الفصل الثامن

سجاح ومالك بن نويرة

تقع منازل بني تميم على مقربة من بني عامر إلى الجنوب؛ وهي تحاذي المدينة من الشرق ممتدة نحو الخليج الفارسي، وتتصل من ناحية الشمال الشرقي بمصب الفرات، وكان لبني تميم بين قبائل العرب في الجاهلية وفي عهد الرسول مقام، لما ظهر فيها من خصال الشجاعة والكرم، ولما نبغ بين رجالها من الأبطال والشعراء، ولا يزال التاريخ يذكر لفروعها بني حنظلة ودارم وبني مالك وبني يربوع مواقف ترويها كتب التراجم كما يرويها كبار المؤرخين.

ولقد أدى اتصال هذه القبائل بمصب الفرات وبالخليج الفارسي إلى تنقل أبنائها بين شبه الجزيرة وأرض العراق، كما أدى إلى اتصالهم بفارس، وكان من أثر ذلك أن دان كثيرون منهم بالنصرانية وإن بقي أكثرهم يعبدون الأصنام، فلما انتشر الإسلام بينهم احتفظوا باستقلالهم، ولم ينزلوا عنه راضية نفوسهم، لذلك كانوا في مقدمة القبائل التي أبت أداء الزكاة حين بعث رسول الله جباته يقتضونها من الناس، ولقد أسرع بنو العنبر من تميم إلى نبالهم وسيوفهم حين جاء العاشر يطلب إليهم أداءها، فلما ذهب إليهم عيينة بن حصن بأمر الرسول فقتل وسبى منهم، ذهب وفد من أشرافهم إلى المدينة ودخلوا المسجد ونادوا النبي من وراء حجراته أن يرد إليهم أسراهم، وذكروه بمواقفهم معه في حنين، وبما لقومهم من مكانة بين العرب، وخرج إليهم حين الصلاة، فذكروا له أنهم جاءوا يفاخرونه، فلما رأوا خطيبه أبلغ من خطيبهم، وشاعره أشعر من شاعرهم، وصوته أعلى من أصواتهم، أسلموا؛ فأعتق النبي أسراهم وردهم إلى قومهم راضية نفوسهم.

وقبض رسول الله وله في تميم عمال، بينهم مالك بن نويرة على رأس بني يربوع، وقد اختلف العمال حين بلغتهم وفاة النبي ما يصنعون: أيؤدون الزكاة لأبي بكر أم يقسمونها بين الناس؟ وكان لما بينهم من تنافس أثر بين في اختلافهم ذاك، بل لقد أدى هذا التنافس إلى أن يقاتل بعضهم بعضًا، وأن يقيم فريق منهم على الولاء لسلطان المدينة، وأن يتنكر الآخرون لهذا السلطان.

وكان مالك بن نويرة فيمن ردوا الزكاة لأصحابها ولم يروا لأبي بكر حقًّا في اقتضائها، بذلك أصبح عدوًّا للمسلمين معرضًا لإغارتهم عليه.

وبينما القوم في اختلافهم فجأتهم سجاح بنت الحارث مقبلة من أرض الجزيرة بالعراق يحيط بها رهطها من تغلب، وتقود معها جندًا من ربيعة والنمر وإياد وشيبان، وكانت سجاح تميمية من بني يربوع، وكان أخوالها من تغلب بالعراق، وقد تزوجت فيهم، وأقامت بينهم، وتنصرت فيمن تنصر منهم، وكانت تنقم من محمد ومن اتبعه ما ينقمه منهم اليهود والنصارى، وما ينقمه منهم الفرس والروم، وكانت امرأة ذكية، تدعي الكهانة، وتعرف كيف تقود الرجال، فلما ترامى إليها أن محمدًا أدركته الوفاة، جاءت في رهطها وفي القبائل المحيطة بها تريد أن تغزو المدينة وأن تقاتل أبا بكر.

يرى بعض المؤرخين، وقد يكونون على حق فيما يرون، أن سجاح لم تنحدر من شمال العراق إلى شبه جزيرة العرب يتبعها رهطها والقبائل المحيطة بها لكهانتها ومطامعها الذاتية، وإنما انحدرت مدفوعة بتحريض الفرس وعمالهم في العراق كي يزيدوا الثورة في بلاد العرب ضرامًا، ليستعيدوا ما كان لهم في كثير من أرجائها من سلطان بدأ يأفل منذ أقام محمد بدهان عاملًا له على اليمن، بعد أن كان بدهان عامل كسرى عليها.

وقد يرجح رواية هؤلاء المؤرخين أن سجاح كانت الأنثى الوحيدة التي ادعت النبوة، وأن مثيلاتها اتخذن في كل العصور أداة للتجسس والرعاية، وأنها لم تلبث في بلاد العرب إلا ريثما بثت دعوة الانتقاض، ثم عادت إلى العراق فسكنت إلى حياتها به.

وليس عجبًا أن يتخذها الفرس أداة لإذكاء الثورة في بلاد العرب وقد كانوا يرون هذه البلاد أهون من أن يجرد لها جيش فارسي يقاتلها، وإن كانت مع ذلك جديرة بأن ترد إلى عزلتها الأولى قبل قيام محمد بها وانتشار الإسلام فيها، ولا شيء أدنى إلى تحقيق هذه الغاية من القضاء على الدين الجديد الذي جعل أبناءها يعتدون بأنفسهم، وإن لم يعتد الفرس بهم.

جاءت سجاح إلى شبه الجزيرة متأثرة بهذه العوامل، وكان طبيعيًّا أن تجعل وجهتها أول نزولها بلاد العرب إلى قومها بني تميم، وقد فجأتهم وهم مختلفون فيما بينهم: يقول قوم بإيتاء الزكاة واتباع خليفة رسول الله، وينكر آخرون هذا وذاك، ويتردد أقوام فهم في حيرة؛ ثم ينشأ عن هذا الاختلاف قتال بينهم يشتد حينًا ويهدأ حينًا، ورأت هذه البطون من بني تميم مقدم سجاح وعرفوا عزمها على قتال أبي بكر، فازدادوا بين الإسلام والردة اضطرابًا، وشهد من بقي على إسلامه منهم ما هو أدهى وأمر مما هم فيه؛ فها هي ذي في جيشها اللجب بالقياس إلى جموعهم المتنافرة تأخذهم على حين غفلة منهم وتعلن فيهم نبوتها وتدعوهم إلى الإيمان بها، أفيقولون عنها ما قال عيينة بن حصن عن طليحة: «نبية من بني يربوع خير من نبي من قريش، وقد مات محمد وسجاح حية.» وعلى ذلك يتبعونها ويقومون معها في وجه أبي بكر والمسلمين، أم ينصرفون عنها ويدعونها تسير في طريقها تواجه أبا بكر، فإما قضى عليها فانقضت فتنتها، وإما تم لها الغلب فكان لهم، وهم قومها الأدنون، فخار نصرها وفخار نبوتها؟

وقفت سجاح في جندها على حدود بني يربوع، وأرسلت إلى زعيمهم مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، وأنبأته بعزمها على غزو المدينة، وأجابها مالك إلى الموادعة، لكنه صرفها عن عزمها عن لقاء أبي بكر وحرضها على قتال من اختلف معه من أحياء بني تميم، واقتنعت سجاح برأيه وقالت: «نعم! فشأنك بمن رأيت، فإنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فهو ملككم.»

كيف أسرعت سجاح إلى الرجوع عن عزمها وموافقة مالك على رأيه؟ ليس فيما تذكره الروايات التي انتهت إلينا ما يبين عن السر في هذا الانقلاب، لكن الروايات تذكر أن مالكًا كان شريفًا فارسًا شاعرًا، وكانت فيه خيلاء كقومه، وكان ذا لمة كبيرة، وكان حلو الحديث حسن المحاضرة، قص أخوه متمم بن نويرة، وكان أسمى من مالك مكانة في الشعر، لكنه كان أعور قبيح الصورة، أن حيًّا من العرب أسروه فشدوا وثاقه وألقوه بفنائهم، وبلغ مالكًا خبره، فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم وسلم عليهم وحادثهم وضاحكهم وأنشدهم، فوالله إن زال كذلك حتى ملأهم سرورًا؛ وبلغ من ارتياح القوم إليه أن أطلقوا متممًا بغير فداء، وأسرت بنو تغلب متممًا في الجاهلية، فجاء مالك ليفديه، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، وحدثهم فأعجبهم حديثه، فلم يقبلوا منه فداء، وأطلقوا له الأسير فعاد به إلى قومه.

هل اقتنعت سجاح بحديث مالك وجماله، واقتنع بهما أخوالها بنو تغلب وسائر أنصارها؟ إنما نذكر ذلك لعله يفسر ما كان بين سجاح ومسيلمة من بعدُ، وسواء أصح ذلك أم لم يصح فقد دعت سجاح أمراء بني تميم لموادعتها فلم يوادعها منهم مع مالك إلا وكيع، وأغارت سجاح في جندها وجند مالك ووكيع على السريات فاقتتلوا ومات من الجانبين خلق كثير وأسر بعضهم من بعض، ثم إنهم تصالحوا وترادوا الأسرى، وعاد السلام إلى بني تميم.

وخرجت سجاح في جنود الجزيرة وقد راجعها العزم أن تلقى أبا بكر، أما مالك ووكيع فقد صالحا قومهما بعد أن رأيا سخطهم على اتباعهما هذه المتنبئة، وبلغت سجاح قوية النباج، فلقيها أوس بن خزيمة فهزمها، ثم ترادا الأسرى وصالحها على ألا تجتاز دياره إلى المدينة، هنالك اجتمع رؤساء أهل الجزيرة وقالوا لها: ما تأمريننا، فقد صالح مالك ووكيع قومهما فلا ينصروننا ولا يريدوننا أن نجوز أرضهم، وقد عاهدنا هؤلاء القوم؟ قالت: اليمامة، فقالوا: إن شوكة أهل اليمامة شديدة وقد غلظ أمر مسيلمة، وهنا تجري الرواية بأنها قالت: «عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ندامة.» ولم يبق لهم بعد هذا السجع الذي زعموه وحيًا إلا أن يمتثلوا أمرها!

فيم كان انقلابها إلى اليمامة وقد خانها الحظ بين قومها بني تميم، وخانها في مسيرتها إلى أبي بكر؟ أولم يكن حولها من رجالها مَن يشيرون عليها؟! أم إنهم تم إيمانهم بنبوتها وبهذا السخف الذي تزعم أنه يُوحى إليها فلم يترددوا في اتباعها؟ الحق أن قصة سجاح كلها عجب، وما روي عنها إلى فن القصص أقرب، فقد ذكروا أنها لما بلغت اليمامة في رجالها هابها مسيلمة وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه جند المسلمين أو تغلبه القبائل التي حوله، فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يجيء إليها، ونزلت في جندها على الماء وأذنت له، فجاء في أربعين من بني حنيفة، ثم خلا إليها يحدثها ويذكر لها أنه كان يرى أن لقريش نصف الأرض فظلموا، فليكن نصف الأرض لها، وسجع لها سجعًا أعجبها، فردت عليه بمثل سجعه، ثم إنهما تناظرا وتحادثا وطال بهما الحديث، وأعجبت سجاح بمسيلمة وبحلو حديثه وما شرع لقومه وانتهت إلى الإيمان بتفوقه، فلما عرض عليها أن تجمع نبوته إلى نبوتها وأن يتزوجا كان قلبها قد لان له فلم ترفض طلبه، وانتقلت إلى خيامه وأقامت معه ثلاثة أيام رجعت بعدها إلى قومها، وذكرت لهم أنها وجدته على الحق فتزوجته.

وعرف قومها أنه لم يجعل لها صداقًا فقالوا لها: «ارجعي إليه؛ فقبيح بمثلك أن تتزوج بغير صداق.» فلما رجعت إليه أغلق حصنه دونها وبعث يسألها ما طلبها، ثم نزل للناس عن صلاتين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، إكرامًا لها، وانتهى الأمر به وبها على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة، حمل إليها النصف مما اتفقا عليه فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة، وخلفت وراءها من رجالها من يحمل لها النصف الآخر، لكن هؤلاء الرجال لم يقيموا إلا ريثما أقبلت جيوش المسلمين فهاجمت مسيلمة وقتلته، ولم تزل سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام المجاعة إلى بني تميم حيث أقامت مسلمة حسنة الإسلام إلى أن ماتت.

هذه قصة سجاح بنت الحارث، وهي — كما قدمت — عجب كل العجب، وهل عجب كمغامرتها بالسير من الجزيرة للقاء أبي بكر وقتاله، ثم إسراعها إلى العدول عن عزمها حين تحدث مالك بن نويرة إليها، ثم انقلابها إلى اليمامة ولقائها مسيلمة وزواجها منه وعودها من عنده إلى أرضها، وبقائها بعد ذلك مع ذويها كأنها لم تخرج من بينهم ولم تتزوج من غيرهم!

وأمر مسيلمة معها أعجب العجب، ولئن صح أنه تزوجها ليكونن ذلك برهانًا على دهائه في السياسة وعلمه بمداخل القلوب، فهو قد أراد أن يتخلص منها ليفرغ لقتال من حوله من القبائل ومن أوفدهم أبو بكر لقتاله من المسلمين، ورآها لينة فاستهوى أنوثتها، فلما لانت له ودانت أعرض عنها وتخلص منها، والحق أن حديث هذه المرأة مع مالك بن نويرة ثم مع هذا الزميل من مدعي النبوة شهد بأنها إن تكن حسنة السجع في كهانتها فقد كانت لينة العريكة في أنوثتها، فأما مسيلمة فكان رجلًا قزمًا لا جمال فيه إلا حسن حديثه؛ وكان قليل الافتنان بالمرأة ومحاسنها، ولذلك كان مما شرعه لقومه أن من وُلد له ولد لم يجز له أن يقرب امرأة إلا أن يموت ذلك الولد؛ فإذا مات جاز له أن يبتغي ولدًا غيره فيقرب امرأته، أما من كان له ولد ذكر فالنساء عليه حرام!!

•••

بينا يجري ذلك في اليمامة بين مسيلمة وسجاح كان خالد بن الوليد يصعد في البزاخة ويصوب، يستعيد إلى الإسلام من تاب وأناب، ويعاقب بأشد العقوبة من قتل مسلمًا أو عدا عليه، وينتهي بمقاتلة أم زمل حتى يقتلها ويشتت جمعها بعد أن شتت جمع طليحة وحمله على الفرار، وتداول الناس أنباء خالد، فبلغت مالك بن نويرة بالبطاح فردته إلى الاضطراب والحيرة، لقد منع الزكاة وقام مع سجاح في وجه المسلمين من بني تميم، وأصبح بذلك عدوًّا للمسلمين معرَّضًا لإغارتهم عليه، فماذا عساه يصنع بعد أن باءت جنوده وجنود سجاح معها بالفشل والهزيمة؟ أما صاحبه وكيع فقد رأى قبح ما صنع، فعاد إلى الإسلام وأخرج الزكاة، وأما مالك فبقي متحيرًا: أينكر أمسه ويعود مسلمًا مع أبي بكر كما كان مع محمد يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، أم يصر على مثل موقفه مع سجاح والأمر لله من قبل ومن بعد؟!

وفرغ خالد من أسد وغطفان ومن معهما بعد أن عاد كل من بقي من هذه القبائل إلى الإسلام وأذعن لسلطان المدينة، ثم إنه أزمع السير إلى البطاح يلقى فيها مالك بن نويرة ومن كان معه في مثل تردده، وعرف الأنصار هذا العزم منه فترددوا وقالوا: «ما هذا بعهد الخليفة إلينا؛ إنما عهده إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا.» وأجابهم خالد: «إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إليَّ أن أمضي، وأنا الأمير وإليَّ تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني ولا أمر ثم رأيت فرصة إن أعلنته بها فاتني ثم أعلمه حتى أنتهزها، وكذلك إذا ابتلينا بأمر لم يعهد لنا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به: وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان، ولست أكرهكم.» وسار ومن معه، خلا الأنصار، يقصد البطاح.

وبرم الأنصار بالأمر وتشاوروا فيما بينهم فاستقر رأيهم على أن يلحقوا به، ذلك أنهم قالوا: لئن أصاب خالد اليوم خيرًا إنه لخير حرمتموه، ولئن أصابته ورجاله مصيبة ليجتنبنكم الناس، وجردوا إلى خالد رسولًا استمهله حتى لحقوا به وساروا معه، فلما بلغوا البطاح لم يجدوا بها أحدًا؛ فقد فرق مالك بن نويرة قومه في ديارهم ونهاهم عن الاجتماع، وقال لهم: «يا بني يربوع، إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الأمر وبطأنا الناس عنهم فلم نُفلح ولم ننجح، وإني قد نظرت فرأيت الأمر يتأتى للقوم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناوأة قوم قد صنع لهم.» ونصح لهم بالرجوع إلى الإسلام والتفرق في الديار، ورجع هو إلى منزله.

لم يجد خالد بالبطاح أحدًا، فبث الجنود وأمرهم أن يأتوه بكل من لم يجب داعية الإسلام، فإن امتنع فليقتلوه، وكانت وصية أبي بكر أن يؤذن جند المسلمين إذا نزلوا منزلًا، فإن أذن القوم كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا قتلوا منهم ونهبوهم، فإن أجابوا بعد ذلك إلى داعية الإسلام سألوهم عن الزكاة، فإن أقروا قبلوا منهم، وإن أبوا قاتلوهم.

جاء الجند بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع إلى خالد، وكان المنطق يقضي بعد الذي رأيت بأنه إن أقر مالك وأصحابه بالإسلام، أن يعاملهم خالد معاملة من تاب وأناب، لكن الذي حدث أن خالدًا أمر بمالك بن نويرة فقتل، وأن هذا القتل أثار بالمدينة ثائرة ظلت زمنًا قبل أن تهدأ، وأنه كان ذا أثر في تصرف عمر بن الخطاب مع خالد بن الوليد بعد أن ولي الخلاقة، لهذا تفصل الروايات مقتل مالك بن نويرة في شيء من الإسهاب وتختلف فيه.

قيل: إن رؤساء الجند الذين جاءوا بمالك ومن معه اختلفوا فيما بينهم: أأقر مالك ومن معه بالإسلام وأجابوا داعية الأذان، أم أنكروا وتنكروا؟ روى الطبري عن ابن قتادة الأنصاري، وكان من رؤساء هذا الجند، أنه «كان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح، فقلنا: إنا المسلمون. قالوا: ونحن المسلمون. فقلنا: ما بال السلاح معكم؟! قالوا لنا: فما بال السلاح معكم؟ فقلنا: فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح، فوضعوا السلاح ثم صلينا وصلوا.»

إلى هنا تتفق الروايات، ومن هنا يبدأ اختلافها، قال أبو قتادة: إن القوم أقروا بالزكاة وإيتائها، وقال غيره: بل أنكروها وأصروا على منعها، ماذا يصنع خالد إزاء هذا الاختلاف بين شهود العيان، وكيف يقضي فيه؟

تجري رواية بأنه أمر بحبس مالك وأصحابه حتى ينظر في أمرهم، وحبسوا في ليلة باردة جعلت تزداد بتقدم الليل بردًا، وأخذت خالدًا الشفقة بالقوم فأمر فنادى: دافئوا أسراكم، وكانت هذه العبارة في لغة كنانة معناها القتل، وكان الحراس من بني كنانة، فما لبثوا حين سمعوها أن ظنوا أن خالدًا أراد قتلهم فقتلوهم، وسمع خالد الضجة فخرج، وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرًا أصابه.

وتجري رواية ثانية بأن خالدًا دعا إليه مالكًا يناظره ليعرف أي الشهادتين حق: الشهادة بإسلامه، أم الشهادة بإصراره على الردة أو على منع الزكاة، وفيما هما يتناظران راجع مالك خالدًا وقال: «ما إخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا.» قال خالد: «أوما تعده لك صاحبًا؟!» ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه.

ويقول أبو الفرج في الأغاني تفسيرًا لهذا الحوار بين خالد ومالك ما نصه: «قال ابن سلام: من لا يعذر خالدًا يقول إن مالكًا قال لخالد: أوبهذا أمرك صاحبك — يعني النبي — إنه أراد بهذه الفروسية، ومن يعذر خالدًا يقول: إنه أراد انتفاء أمر النبوة، ويحتج بقول مالك:

وقلت خذوا أموالكم غير خائف
ولا ناظر فيما يجيء من الغد
فإن قام بالأمر المخوف قائم
منعنا وقلنا: الدين دين محمد

أي إنه منع الزكاة وقال لقومه: خذوا أموالكم فالدين دين محمد لا دين أبي بكر.

وقد روى ابن خلكان ما ذكر أنه الحديث الذي دار بين الرجلين، وأورد ما يأتي: «فقال مالك: إني آتي الصلاة دون الزكاة، فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معًا لا تقبل واحدة دون أخرى؟! فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك. قال خالد: أوما تراه لك صاحبًا؟! والله لقد هممت أن أضرب عنقك. ثم تجادلا بالكلام طويلًا، فقال له خالد: إني قاتلك. قال: أوبذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: والله لأقتلنك.» وأمر به فقُتل.

يرجح بعضهم هذه الرواية الثانية على الرواية الأولى، على أن هؤلاء الذين يجرحونها يرونها ناقصة، ويرون أنها إن لم تكمل ناقضت تصرف ابن الوليد في أمر قرة بن هبيرة والفجاءة السلمي وأبو شجرة وأمثالهم ممن قصصنا حديثهم، فهو قد بعث بهؤلاء إلى أبي بكر ليرى فيهم رأيه، ولم يكن مالك بن نويرة أعظم من أيهم إثمًا ولا أكبر جريرة؛ فما باله يقتله ولا يبعث به إلى الخليفة ومكانه من بني تميم لم يكن دون مكان أي أولئك من قومه!

وتتمة القصة في رأيهم أن خالدًا تزوج أم تميم زوجة مالك في يوم مقتله، وقبل أن يجفف التراب دمه، مخالفًا بذلك كل تقاليد العرب، وهم يريدون أن يربطوا بين مقتل مالك وزواج خالد من امرأته، وأن يجعلوا هذا الزواج سبب ذلك القتل. ولعلهم في ذلك على حق، ولعلهم مخطئون.

ذكر اليعقوبي في تاريخه: «فأتاه مالك بن نويرة يناظره واتبعته امرأته؛ فلما رآها خالد أعجبته فقال: «والله لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك.» فنظر مالكًا فضرب عنقه وتزوج امرأته.» وذكر أبو الفرج في الأغاني: «لما تنبأت سجاح اتبعها مالك ثم أظهر أنه مسلم، فضرب خالد عنقه، فطعن عليه في ذلك جماعة من الصحابة؛ لأنه تزوج امرأة مالك بعده، وقد كان يقال إنه يهواها في الجاهلية، واتهم لذلك أنه قتل مسلمًا ليتزوج امرأته بعد.» وروى أبو الفرج كذلك قال: «قال محمد بن سلام: وسمعني يومًا يونس وأنا أراد التميمية في خالد وأعذره فقال لي: يا أبا عبد الله، أما سمعت بساقي أم تميم؟! فكان يقال إنه لم ير أحسن من ساقيها.»

وقد نسجت الروايات لهذا الحادث من بعد صورًا أدنى إلى فنون الأدب منها إلى وقائع التاريخ، فقد قيل: إن ليلى كانت مع زوجها وهو يناظر خالدًا، فلما سمعته يقول له: إني قاتلك، ووالله لأقتلنك، ألقت بنفسها على قدمي الفاتح تلتمس منه العفو وقد انسدل شعرها على كتفيها وبلل الدمع منها عينين زانهما الحور فزادهما سحرًا، ونظر خالد إلى وجهها البارع، وهي ترنو إليه مستعطفة مسترحمة، نظرة هوى وإعجاب، فصاح مالك: إني مقتول لا محالة! وأجاب خالد: ما لهذا والله، وإنما قضى عليك كفرك، وأمر بضرب عنقه.

لسنا نقف عند ما نسجته فنون الأدب من هذه التفاصيل، لكن الثابت الذي لا ريب فيه أن ليلى أعجبت خالدًا، وأنه لذلك أمسكها من بعدُ ولم يسرحها مع ما جره زواجها عليه من متاعب.

وحسبك لتقدر هذه المتاعب أن تعلم أن أبا قتادة الأنصاري غضب لفعلة خالد إذ قتل مالكًا وتزوج امرأته أشد الغضب، فتركه منصرفًا إلى المدينة، مقسمًا ألا يكون أبدًا في لواء عليه خالد، روينا ما قيل من أن الجند الذين سجنوا مالك بن نويرة وأصحابه هم الذين قتلوهم حين سمعوا خالدًا يقول: دافئوا أسراكم، وأن خالدًا غضب لذلك ثم قال: إذا أراد الله أمرًا أصابه، ويضيف أصحاب هذه الرواية أن أبا قتادة ظن ما حدث حيلة من حيل خالد، وأنه ذهب إليه يقول: هذا عملك، وأن خالدًا زجره فغضب وذهب إلى المدينة.

ويذكر آخرون أن قتادة ذهب إلى المدينة بعد أن تزوج خالد أم تميم، وأن متمم بن نويرة أخا مالك ذهب معه، فلما بلغا المدينة ذهب أبو قتادة ولا يزال الغضب آخذًا منه مأخذه، فلقي أبا بكر فقص أمر خالد وقتله مالكًا وزواجه من ليلى، وأضاف أنه أقسم ألا يكون أبدًا في لواء عليه خالد، لكن أبا بكر كان معجبًا بخالد وانتصاراته، فلم يعجبه أبو قتادة، بل أنكر منه أن يقول في سيف الإسلام ما قال.

أترى الأنصاري هاله غضب الخليفة فأسكته؟ كلا! فقد كانت ثورته على خالد عنيفة كل العنف، لذلك ذهب إلى عمر بن الخطاب فقص عليه القصة وصور له خالدًا في صورة الرجل الذي يغلب هواه على واجبه، ويستهين بأمر الله إرضاء لنفسه، وأقره عمر على رأيه وشاركه في الطعن على خالد والنيل منه، وذهب عمر إلى أبي بكر وقد أثارته فعلة خالد أيما ثورة، وطلب إليه أن يعزله؛ وقال: «إن في سيف خالد رهقًا١ وحق عليه أن يقيده.» ولم يكن أبو بكر يقيد من عماله، لذلك قال حين ألح عمر عليه غير مرة: «هبه يا عمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد.» ولم يكتفِ عمر بهذا الجواب ولم يكف عن المطالبة بتنفيذ رأيه، فلما ضاق أبو بكر ذرعًا بإلحاحه قال: «لا يا عمر! ما كنت لأشيم٢ سيفًا سله الله على الكافرين.»

لكن عمر كان يرى صنيع خالد نكرًا، فلم تطب نفسه ولم يسترح ضميره، كيف إذن يسكت، وكيف يذر خالدًا في طمأنينته يشعر كأنه لم يأثم ولم يجنِ ذنبًا! لا بد أن يعيد القول على أبي بكر وأن يذكر له في صراحة أن عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ونزا على امرأته، فليس من الإنصاف في شيء ألا يؤاخذ بصنيعه، ولم يسع أبا بكر إزاء ثورة عمر إلا أن يستقدم خالدًا ليسأله ما صنع، وأقبل خالد من الميدان إلى المدينة، ودخل المسجد في عدة الحرب مرتديًا قباء له عليه صدأ الحديد وقد غرز في عمامته أسهمًا، وقام إليه عمر إذ رآه يخطو في المسجد فنزع الأسهم من رأسه وحطمها وهو يقول: قتلت امرأ مسلمًا ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنك بالأحجار. وأمسك خالد فلم يعترض ولم يقل شيئًا، ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل رأي عمر فيه، ودخل على أبي بكر وقص عليه قصة مالك ومناصرته سجاح وتردده بعد ذلك، وجعل يلتمس المعاذير عن قتله، وعذره أبو بكر، وتجاوز عما كان منه في الحرب؛ لكنه عنفه على التزويج من امرأة لم يجف دم زوجها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب، وترى الاتصال بهن أثناءها عارًا أي عار.

وخرج خالد من عند الخليفة ناجيًا بإمارته على الجند، متأهبًا للعود إليهم وقيادتهم إلى اليمامة، ومر بعمر — وكان ما زال في المسجد — فالتفت إليه وقال: هلم إليَّ يا بن أم سلمة! قال هذه العبارة وفي عينيه نظرة الساخر، وفي صوته نبرة المنتصر، وكأنه يقول: استبق أحجارك فارجم بها غيري، وأيقن عمر أن أبا بكر عذره وغفر له وأظهر الرضا عنه، فأمسك بدوره. انقضى ذلك اليوم بينهما عند مبادلة هذه العبارات.

على أن عمر لم يتزحزح عن رأيه فيما صنع خالد، فلما توفي أبو بكر، وبويع عمر خليفة له، كان أول ما صنع أن أرسل إلى الشام ينعي أبا بكر، وبعث مع البريد الذي حمل النعي رسالة يعزل بها خالدًا عن إمارة الجيش، وقد عاتبه خالد على ذلك حين رجع إلى المدينة، فكان جواب عمر: «ما عزلتك لريبة فيك، ولكن افتتن بك الناس فخشيت أن تفتتن بالناس.» وهذه حجة لها قيمتها، لكن إجماع المؤرخين منعقد على أن عمر بقي متأثرًا برأيه في موقف خالد من مقتل مالك بن نويرة وزواجه امرأته، وأن هذا الرأي كان له أثره من بعدُ في عزل خالد.

لم يكن نشاط متمم بن نويرة بأقل من نشاط أبي قتادة منذ قدم معه المدينة، فقد طلب إلى أبي بكر دية مالك فوداه، وتحدث إليه في سبيهم فكتب إليه برد السبي، وأقام متمم بالمدينة زمنًا طال إلى ما بعد غزوة اليمامة، ثم كان موضع العطف الشديد من عمر لإصرار عمر على رأيه في خالد، وكان متمم قد قال في أخيه مراثي كثيرة لا تزال تعد من عيون الشعر العربي. ذكروا عن السبب في اتصال المعرفة بين متمم وعمر أن ابن الخطاب كان يصلي الصبح يومًا، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكبًا قوسًا وبيده هراوة، فسأل مَن هذا، وعرف أنه متمم بن نويرة؛ فاستنشده قوله في أخيه، فأنشد إحدى قصائده حتى بلغ قوله:

وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكًا
لطول اجتماع، لم نبت ليلة معا

فقال عمر: «هذا والله التأبين، ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيدًا بمثل ما رثيت به أخاك.» قال متمم: «لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته.» وكان زيد قتل باليمامة شهيدًا تحت لواء خالد بن الوليد، قال عمر حين سمع قول متمم: «ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم.»

بلغ اختلاف الرأي بين أبي بكر وعمر في حادث مالك بن نويرة ما رأيت وكلا الرجلين كان يريد للإسلام والمسلمين الخير لا ريب، أفكان اختلافهما مع ذلك راجعًا إلى خلاف في تقدير ما صنع خالد، أم كان اختلافًا على السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف الدقيق من حياة المسلمين، موقف الردة وقيام الثورة بها في أنحاء شبه الجزيرة؟!

الرأي عندي في هذا الخلاف أنه كان اختلافًا في السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف، وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين، أما عمر، وكان مثال العدل الصارم، فكان يرى أن خالدًا عدا على امرئ مسلم ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها، فلا يصح بقاؤه في قيادة الجيش حتى لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين، ويسيء إلى مكانتهم بين العرب، ولا يصح أن يترك بغير عقاب على ما أثم مع ليلى، ولو صح أنه تأول فأخطأ في أمر مالك، وهذا ما لا يجيزه عمر، فحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحد، وليس ينهض عذرًا له أنه سيف الله، وأنه القائد الذي يسير النصر في ركابه، فلو أن مثل هذا العذر نهض لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم، ولكان ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله، لذلك لم يفتأ عمر يعيد على أبي بكر ويلح حتى استدعى خالدًا وعنفه على فعلته.

أما أبو بكر فكان يرى الموقف أخطر من أن يقام فيه لمثل هذه الأمور وزن، وما قتل رجل أو طائفة من الرجال لخطأ في التأويل أو لغير خطأ، والخطر محيط بالدولة كلها، والثورة ناشبة في بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وهذا القائد الذي يتهم بأنه أخطأ من أعظم القوى التي يدفع بها البلاء ويتقى بها الخطر! وما التزوج من امرأة على خلاف تقاليد العرب، بل ما الدخول بها قبل أن يتم طهرها، إذا وقع ذلك من فاتح غزا فحق له بحكم الغزو أن تكون له سبايا يصبحن ملك يمينه!! إن التزمّت في تطبيق التشريع لا يجب أن يتناول النوابغ والعظماء من أمثال خالد، وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر، ولقد كان المسلمون في حاجة إلى سيف خالد، وكانوا في حاجة إليه يوم استدعاه أبو بكر وعنفه أكثر من حاجتهم إليه من قبل، فقد كان مسيلمة باليمامة على مقربة من البطاح في أربعين ألفًا من بني حنيفة، وكانت ثورته بالإسلام والمسلمين أعنف ثورة، وكان قد تغلب على عكرمة بن أبي جهل من قواد المسلمين، وكان أكبر الرجاء معلقًا بسيف خالد في الانتصار عليه، أفمن أجل مقتل مالك بن نويرة، أم من أجل ليلى الجميلة التي فتنت خالد، يعزل خالد وتتعرض جيوش المسلمين لتغلُّب مسيلمة عليها، ويتعرض دين الله لما يمكن أن يتعرض له؟! إن خالدًا آية الله، وسيفه سيف الله. فلتكن سياسة أبي بكر حين استدعاه إليه أن يكتفي بتعنيفه، وأن يأمره في الوقت نفسه بالسير إلى اليمامة ولقاء مسيلمة.

هذا في رأيي هو التصوير الصحيح لما كان بين أبي بكر وعمر بن الخطاب في هذا الحادث، ولعل أبا بكر إنما أصدر أمره إلى خالد يومئذ بالسير للقاء مسيلمة بعد أن تغلب متنبئ بني حنيفة على عكرمة، ليرى أهل المدينة ومن كان على رأي عمر منهم خاصة، أن خالدًا رجل الملمات، وأنه قد قذف به حين أصدر إليه هذا الأمر إلى جحيم، إما ابتلعه وقضى عليه فكان ذلك خير عقاب له على ما صنع بأم تميم وزوجها، وإما صهره النصر فيه وطهره فخرج مظفرًا غانمًا قد سكن من المسلمين روعًا لا تعد فعلته بالبطاح شيئًا مذكورًا إلى جانبه.

وقد صهرت اليمامة خالدًا وطهرته وإن تزوج في أعقابها بنتًا بكرًا عقد عليها كما فعل مع ليلى، ولما تجف دماء المسلمين ولا دماء أتباع مسيلمة، ولقد عنفه أبو بكر على فعلته هذه بأشد مما عنفه على فعلته مع ليلى، لكنه لم يزد على التعنيف ولم يزد خالد على سماعه. وما أرى أبا بكر في تعنيفه إلا أراد أن يسكن من ثائرة الثائرين أمثال أبي قتادة، وإن أعجب فليس عجبي للكُتاب والمؤرخين الذين حاولوا أن يسيئوا بهذا الحادث إلى تاريخ خالد بأعظم من عجبي لأمثالهم ممن حاولوا أن يبرئوه أو يلتمسوا له الأعذار، فما مالك، وما ليلى، وما بنت مُجَّاعَة إلى جانب المئات والألوف من الرءوس التي طاحت بسيف خالد أو بأمره! وهذه المئات والألوف من الرءوس الطائرة عن أجسادها هي فخر خالد وهي التي جعلته سيف الله، فإن أصاب سيفه رهق في لحظة من اللحظات، فقد أصاب هذا السيف النصر والفخار في سنوات وسنوات.

عاد خالد من المدينة إلى البطاح بعد أن أصدر أبو بكر إليه أمره أن يسير لقتال مسيلمة باليمامة؛ وعاد إليها وقد برئت من الردة وآثارها، فأقام بها على رأس جنده، ينتظر من أبي بكر مددًا كان يجهزه لمؤازرته، فلما جاءه المدد سار على رأس الجيش كله، يقصد أبلغ المتنبئين في شبه الجزيرة مكرًا، وأشدهم خطرًا، سار ممتلئًا ثقة بنفسه، وإيمانًا بالله، وطمأنينة إلى أنه جل شأنه مؤيده وناصره.

وإن ينصركم الله فلا غالب لكم.

١  الرهق: السفه والخفة وركوب الشر والظلم وغشيان المحارم.
٢  أشيم: أغمد. والشيم يستعمل في السل والإغماد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤