الفصل الخامس

إسكات النشاز

استكمالًا لموضوع «الأدوات الرائعة»، فإن مُخمِد الجين الذي سأصفه فيما يلي هو الأداة الأروع في البيولوجيا الجزيئية الحديثة. لقد رصدتُ هذا الجزيء مبكرًا، بينما كانت الآلية لا تزال صعبة الفهم، وكان مصطلح تداخل الحمض النووي الريبي «آر إن إيه آي» غير معروف بعدُ، حتى بالنسبة إلى العلماء. ولكنه سرعان ما أصبح حديثَ الساعة، الأمر الذي تُوِّج بنيل جائزة نوبل عام ٢٠٠٦.

تخيَّلْ أنك في حفل موسيقي ضخم، وأن أوركسترا مكوَّنة من ٢٥ ألف عازف تعزف ما يُفترَض أنه موسيقي، إلا أن غالبية الألحان والإيقاعات متنافِرة لدرجةٍ تصيبك بالصداع، وتجد نفسك عاجزًا عن تمييز أيِّ ألحان أو إيقاعات أو أنغام، ولا تلمح وجود المايسترو، وتؤثِّر فيما يبدو عدة آلات موسيقية أو مجموعات منها بعضها على بعض، متبِعةً قواعد غامضة، ويغطي آلافٌ من عازفي آلات النفخ النحاسية على صوت الوتريات الهادئة، لولا أنهم هم أنفسهم غارِقون تحت عشرات من آلات الأرغن.

وبينما تسدُّ أذنيك يائسًا وتخطِّط للهرب، تجد المرأةَ الجالسة في المقعد المجاور لك مستمتعةً كثيرًا بوقتها، وتستمع للموسيقى في حالة انجذاب خلَّاب، وتُمسِك في يدها ما يشبه جهاز التحكم عن بُعْد الخاص بالتليفزيون أو مشغِّل الأقراص، وعندما تلاحظ نظرتك المذهولة، تعطيك جهازَ التحكم، وتبتسم لك على نحوٍ مشجِّع؛ فتضغط عشوائيًّا على أحد الأزرار، لتحدث المعجزة. فجأةً لا تسمع إلا فريقَ الوتريات في الأوركسترا الكبيرة، وهم يعزفون في تناغُم مثالي. ويتيح لك المزيدُ من الأزرار إضافةَ أو حذفَ آلاتٍ أو مجموعاتٍ موسيقية معيَّنة؛ مما يمكِّنك من تقدير دور كلٍّ منها على حدة أو في سياق وجودها مع غيرها؛ وبالتالي يتكوَّن لديك انطباعٌ تدريجي بأن الفوضى الظاهرية للمقطوعة ككلٍّ تتكوَّن من روابط ذات مغزًى بين آلات العزف المشاركة.

بالنسبة إلى الباحثين الذين يحاولون دراسةَ نشاز الخمسة والعشرين ألف جين أو أكثر الموجودة في الجينوم البشري، فإن مثل هذا الجهاز السحري للتحكُّم عن بُعْد سيكون الأداة المبتغاة؛ فعن طريق تنشيط الجينات أو تثبيطها سيتمكَّنون من تحديد كيفية تناغمها بعضها مع بعض.

قد لا تظل هذه الأداة حلمًا إلى الأبد؛ ففي محاولة أولى نحو إنتاجها، ابتكَرَ الباحثون — أو بالأحرى اشتقوا من الطبيعة — جزيئًا مُخمِدًا بوسعه إسكات آلاتٍ بعينها في الأوركسترا الجينومي. وعلى الرغم من أن إسكات جيناتٍ بعينها قد يبدو خطوة صغيرة، فإنه قد يحقِّق فعلًا عونًا كبيرًا في فهم التسلسل الجينومي، الذي يقدِّم قائمةً بالجينات دون تفاصيل عن الدور الذي تلعبه إجمالًا.

تقطيع الحمض النووي الريبي المشبوه

قبل أن تتجسَّد المعلوماتُ الموجودة في الجين على هيئة بروتين، لا بد من نَسْخ الجين إلى الحمض النووي الرسول. وعلى عكس بنية اللولب المزدوج الجديلة الشهيرة للحمض النووي، يكون جزيء الحمض النووي الريبي عادةً في صورة جديلة أحادية. (إن البنى الشعيرية التي تكوِّن بها الجديلةُ لولبًا مزدوجًا مع نفسها شائعةٌ في الحمض النووي الريبي البنائي، ولكنها غير مستحَبَّة بالمرة في الحمض النووي الرسول؛ إذ إنها ستمنعه من أداء وظيفته.) ولا يُعرَف عن الحمض النووي الريبي القابل للذوبان والمزدوج الجديلة أنه يوجد في مخزون الخلية الحية.

لكن في بعض الفيروسات، يوجد الحمض النووي الريبي المزدوج الجديلة بوصفه المادةَ الوراثية. لهذا، فإن العديد من الكائنات الحية — التي تتنوَّع ما بين النباتات وصولًا إلى ذبابة الفاكهة — تتمتع بآلية دفاعية تحفِّزها تحديدًا اللوالب المزدوجة للحمض النووي الريبي. وإذا رصدَتِ الآليةُ الدفاعية للخلية حمضًا نوويًّا ريبيًّا مزدوجَ الجديلة واشتبهت فيه، فإنها تقطِّعه إلى مقاطع قصيرة يبلغ طول كلٍّ منها حوالي ٢١ زوجًا قاعديًّا. ولأنها آلية عنيفة إلى حدٍّ ما ولا هوادةَ فيها، فإنها لن تبيد فقط هذه المقاطع عن بكرة أبيها، لكنها ستتخلص أيضًا من جميع جزيئات الحمض النووي الريبي الرسول التي تحمل التسلسلات المقابلة، على افتراض أن هذه الجزيئات الرسولة قد تكون نابعةً من الفيروسات نفسها.

في عام ٢٠٠٠، حدَّدَت إيميلي بيرنشتاين وزملاؤها من معمل كولد سبرينج هاربور (في نيويورك) الإنزيم الذي يتعرَّف على الحمض النووي الريبي الدخيل ويقطِّعه في ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا»، وقد اقتبسوا اسمَ هذا الإنزيم «القطَّاع» من اسم إحدى أدوات المطبخ. وخلال ذلك الوقت تقريبًا، فإن الآليةَ الدفاعية، التي كانت تُعرَف في السابق بأسماء مختلفة في مجموعات مختلفة من الكائنات الحية، أصبحت تُعرَف باسم تداخُل الحمض النووي الريبي، أو «آر إن إيه آي».

عند هذه المرحلة، لم يكن من الواضح بعدُ إن كانت الثدييات بدورها تستخدم هذه الآليةَ الدفاعية لمحاربة فيروسات الحمض النووي الريبي. وفي عام ٢٠٠١، أجاب توماس تشال وزملاؤه من معهد ماكس بلانك في جوتينجين بألمانيا عن هذا السؤال بتطبيق المعلومات التي حصلوا عليها من «الدروسوفيلا» على مستنبت خلوي ثديي، وفي نفس الوقت ابتكروا مُخمِدًا جينيًّا.

في حالة «الدروسوفيلا»، يقطِّع الإنزيمُ الحمضَ النووي الريبي المزدوج الجديلة إلى مقاطع تحتوي كلٌّ منها على ٢١ زوجًا قاعديًّا بالضبط، ولكي يتأكَّدَ فريق تشال من وجود آلية مماثلة لدى الثدييات من عدمه، خلَّقوا هذه المقاطع في المعمل واختاروا تسلسلاتها بحيث تتطابَق مع جين مُراسِل أدخلوه في جينوم مستنبتاتهم الخلوية، مثل الجين المسئول عن إنتاج إنزيم الوميض (اللوسيفريز) في اليراعات. في وجود ركيزة اللوسيفيرين، ستومض الخلايا الثديية المحتوية على هذا الجين مثل اليراعات. ومع هذا، عندما حقن الباحثون مقاطعهم المقابلة المكوَّنة من ٢١ زوجًا قاعديًّا من الحمض النووي الريبي داخل هذه الخلايا، توقَّفَ الوميض على نحوٍ قابل للقياس. وبالتالي، أثبتوا أمرين مهمين في تجربة واحدة؛ الأمر الأول: أن الخلايا الثديية تتمتَّع بمنظومة مماثلة تتعرَّف على الحمض النووي الريبي المزدوج الجديلة، وتثبط أيَّ جزيئات رسول مماثلة. والأمر الثاني: أنه يمكن استخدام المنظومة لإخماد جينات أخرى داخل الخلية بالإضافة إلى الجينات الفيروسية.

ولكن على وجه الدقة، كان جين اللوسيفريز المُراسِل دخيلًا غريبًا، مثله مثل الفيروس؛ لهذا أجرى فريق تشال تجربةً أخرى ليُثبِتوا إمكانيةَ إخماد جينات الخلية نفسها بنفس الطريقة. وبناءً على ذلك، استعان الباحثون بالخط الخلوي المستخرَج من ورمٍ لأحد المرضى المصابين بالسرطان، والمعروف باسم خلايا هيلا، وفي هذا المستنبت الخلوي استطاعوا أن يُخمِدوا بنجاح الجيناتِ المسئولةَ عن إنتاج بروتينين يوجدان عادةً في غشاء النواة.

تثبيط الجينات الطوعي

يبدو أن الآلية الدفاعية تعمل بطريقة متشابهة للغاية في الثدييات والحشرات. ومن المعايير المهمة لاستخدامها في الإخماد الجيني أنَّ مقاطِعَ الحمض النووي الريبي الصناعية يجب أن تكون أقصرَ من ٣٠ زوجًا قاعديًّا؛ لأن المقاطع الأطول سوف تحفِّز أجهزةً دفاعيةً أخرى في الثدييات.

وبالتالي، فإن طريقةَ تداخُل الحمض النووي الريبي تتيح للباحثين أن يثبطوا طواعيةً أيَّ جين من جينات الجينوم البشري البالغ عددها ٢٥ ألف جين. وبما أن الجينات التي ترتبط بعضها ببعض وتكوِّن عائلاتٍ جينيةً ستحمل في العادة أجزاءً من تسلسلاتها القاعدية المشتركة، فإنه من الممكن أيضًا إخمادُ مجموعات من الجينات. وعلى عكس الطريقة الأكثر بدائيةً التي تعتمد على إضافة الحمض النووي الريبي أو الحمض النووي «المشفَّر»، الذي هو عبارة عن مقطع أطول من الحمض النووي يعرقِل ببساطة الحمض النووي الريبي الرسول؛ فإن الطريقة الجديدة تتطلَّب أقلَّ من جزءٍ من الألف من المادة.

وهكذا، سرعان ما اتضحت فائدةُ أداة إخماد الجين الجديدة، حتى قبل الإلمام بتفاصيل طريقة استجابة الخلية لوجود الحمض النووي الريبي. ومثل تجربة الحفل الموسيقي التخيُّلية التي ذكرتُها سالفًا، فإن فهمنا للجينوم سيتحسَّن بفضل مساعدة المُخمِد.

(٢٠٠١)

أحدث التطورات

سرعان ما أثبتَتْ طريقةُ تداخُلِ الحمض النووي الريبي جدواها بوصفها أداةً ضرورية في أبحاث الجينوم. إلا أنه اتضح من خلال الأبحاث الإضافية في مجال الآليات الدفاعية أن الطبيعة قد ابتكَرَتْ وظيفةَ المُخمِد قبل أن يُعِيد البشرُ اكتشافَه بفترةٍ طويلةٍ؛ فأجزاء من جينومنا تُشفَّر تحديدًا لإنتاج مقاطع الحمض النووي الريبي التنظيمية، التي يُطلَق عليها اسم «إس آي آر إن إيه» (أو الحمض النووي الريبي الكابح الصغير)، والتي تحفِّز استجابةَ تداخل الحمض النووي الريبي، وبالتالي تكوِّن جزءًا مهمًّا من الشبكة التي يُنظِّم الجينوم نفسه بواسطتها.

في عام ٢٠٠٦، فاز أندرو فاير من جامعة ماساتشوستس وكريج ميلو من جامعة ستانفورد بجائزة نوبل مناصَفةً في علم وظائف الأعضاء أو الطب لاكتشافهما طريقةَ تداخُل الحمض النووي الريبي.

قراءات إضافية

  • S. M. Elbashir et al., Nature, 2001, 411, 494.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤