الفصل الخامس عشر

الانبهار بالدياتومات

خلال السنوات التي قضيتُها كباحث في مرحلتَي الدراسات العليا وما بعد الدكتوراه، مرَّ بي العديد من الطلاب الجامعيين، ومعظمهم لم أرَه مجدَّدًا، ولكن كان هناك طالب ظلَّ يفاجئني بنشر مقالات بحثية شديدة الروعة. في عامي الأول للتحضير للدكتوراه في جامعة ريجنسبورج بألمانيا، انضمَّ نيلز كروجر إلى فريق جينيكا من أجل دورةٍ عمليةٍ قصيرة، ثم فاجَأَ الجميع باختياره معملًا مختلفًا من أجل الدبلومة ورسالة الدكتوراه التي يعمل عليهما، ولكنه حقَّقَ نجاحًا باهرًا؛ إذ تخصَّص عمليًّا في مجال التحليل الكيميائي الحيوي لأصداف الدياتومات. ومع أنني كنتُ مستعدًّا لعرض أبحاثه حتى لو كان الذي كتبها شخصًا غير مشهور بعدُ، فقد كنتُ سعيدًا بالكتابة عن هذه الأبحاث وأنا أعلم أن هذا العملَ الفذَّ توصَّل إليه شخصٌ كنتُ أعرفه قبل أن يحصل على شهادته العليا.

ابنِ صَدفة الدياتوم الخاصة بك

الدياتومات هي طحالب وحيدة الخلية تمثِّلها آلاف الأنواع في المحيطات وبحيرات المياه العذبة حول العالم، وهي تكوِّن الأصدافَ بأنماط جميلة ذات مسام تحت مجهرية؛ مما مثَّلَ تحدِّيًا رئيسيًّا في أبحاث التشبُّع البيولوجي بالمواد المعدنية. وبما أن هذه الأنماط محدَّدة وراثيًّا، فبالتأكيد ثمة جزيئات حيوية مشتركة في الأمر، ولكنها مختلفة كليةً عن البروتينات العادية التي استغرق الباحثون سنواتٍ عديدة لمجرد استخراجها من مادة الصَّدفة.

سبق أن قام نيلز كروجر وزملاؤه من جامعة ريجنسبورج بألمانيا بعزل العديد من الببتيدات المختلفة (تُسمَّى السيلافينات) ومركبات عديدة الأمين طويلة السلسلة من أصداف الدياتومات، وأثبتوا أنها تحفِّز ترسيبَ السليكا. وفي عام ٢٠٠٢، أعلن الفريق أن تعديلات ما بعد التخليق، بما في ذلك امتدادات عديد الأمين المتصلة ببقايا الليسين وأحماض السيرين المفسفرة؛ ضرورية لوظيفة السيلافينات داخل الجسم الحي. وعندما استخلص الباحثون لأول مرة السيلافينات من الدياتومات باستخدام فلوريد الهيدروجين، فُقِدت هذه التعديلات، والآن استعادوا النُّسَخ «الطبيعية» الكاملة من جميع السيلافينات الثلاثة التي عثروا عليها في «سيليندروثيكا فوسفورميس»، ووضعوا طريقةً للتنبُّؤ بكيفية دمج هذه الجزيئات بهدف الحصول على بنًى نانوية شبيهة بالدياتوم في أنبوب الاختبار.

fig24
شكل ١٥-١: صورة مجهرية إلكترونية لأصداف الدياتومات. الأنماط المعقَّدة الشبيهة بالأسواط ذات المسام النانوية الحجم تكون محدَّدة وراثيًّا. أما السؤال عن منشأ هذه الأنماط فسيظلُّ أحدَ أصعب الأسئلة التي يواجهها علمُ الأحياء الحديث.
اكتشف كروجر وزملاؤه أن السيلافين الطبيعي من النمط ٢ — الذي هو عبارة عن بروتين فسفوري مكوَّن من ٤٠ كيلو دالتون — ليس له في حدِّ ذاته إلا تأثير محدود على تكوين ترسبات السليكا. ولكن في وجود السيلافين الطبيعي من النمط «١ إيه» 1A (المكوَّن من ٦٫٥ كيلو دالتون) تصبح له وظيفة تنظيمية؛ إذ إنه يستطيع أن يحفِّز نشاطَ البروتين الآخَر أو يثبطه، بحسب التركيزات النسبية. ولا بد أن يحتوي الحدُّ الأدنى من مجموعة أدوات البناء، اللازمة لبناء بنى سليكا تتمتَّع بمسام ذات حجم مناسب (١٠٠–١٠٠٠ نانومتر) «في المعمل»؛ على مكوِّن كاتيوني واحد مثل عديد الأمين الطويل السلسلة أو السيلافين الطبيعي من النمط «١ إيه» بتعديلاته في عديد الأمين، بالإضافة إلى مكون أنيوني واحد مثل السيلافين الطبيعي العالي الفسفرة من النمط ٢. ويقترح الباحثون أن هذين المكونين الضروريين يكوِّنان شبكة ذاتية التجميع بناءً على التفاعلات الكهروستاتيكية. وفي جميع التكوينات التي تمَّتْ دراستها، يحفِّز الجزيء الكاتيوني تكوينَ السليكا، في حين ينظِّم الجزيء الأنيوني العمليةَ.

إذا أصبحَتْ هذه الطريقةُ صالحةً للتطبيق على نطاق كبير، فستتيح للباحثين تجربةَ عددٍ لا نهائي من الصور الجزيئية في هذا الشأن، وبالتالي تمهِّد الطريقَ أمام المواد المخلَّقة النانوية البنية اعتمادًا على مبادئ بنية الدياتوم.

(٢٠٠٣)

علماء تكنولوجيا النانو يستعينون بمهندسي الطحالب

تتسم الدياتومات بمهارة معمارية منقطعة النظير على المستوى النانوي؛ فالأصداف السليكونية لهذه الطحالب الوحيدة الخلية عبارة عن صناديق مسامية شديدة التناسق ذات أنماط شبيهة بالأسواط ومحدَّدة وراثيًّا بأبعاد نانوية. وسيكون التحكم على نحوٍ مماثِلٍ في العمليات النانوية البنية مفيدًا في العديد من مجالات تكنولوجيا النانو، إلا أن محاكاة بنية الدياتوم تُعَدُّ تحدِّيًا رئيسيًّا في هذا الشأن. فالآن، اكتشَفَ باحثون من الولايات المتحدة أن صَدفة الدياتوم الطبيعية يمكن استخدامها كأساس لِلْبِنى النانوية الصناعية، وهو سبيل أسهل بكثير من المحاكاة البيولوجية.

قام تشاد ميركين وزملاؤه من جامعة نورثويسترن في إيفانستون بولاية إلينوي بتجريد الدياتومات وصولًا إلى هيكلها اللاعضوي المجرَّد؛ وذلك عن طريق تغطيسها في حمام حمضي يُطلَق عليه «البيرانا». أتاحت هذه المعالجة استغلال الأصداف من قِبَل كاشف الحمض الأميني، كما استُخدِمت الوظائفُ الأمينية الحرَّة بدورها لدمج الحمض النووي القليل النيوكليوتيدات بأصداف الدياتوم. واستخدم الباحثون جدائل الحمض النووي التكميلي المرتبطة بجسيمات الذهب (١٣ نانومترًا) لجعل الطبقة الخارجية مرئيةً بسهولة تحت الميكروسكوب الإلكتروني، فأثبتوا أن سطح الصَّدفة الخاوية بأكمله يمكن توظيفه في المواد الصناعية وتغطيته بها. علاوة على ذلك، يمكن أن يضيف الباحثون ست طبقات ذهبٍ إضافية إلى الطبقة الأولى.

سار الإجراء على ما يرام في نوعي دياتوم مختلفَين، وهما: «سيندرا» و«نافيكولا»، وبالتالي قد يختار الباحثون ذات يومٍ أيًّا من آلاف السلالات المختلفة للدياتومات لأغراضهم الخاصة. على سبيل المثال، لتصميم نمط معيَّن نانوي الحجم بجسيمات الذهب (أو غيرها)، سيكون على المرء أن يجد فقط صَدفةَ دياتوم مقابلة والعمل بناءً عليها، أو بدلًا من ذلك يمكن للمرء «بسهولةٍ تعديلُ أسطح الدياتوم بالعديد من المجموعات الوظيفية المختلفة» حسبما يقترح ميركين. وعلى سبيل المثال، قد يُنتِج المرءُ مصفوفاتِ حمضٍ نووي متناهية الصِّغَر بأعداد هائلة من النُّسَخ.

(٢٠٠٤)

أحدث التطورات

لقد ظلَّ فهم بنية صَدفة الدياتوم ومحاكاتها أحدَ أكبر التحديات وأكثرها إثارةً على صعيد التداخُل بين علم الأحياء وتكنولوجيا النانو. ففي مارس ٢٠٠٧، أعلن فريق كروجر ثبات أحد البروتينات على صَدفة السليكا الخاصة بالدياتوم. وفي وقت لاحق من نفس العام، وصف فريق بورنر من معهد ماكس بلانك للمواد الغروانية والأسطح البينية في مدينة جولم بألمانيا خيطًا من الزجاج الحيوي مصمَّمًا من ببتيدات وسليكا الدياتوم.

قراءات إضافية

  • N. Kröger et al., Science, 2002, 298, 584.
  • N. Poulsen et al., Proc. Natl Acad. Sci. USA, 2003, 100, 12075.
  • N. L. Rosi et al., Angew. Chem. Int. Ed., 2004, 43, 5500.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤