَع يدَيه على كشفٍ استثنائي.

إنني في حاجة إلى عدم المُبالَغة في تقدير الطبيعة الثورية لمثل هذا الاختراع، وكذلك الأهمية البالغة له باعتباره سلاحًا يُمكِن استخدامه في الحروب. إن قوةً يُمكن بواسطتها تفكيك سفينة حربية، أو تحويل كتيبة من الجنود — حتى لو كان ذلك لبعض الوقت فقط — إلى مجموعة من الذرات، يُمكنها أن تُسيطِر على العالم. ولأسباب اجتماعية وسياسية، يجب أن نُسارع إلى استجلاء حقيقة هذا الأمر دون توانٍ. الرجل يسعى إلى جذب الأضواء إليه؛ إذ إنه مُتلهِّف لبيع اختراعه؛ ولذا لن نجد صعوبة في الاقتراب منه. البطاقة المُرفَقة ستفتح أبوابه. ما أرجوه هو أن تستدعيَه أنت والبروفيسور تشالنجر، وتَتَحَقَّقا من اختراعه، وتكتبا لصالح الجريدة الرسمية تقريرًا مُعتبَرًا عن القيمة الفعلية للاكتشاف. أتطلع إلى تلقِّي ردكما هذه الليلة.

آر مكاردل

قلت بينما أُعيد طيَّ الخطاب: «لديَّ تعليماتي يا بروفيسور. وأتمنى بصدق أن تأتي معي؛ إذ كيف لي بقدراتي المحدودة أن أتصرَّف وحدي في أمرٍ كهذا؟»

قال الرجل العظيم بصوت يُشبه القرقرة: «صحيح يا مالون! أنت على حق! فعلى الرغم من أنك لا تَفتقِر إلى الذكاء الطبيعي بأي حال من الأحوال، فإني أُوافِقك الرأي في أنه سيَشق عليك التصرف في مثل هذا الأمر، مثلما يتراءى لي. لقد تعطَّل عملي هذا الصباح بالفعل، بسبب هؤلاء المتصلين المُستعصِين على الوصف، فلن يُحدث مزيدٌ من التعطيل فرقًا كبيرًا. إنني مُنشغِل بالرد على ذلك المهرِّج الإيطالي مازوتي، الذي أثارت حفيظتي آراؤه حول نموِّ يرقات النمل الأبيض الاستوائي، ووجدتها هزلية، لكنَّني سأُرجئ المواجَهة مع هذا المُحتال إلى المساء. وحتى ذلك الحين، أنا في خدمتك.»

وهكذا شاءت الأقدار أن أجدَ نفسي في صبيحة ذلك اليوم من شهر أكتوبر، في قطار الأنفاق عميقًا تحت الأرض بصُحبة البروفيسور، نُسارع الخطى إلى شمال لندن، في التجربة التي سيتبيَّن أنها الأكثر تفرُّدًا بين تجاربي الحياتية الرائعة.

كان عليَّ قبل مغادرة إنمور جاردنز التحقُّق عبر الهاتف — المُساء استغلالُه كثيرًا — من أن رجُلَنا موجود في منزله، وأخطرتُه بقدومنا. كان يعيش في شقة مُريحة في هامستد، وقد أبقانا منتظرَين في الرَّدهة حوالي نصف ساعة، ريثما يُجري محادثة حيوية مع مجموعة من زوَّاره، الذين بَدَوا من أصواتهم — وقد همُّوا بمغادرة غرفة الجلوس أخيرًا — أنهم رُوس. لمحتُهم عبر الباب نصف المفتوح، وتكوَّن لدي انطباع سريع بأنهم رجال أذكياء ومُترَفون؛ إذ كانوا يرتدون معاطف ذات ياقات من الفرو، وقبَّعات برَّاقة، إلى آخر ما هنالك من مظاهر الرفاه البرجوازية، التي لا تُخطئها عين الشيوعي الحق. أُغلق باب الرَّدهة وراءهم، وعلى الفور حضر إلينا ثيودور نِمور. لكأنني أراه الآن وهو يقف أمامنا وقد غمره ضوء الشمس، وأخذَت كفاه النحيلتان الطويلتان تَفرُك إحداهما الأخرى، وتفحَّصَنا بابتسامته العريضة وعينَيه الصفراوَين الماكرتين.

كان رجلًا قصيرًا وممتلئًا، مع بعض ما يوحي بأن جسده غير متناسق، على الرغم من صعوبة تحديد مكمَن عدم التناسُق بالضبط. قد يقول قائل إنه كان أحدب من غير حَدَبة على ظهره. كان وجهه الكبير الناعم أشبه بعجين غير مُكتمِل النضوج؛ إذ كان له اللون نفسه ومُستوى الرطوبة نفسه، بينما كانت البثور والهالات السوداء المُتناثرة عليه تَبرز بحدَّة على هذه الخلفية الشاحبة. كانت عيناه كعينَي قط، وشابَهَ القطط أيضًا في شاربه النحيل الطويل المُنتصِب، الذي كان يعلو فمه الرخو المزبد الذي يسيل منه اللعاب. كان مظهره وضيعًا ومثيرًا للاشمئزاز، إلى أن يصل المرء إلى حاجبَيه الرمليَّي اللون؛ فمنهما فما فوق، ثمَّة قوسٌ جبهيٌّ رائع قلَّما رأيتُ له مثيلًا. حتى قبعة تشالنجر لربما كانت ستليق بذلك الرأس البديع. كان يمكن للمرء أن يرى ثيودور نِمور صعلوكًا ووصوليًّا ومتآمرًا، بالنظر إلى جزئه الأسفل، لكن أعلاه يضعه في مصافِّ مُفكِّري وفلاسفة العالم العظماء.

«حسنًا، سيديَّ المحترمَين.» تحدَّث إلينا بصوت مخملي ناعم فيه أثر طفيف للغاية للكنَة أجنبية، «لقد أتيتما — كما فهمت من دردشتنا القصيرة على الهاتف — لكي تَعرفا أكثَر عن مُفكِّك نِمور. أليس كذلك؟»

«بلى.»

«هل لي أن أسأل: هل أنتما تُمثِّلان الحكومة البريطانية؟»

«لا، على الإطلاق. أنا أعمل مراسلًا للجريدة الرسمية، وهذا هو البروفيسور تشالنجر.»

«إنه اسمٌ كريم؛ اسم أوروبي.» ولمعت أنيابه الصفراء بابتسامة بها ودٌّ مبالَغ فيه. «كنت على وشك القول إن الحكومة البريطانية ضيَّعَت فرصتها. لكن ما ضيَّعته في السابق ربما تَحصل عليه في اللاحق. ربما يَسري الأمر على إمبراطوريتها أيضًا. لقد هيَّأت نفسي لبيع اختراعي للحكومة الأولى التي أعطَتْني ثمنه، فإذا كان الآن في أيدي من لا يُرضيكم، فما من أحد غيركم لتلوموه.»

«إذن فقد بعت سرَّك؟»

«بالسعر الذي حددتُه.»

«هل تعتقد أن المُشتري سيحتكره؟»

«سيفعل بلا شك.»

«لكن ثمة من يَعرف السر سواك.»

«لا يا سيدي.» ولمَس جبهته العظيمة.

«هذه هي الخزانة المَحفوظ فيها السرُّ بأمانٍ، وهي أمتن من أيِّ خزانة فولاذية، ومحمية بما هو أفضل من مفتاح ييل. قد يكون البعض على علم بأحد جوانب الأمر، ويُحيط آخرون علمًا بجانب آخر. لكن ما من أحد في العالم يُلمُّ به كله، إلا أنا.»

«وهؤلاء الرجال المحترمون الذين بعتَ لهم الاختراع.»

«لا يا سيدي، لست مُغفَّلًا إلى هذا الحد لأضع هذه المعرفة بين أيديهم، قبل أن أقبض الثمن. بعد أن أقبضه سيَكونون قد اشترَوني أنا، وسيأخذون هذه الخزانة.» ثم لمَس حاجبه بأنامله مرة أخرى، وتابع قائلًا: «سيأخُذونها بكل ما تحتويه، إلى أي مكان يَشاءون. حينئذٍ سيكون دوري في الصفقة قد تم؛ تم بإخلاص وبلا مشاعر. بعد ذلك، سيُصنَع التاريخ.» وفرَك يدَيه، وحوَّلت الابتسامة الثابتة على وجهه نفسها إلى شيء يُشبه العقدة.

قال تشالنجر بانفعال: «اسمح لي يا سيدي.» وكان حتى ذلك الحين يَجلس صامتًا، لكن تعبيرات وجهه كانت تَنطِق بالامتعاض الشديد تجاه ثيودور نِمور، وأردف قائلًا: «قبل أن نُناقش الأمر، يجدر أن نرى ما يُقنعنا بأن هنالك شيئًا للتناقُش بشأنه. نحن لمْ ننسَ تلك الواقعة التي حدثَت مؤخرًا، حين أثبتت التحريات أن رجلًا إيطاليًّا ادَّعى قدرته على تفجير المَناجم عن بُعد، ليس إلا أفَّاقًا بكلِّ معاني الكلمة. من الوارد أن يُعيد التاريخ نفسه. وعليك أن تفهم، يا سيدي، أن لديَّ سُمعة عليَّ أن أحافظ عليها باعتباري رجلَ عِلم؛ سُمعة تفضَّلت بوصفها بالأوروبية، مع أن لديَّ من الأسباب ما يَجعلني أعتقد أنها ليست أقلَّ ذيوعًا في أمريكا. الاحتراز فضيلة علمية، وعليك أن تُريَنا براهينك، قبل أن نأخُذ مزاعمَك على محمَل الجد.»

رمق نِمور مُرافقي بنظرة خبيثة من عينَيه الصفراوَين، بينما اتَّسعت على وجهه ابتسامة الودِّ المُصطَنع.

«إنك على مستوَى ما يُتوقَّع منك يا بروفيسور. لطالَما عرفتُ أنك آخر رجل في العالَم يُمكن خداعه. وإنني على استعداد لإعطائك دليلًا دامغًا من المستحيل ألَّا يُقنعك، لكن قبل أن نكمل، عليَّ أن أتحدث بإيجاز عن الفكرة العامة.

ستُلاحظ أن الآلة التجريبية التي أنشأتُها هنا في مختبري، ما هي إلا نموذج مصغَّر، ومع ذلك، فإنها تعمل على نحوٍ رائع، في حدود إمكانياتها. فعلى سبيل المثال، من غير المحتمَل أن يكون ثمة صعوبة في تفكيكك وإعادة تجميعك مرة أخرى، لكن ليس لمثل هذا الغرض تتهيَّأ حكومة كُبرى لدفع ثمن يُقدَّر بالملايين. نموذجي هو مجرَّد لعبة علمية. أما التأثيرات العملية الضخمة، فلا يُمكن تحقيقها إلا عند تطبيق المبدأ نفسه على نطاق واسع.»

«هل يُمكننا رؤية هذا النموذج؟»

«إنك لن تراه فحسب يا بروفيسور تشالنجر، بل ستَحصل على الدليل الأكثر قطعية الذي يُمكنك الحصول عليه بنفسك، إذا كنت تَمتلك الشجاعة للتعرض له.»

بدأ الأسد يزأر: «إذا! إنَّ «إذا» التي تفوَّهت بها يا سيدي، تُعدُّ إهانة من الدرجة الأولى.»

«حسنًا، حسنًا. لمْ يكن لديَّ أيُّ نية للتشكيك في شجاعتك. كلُّ ما أقوله هو أنني سأَمنحك الفرصة لتُبرهن عليها. لكن أولًا سأتحدث بإيجاز عن القواعد الأساسية التي تحكم الأمر.

حين تُوضع بلورات معيَّنة في الماء — مثل الملح أو السكر — فإنها تذوب وتختفي. لا يكون بوسعك معرفة ما إذا كانت قد وُجدت من قبل أم لا. ثم بالاستعانة بالتبخير أو تقليل كمية الماء بأي شكل، فيا للعجب! ها هي بلوراتك من جديد، تظهر مرة أخرى مثلما كانت من قبل. هل يُمكنك أن تتصوَّر عمليةً، يتمُّ فيها بالطريقة ذاتها إذابتُك — أنت الكائن الحي — في الكون، ثم إعادة تجميعك مرة أخرى، عن طريق عكسٍ مُتقَنٍ للعملية؟»

صاح تشالنجر: «إنه قياس فاسد. فحتى لو سلَّمتُ تسليمًا بالغ الفظاعة بأن جُزيئاتنا يمكن أن تتبعثر بفعل قوةٍ مُشتِّتة، فلماذا عساها يُعاد تجميعها بالترتيب نفسه الذي كانت عليه من قبل تمامًا؟»

«إنه اعتراض بدهي، ولديَّ ردٌّ واحدٌ فقط، وهو أن الجُزيئات يُعاد تجميعها على هذا النحو بالضبط، حتى آخر ذرة في البِنية. ثمة إطار غير مرئيٍّ للعمل، وكلُّ لَبِنة تسبح فيه لتستقرَّ في مكانها الصحيح. لك أن تتبسَّم يا بروفيسور، لكن تشكيكك وابتسامك، قد يحلُّ محلَّهما قريبًا شعورٌ مختلف تمام الاختلاف.»

هزَّ تشالنجر كتفَيه مُتشكِّكًا، وقال: «أنا مُستعِد تمام الاستعداد لوضع الآلة تحت الاختبار.»

«ثمة حُجة أخرى سأُقنعكما بها، سيديَّ الفاضلَين، وربما تُساعدكما في استيعاب الفكرة. لا بد أنكما سمعتما في كلٍّ مِن السحر الشرقي والباطنية الغربية عن ظاهرة الجلب، حينما يُجلب شيءٌ ما من مكان بعيد على نحو مفاجئ ليظهر في مكان جديد. كيف يُمكن فعلُ شيء كهذا إلا عن طريق خلخلة الجزيئات، ونقلها عبر موجة أثيرية، وإعادة تجميع بعضها إلى بعض، كلٌّ في مكانه بالضبط، وفق قانونٍ لا يُمكن الحيد عنه؟ يبدو ذلك تمثيلًا جيدًا لما تقوم به آلتي.»

قال تشالنجر: «لا يصحُّ أن تفسِّر شيئًا لا يُصدَّق، بالاستشهاد بشيء آخر يَستحيل تصديقه. أنا لا أومن بظواهر الجلب التي تتحدَّث عنها يا سيد نِمور، ولا أُصدق في آلتك. إن وقتي ثمين، وإذا كنا سنَحصُل على أي نوعٍ من الإثباتات، أتوسَّل إليك أن تمضي إليه بلا مزيد من الشكليات.»

قال المخترع: «إذن سيُسعدكما أن تتبعاني.» وقادَنا من شقته إلى أسفل الدَّرَج؛ حيث عبَر بنا حديقة صغيرة موجودة في الخلف. كان هناك مبنًى خارجي كبير، فتَحه وأدخلنا إليه.

في داخل المبنى، كانت توجد غرفة كبيرة مطلية باللون الأبيض، بها مجموعة لا حصرَ لها من الأسلاك النُّحاسية تتدلى من السقف على هيئة حلقات، ومغناطيس ضخم، موضوع على قاعدة. وأمام ذلك، كان يوجد ما بدا أنه موشور مِن الزجاج، يبلغ طوله ثلاث أقدام، وقُطره حوالي قدم واحدة. وإلى يَمينه كان يوجد كرسي موضوع على منصة من الزنك، ومعلَّقة فوقه قلنسوة من النحاس المصقول. وكلٌّ مِن القلنسوة والكرسي موصَّلةٌ به أسلاك ثقيلة، وإلى جانبهما كان يوجد ما يُشبه السقاطة، فيه فتحات مرقَّمة، وذراع مُغطَّاة بالمطاط الطبيعي، كانت موضوعة حينها في الفتحة ذات الرقم صفر.

قال ذلك الرجل الغريب: «ذاك مفكِّك نِمور»، مشيرًا بيده إلى الآلة.

«هذا هو النموذج المقدورة له الشهرة، بتغييره موازين القوى بين الأمم. مَن يحُزْه يَحكم العالم. والآن، يا بروفيسور تشالنجر، لقد عاملتَني — إن جاز لي القول — بشيء مِن قلة الاحترام والتقدير، بهذا الخصوص. فهل ستجرؤ على اعتلاء هذا الكرسي والسماح لي بأن أبرهن لك، بالتطبيق على جسدك أنت، على إمكانيات هذه القوَّة الجديدة؟»

كان تشالنجر يَملك شجاعة أسد، وكان أيُّ شيء ينطوي على تحدٍّ يُثير جنونه على الفور؛ فاندفع نحو الآلة، لكنَّني جذبته من ذراعه، ومنعتُه من التقدم.

قلت له: «لن تذهب، حياتُك قيِّمة للغاية. هذه الآلة مُتوحِّشة. ماذا عساك تملك من ضمانات السلامة؟ إن الشيء الوحيد الذي رأيته في حياتي الأقرب شبهًا بهذا الجهاز، كان كرسيَّ الإعدام الكهربائي في سجن سنج سنج.»

قال تشالنجر: «ضمانُ سلامتي هو أنك شاهد على الأمر، وأن هذا الشخص سيُقبض عليه حتمًا بتُهمة القتل غير العمد — على الأقل — إذا أصابني أي مكروه.»

«لن يكون في ذلك عزاءٌ كافٍ لعالَم العِلم، حين تَترك وراءك عملًا غير مُكتمِل، لا يستطيع أحد غيرك إكماله. دعني — على الأقل — أذهب أولًا، ثم إذا ثبَت أن التجربة آمنة، يُمكنك أن تلحق بي.»

لمْ يكن تعريض النفس للخطر ليُزحزِح تشالنجر عن موقفه، لكن فكرة أن عمله العلمي قد يبقى غير مُكتمِل أصابته في مقتَل. تردَّد، وقبل أن يتَّخذ قراره، كنتُ قد اندفعتُ إلى الأمام وقفزتُ إلى الكرسي. رأيتُ المُخترِع يضع يده على الذراع المطاطية. سمعتُ صوت طقطقة. وللحظة، ساوَرَني شعور بالارتباك، وبضباب أمام عيني. وحين زال ذلك الشعور، كان المُخترع بابتسامته البغيضة واقفًا أمامي، وكان تشالنجر بوجنتَيه اللتَين تُشبهان تفاحتين حمراوَين قد فقدتا دمهما ولونهما، يتلفَّت حوله.

قلت: «حسنًا، لنفعلها!»

ردَّ نِمور: «فعلناها وانتهى الأمر. لقد استجبتَ على نحو رائع. انزل، وبلا شك سيكون البروفيسور تشالنجر جاهزًا لأخذ دوره الآن.»

لمْ يَسبِق قطُّ أن رأيتُ صديقي القديم قلقًا إلى هذا الحد. للحظة، خذلتْه أعصابه الفولاذية تمامًا. فأمسك بذراعي بيد مُرتعِشة.

قال لي: «يا إلهي، مالون، إن الأمر حقيقي، لقد اختفَيت. ما من شكٍّ في ذلك. للحظة كان هناك ضباب، ثم فراغ.»

سألته: «كم من الوقت غِبتُ؟»

قال: «دقيقتين أو ثلاثًا. أعترف بأنني كنتُ مُرتعِبًا. لمْ أتخيَّل أنك ستعود. ثم قام بالنقر على هذه الرافعة — لو كانت رافعة — ووضعها في فتحة جديدة، وإذا بك على الكرسي، تبدو مرتبكًا بعض الشيء، لكنك فيما عدا ذلك كسابق عهدك. حمدتُ الربَّ لمَّا رأيتك!» ومسح جبينه المبتلَّ بوشاحه الأحمر الكبير.

قال المُخترِع: «الآن يا سيدي، أم ربما كانت أعصابك منهارة؟»

كان واضحًا أن تشالنجر يحاول تَمالُك نفسه، ثم أجلس نفسه على الكرسي، منحِّيًا يدي التي اعترضَت طريقه جانبًا. انتقلت الذراع المطاطية إلى الفتحة رقم ثلاثة. واختفى تشالنجر.

لا بد أنني كنتُ مُرتعبًا، لكن لشدَّة برودة أعصاب مُشغِّل الآلة. قال: «إنها عملية مُثيرة، أليست كذلك؟ حين ينظر المرء بعين الاعتبار إلى شخصية البروفيسور المهيبة، يكون من الغريب أن يُفكِّر في أنه، في هذه اللحظة، عبارة عن سحابة من الجزيئات، عالقة في جزءٍ ما من هذا المبنى. إنه الآن — بلا شك — واقع بالكلية تحت رحمتي. لو اخترتُ أن أتركه معلَّقًا، فما من شيء على ظهر البسيطة يمنعني من ذلك.»

«حينها سأَجدُ بسرعة وسائل لمنعك.»

تحوَّلت الابتسامة مرةً أخرى إلى عقدة، ثم قال: «لا تَعتقِد أن فكرة كهذه قد خطرت ببالي من قبل. بالله عليك! فكِّر في التبدُّد الدائم للبروفيسور العظيم تشالنجر، مُختفيًا في الفضاء الكوني دون أن يَترك أي أثر! أمر مريع! مريع! وفي الوقت نفسه، هو لمْ يكن مهذَّبًا كما يجب. ألا ترى في هذا درسًا صغيرًا له؟»

«نعم، لا أرى ذلك.»

«حسنًا، سنُسمِّيه برهانًا لافتًا للنظر؛ شيئًا من شأنه أن يصنع فقرة مثيرة في صحيفتك. لقد اكتشفتُ، على سبيل المثال، أن شعر الجسم عندما يكون على موجة مختلفة تمامًا بالنسبة إلى أنسجة الكائن الحي، يُمكن أن يُشمل أو أن يُستبعد حسب الرغبة. وبذلك سيكون من المُثير للاهتمام بالنسبة لي، أن أرى الدبَّ بلا شعر. ها هو!»

وصدَر صوتُ طقطقة الرافعة. وفي اللحظة التالية، أُعيد تشالنجر إلى الكرسي مرةً أخرى. ولكن، يا له من تشالنجر! يا له من أسد حليق! وعلى الرغم من أن الخدعة التي حيكت ضدَّه أثارت غضبي، لمْ أستطع منع نفسي من الانفجار بالضحك.

كان رأسه الضخم أصلع كرأس طفل، وذقنُه أملس كذقن فتاة. وفي غياب لُبدته الجليلة، كان الجزء السفليُّ من وجهه مُتهدِّلًا بشدة، يُشبه لغدَ الخنزير، بينما كان مظهره العام مظهر مُصارِع عجوز، يُقاتل مثخَنًا بالجراح والانتفاخات، له فكَّا كلب من نوع بولدوج، فوق ذقن ضخم.

ربما علا وجوهنا تعبيرٌ ما — لا يُساورني الشك في أن ابتسامة مُرافقي الشرِّيرة اتسعت أمام ذلك المشهد — لكن أيًّا ما كان، فقد صعدت يد تشالنجر إلى رأسه، وأصبح مُدركًا للحالة التي كان عليها. وفي اللحظة التالية، انتفَض من كرسيِّه، وأطبق على عنق المخترع، وطرَحه أرضًا. ولأنني أعرف قوة تشالنجر الهائلة، كنتُ واثقًا من أن الرجل سيلقى حتفه.

صحت: «بحق الرب خُذ حذرك. إن أنت قتلتَه فلن نستطيع إعادة الأمور إلى نصابها أبدًا!»

ورجحت كفَّة تلك الحجة. فحتى في أقصى لحظات غضبه، دائمًا ما كان البروفيسور تشالنجر يُصغي لصوت العقل. هبَّ واقفًا، وجرَّ المخترع المُرتعد معه. قال لاهثًا في غضب: «سأُعطيك خمس دقائق، إذا لم أعُد إلى سيرتي الأولى في خلال خمس دقائق، فسأَنزع الحياة نزعًا من جسدك الضئيل البائس.»

لم يكن تشالنجر في سَورة غضبه شخصًا مأمونًا عند الجدال؛ فربما تحاشاه أشجع الرجال، ولم يكن ثمَّة ما يدلُّ على أن السيد نِمور رجل ذو شجاعة استثنائية. بل على العكس من ذلك؛ إذ صارت تلك الهالات والبثور التي كسَت وجهه فجأةً أكثر جلاءً؛ وقد تحوَّل الوجه الذي في خلفيتها، من لون العجين المُصفَرِّ — وهو لونه الطبيعي — إلى لون بطن السمكة الأبيض. كانت أطرافه ترتجف، وبالكاد استطاع أن يتكلَّم بوضوح.

قال مُثرثِرًا ويده ممتدة إلى عنقه: «حقًّا يا بروفيسور! لا داعيَ إطلاقًا لهذا العنف. يُمكن بالتأكيد قبول دعابة لا ضرر منها بين الأصدقاء. كنتُ أطمَح إلى البرهنة على إمكانيات الآلة، وتصوَّرت أنك تُريد برهانًا متكاملًا. لم أقصد أيَّ إساءة، أُؤكِّد لك. لم أقصد أيَّ إساءة على الإطلاق يا بروفيسور!»

بحثًا عن حلٍّ، عاد تشالنجر لاعتلاء الكرسي.

«ستُبقي عينَيك عليه يا مالون، لا تدع له أيَّ فرصة للفكاك.»

«سأَحرص على ذلك يا سيدي.»

«والآن إذن، أَعِد الأمور إلى نصابها، أو تحمَّل العواقب.»

اقترب المخترع المرعوب من آلته. وتمَّ تشغيل قوة إعادة التجميع بسعتها القصوى، وسرعان ما عاد من جديد، ذلك الأسد القديم بلُبدته المتشابكة. وراح يُمسِّد لحيته بيديه بحنان، ويُمرِّرُهما على رأسه، للتأكد من اكتمال عملية الاستعادة. ثم هبط من مقعده نازلًا.

«لقد تمادَيتَ يا سيدي؛ مما كان سيجرُّ عليك عواقب وخيمة للغاية. ومع ذلك، يُسعدني أن أقبل تبريرك للأمر بأنك لم تفعل ذلك إلا لغرض البرهنة. والآن، هل لي أن أطرح عليك حفنةً من الأسئلة المباشرة حول القوة الاستثنائية التي تدَّعي اكتشافك لها؟»

«إنني مستعدٌّ للإجابة عن أي شيء، ما عدا السؤال عن مصدر القوة؛ فهذا سرِّي.»

«وهل أنت صادق في قولك أنْ لا أحد في العالم يعرف هذا السر غيرك أنت؟»

«لا أحد يَملك أدنى فكرة عنه.»

«ألا يوجد لك مساعدون؟»

«نعم يا سيدي؛ أنا أعمل منفردًا.»

«يا إلهي! ذلك مُثير للاهتمام أكثر. لقد أرضَيتَني بخصوص حقيقة القوة، لكنَّني لا أستوعب حتى الآن جوانبها التطبيقية.»

«لقد شرحتُ لك يا سيدي، أن هذا مجرَّد نموذج. لكن سيكون من السهولة بمكان إنشاء آلة تعمل على نطاق واسع. لعلك تعي أن الآلة تَعمل رأسيًّا؛ بحيث تكون هناك تيارات معيَّنة فوقك، وتيارات معينة تحتك، تصنَع ذبذبات، إمَّا تُفكِّك وإمَّا تعيد التجميع. غير أن العملية يمكن أن تتم أفقيًّا. وإذا نُفِّذت بتلك الطريقة، يكون لها المفعول ذاته، وتُغطِّي مساحةً تَتناسب مع قوة التيار.»

«اضرب لنا مثالًا.»

«سنَفترض أن أحد القطبَين موجود في قارب صغير، والآخر في قارب آخر بينهما بارجة حربية، ستختفي تلك البارجة الموجودة بينهما، ببساطة، مُتحوِّلة إلى جُزَيئات. والأمر نفسه ينطبق على صفٍّ من الجنود.»

«وأنتَ بعتَ هذا السر حصريًّا لدولة أوروبية واحدة؟»

«نعم يا سيدي، لقد فعلتُ. حالَما يُستوفى المال، سيتملَّكون قوة لم تَمتلكها أمة قط. إنك الآن لا ترى إمكانياتها الكاملة حين تُوضع في أيدٍ قادرة؛ أيدٍ لا تخشى إعمال السلاح الذي تَحمله. إنها إمكانيات لا تُحد.» وهنا لاحت على وجه الرجل الشرِّير ابتسامةٌ شامتة، وأردف: «تخيَّل ناحيةً من نواحي لندن، تُنشأ فيها مثل هذه الآلات. تخيَّل تأثير مثل هذا التيار على النطاق الذي يستطيع بسهولة تغطيته. يا إلهي …» وانفجر بالضحك، وقال: «أستطيع أن أتخيَّل وادي التيمز كلَّه وقد أُزيل تمامًا ولم يبقَ فيه رجلٌ ولا امرأة ولا طفل من تلك الملايين الغفيرة.»

ملأتني كلماته رعبًا، وما أرعبني أكثر نبرة الابتهاج التي نُطقت بها تلك الكلمات. وعلى الرغم من ذلك، بدا أن لها وقعًا مختلفًا تمامًا على مُرافقي. وفاجأني أنِ افْتَرَّ ثغره عن ابتسامة ودود، وبسط يده إلى المخترع.

قال: «حسنًا يا سيد نِمور، حريٌّ بنا أن نهنئك. لا ريب أنك اكتشفتَ خاصية رائعة من خصائص الطبيعة، ونجحتَ في تسخيرها ليستخدمها البشر. ومع أن حتمية أن يكون ذلك الاستخدام مدمِّرًا أمرٌ مُدان بشدة بلا شك، فإن العلم لا يَعرف الفوارق من هذا النوع، بل يَتتبَّع المعرفة أيًّا ما كان ما تؤدِّي إليه. وبصرف النظر عن المبدأ الذي أُسِّست عليه الآلة، أعتقد أنك لا تُمانع أن أفحص تكوينها؟»

«على الإطلاق. الآلة ليست سوى الجسم. وما يهمُّ هو رُوحها؛ المبدأ الذي يحركها، وهو ما لا يسعك الإحاطة به.»

«بالضبط. ولكن تلك الآلة المجرَّدة، تبدو نموذجًا للابتكار.» وظلَّ لبعض الوقت يدور حول الآلة ويتلمَّس أجزاءها المختلفة بأصابعه. ثم أراح جسده الثقيل على الكرسي المعزول.

سأله المخترع: «هل ترغب في نزهة أخرى قصيرة في الكون؟»

«لاحقًا، ربما؛ لاحقًا! لكن حتى ذلك الحين، لا بد أنك تعلم بوجود بعض التسرُّب للشحنات الكهربية. يُمكنني بوضوح الإحساس بتيار ضعيف يَسري عبر جسدي.»

«هذا مستحيل. الكرسي معزول تمامًا.»

«لكنني أوكِّد لك أنني أشعر به.» وحمل نفسه نازلًا عن كرسيه.

أسرع المُخترِع ليحلَّ محله.

«لا أشعر بشيء.»

«ألا تشعر برعشة أسفل عمودك الفقري؟»

«نعم يا سيدي، لا ألحظ ذلك.»

صدرت طقطقة حادة، واختفى الرجل. نظرت إلى تشالنجر وقد غمَرني الذهول. «يا إلهي! هل لمست الآلة يا بروفيسور؟»

تبسَّم في وجهي بودٍّ مشوبٍ بشيءٍ من الدهشة.

قال: «يا إلهي! لعلِّي لمستُ الذراع بغير قصد. الإنسان معرَّض لحوادث غريبة مع نموذج معقَّد من هذا النوع. يُفترض بالطبع أن تكون هذه الرافعة محمية.»

«إنها عند الرقم ثلاثة. إنها الفتحة التي تُسبِّب التفكيك.»

«هذا ما لاحظتُه عندما خضعتَ للعملية.»

«لكنَّني كنتُ منفعلًا بشدة حينما أعادك، فلم أرَ الفتحة الملائمة المسئولة عن العودة. هل لاحظتَها؟»

«ربما أكون قد لاحظتُها أيها الشاب مالون، لكنني لا أشغل عقلي بالتفاصيل الصغيرة. ثمَّة فتحات كثيرة، ونحن لا نعلم الغرض منها. وقد نزيد الطين بلَّة إن نحن جرَّبنا ما لا نعرفه. ربما من الأفضل أن نترك الأمور كما هي عليه.»

«وأنت سوف …»

«بالضبط. ذلك أفضل. إن شخصية السيد ثيودور نِمور المُثيرة للاهتمام، نشرت نفسها عبر الكون، وآلته لا قيمة لها، وقد حيل بين حكومة أجنبية معيَّنة وبين امتلاك معرفة قد تجرُّ دمارًا كبيرًا. لم يكن عملًا صباحيًّا سيئًا، أيها الشاب مالون. لا شك أن صحيفتَك الصفراء ستتضمَّن عمودًا مثيرًا يَتناول الاختفاء الغامض لمُخترعٍ لاتفيٍّ، بعد زيارة مُراسلها الخاص له بوقت قصير. لقد استمتعتُ بالتجربة. إنها اللحظات المَرِحة التي تأتي لتُبدِّد عتمة الروتين البحثي المُمل. ولكن الحياة لها تكاليفها مثلما لها مسرَّاتها، وسأعود الآن إلى الإيطالي مازوتي وآرائه المُنافية للمنطق، حول نمو يرقات النمل الأبيض الاستوائي.»

بالنظر إلى الوراء، بدا لي أن شيئًا من الرطوبة الدبقة كان لا يزال يحوم حول الكرسي. اندفعتُ قائلًا: «ولكن لا بد أن …»

قال البروفيسور تشالنجر: «إن أَولى واجبات المُواطِن المُمتثِل للقانون هو منْع الجريمة. وهذا ما فعلتُه. كفاك يا مالون، كفى! الأمر لا يحتمل النقاش. لقد شُغِلَ عقلي بما فيه الكفاية عن أمور أكثر أهمية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤