المقدمة

بقلم  مصطفى صادق الرافعي

بسم الله الرحمن الرحيم

كان لي صديق خَلَطْتُهُ بنفسي زمنًا طويلًا، وكنت أعرفه معرفة الرأي كأنه شيء في عقلي، ومعرفة القلب كأنه شيء في دمي، ثم وقع فيما شاء الله من أمور دنياه حتى نسيني، وطار على وجهه حتى غاب عن بصري، والتفَّتْ عليه مذاهبُه فما يقع إليَّ من ناحيته خبر؛ وامتدَّ بيني وبينه حولٌ كامل خلا من شخصه وامتلأ من الفكر فيه، كأنه العام الأول من تاريخ حفرة بين القبور العزيزة التي لا تُنْسَى.

وطلعت الشمس يومًا في غيم يناير من سنة ١٩٢٤ فأحسست قلبي من الذعر كالطائر ينفض ندى جناحيه في أشعتها، ولم تكد ترتفع وتتلألأ حتى وافى البريد يحمل إليَّ خطه وإذا فيه:

يا عزيزي الحبيب!

فقدتني زمنًا إن يكن في قلبك منه وخزة ففي قلبي منه كحزِّ السيف؛ لم أنسك نسيان الجحود وإن كنت لم أذكرك ذكرى الوفاء فأبعث إليك بخبر يترجم عني؛ إذ كنت في سجن وأنا الساعة منطلق منه، لا تجزع ولا تحسبنه سجن الحكومة … إن هو إلا سجن عينين ذابلتين كان قلبي المسكين يتمزَّعُ في أشعة ألحاظهما كما يكون المقضيُّ عليه إذا أحاطت به السيوف، وجعل بريقها يتخاطف معاني الحياة من روحه قبل أن يخطف هذه الروح، بل سجن فكري الذي ابتُليت به وبخياله معًا فلا يزال واحد منهما يبالغ في إدراك الجمال والآخر يبالغ في تقديره؛ حتى تكاد تطلع نفسي من نواحيها١ لكثرة ما يُسرِفان عليها كما يريد الأطفال أن يملأوا القدح ليستفيض لا ليمتلئ، وليرسل الماء لا ليمسكه؛ فلو أنهم صبوا فيه ملء بحر بأمواجه لجرى البحر من حافة قدح صغير.

ما أحسبني قط رأيت امرأة جميلة كما هي في نفسها وتركتها كما هي في نفسها، بل هناك نفسي، وآه من نفسي، وما أسرع ما يمتزج في هذه النفس بعض الإنسانية المحبة ببعض الإنسانية المحبوبة فإذا أنا بشيء إلهي قد خرج لي من الإنسانيتين، هو هذا الشعر؛ هو هذا البلاء؛ هو هذا الحب.

فررت منك ومن سواك يا عزيزي مُصَيْف٢ إلى امرأة كالتي جعلت آدم يفر حتى من الجنة ومن الملائكة؛ وقد يكون اتصال رجل واحد بامرأة واحدة كافيًا أحيانًا لتكوين عالم كامل يسبح في فلك وحده، عالَم مسحور، في فلك مسحور، لا يخضع إلا لجاذبية السحر، ولا يعرف إلا تهاويل السحر.

على أنك لم تفقد مني في هذه السنة إلا بضعة كتب وكلامًا كنا نَتَرَسَّل به وليس فيه إلا الحبر؛ فسأردُّ عليك من ذلك كتب سنوات وأعوضك برسائلي كلامًا فيه دمع العين ودم القلب، فقدتني صديقًا يهزُّ يديك بتحيته والآن أعود إليك شاعرًا يهز قلبك بأنينه، فقدتني شخصًا وسأرجع إليك كتابًا.

أما أنت فاكتب لي رجع كل رسالة تأتيك من قبلي واذكر لي موقعها من نفسك، وكيف كان دبيبها أو طيرانها عندك؛ فإني راميك بأسهم لا قاصراتٍ عن قلبك تنزل دونه ولا زائداتٍ تمر عليه وتتجاوز، بل مسددات يقعن فيه.

وأرجو عافاك الله أن لا تتطلَّع في قلمي بنقد أو اعتراض أو تعقيب، بل دعني وما أكتبه كما أكتبه؛ فإن لكل شيء طرفين، وأن طرفي الجمال هما الحب والبغض؛ ورسائلي هذه ستأتيك بالجمال من طرفيه فلقد والله أحببت حتى أبغضت، ولقد والله يُضجر العمل السامي إذا أصاب غير موضعه كما يُضجر العمل السافل إذا نزل في موضعه.

ومتى انقطع هذا المدد المتلاحق من كتبي فاجمع الرسائل وقدم لها كلمة بقلمك، ثم اطبعها وسمها «رسائل الأحزان»؛ إنها كانت عواطف ثارت وقتًا ما ليحدث منها تاريخ وسكنت بعد ذلك ليحدث منها شعر وكتابة.

فإن نجتمع بعدُ نظرنا فيها معًا وقرأتْها عيناك لقلبي، وإن ارتاح الله لي برحمته٣ رفت عليها روحي فأسمع صوتك في الغيب يرسل إلى هذه الروح تحية من أنغام قلبها الميت.
صديقك (…)
٢١ يناير سنة ١٩٢٤

•••

وجعلت رسائل الصديق تترادف إليَّ مُسْهَبَةً ضافية تقطر فيها نفسه كما ترسل السحابة المنتشرة قطرات انعقدت وانحلت، ثم جعلت نفسه تنطوي على نأي حبيبته واشتد عليه أمرها ثم أسهل وانقاد، واعتادها هاجرة فراث قليلًا٤ ثم كفَّ؛ ومرت الظبية تطفو٥ ووهبها للبر الواسع … وانقلب عنها بعد أن ملأت نفسه كما يقول في بعض رسائله «بمثل البحر مِلْحًا ومرارة» …

أما هذا الصديق فأعرفه أسلوبًا من الكبر ولكن على نفسه، ومن الشذوذ ولكن في نفسه، كأنما فُتحت أفواه عروقه جنينًا وملأتها الوراثة من دم ملك كان في أجداده، مستصعب شديد المراس فهو أبدًا في حياته كالملك الذي حالت السيوف والأسنة والقوانين بينه وبين تاجه فجعلت له حياتين يفصل الموت بينهما، اجتمع من تاريخه إنسان بلغ الزمن تحت عينيه نيفًا وأربعين سنة، فهو تاريخ أحزان قد استفاضت مسائله في فصول وأبواب جف القلم منها على نيف وأربعين جزءًا كلماتها في حوادثها، وأن السطر منها ليُرعد في صحيفته من الغيظ، وأن الكلمة لتبكي بكاء يُرى، وأن الحرف ليئن أنينًا يُسمع، وأن تاريخه كله لينتفض؛ لأنه مصيبة ملكية مصورة في ملك.

•••

لقد سبق‏ الكتاب وجف القلم الأزلي على علم الله فما أتينا إلى هذه الدنيا إلا ليمثل كل واحد منَّا فصلًا من معاني الشقاء الإنساني في تلك الثياب التي هي ملك لصاحب المسرح، لا نخلعها ونلبسها بل يخلعنا بعضها ليلبسنا بعضها الآخر، فلسنا نبتدع، ولكن يُلقى علينا وما نحن بمخترعين ولكننا نحتذي، والرواية موضوعة تامة قبل ممثليها، وضعها ذلك القلم الأعلى الذي كتب مقادير كل شيء كان أو يكون حتى تُمحَى من صفحة الأرض هذه الأحرف السوداء المتحركة والساكنة٦

والمشكلة الإنسانية الكبرى أن كل إنسان يريد أن يكون بطل الرواية ومثلها البكر حتى ذلك الشخص الذي جيء به لتنزل عليه اللعنة في سياقها، غير أن الرواية مفصَّلة من قبل، ويأتي فصل اللعنة كما هو بأطرافه وحواشيه وأسبابه ونتائجه فينصب على ممثله جملة واحدة على وجه لا يُحس ولا يُرى ولا يُدفع كما يلبسه النوم فإذا هو يفتل فيه فتلًا، وإذا رجلٌ على أعين الناس باللعنة حال وباللعنة مرتحل.

النوم والقدر والموت كالشيء الواحد أو ثلاثتها أجزاء لشيء واحد؛ فالنوم غفلة تخرج الحي هُنَيْئة من الحياة وهو فيها على حالة أخرى، والموت غفلة تخرجه من الحياة كلها إلى حالة أخرى، والقدر منزلة بين المنزلتين يقع هَيِّنًا على أهل السعادة بأسلوب النوم، ويجيء لأهل الشقاء عنيفًا في أسلوب الموت، ولن يجلب شيئًا أو يدفع عن نفسه شيئًا من هذه الثلاثة إلا الذي لم يُخلق على الأرض، ذلك الذي يستطيع أن يفتح عينيه على الليل والنهار فلا ينام، أو يحفظ نفسه على الصغر والكبر فلا يموت، أو يضرب بيديه على مدار الفلك فيمسكه ما شاء أو يُرسله.

•••

جئنا إلى هذه الحياة غير مخيرين ونذهب غير مخيرين إن طوعًا وإن كرهًا؛ فمد يدك بالرضا والمتابعة للأقدار أو انزعها إن شئت فإنك على الطاعة ما أنت على الكره، وعلى الرضا ما أنت على الغضب؛ ولن تعرف في مذاهب القدر إذا أنت أقبلت أو أدبرت أي وجهيك هو الوجه، فقد تكون مقبلًا والمنفعة من ورائك أو مدبرًا والمنفعة أمامك، والقدر مع ذلك يرمي بك في الجهتين أيهما شاء.

وحريٌّ بمن يوقن أنه لم يولد بذاته أن لا يشك في أنه لم يولد لذاته؛ وإنما هي الغاية المقدورة المتعينة فلا الخلق يتركونك لنفسك ولا الخالق تارك نفسك لك.

•••

كذلك كان صديقي وما هو إلا إنسان من الناس، وقد بلغ من العمر أربعة عقود، ولكنه يحس منذ الصغر أنه رجل هرم أو كما يقول بعض الفلاسفة٧ في تعليل ذكاء الأذكياء أنهم يتذكرون ما يرونه ولا يتعلمونه؛ لأن فيهم نفوسًا خرجت من الدنيا كاملة ثم رجعت لتزداد كمالًا وتلك خرافة؛ ولكن من نقص هذا الإنسان أنه لا يستطيع التعبير عن أكبر الحقائق وأدقها إلا بأسلوب خرافي …

قال لي هذا الصديق يومًا: إني بلغت أربعة عقود، ولكنها فيما عانيت كأنما تضاعفت إلى أربعين عقدًا؛ وقد انتهيت من دهري إلى السن التي ينقلب فيها الآدمي من وفرة القوة ليثًا، ويرجع من قوة الحكمة نبيًّا، ويعود من تمام العقل إنسانًا، غير أن هذه الأربعين بما تعاورت عليَّ قد هدم فيَّ بعضها بعضًا؛ فإن أكن بناء فذلك صرحٌ مُمَرَّد عمل فيه أربعون معولًا فما أبقت حجرًا على حجر؛ وإن أكن حومة فقد اعترك فيها للأقدار أربعون جيشًا فما تُؤرخ بنصر ولا هزيمة، يا ويلتا من هذه الدنيا، إن مصيبة كل رجل فيها حين يصير رجلًا أنه كان فيها طفلًا وما علم أنه كان طفلًا.

تلك حياة الصديق وكانت ليلًا طويلًا انبسط عليه فَنَنٌ من الظلام كأنه مورق بالسحب والغمائم السوداء لا ينقشع بعضها عن بعض حتى كأن صباحه مات فيها أربعين سنة، ثم انبعث آخرًا من وجه فتاة أحبها فأشرق له من غرتها واستضاء عليه في وجهها، وطلعت شمس حبه من خديها حمراء في لون الورد؛ إذ امتزجت أشعتها بظلماته.

ويؤخذ من رسائله أن صاحبته كانت من قوة الجاذبية كأنها كوكب جذب منه كوكبًا آخر، ومن فتنة الحسن كأنها رسالة إلهية إلى هذه الأرض، بل إليه وحده في هذه الأرض، أدارته هذه الحياة طويلًا وأدارتها ليجيء موضعه إلى جانبها، فكأنما أدارت منه فلكًا عاتيًا لا يتزحزح إلا بعد دفعه أربعين سنة كاملة …

رجل وامرأة كأنما كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية وخرجتا من يد الله معًا، هي بروعتها ودلالها وسحرها وهو بأحزانه وقوته وفلسفته، فكان منهما شيء إلى شيء، كما تُوضع زجاجة الحبر الأسود إلى جانب يتيمة من الألماس أُجيد نحتها وصقلها وتكسر على جوانبها شعاع الشمس؛ فإذا هي من كل جهة ثغر يتلألأ، وإذا بالزجاجة ولو على المجاز «ألماس أسود».

كانا في الحب جزأين من تاريخ واحد نَشر منه ما نشر وطوى ما طواه، على أنها كانت له فيما أرى كمَلك الوحي للأنبياء، ورأى في وجهها من النور والصفاء ما جعلها بين عينيه وبين فلك المعاني السامية كمرآة المرصد السماوي؛ فكل ما في رسائله من البيان والإشراق هو نفسها، وكل ما فيها من ظلمات الحزن هو نفسه.

•••

هدمت الأقدار هذا الصديق حتى انحط كل ما فيه من العزم والقوة فجاءت «هي» تبنيه وتشد منه وترمم بعض نواحيه المتداعية، وتقيمه بسحرها بناءً جديدًا وتحفتْ به عنايتها زمنًا حتى صلح على ذلك شيئًا فأيسرت روحه من فقرها إلى الجمال والحب، ويقول صديقي: «إنه ليس على الأرض من يشعر كيف ولدته أمه، ولكني رأيت بنفسي كيف ولدت تلك الحبيبة نفسي؛ مرت بيديها على أركاني المتهدمة وأعانتها الأقدار على إقامتي وبنائي، غير أن هذه الأقدار لم تدعها تبنيني إلا لتعود هي نفسها بعد ذلك فتهدمني مرة أخرى».

يصف حبيبته في هذه الرسائل كأنه مسحور بها فيجيء بكلام عُلْوي مشرق كتسبيح الملائكة يمازجه أحيانًا شيء يحار فيه الفهم؛ لأن أحدنا إنما يرسل فكره وراء قلمه، أما هو فيرسل نفسه وراء فكره ويستمد قلمه منهما، فمنزلته أن يكتب ثلاث كلمات ومنزلتنا أن نفهم كلمتين، والإنسان منَّا كاتب مفكر؛ أما هو فقد زاد بصاحبته فكان كاتبًا مفكرًا وملهَمًا.

ومما لا أكاد أفهمه أنه يكتب كتابة محب أحياه الحب ومبغض قتله البغض؛ فإني لأعلم أن كل شيء حبيب ممن نحبه حتى البغض إذا كان يدل على حبه ولو دلالة خفية، بيد أن صاحبي يجفو جفاء شديدًا فلعلها أنفة غلبت بها النفس على القلب فحولت الحب إلى جفاء والجفاء إلى غيظ والغيظ إلى مقت، وإنما المقت أول البغض وآخره.

•••

يا صديقي المسكين لا يَحْزُنك فإن آخر الحب آخرٌ لأشياء كثيرة … وإن من بين النساء نساء أولهن كالشباب وآخرهن من أشياء كالهرم والضجر والضعف والموت.

ويا جمال النساء إن كان في الأشياء ما هو أحسن وأجمل فإن في الأشياء ما هو أنفع وأجدى، وقد تكون الجدوى والمنفعة من الجمال في بغضه أحيانًا أكثر مما تكون في حبه.

ويا رحمة الله من فوق سبع سماواته لقد علمتِنا بما نجده فيسرنا، وما ننساه فلا يضرنا، أن لا نيأس منكِ أبدًا ولو كنا من الهم تحت سبع أراضيه.

١  إذا امتلأ الشيء إلى آخره قيل كاد يطلع من نواحيه.
٢  مُصَيْف تصغير «مصطفى» على قاعدة الترخيم، وكان الصديق يتحبب إليَّ به.
٣  كناية عن الموت.
٤  أي: أبطأ وأسهل عاد سهلًا.
٥  تعدو لخفتها عدوًا شديدًا.
٦  كناية عن الناس.
٧  ينسب هذا الرأي لأفلاطون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤