الشيطان

كان الخوري سمعان عالمًا بدقائق الأمور الروحية، متبسطًا بالمسائل اللاهوتية، متعمقًا بأسرار الخطايا العرضية والمميتة، متضلعًا بخفايا الجحيم والمطهر١ والفردوس.

وكان يتنقل بين قرى شمال لبنان، ليعظ الناس ويشفي أرواحهم من أمراض الإثم، وينقذهم من حبائل الشيطان، فالشيطان كان عدو الخوري سمعان، يحاربه ليلًا ونهارًا بلا ملل ولا تعب.

وكان سكان القرى يكرمون الخوري سمعان، ويرتاحون إلى ابتياع عظاته وصلواته بالفضة والذهب، ويتسابقون إلى إهدائه أطيب ما تثمره أشجارهم، وأفضل ما تنبته حقولهم.

ففي عشية يوم من أيام الخريف، وقد كان الخوري سمعان في مكان خال نحو قرية منفردة، بين تلك الجبال والأدوية، سمع أنينًا موجعًا آتيًا من جانب الطريق؛ فالتفت، فإذا برجل عاري الجسم منطرح على الحصباء، ونجيع الدم يتدفق من جراح بليغة في رأسه وصدره، وهو يقول مستنجدًا: «أنقذني، أعني، أشفق عليَّ، فأنا مائت!»

فوقف الخوري سمعان محتارًا، ونظر إلى الرجل المتوجع ثم قال في ذاته:٢ هذا أحد اللصوص الأشقياء، وأظن أنه قد حاول سلب عابري الطريق، فغُلب على أمره … فهو منازع، فإذا مات وأنا بقربه اتهمت بما أنا براء منه!

قال هذا وهمَّ ليتابع السير، فأوقفه الجريح بقوله: «لا تتركني، لا تتركني، أنت تعرفني وأنا أعرفك، أنا مائت لا محالة!»

فقال الخوري في ذاته، وقد اصفر وجهه، وارتعشت شفتاه: «أظنه أحد المجانين الذين يتوهون٣ في البرية.» ثم عاد وقال لنفسه: «إن منظر جراحه يخيفني، فماذا عسى أن أفعل له؟ … إن طبيب النفوس لا يستطيع أن يداوي الأجساد.»

ومشى الخوري بضع خطوات، فصاح الجريح بصوت يذيب الجماد قائلًا: «اقترب مني، اقترب، فنحن أصدقاء منذ زمن بعيد، أنت الخوري سمعان الراعي الصالح، وأنا — أنا — لست بلص ولا بمجنون، اقترب فأقول لك من أنا.»

فاقترب الخوري سمعان من المنازع، وانحنى فوقه متفرسًا،٤ فرأى وجهًا غريب الخطوط، يأتلف بين تقاطيعه الذكاء بالدهاء، والقباحة بالجمال، والخباثة بالدماثة،٥ فتراجع إلى الوراء، وصرخ قائلًا: من أنت؟

فقال المنازع بصوت خافت: «لا تخف يا أبت، فنحن أصدقاء منذ عهد بعيد، أعني على النهوض وسر بي إلى الساقية القريبة، واغسل جراحي بمنديلك.»

فصرخ الخوري: «قل لي من أنت، فأنا لا أعرفك، ولا أذكر أنني رأيتك في حياتي.»

فأجاب الجريح، وحشرجة الموت تعانق صوته: «أنت تعلم من أنا، فقد لقيتني ألف مرة، وشاهدت وجهي في كل مكان، أنا أقرب المخلوقات إليك، بل أنا أعز عليك من حياتك.»

فصاح الخوري قائلًا: «أنت كاذب محتال، وخليق بالمنازعين الصدق، فأنا لم أر وجهك في حياتي، قل من أنت وإلا تركتك تموت مضرجًا بدمائك.»

فتحرك الجريح قليلًا وشَخَصَ٦ بعيني الخوري، وقد ظهرت على شفتيه ابتسامه معنوية، وبصوت هادئ ناعم عميق قال: أنا الشيطان.

فصرخ الكاهن صوتًا هائلًا، ارتعشت له زوايا ذاك الوادي، ثم نظر إليه محدقًا، فرأى أن جسد الجريح ينطبق بتفاصيله ومعالمه على هيئة الأبالسة في صورة الدينونة المعلقة على جدار كنيسة القرية ثم صرخ مرتجفًا: «لقد أراني الله صورتك الجهنمية، ليزيد بك كرهي، فلتكن ملعونًا إلى أبد الآبدين!»

قال الشيطان: لا تكن متسرعًا يا أبتاه، ولا تضيع الوقت بالكلام الفارغ، بل اقترب وضمد جراحي قبل أن يسيل ما في جسدي من الحياة.

فقال الخوري: «إن أصابعي التي ترفع الذبيحة الربانية في كل يوم، لن تلمس جسدك المصنوع من مفرزات الجحيم فمت ملعونًا من ألسنة الدهور وشفاه الإنسانية؛ لأنك عدو الدهور والعامل على إبادة الإنسانية!»

فقال الشيطان متململًا:٧ «أنت لا تدري ما تقول، ولا تعلم أي ذنب تقترفه نحو نفسك، اسمعْ فأخبرك حكايتي؛ كنت اليوم سائرًا وحدي في هذه الأودية المنفردة ولما بلغت هذا المكان، التقيت بجماعة من أجلاف٨ الملائكة، فهجموا عليَّ وضربوني ضربًا مُبَرِّحًا، ولو لم يكن مع أحدهم سيف ذو حدين، لفتكت بهم جميعًا، ولكن ماذا يفعل الأعزل مع المسلح؟»

وقف الشيطان عن الكلام هنيهة، واضعًا يده على جرح بليغ في جانبه، ثم زاد قائلًا: «أما الملاك المسلح وأظنه ميخائيل، فداهية يحسن ضرب السيف، ولو لم أنطرح على الأرض وأمثل دور النزع والموت، لما أبقى مني عضوًا بجوار عضو آخر.»

فقال الخوري بصوت تعانقه رنة النصر والتغلب: «ليكن اسم ميخائيل مباركًا فقد أنقذ الإنسانية من عدوها الخبيث!»

فقال الشيطان: «ليست عداوتي للإنسانية أشد سوادًا من عداوتك لنفسك، فأنت تبارك ميخائيل وهو لم يفدك بشيء، وتُجَدِّف٩ على اسمي في ساعة انكساري، مع أنني كنت ولم أزل سببًا لراحتك وسعادتك، أتجحد نعمتي وتنكر معروفي، وأنت عائش في ظلال كياني؟ أَوَلم تتخذ وجودي صناعة لك، واسمي دستورًا لأعمالك! هل أغناك ماضي عن حاضري ومستقبلي؟ هل نمت ثروتك إلى حد لا تحتمل معه الزيادة؟ ألم تعلم أن زوجتك وبنيك وهم كثيرون، يفقدون رزقهم بفقدي، بل ويموتون جوعًا بموتي؟ ماذا تفعل لو حكم القضاء باضمحلالي، وأية صناعة تحسنها إذا أبادت الأرياح اسمي؟ منذ خمس وعشرين سنة وأنت تسير متجولًا بين قرى هذا الجبل لتحذر الناس من حبائلي، وتبعدهم عن مصائبي، وهم يبتاعون مواعظك بأموالهم وغلة حقولهم، فأي شيء يبتاعون منك غدًا إذا علموا أن عدوهم الشيطان قد مات؟ وأنهم أصبحوا في مأمن من حبائله ومعاقله؟ وأية وطنية يسندها القوم إذا ألغيت وظيفة محاربة الشيطان بموت الشيطان؟ ألا تعلم وأنت اللاهوتي المدقق: أن وجود الشيطان قد أوجد أعداءه الكهان، وأن تلك العداوة القديمة هي اليد الخفية التي تنقل الفضة والذهب من جيوب المؤمنين إلى جيوب الوعاظ والمرشدين؟ ألا تعلم — وأنت العالم الخبير — أنه بزوال السبب يزول المسبب؟ إذن كيف ترضى بموتي، وبموتي تفقد منزلتك، وينقطع رزقك، ويكف الخبز عن أفواه زوجتك وبنيك؟»

وسكت الشيطان دقيقة، وقد تبدلت في وجهه دلائل الاستعطاف بأمارات الاستقلال، ثم عاد فقال: «ألا فاسمع أيها الغبي المكابر، فأريك الحقيقة التي تضم كياني بكيانك، وتربط وجودي بوجودك، في أول ساعة من الزمن، وقف الإنسان أمام الشمس وبسط ذراعيه، وصرخ للمرة الأولى قائلًا: «ما وراء الأفلاك، إله عظيم يحب الخير!» ثم أدار ظهره للنور، فرأى ظله منبسطًا على أديم التراب، فهتف قائلًا: «وفي أعماق الأرض شيطان رجيم يحب الشر!» ثم سار نحو كهفه هامسًا في نفسه: «أنا بين إلهين هائلين: إله أنتمي إليه، وإله أحاربه.» ومرت العصور إثر العصور، والإنسان بين قوتين مطلقتين: قوة تصعد بروحه إلى العلاء فيباركها، وقوة تهبط بجسده إلى الظلمة فيلعنها، غير أنه لم يكن يدري معاني البركة، ولا معاني اللعنة، بل كان بينهما كشجرة بين صيف يكسوها، وشتاء يعريها، ولما بلغ الإنسان فجر المدينة، وهي الألفة البشرية، ظهرت العائلة، ثم القبيلة، فتفرقت الأعمال بتفريق الميول وتباينت الصناعات بتباين المشارب والمنازع، فقام البعض من تلك القبيلة بحراثة الأرض، وآخرون ببناء المآوي، وغيرهم بنسج الملابس، وغيرهم بصهر المعادن، في ذلك العهد البعيد، ظهرت الكهانة في الأرض، وهي الحرفة الأولى التي ابتدعها الإنسان بدون حاجة حيوية، أو داعٍ طبيعي إليها.»

وقف الشيطان دقيقة عن الكلام، ثم قهقه ضاحكًا بصوت ارتعشت له تلك الأودية الخالية، وكان الضحك قد أوسع فوهات١٠ كلومه، فأسند خاصرته بيده متوجعًا، ثم شخص بالخوري سمعان وزاده قائلًا: «في ذلك العهد ظهرت الكهانة في الأرض، وإليك يا أخي كيفية ظهورها: كان في القبيلة الأولى رجل يدعى «لاويص» ولا أدري لماذا اتخذ له هذا الاسم الغريب، كان لاويص رجلًا ذكيًّا ولكنه كان بطالًا متوانيًا١١ يكره حراثة الأرض، وبناء المآوي، ويكره رعاية المواشي وصيد الوحوش، بل كان يكره كل عمل يستلزم السواعد والحركة الجسدية، ولما كان الرزق في ذلك العهد لا يأتي إلا بالعمل، كان لاويص يبيت أكثر لياليه خاوي الجوف فارغه، ففي ليلة من ليالي الصيف وأفراد تلك القبيلة ملتئمون١٢ حول كوخ زعيمهم، يتحدثون بمآتي يومهم ويترقبون النعاس، انتصب١٣ أحدهم فجأة وأشار نحو القمر، وصرخ بخوف قائلًا: «انظروا نحو إله الليل فقد شحب وجهه،١٤ واضمحل بهاؤه، وتحول إلى حجر أسود معلق بقبة السماء.» فشخص القوم بالقمر، ثم ضجوا صارخين، متهيِّبين، مرتعشين، خائفين، كأن أيدي الظلام قد قبضت على قلوبهم؛ لأنهم رأوا إله لياليهم يتحول ببطء إلى كرة قاتمة، وقد تغير لذلك وجه الأرض، وانحجبت البطاح والأودية وراء نقاب أسود، فتقدم إذ ذاك لاويص وكان قد شهد الخسوف والكسوف مرات عديدة في سابق حياته، فوقف في وسط الجماعة رافعًا ذراعيه إلى العلاء، وبصوت أودعه كل ما في ذكائه من التصنع والاحتيال، صاح قائلًا: «اسجدوا، اسجدوا وصلوا مبتهلين، وعفِّروا١٥ وجوهكم في التراب، فإله الشر المظلم يصارع إله الليل المنير، فإذا غلبه مِتنا، وإذا غلب بقينا عائشين، اسجدوا وصلوا وعفِّروا وجوهكم في التراب، بل أغمضوا أجفانكم، ولا ترفعوا رءوسكم نحو السماء؛ لأن من يشاهد صراع إله النور وإله الشر، يفقد بصره ورشده، ويظل مجنونًا وأعمى إلى نهاية أيامه، خروا١٦ راكعين، وساعدوا بقلوبكم إله النور على عدوه.»

وظل لاويص يتكلم بهذه اللهجة مبتدعًا من خياله ألفاظًا جديدة غريبة، مرددًا كلمات ما سمعوها قبل تلك الليلة، حتى إذا ما مر نصف ساعة، وقد عاد القمر إلى سابق كماله وجلاله، رفع لاويص صوته عن ذي قبل، وقال بلهجة تعانقها رنة الغبطة والسرور: «قفوا الآن وانظروا، فقد تغلب إله الليل على عدوه الشرير، وتابع سيره بين الكواكب والنجوم، واعلموا أنكم بركوعكم وابتهالكم قد نصرتموه وسررتموه، ولذلك ترونه الآن أبهى نورًا وأشد لمعانًا.»

فوقف القوم وشخصوا بالقمر، فإذا به قد عاد ساطعًا منيرًا، فتحول خوفهم إلى طمأنينة واضطرابهم إلى مسرة، وأخذوا يقفزون راقصين، ويصرخون مهللين، ويضربون بنبابيتهم١٧ صفائح الحديد والنحاس، مفعمين خلايا ذلك الوادي بعويلهم وضجيج لهجتهم.

في تلك الليلة استدعى زعيم القبيلة لاويص وقال له: «لقد أتيت في هذه الليلة بما لم يأته بشري قبلك، وعلمت من أسرار الحياة ما لا يعلمه بيننا سواك، فافرح وابتهج؛ لأنك ستكون من الآن وصاعدًا صاحب المقام الأول من بعدي في هذه القبيلة، فأنا أشد الرجال بطشًا وأقواهم ساعدًا، وأنت أكثر الرجال معرفة وأكثرهم حكمة، بل أنت الوسيط بيني وبين الآلهة تبلغني مشيئتهم، وتبين لي أعمالهم وأسرارهم، وتعلمني ما أحب أن أفعله لأكون خالصًا حاصلًا على رضائهم ومحبتهم.»

فأجاب لاويص: «كل ما يقوله لي الآلهة في الحلم، أقوله لك في اليقظة، وما أراه من مآتيهم، أظهره لك فأنا الوسيط بينك وبين الآلهة.»

فسر الزعيم، ووهب لاويص فرسين، وسبعة عجول، وسبعين كبشًا، وسبعين شاة، وقال له: «سوف يبني لك رجال القبيلة بيتًا يماثل بيتي، وسيهدونك في نهاية كل موسم قسمًا من غلة الأرض وأثمارها، فتعيش سيدًا مطاعًا مكرمًا.»

وانتصب إذ ذاك لاويص للانصراف، فأوقفه الزعيم وسأله قائلًا: «ولكن من هو هذا الإله الذي تدعوه بإله الشر؟ ومن هو هذا الإله الذي يجسر أن يصارع إله الليل البهي؟ إننا لم نسمع به قط، ولا علمنا بوجوده!»

ففرك لاويص جبهته وأجاب قائلًا: «اعلم يا سيدي أنه في قديم الزمان — وذلك قبل ظهور الإنسان — كان جميع الآلهة يعيشون بسلام ومودة في مكان قصي وراء المجرة، وكان إله الآلهة — وهو والدهم — يعلم ما لا يعلمونه، ويفعل ما لا يستطيع أحدهم أن يفعله، يحفظ لنفسه بعض الأسرار الربانية الكائنة وراء النواميس الأزلية، ففي العصر السابع من الدهر الثاني عشر، تمردت روح «بعطار» وهو يكره الإله الأعظم، فوقف أمام أبيه، وقال: «لماذا تحتفظ لنفسك بالسلطة المطلقة على جميع المخلوقات حاجبًا عنا أسرار الأكوان والنواميس والدهور، أولسنا أبناءك وبناتك، ومشاركين لك بقوتك وخلودك؟»

فغضب إله الآلهة وأجاب: «سوف أحفظ لنفسي القوة الأولية، والسلطة المطلقة، والأسرار الأساسية إلى أبد الدهر، فأنا البدء وأنا النهاية.» فقال بعطار: «إن لم تقاسمني قوتك وجبروتك، تمردت أنا وأبنائي وأحفادي على قوتك وجبروتك.» فانتصب إذ ذاك إله الآلهة فوق عرشه، وقد امتشق المجرة١٨ سيفًا وقبض على الشمس ترسًا، وبصوت ارتعشت له جوانب العالم صرخ قائلًا: «ألا فاهبط أيها المتمرد الشرير إلى العالم الأدنى، حيث الظلمة والشقاء، وابق هناك منفيًّا شريدًا تائهًا حتى تنقلب الشمس رمادًا وتتحول الكواكب إلى هباء منثور.» في تلك الساعة هبط بعطار من مقر الآلهة إلى العالم الأدنى، حيث تقيم الأرواح الخبيثة، وقد أقسم بسر خلوده أنه سيصرف الدهور محاربًا والده وإخوانه واضعًا الأشراك١٩ لكل محب لوالده أو مريد لإخوانه.» فقال الزعيم وقد تقلصت جبهته، واصفر وجهه: «إذن فاسم إله الشر بعطار؟»

فأجاب لاويص: «كان اسمه بعطار إذ كان في مقر الآلهة، ولكنه قد اتخذ له بعد هبوطه إلى العالم الأدنى أسماء أخرى منها: بعلزبول وإبليس وسطنائيل وبليال وزميال وأهريمان وماره وابدون والشيطان، وأشهرها الشيطان.»

فردد الزعيم لفظة الشيطان مرات بصوت مرتعش يشابه حفيف الأغصان اليابسة لمرور الهواء، ثم قال: «ولماذا يا ترى يكره الشيطان البشر بكرهه الآلهة؟»

فأجاب لاويص: «إن الشيطان يكره البشر ويعمل على إبادتهم؛ لأنهم من نسل إخوانه وأخواته.»

فقال الزعيم محتارًا: «إذن فالشيطان هو عم البشر وخالهم؟»

فأجاب لاويص وقال بلهجة لا تخلو من التشويش والالتباس:٢٠ «نعم يا سيدي، ولكنه عدوهم الأكبر ومناظرهم الحقود، يملأ أيامهم بالتعاسة، ولياليهم بالأحلام المخيفة، فهو القوة التي تحول العاصفة نحو أكواخهم، وتحرق بالغيظ مزارعهم، وتقرض بالأوبئة مواشيهم، وتلامس بالأمراض أجسادهم، هو إله قوي شرير خبيث، يضحك لشقائنا، ويكتئب لأفراحنا، فعلينا أن نتفحص أطباعه لنتقي شره، وندرس أخلاقه لنبتعد عن سبل احتياله.»

فأسند الزعيم رأسه على نبوته، وهمس قائلًا: «قد عرفت الآن ما كان خافيًا عني من أسرار تلك القوة الغريبة، التي تحول العاصفة نحو منازلنا، وتقرض بالأوبئة مواشينا، وسوف يعرف البشر كافة ما أعرفه الآن فيطوبونك يا لاويص؛ لأنك أبنت لهم خفايا عدوهم القوي، وعلمتهم كيف يتقون حبائله.»

وانصرف لاويص من أمام زعيم القبيلة، وذهب إلى مرقده فرحًا بذكاء فكرته، نشوانًا بخمرة خياله، أما الزعيم ورجاله فقد صرفوا تلك الليلة يتقلبون على مراقد محاطة بالأشباح المخيفة، والأحلام المزعجة.»

وقف الشيطان الجريح دقيقة عن الكلام، والخوري سمعان يحدق فيه، وفي عينيه جمود الحيرة والاستغراب، وعلى شفتيه ابتسامة الموت.

ثم استأنف الشيطان الكلام قائلًا: «كذا ظهرت الكهانة في الأرض، وهكذا كان وجودي سببًا لظهورها، وقد كان لاويص أول من اتخذ عداوتي صناعة، وقد راجت هذه الصناعة بعد موت لاويص بواسطة أبنائه وأحفاده، فنمت وتدرجت حتى صارت فنًّا دقيقًا مقدسًا لا يتخذه غير أصحاب العقول المختمرة، والنفوس الشريفة، والقلوب الطاهرة، والخيال الواسع.

ففي «بابل» كان الناس يسجدون سبع مرات أمام الكاهن الذي يحاربني بتعاليمه، وفي «نِينَوَى» كانوا ينظرون إلى الرجل الذي يدعي معرفة أسراري وخفاياي كحلقة ذهبية بين الآلهة والبشر، وفي «ثيب» كانوا يلقبون من يصارعني بابن الشمس والقمر، وفي «بابلس» و«افسس» و«أنطاكية» كانوا يضحون أبناءهم وبناتهم إرضاء لخصمي، وفي «أورشليم» و«رومة» كانوا يضعون أرواحهم في قبضة من يتفنن في كرهي وإبعادي. في كل مدينة ظهرت أمام وجه الشمس كان اسمي محورًا لدوائر الدين والعلم والفن والفلسفة، فالهياكل لم تقم إلا في ظلالي، والمعاهد والمدارس لم تظهر بغير مظاهري، والقصور والبروج لم ترتفع إلا برفعة منزلتي، فأنا العزم الذي يُولد العزم في البشر، وأنا الفكرة التي تستنبت الحيلة في الأفكار، وأنا اليد التي حركت أيادي الناس، أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا الشيطان الذي يحاربه الناس ليظلوا عائشين، وإذا كفوا عن منازلتي يوقف الخمول أفكارهم، ويميت الكسل أرواحهم، وتفني الراحة أجسادهم! أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا عاصفة هوجاء خرساء، أهب في أدمغة الرجال، وصدور النساء، وأجرف أميالهم إلى الأديرة والصوامع، ليمجدوني بخوفهم مني، أو إلى منازل البغي والخلاعة، ليفرحوني باستسلامهم إلى مشيئتي، فالراهب الذي يصلي في سكينة الليل، لكي أبتعد عن مضجعه، هو كالمومسة التي تناديني لكي أقترب من مضجعها، أنا الشيطان الأبدي! … أنا باني الأديرة والصوامع على أسس الخوف، وأنا مقيم الخمارات وبيوت الفحش على أسس الشهوة واللذة! فإن زال كياني، زال الخوف واللذة من العالم، وبزوالهما تضمحل الميول والأماني في القلب البشري فتصبح الحياة خالية مقفرة باردة كقيثارة مقطعة الأوتار مكسرة الجوانب، أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا موحي الكذب والنميمة والاغتياب والغش والسخرية، فإذا انقرضت هذه العناصر في العالم أصبحت الجامعة البشرية كبستان مهجور لا تنبت فيه سوى أشواك الفضيلة، أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا أبو الخطيئة وأمها، فإذا زالت الخطيئة زال محاربوها، وزلت أنت أيضًا، وزال أبناؤك وأحفادك وزملاؤك ورصفاؤك،٢١ أنا أبو الخطيئة وأمها، فهل تريد أن تموت الخطيئة بموتي؟ هل تريد أن تقف الحركة البشرية بوقوف نبضات قلبي؟ هل تريد أن تمحو السبب لتمحى المسببات؟ أنا هو السبب الوضعي، فهل تريد أن أموت في هذه البرية؟ أجبني أيها اللاهوتي؟ هل تريد أن تنتهي العلاقة الأولية الكائنة بينك وبيني؟»

وبسط الشيطان ذراعيه، وألوى عنقه إلى الأمام، وتنهد طويلًا فظهر بلونه الرمادي المائل إلى الاخضرار، كأحد تلك التماثيل المصرية التي أبقاها الدهر مطروحة على ضفاف النيل، ثم حدق بوجه الخوري سمعان بعينين مشعشعتين كالمسارج وقال: «لقد أنهكني الكلام، وكان الأحرى بي، وأنا جريح منازع، ألَّا أطيل معك الحديث، ومن العجيب أني قد استرسلت بإظهار حقيقة أنت أدرى بها مني؛ وبيان أمور هي أدنى إلى صالحك منها إلى صالحي. أما الآن، فلك أن تفعل ما تشاء، لك أن تحملني على ظهرك وتذهب بي إلى منزلك لتداوي جراحي، أو أن تتركني في هذا المكان؛ لأنازع وأموت.»

وكان الشيطان يتكلم، والخوري سمعان يرتعش، ويفرك يدًا بيد، وبصوت تعانقه الحيرة والارتباك، قال: «أنا أعرف الآن، ما لم أكن أعرفه منذ ساعة، فسامح غباوتي، أنا أعلم بأنك موجود في العالم لكي تُجَرِّب، والتجربة هي مقياس يعرف الله بواسطته قدر النفوس البشرية، بل هي ميزان يستخدمه الله عز وجل ليدرك ثقل الأرواح أو خفتها، أنا أعلم الآن بأنك إذا مت تموت التجربة، وبموتها تزول تلك القوى المعنوية التي تجعل الإنسان أن يكون متحذرًا، بل يزول السبب الذي يقود الناس إلى الصلاة والصوم والعبادة، يجب أن تحيا؛ لأنك إن قضيت٢٢ وعرف الناس، يزول خوفهم من الجحيم، فيبطلون العبادة، ثم يتمرغون٢٣ بالإثم، ومن أجل ذلك يجب أن تحيا؛ لأن بحياتك خلاص الجنس البشري من الرذيلة، أما أنا، فسوف أضَحِّي كرهي لك على مذبح محبتي للجنس البشري.»

فضحك الشيطان ضحكة تشابه انفجار بركان؛ ثم قال: «ما أدهاك وما أبرعك يا حضرة الأب، بل وما أعمق معارفك بالأمور اللاهوتية، فها قد أوجدت بقوة إدراكك سببًا لوجودي لم أكن أعرفه من قبل، والآن وقد فهم كل منا الأسباب الوضعية واللاهوتية التي أوجدتنا في البدء وتوجدنا الآن، يجب أن نترك هذا المكان، اقترب يا أخي، تعال واحملني إلى بيتك، فأنا لست بثقيل الجسم، ها قد غمر الليل البطاح بعد أن أهرقت نصف دمي على حصباء هذا الوادي.»

فاقترب الخوري سمعان من الشيطان، وقد شمر عن ساعديه، وشكل أطراف عباءته بحزامه، ورفع الشيطان فوق ظهره، ومشى نحو الطريق.

بين تلك الأودية المغمورة بالسكون، الموشاة بنقاب الليل، سار الخوري سمعان نحو قريته، منحني الظهر تحت هيكل عار، وقد تلطخت ملابسه السوداء ولحيته المسترسلة بقطرات الدم السائلة من كلومه.

١  المطهر: مكان تطهر أنفس الأبرار فيه بعد الموت بعذاب له أجل محدود.
٢  ذاته: نفسه.
٣  يتوهون: أي يهيمون ضائعين.
٤  تفرس فيه: نظر إليه وثبت نظره فيه.
٥  الدماثة: سهولة الخلق.
٦  شخص ببصره: رفعه.
٧  تململ: تقلب على فراشه مرضًا أو غمًّا.
٨  أجلاف — جمع جلف: وهو الغليظ الجافي، الأحمق.
٩  جدف على اسمه: تكلم عليه بالإهانة والتحقير.
١٠  فوهات كلومه — جمع فوهة: وهي فمها.
١١  المتواني: الكسول.
١٢  ملتئمون: أي مجتمعون.
١٣  انتصب: وقف.
١٤  شحب وجهه: تغير لونه.
١٥  عفر وجهه في التراب: مرغه ودسه فيه.
١٦  خر ساجدًا: انكب على الأرض وسجد.
١٧  النبابيت — جمع نبوت: يُطلَق على العصا.
١٨  المجرة: منطقة في السماء قوامها نجوم كثيرة، لا يميزها البصر، فيراها كبقعة بيضاء.
١٩  الأشراك: في الأصل حبائل الصيد، وهنا بمعنى الصعوبات والعراقيل.
٢٠  الالتباس: الشبهة والإشكال.
٢١  الرصفاء — جمع رصيف: وهو النظير، والإلف.
٢٢  قضيت: مت.
٢٣  تمرغ في الإثم: تقلب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤