الفصل السادس عشر

كيف تأكل دون مَعِدَة؟

أدهشَتِ الديدان الأنبوبية الخبراءَ والقرَّاء غير المتخصِّصين على حدٍّ سواء، باعتبار أنها تعويذة الحياة في ظلِّ الظروف القاسية. فنظرًا لأنه من الصعب للغاية استيلادها وهي في الأَسْر، كانت الأبحاث التي تتناول أنماطَ حياتها الغريبة تشهد تقدُّمًا بطيئًا للغاية خلال العقود التي تلَتِ اكتشافَها، وإلى الآن لا تزال تظهر اكتشافات مدهشة بشأنها.

تبدو الديدان الأنبوبية «ريفيا باكبتيلَّا» مثل فُرْشَات دهان عملاقة مغطَّاة باللون الأحمر، ومن ثمَّ فهي أروع الكائنات الموجودة حول الينابيع الساخنة لأعماق البحار والفوهات الحرارية المائية. ولأنها تفتقر إلى جهازٍ هضميٍّ، فإنها تعتمد على البكتيريا المخلَّقة كيميائيًّا التي تعيش داخل «كيس التغذية» الخاص بها لتزودها بالمواد المُغذية العضوية، وفي المقابل تنقل الديدان كلًّا من الأكسجين والكبريتيد من خياشيمها الحمراء إلى كيس التغذية. والمثير للدهشة أنها تنقل كلا الجزيئين على نفس الناقل، وهو عبارة عن صورة خارج الخلية من الهيموجلوبين، وتنجح في منعهما من التفاعل أحدهما مع الآخَر. ولقد تحدَّتِ الآنَ أولُ بنيةٍ بلورية على الإطلاق لجزيء الهيموجلوبين وجهةَ النظر التقليدية المتعلِّقة بآلية حدوث هذا الانتقال.

fig9
شكل ١٦-١: مقطع عرضي للدودة الأنبوبية «ريفيا باكبتيلَّا» يبيِّن كيسَ التغذية الذي تعيش فيه البكتيريا التكافلية.
حلَّ جيسون فلوريس وفريقه من جامعة ولاية بنسلفانيا البنية البلورية لهيموجلوبين «سي ١» C1، وهو أحد نواقل الأكسجين الثلاثة المختلفة خارج الخلية في الديدان الأنبوبية. يحتوي هيموجلوبين «سي ١» على ٢٤ وحدة فرعية من البروتين، ويتميَّز كلٌّ منها بطيَّة الميوجلوبين التقليدية، وهي الترتيب المميز لثمانية حلزونات ألفا كشَفَ عنها جون كيندرو في أول بنية بروتينية تمَّ حلُّها على الإطلاق. يتم ترتيب الوحدات الفرعية في حلقتين لثلاثة رباعيات، كما في دودة الأرض الشائعة المسمَّاة «شحمة الأرض». لكن على عكس أي جلوبين معروف آخَر، كشفَتِ البنية البلورية لهيموجلوبين الديدان الأنبوبية عن وجود ١٢ أيونًا فلزيًّا غير مخضَّب، واحد في كل رباعي، بالإضافة إلى ستة يشترك فيها رباعيَّان، وأظهر مطياف الكتلة أن هذه الأيونات هي أيونات الزنك Zn+2. دفع هذا الاكتشاف بفلوريس وزملاءه إلى الشك في أن أيونات الزنك قد تكون مشتركة في الارتباط بالكبريتيد، خصوصًا أن بقايا السيستئين الحرة — التي كان يُعتقَد في السابق أنها تُربط بالكبريتيدات — مدفونةٌ بعمقٍ في الأجزاء الكارهة للماء في البنية.

كشفَتِ الدراساتُ التفصيلية حول عملية الارتباط أن أيونات الزنك تفسِّر بالفعل معظمَ الارتباط الكبريتيدي للبروتين، إنْ لم يكن كله. ويذكر فلوريس وآخَرون أنهم فشلوا في التوصُّل مرةً أخرى إلى نفس النتائج التي سبَقَ أن أوضحَتِ اشتراكَ بقايا السيستئين الحرة في ارتباط الكبريتيد. تبدو إعادةُ ترتيب روابط ثنائي الكبريتيد غيرَ محتمَلة؛ نظرًا لعدم ظهور معلوماتٍ عن تغييرات تكوينية رئيسية تتعلَّق بعملية الارتباط. وهكذا لم يُزَحِ الستارُ عن الحقيقة بأكملها بعدُ.

(٢٠٠٥)

أحدث التطورات

في عام ٢٠٠٧، نجح توماس شفيدر وفريقه من جامعة جرايفسفالد بألمانيا، بالتعاون مع زملاء لهم في كاليفورنيا، في الحصول على فكرةٍ حول ما يحدث في أعماق الدودة الأنبوبية، وتحديدًا داخلَ كيس التغذية، حيث تُنتِج بكتيريا غريبة المغذيات التي تحافظ على بقاء الدودة وحياتها.

حتى الآن، لم ينجح أحدٌ في استيلادِ البكتيريا الموجودة داخل كيس التغذية الخاص بالدودة الأنبوبية في بيئة استنباتٍ نقية، وربما لن ينجح أحد في ذلك على الإطلاق؛ لذا، يعتمد الباحثون على المادة التي يمكنهم الحصولُ عليها مباشَرةً من كيس التغذية. ولحسن الحظ، اتضح أن هذه المادة نقيةٌ للغاية، حيث يبدو أن جميع الجزيئات الحيوية التي تحتوي عليها مأخوذةٌ من نوع واحد؛ أَلَا وهو البكتيريا التي تغذِّي الدودة.

ولكي يفهم الباحثون آليةَ عمل الأيض في هذه البكتيريا وتكافُلها مع الدودة الأنبوبية، حلَّلوا مجموعةَ البروتينات الكاملة التي تُنتِجها البكتيريا، المعروفة باسم البروتيوم. وبالاستعانة بتقنيةٍ تقليديةٍ للتحليل الكيميائي الحيوي، وهي الترحيل الكهربائي للهلام الثنائي الأبعاد، قاموا بفرد البروتيوم على نمطٍ ثنائيِّ الأبعاد مميز للمواضع البروتينية. وبهذه الطريقة، تُستخدَم معاييرُ فصلٍ مختلفة في كل بُعْد (مثل: الكتلة والشحنة) بحيث ينتقل كلُّ بروتين إلى موضع محدَّد في النظام الإحداثي الديكارتي، كي يمكن رصدُه بواسطة المزيد من التقنيات التحليلية، بما في ذلك تقنية التسلسل النووي.

بهذه الطريقة، استطاع الباحثون بالفعل تحديدَ أكثر من ٢٢٠ بروتينًا في البكتيريا المستوطنة في كيس التغذية، ووجدوا بين هذه البروتينات العديدَ مما توقَّعوا وجوده، ولكنَّ البعضَ الآخَر كان مفاجئًا.

أحد الافتراضات المعقولة إلى حدٍّ ما حول متعايشي أعماق البحر، بالنظر إلى أنها تحلُّ محلَّ النباتات بتأديتها دورَ المنتِج الأساسي؛ أنها — مثل النباتات — تستخدِم دورةَ كالفِن لإنتاج الجزيئات الحيوية. سُمِّيَ هذا المسار الحلقي نسبةً إلى ميلفِن كالفِن (١٩١١–١٩٩٧) الذي استخدَمَ الواسمات المشِعَّة لتحديد مسارات عمليات الأيض للتمثيل الضوئي، وهذا المسار يمرِّر الطاقةَ والكربونَ الناتجَيْن من التفاعل الضوئي من أجل إنتاج الجزيئات الحيوية. قد يتوقَّع المرء أن تستخدِم البكتيريا المُخلَّقة كيميائيًّا نفسَ الدورة، على الرغم من وجود فارق وحيد يتمثَّل في أنها ستكتسِب الطاقةَ من التفاعلات الكيميائية (مثل أكسدة مركبات الكبريت المختزلة) بدلًا من التفاعلات الضوئية الكيميائية.

عثَرَ الباحثون بالفعل على جميع الإنزيمات اللازمة لدورة كالفِن. ومع هذا، عُثِر على إنزيم رئيسي واحد فقط بكميات ضئيلة. يحفِّز إنزيمُ روبيسكو (كربوكسيلاز ثنائي فوسفات الرايبولوز-١، ٥) الخطوةَ التي يدخل فيها ثاني أكسيد الكربون الدورةَ، عن طريق الارتباط بسكر ثنائي فوسفات الرايبولوز. وفي الأجزاء الخضراء من النباتات، يمكن أن يشكِّل إنزيم روبيسكو أكثرَ من نصف المحتوى البروتيني، وبالتالي فمن المحتمَل أن يكون أكثرَ البروتينات وفرةً على سطح الأرض. ولكن، على العكس من ذلك، قدَّر شفيدر وزملاؤه أن إنزيم روبيسكو يشكِّل ١٪ فقط من البروتين الذي وجدوه في أكياس التغذية؛ ولهذا السبب يعتقدون أن الخلايا التي يندر فيها وجود روبيسكو يبدو أنها لا تستخدم دورة كالفِن مثلما تفعل النباتات.

ما الطرق الأخرى المتاحة أمام البكتيريا لتكوين الجزيئات الحيوية؟ بتحليل الباحثين للهلام الثنائي الأبعاد الخاص بها، اكتشفوا وسائلَ لدورةٍ ثانية معروفة جدًّا لعمليات الأيض، وهي دورة كريبس (نسبةً إلى هانز كريبس، ١٩٠٠–١٩٨١، الذي استطاع أن يصف في بحثِه الفائزِ بجائزة نوبل هذه الدورةَ، وهو البحث الذي رفضَتْه مجلةُ «نيتشر»). في حالتنا نحن الكائنات الحية، توجد دورةُ كريبس في الميتوكندريا، وتعمل على هضم الجزيئات الحيوية واستغلال طاقتها؛ وبالتالي تصبح عديمةَ الفائدة بالنسبة إلى البكتيريا المخلَّقة كيميائيًّا.

مع هذا، فمن الممكن إحداث دورة كريبس بالعكس، واستخدامها لتكوين الجزيئات الحيوية بدلًا من تدميرها. بل اعتقد العلماء أن دورةَ كريبس المعكوسة ربما تكون أقلَّ استهلاكًا للطاقة مقارَنةً بدورة كالفِن، بحسب التركيزات الصحيحة من الإنزيمات والركائز. علاوة على ذلك، يفسِّر هذا الأمر النسبةَ غير المعتادة لنظائر الكربون الموجودة في البكتيريا المخلَّقة كيميائيًّا، التي تختلف عن النسبة المعروفة في النباتات.

لكن، لماذا تملك البكتيريا دورتين معقَّدتين لعمليات الأيض في حين أنه تكفيها دورةٌ واحدة؟ يشكُّ شفيدر وزملاؤه في أن هذه البكتيريا تستطيع الانتقالَ بين كلا النمطين لعملية الأيض على حسب البيئة المحيطة. ويبدو أن الأبحاثَ التجريبية الأولى تشير إلى أنه عندما يوجد الكثيرُ من الوقود الكبريتي في البيئة المحيطة، فإن البكتيريا تفضِّل دورةَ كالفِن الأقل استهلاكًا للطاقة، ولا تلجأ إلى دورة كريبس إلا عند الحاجة.

قراءات إضافية

  • J. F. Flores et al., Proc. Natl. Acad. Sci. USA, 2005, 102, 2713.
  • S. Markert et aI., Science, 2007, 315, 248.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤