الفصل الحادي والثلاثون

أسرة أنجيلوس

١١٨٥–١٢٠٤

إسحاق الثاني

وتَحَدَّرَت هذه الأسرةُ المالكة الجديدة من قسطنطين أنجيلوس الفيلادلفي معاصر أليكسيوس كومنينوس الأول وصهره زوج ابنته، ولم يكن إسحاق ابن بجدتها، وكان أكولًا بطينًا يهوى اللحم والخمر والخبز، فكنت تجد على مائدته «تلالًا من الخُبز وغاباتٍ من الطيور وبحرًا من الأسماك ومحيطًا من الخمر»،١ وكان يلبس في كل يوم بدلة جديدة، وكان يستحم مرة في كل يومين فيتطيب ويخرج خروج العروس المنغمس في ملذات عرسه، وكان يحب الخمر والنساء ويحيط نفسه بالمُجَّان والمهرجين والمغنيات.
figure
وكان الخطرُ النورمنديُّ لا يزال يحدق بالدولة ويهدد كيانَها ففاوض إسحاق القيادةَ النورمندية في السِّلْم فرفضت، فأنفذ قوةً جديدةً بقيادة أليكسيوس براناس أحد كبار رجال الجيش، فانتصر على النورمنديين في تشرين الثاني من السنة ١١٨٥ عند ديمترتزة Dimitritza، فتراجع هؤلاء وأخلَوا ثيسالونيكية وديراتزو وكورفو ووَقَّعُوا الصلح.٢
ولم يَهَبْ رجال البر من أصحاب الأملاك الكبيرة إسحاق، ولم يخافوه، وتجاوز إسحاق الحدودَ المشروعة في الإنفاق، فزاد الضرائب، وازداد طمع الجُباة فأثقلوا كاهل الأهلين وابتزُّوا المال ابتزازًا، فاندلعت ثورةٌ داخليةٌ في السنة ١١٨٦ بزعامة أليكسيوس براناس بطل ديمترتزة، ومشى هذا القائد إلى العاصمة، فاضطرب إسحاقُ ودعا عددًا كبيرًا من الرهبان والقسيسين إلى القصر؛ ليبتهلوا إلى الله أن يُبعد شر الانقسام الداخلي، وقام كونراد مونتفران عديل الفسيلفس على رأس ثلاثمائة فارس إفرنجي وعدد من المشاة فهزم براناس وقطع رأسه ورماه عند قدمَي الفسيلفس، ثم انقض وأتباعُهُ على أنصار براناس في العاصمة فنهب وأحرق، وزاد بذلك كره الروم لللاتين.٣
وفي السنة ١١٨٨ عاد البلغار والفلاخ إلى السلاح وانتشروا في تراقية، ولم يوفق إسحاق إلى صدهم وإخضاعهم فهَادَنَهُم ثم صالحهم على أن يكونوا أحرارًا ما بين البلقان والدانوب،٤ وفعل مثل هذا في السنة ١١٩٣ عندما أنعم على أسطفان نيمنية Nemanya بلقب سبستوقراتور وأزوجه من أميرة رومية، وقام ثيودوروس منقافاس في الأناضول يحاول الاستقلال في فيلادلفية وليدية ولكنه غلب على أمره واضطر إلى أن يلتجئ إلى سلطان قونية.٥
وسقطت القُدس في يد صلاح الدين في الثاني من تشرين الأول سنة ١١٨٧ فاهتزت أوروبة بأسرها، وهَبَّ الإمبراطور فريدريكوس يدعو لحملةٍ صليبيةٍ ثالثةٍ، فقبل الصليب في السابع والعشرين من آذار سنة ١١٨٨ وكتب إلى إسحاق الفسيلفس ينبئه بذلك وبأنه سيتخذ طريق البر مارًّا بأراضيه، ووَقَّعَ الاثنان معاهدة في نورمبرج في أيلول السنة ١١٨٨ تعهد بها الفسيلفس بالسماح للصليبيين بالمرور في أراضيه مقابل امتناعهم عن إيقاع الأذى برعاياه،٦ ولكنه بعد ذلك ببضعة أسابيع وَقَّعَ تحالفًا مع صلاح الدين،٧ ولم يكن فريدريكوس أَقَلَّ حَذَرًا وتَلَوُّنًا؛ فإنه فاوض البلغار والصرب والنورمنديين في الوقت الذي كان يُفاوض فيه أخاه الفسيلفس، فَنَشَأَ عن هذا كُلِّهِ جوٌّ من الالتباس والمواربة وقلة الثقة، وقضتْ تقاليدُ القصر المقدس بألا يكونَ في العالم كله سوى إمبراطورٌ واحدٌ وبأن يُستقبل فريدريكوس كملك لا كإمبراطور، فاشتد القلق وأصبح تقدُّم الصليبيين الألمان في أراضي الروم زَحْفَ عدوٍّ بغيضٍ، ودخل فريدريكوس أدرنة في خريف السنة ١١٨٩ فكتب إلى ابنه هنريكوس أن يُعِدَّ أسطولًا وأن يستعين بالبنادقة وغيرهم ليهاجم القسطنطينية بحرًا في الوقت الذي يزحف هو فيه من البر.٨

وتبين هذا كله للفسيلفس إسحاق الثاني في السنة ١١٩٠ فموَّن الألمان وقَدَّمَ لهم المراكبَ اللازمةَ؛ لينتقلوا بها إلى بر الأناضول، ففعلوا، ولكن الروم ازدادوا بُغْضًا لِلَّلاتِين وطَوَوْا ذلك في صدورهم.

وكانت الحاجةُ إلى المعونة الحربية قد قضت بتوسيع الامتيازات الممنوحةِ للبنادقة (١١٨٧) فرأى إسحاقُ أَنْ يَزِيدَ في امتيازات بيزة وجنوى؛ ليقلل الضرر الناجم عن امتيازات البنادقة، فغضب تجارُ العاصمة ووجهاؤُها لكرامتهم ومصالحهم، وكانت الحكومةُ المركزيةُ تزدادُ ضعفًا.

أليكسيوس الثالث (١١٩٥–١٢٠٣)

وفي السنة ١١٩٥ خرج إسحاقُ الثاني بنفسه لِمُحاربة الفلاخ والبلغار، فلما وصل إلى كيبسالة «آبسيلار» خرج للصيد، فدخل أخوه أليكسيوس خيمته وأعلن نفسه فسيلفسًا، وقبض على إسحاق وسمل عينيه وسَجَنَهُ هو وابنُهُ أليكسيوس، ورفض أليكسيوس كنية عائلته وتَسَمَّى أليكسيوس الثالث كومنينوس، وأبطل مشروع الحرب ضد البلغار والفلاخ، ووزع مال الخزينة على الجُنُود، وإذ نفد المالُ وَزَّعَ أراضي الدولة وعاد إلى العاصمة، وكانت إفروسين دوقاس زوجتُهُ شديدة الاعتزاز بنسبها، كثيرة العناية بالسياسة، واسعة الاتصالات، ذكيةً نشيطةً مغريةً مضللةً، فنجحت في جمع الكلمة على تأييد زوجها، وأَعَدَّتْ له استقبالًا حافلًا،٩ وعاد الفسيلفس الجديد إلى العاصمة ومال إلى العيشة الهنيئة ولم يبالِ بواجباته الإدارية والسياسية، ويقول نيقيتاس المؤرخ المعاصر: «إن أليكسيوس الثالث كان يوقع كل شيء يقدم له ولا يكترث ما إذا كان هذا الشيء مجموعة من الكلمات الفارغة، أو طلبًا للإبحار في البر، أو الفلاحة في البحر، أو نقل جبل إلى البحر، أو رفع جبل آثوس من مكانه إلى قمة جبل أوليمبوس.»١٠
وساءت أحوال البلقان السياسية، فخر زعيم البلغار يوحنا آسن صريعًا، فأيد الفسيلفس نيفوكو الجاني فالتجأ القتيل كالويان Kalojean إلى البابا أنوشنتش الثالث (١١٩٩) مقدمًا خضوع الكنيسة البلغارية لقاء تتويجه ملكًا على بلغارية، فقبل البابا وأرسل كردينالًا إلى ترنوفو وتوَّج كالويان ملكًا وجعل رئيس أساقفة ترنوفو رئيسًا على الكنيسة البلغارية، فظهرت الإمبراطورية البلغارية الثانية إلى حيز الوجود، واضطر أليكسيوس أن يعترف بها في السنة ١٢٠١،١١ وحدث مثل هذا في بلاد الصرب؛ فإن أسطفان نيمنية استقال في السنة ١١٩٦ ولبس ثوب الرهبنة، فنشأ نزاعٌ شديدٌ بين ابنيه أسطفان وفوك، فالتجأ اسطفان إلى البابا وأعاد زوجته الأميرة البيزنطية إلى القسطنطينية ونال لقب الملك من يد البابا ولكنه لم يخرج في النهاية عن الكنيسة الأرثوذكسية.١٢

هنريكوس السادس والروم

وتُوُفي فريدريكوس بارباروسة في العاشر من حزيران سنة ١١٩٠ غريقًا في نهر كوك صو في قيليقية، فخلفه ابنُهُ هنريكوس السادس في إمبراطورية الغرب، وكان هذا قد اقترن بقسطنسة وريثة وليم الثاني في صقلية وجنوبي إيطالية، فكتب في السنة ١١٩٤ إلى إسحاق الثاني فسيلفس الروم يطالب بالأراضي التي افتتحها النورمنديون في البلقان من ديراتزو حتى ثيسالونيكية، ولدى وصول أليكسيوس الثالث إلى العرش عاد هنريكوس فأرسل وفدًا إلى القسطنطينية يبين الإساءة التي لحقت بالإمبراطور فريدريكوس في أثناء مروره في أراضي الروم ويطلب التعويض. وكان فيليب أخو هنريكوس السادس قد تزوج من إيرينة ابنة إسحاق الثاني.

وعلى الرغم من النزاع الذي نشب بين هنريكوس وفيليب لدى وفاة والدهما الإمبراطور؛ فإن فسيلفس الروم ظل يخشى تدخُّل فيليب في صالح أليكسيوس بن إسحاق وأخي إيرينة زوجته.

وخشي حبر رومة هذا التوسُّع في سلطة الإمبراطور الغربي في إيطالية وصقلية، ولم تَرُقْ له مطامعُ هنريكوس السادس عبر الأدرياتيك، ورأى — من ناحية أخرى — أن التعاوُن مع فسيلفس الروم يُفيده من ناحيتين أخريين؛ إذ إنه يعاونُ على إعادة توحيد الكنيسة جمعاء، وعلى محاربة المسلمين في الأراضي المقدسة؛ لاسترجاع السلطة على القدس وغيرها من الأماكن التي كانتْ قد وقعتْ في يد صلاح الدين، وفي السنة ١١٩٨ رقي السدة الرومانية أنوشنتش الثالث، وكان عالمًا ذكيًّا حازمًا قويًّا مُؤْمِنًا تقيًّا، فرأى ما رآه سلفه كلستينوس واتصل بأليكسيوس الثالث وطلب إليه أن يسعى لتوحيد الكنيسة وأن يشترك في حملة صليبية رابعة تحرر القدس وغيرها من حكم المسلمين.

الحملة الصليبية الرابعة

وبعث أنوشنتش الثالث برُسُله إلى الممالك الأوروبية؛ يروج فكرته، ويحض الملوك والأمراء والشعب على التطوُّع في حملةٍ جديدة، ولكن أحدًا من كبار الملوك لم يلبِّ النداء؛ ففيليب الثاني ملك فرنسة كان لا يزال تحت الحرم الباباوي لهجره زوجته الثانية وتزوُّجه من ثالثة، وكان يوحنا الثاني ملك إنكلترة لا يزال في خصام شديد مع أشراف بلاده وأعيانها، وكان هنريكوس السادس قد تُوُفي في خريف السنة ١١٩٧ في صقلية، فنشبت مشادةٌ عنيفةٌ لتسنُّم العرش الإمبراطوري بين أخيه فيليب وأوتون الرابع ابن هنريكوس الأسد. بَيْدَ أن هذا كله لم يمنع الفرسان الغربيين مِنْ تَقَبُّل الدعوة، فاشترك في هذه الحملة الرابعة نخبةٌ من أفضل فرسان فرنسة وإنكلترة وألمانية والبلدان الواطئة وصقلية.

وألمعُ مَنْ حمل الصليب بهذه المناسبة شيخ البندقية هنريكوس دندولو Dandolo الأعمى، وكان قد عرف القسطنطينية حق المعرفة وفقد بصره فيها عندما حوَّل بعض الروم نور الشمس إلى عينيه بمرآة مقعرة، فغضب وحقد وأضمر السوء، وكان سياسيًّا محنكًا ومفاوضًا حاذقًا، فلَبَّى نداء البابا ليقضيَ على دولة الروم وينشئ على أنقاضها إمبراطورية بندقية غربية.١٣
وحين فَكَّرَ القائمون بهذه الحملة في كيفية الزحف على الأراضي المقدسة، أرسلوا وفدًا إلى البندقية يفاوض في نقل الجنود إلى مصر أولًا؛ لأن مصر كانت مركزَ السلطة المستولية على فلسطين، فتَمَّ الاتفاق على أن تنقل البندقية ٤٥٠٠ فارس و٢٠٠٠٠ جندي وعلى أن تطعمهم شرط أن يدفع الصليبيون لها مبلغًا معينًا من المال، وأن تقسم الغنائم في المستقبل مناصفةً بينها وبينهم.١٤
وتجمعت الحملةُ في البندقية في شهرَي تموز وآب من السنة ١٢٠٢، وعجز الصليبيون عن دفع المبلغ المتفق عليه، ولم يتمكنوا إلا من دفع نصفه، فانتهز دندولو هذه الفرصة واقترح أن يدوخ الصليبيون مدينة زاره Zara عبر الأدرياتيك لحساب البندقية؛ لأنها كانت تنافس هذه منافسةً شديدة، فقام الصليبيون إلى زارة وحاصروها، وعبثًا حاول أهلُها إظهارَ شعائر النصرانية على الأسوار؛ لردع الصليبيين عن مُحاربة أبناء دينهم، وعبثًا أيضًا حاول البابا رَدْعَ البنادقة عن هذه الإساءة لمبادئ الحروبِ الصليبية، واستولى الصليبيون على زارة وقَدَّمُوها للبندقية لقمةً سائغةً.١٥

وقد مرَّ بنا — في تضاعيف الفصول السابقة — كيف تزايد البغضُ وتفاقم بين الشرق والغرب، ولا سيما في أثناء القرن الثاني عشر؛ فقد رأينا مُلُوك النورمنديين الصقليين يجتازون الأدرياتيك لاحتلال شواطئه الشرقية منذ أيام روبر غيسكار حتى أيام روجه الثاني وخلفه ووريثه في صقلية الإمبراطور هنريكوس السادس، ورأينا أيضًا أباطرة الشرق يخشون الصليبيين في أثناء مُرُورهم في أراضيهم فينشأ عن هذا الخوف شيءٌ من التوتر، فيزدادُ أحيانًا ويؤدي إلى التفكير الجِدِّيِّ في احتلال القسطنطينية.

وقد رأينا — في الوقت نفسه — هذا البغضَ يتفاقمُ، فينفجر في شوارع عاصمة الروم فيلحق بالجاليات اللاتينية فيها شيئًا كثيرًا من الضرر والخسارة، ويجر البندقية إلى الحرب للمُحافظة على مصالحها التجارية في الشرق.

وفي أثناء السنة ١٢٠٢ أفلت أليكسيوس أنجيلوس بن إسحاق الثاني من السجن الذي كان قد أُودع فيه سنة ١١٩٥، وجاء صقلية، فرومة؛ يستعطف البابا على قضيته، ثم اتجه شمالًا شطر ألمانية؛ يستعين بشقيقته إيرينة زوجة فيليب سوابيه في هذا الأمر نفسه، فرَجَتْ إيرينة زوجها وألحت عليه، وكان فيليب آنئذٍ منهمكًا في نزاع مستميت ضد آتون — كما سبق أن أشرنا — فأوفد وفدًا إلى زارة يرجو البنادقة والصليبيين مساعدةَ إسحاق الفسيلفس وابنه أليكسيوس؛ للوصول إلى العرش، فتفتحت أمام دندولو آفاقٌ جديدةٌ، وهَبَّ يُقنع الصليبيين بالقبول، وقام أليكسيوس بنفسه إلى زارة، وفاوض دندولو والصليبيين في ذلك مباشرةً، ووعد بِدَفْع مبلغٍ كبيرٍ من المال مقابل هذه المعونة، كما أظهر استعدادَه لإدخال كنيسة الروم في طاعة البابا واشتراكه فعليًّا في الحرب المقدسة.١٦
وقد اختلف رجال، الاختصاص في أسباب تحوُّل الصليبيين عن مصر وفلسطين إلى القسطنطينية، فقام في السنة ١٨٦١ ماسلاتري الإفرنسي يتهم البندقية وشيخها بالوصول إلى تفاهُمٍ سريٍّ سابقٍ مع سلطان مصر لتحويل هذه الحملة عن أراضيه،١٧ وأيد قوله كارل هوبف الألماني، فحَدَّدَ تاريخ هذه المعاهدة السرية وجعله في الثالث عشر من أيار سنة ١٢٠٢،١٨ وفي السنة ١٨٧٥ قام الكونت دي ريان الإفرنسي يلقي المسئولية في هذا التحول في مجرى الحملة الرابعة على عاتق فيليب سوابيه، فيجعل التحول عن مصر مظهرًا آخر من مظاهر النزاع بين الإمبراطور الغربي والبابا؛ لأن أنوشنتش الثالث كان يميل إلى مناظر فيليب آتون البرنزويكي،١٩ وفي هذا كله تسرعٌ للوصول إلى استنتاجات جديدة تلفت النظر، وخروجٌ في الوقت نفسه عن أَبْسَطِ قواعد المصطلح. والواقعُ أنه لا يجوز أَنْ يُقال في هذا الموضوع أكثر مما جاء في الفقرة السابقة.

وفي آخر حُزيران من السنة ١٢٠٣ ظهر أُسطول الصليبيين أمام أسوار القسطنطينية، ونزلوا بالقُرب من غلَطَة، فقطعوا السلاسلَ الحديديةَ التي حَمَتْ مدخل القرن الذهبيِّ، فدخلت مراكبُ البنادقة وأحرقتْ مراكب الروم، ثم اقتحم الفرسان الصليبيون أسوار العاصمة واستولوا على المدينة في تموز من السنة نفسها، وفَرَّ أليكسيوس الثالث بخزينة الدولة وجواهرها، وأُطلق سراحُ إسحاق الثاني وأُعلن ابنُهُ أليكسيوس شريكًا له في الحُكم، واتخذ هذا لقب أليكسيوس الرابع.

وطالب الصليبيون ودندولو بتنفيذ نص المعاهدة؛ أي بدفع المال المتفق عليه، وبإعداد قوةٍ تقوم معهم إلى الأراضي المقدسة، فاستمهلهم أليكسيوس الرابع ورَجَاهُم أَنْ يُقيموا خارجَ أسوار العاصمة، وامتعض الرومُ من اللاتين الفاتحين، واتهموا الفسيلفسين إسحاق وابنه أليكسيوس بالخيانة، وهَبَّ صهر أليكسيوس الثالث أليكسيوس دوقاس إلى السلاح، وكانت ثورة في أوائل السنة ١٢٠٤ أدت إلى وفاة إسحاق وخَنْق ابنه أليكسيوس الرابع، ونُودي بأليكسيوس دوقاس فسيلفسًا، فعُرف باسم: أليكسيوس الخامس.

وفي آذار السنة ١٢٠٤ وقَّع الصليبيون والبنادقة اتفاقًا فيما بينهم لاقتسام الإمبراطورية الشرقية بعد احتلال العاصمة، وقضت شروطُ هذا الاتفاق بأن تُقام في العاصمة حكومةٌ لاتينيةٌ، وأن تُقسم الغنائم فيما بين الطرفين، وأن تتولى لجنةٌ مؤلفةٌ من ستة بنادقة وستة إفرنسيين أَمْرَ انتخاب إمبراطور يحكم «لمجد الله ومجد الكنيسة الرومانية المقدسة ومجد الإمبراطورية». واتفق الطرفان أيضًا على أن يحكم هذا الإمبراطور رُبع العاصمة وربع الدولة التابعة لها، وعلى أن يوضع تحت تصرُّفه قصران من قصور العاصمة.

ونص الاتفاقُ أيضًا على تقسيم ما بقي من العاصمة وأراضي الدولة مناصفةً بين البندقية وبين سائر الصليبيين، وفرض على جميع الصليبيين الباقين في أراضي الدولة الجديدة أن يُقْسِموا يمين الطاعة والولاء للإمبراطور، ولم يشمل هذا البندُ دندولو وبندقيته.٢٠
ثم حاصر الصليبيون القسطنطينية بضعة أيام ففرَّ أليكسيوس الخامس، فتدفقوا إليها في الثالث عشر من نيسان سنة ١٢٠٤ ناهبين، واشترك في أعمال النهب الفظيعِ الجنودُ الصليبيون وفرسانُهُم والرهبانُ اللاتينيون ورؤساؤُهُم،٢١ وشمل هذا النهبُ كنيسةَ الحكمة الإلهية وغيرها من كنائس العاصمة وأديارها، كما قضى على عدد كبير من أَثْمَن المخطوطات.٢٢
ولم يرشح دندولو نفسه لعرش القسطنطينية، ولم يرضَ مركيز مونتفرات Boniface de Montferrat أَنْ يَتَسَنَّمَه؛ لأنه كان أميرًا إقطاعيًّا إيطاليًّا قويًّا، لا تبعد أملاكُهُ عن ممتلكات البندقية، فالتأمتْ لجنةُ الانتخاب وأقامت بلدوين قومس فلاندر إمبراطورًا على القسطنطينية، ثم قسمت الممتلكات فتولى الإمبراطور على خمسةِ أثمانِ العاصمة وعلى الأراضي التي تاخمتْ المضيقين وبحر مرمرة وعلى بعض جُزُر الأرخبيل الكُبرى، واستولى مركيز مونتفرات على ثيسالونيكية وما جاورها من أرض مقدونية وعلى ثيسالية.
ونال دندولو حصة الأسد، فاستولى باسم البندقية على ديراتزو وغيرها من النقاط الهامة في ساحل الأدرياتيك الشرقي، كما احتل كورفو وغيرها من جُزُر مداخل هذا البحر، وبعض أماكن في شبه جزيرة المورة وجزيرة أقريطش، وبعض المرافئ على شاطئ تراقية وغاليبولي وثلاثة أثمان القسطنطينية، واتخذ دندولو لنفسه بهذه المناسة لقب ذسبوتس despotes ولقب «سيد الربع ونصف جميع إمبراطورية رومانية»،٢٣ وظَلَّ خلفاؤُهُ في البندقية يَستعملون هذا اللقبَ حتى منتصف القرن الرابع عشر، وتسلَّم إكليروس البندقية كنيسة الحكمة الإلهية وأقاموا بموافقة البابا توما موروسيني بطريركًا على الكنيسة الكاثوليكية في الإمبراطورية الجديدة، فاستخف به الروم «لجهله وحقارته».٢٤
واتخذ مركيز مونتفرات لنفسه لقب ملك وقام إلى آثينة، فاحتلها، وجعل منها ومن ثيبة دوقية، وحوَّل كنيستها الكاتدرائية في قلب البارثينون إلى كنيسة لاتينية، وانتظمتْ الإمبراطورية اللاتينية على أساسٍ إقطاعيٍّ فقسمت إلى عدد من الإقطاعات، وأَقْسَمَ أُمراءُ هذه الإقطاعات يمينَ الولاء والطاعة للإمبراطور.٢٥
وكتب الإمبراطور بلدوين إلى البابا أنوشنتش الثالث يعلمه بفتح القسطنطينية وبارتقائه عرشها بنعمة الله، ويؤكد خضوعه للسدة الباباوية Miles Suus، فأجابه أنوشنتش «متهللًا بالرب لتمجيد اسمه بالأعجوبة التي تمت فشرَّفت العرش الرسولي وشعب المسيح.» وطلب إلى جميع الإكليروس وجميع الملوك والشعوب أن يُؤيدوا بلدوين؛ ليتمكن بعد فتح القسطنطينية من الاستيلاء على الأراضي المقدسة،٢٦ ثم علم هذا الحبر الكبير بما اقترفه الصليبيون من آثام في القسطنطينية، فحزن وقلق واضطرب، وكتب إلى مركيزة مونتفرات يقول: «لقد حِدْتُم عن طهارة نذركم عندما زَحَفْتُم على المسيحيين بدلًا من المسلمين فاستوليتم على القسطنطينية بدلًا من القدس، وآثرتم كنوز الدنيا على كنوز الآخرة، وما هو أهم من هذا وذاك أن بعضكم لم يوقر الدين ولم يحترم العمر أو الجنس.»٢٧

وهكذا فإنه لم يكتب لهذه الإمبراطورية الجديدة عمرٌ طويلٌ، فإنها كانت منذ نشأتها إقطاعية ضعيفة في السياسة والحرب، وكانت مقسمة الولاء في الدين ينقصها الشيء الكثير من توحيد الكلمة، فرعايا الإمبراطور الجديد ظلوا أرثوذكسيين بعيدين عن دين الدولة الجديدة، ورجال الدين فيها ظلوا طوال عهدها يتبعون بطريركًا أرثوذكسيًّا جالسًا في نيقية — كما سنرى.

١  Nicetas Chon., Hist., 579.
٢  Dolger, F., Regesten, 1567, 1569.
٣  Nicetas Chon., Hist., 509–513.
٤  Dolger, F., Regesten, 1580.
٥  Bréhier, L., Byzance, 351-252.
٦  Dolger, F., Regesten, 1581, 1587.
٧  Dolger, F., Regesten, 1584, 1591.
٨  Norden, W., Papsttum, 119.
٩  Nicetas Chon., Hist. 607.
١٠  Nicetas, Hist., 599-600.
١١  Bréhier, L., Byzance, 357-358; Luchaire, A., Innocent III, 87–97.
١٢  Jirecek, C., Gesch. der Serben, I, 270.
١٣  Diehl, C., Venise, 47-48.
١٤  Villehardouin, Geoffroi, Conquête de Constantinople, I, 21–28, 30.
١٥  Innocent III, Epistolae, V, 161; Luchaire, A., Innocent III, Quest. d’Orient, 103–105.
١٦  Villehardouin, G., Op. Cit., I, 90–101; Luchaire, A., Op. Cit., 111; Nicetas Chon., Hist., 712.
١٧  Mas-Latrie, Hist. de l’lle de Chypre, I, 162-163.
١٨  Hopf, K., Gesch. Griechenlands, I, 188.
١٩  Rev. des Questions Hist., 1875, 321–374.
٢٠  Tafel, G. L. F., und Thomas, G. M., Urdkunden zur Altern Handels und Staatsgeschichte, I, 446–452.
٢١  Nicetas Chon., Hist., 753–763.
٢٢  Chronicle of Novgorod, 186-187.
٢٣  Quartae Partis et Dimidiae Totius Imperii Romanie Dominator.
٢٤  Nicetas Chon., Hist., 854-855.
٢٥  Vasiliev, A. A., Byzantine Empire, 465–467.
٢٦  Tafel und Thomas, Op. Cit., I, 502, 516-517.
٢٧  Epistolae, VIII, 133.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤