الفصل السادس والثلاثون

الروم وبايزيد ومحمد

١٣٨٩–١٤٢٥

السلطان بايزيد

ونودي ببايزيد سلطانًا في قوصوة، فبدأ عهده بقتل أخيه يعقوب فاختط لخلفائه طريقًا مخضبًا بالدم ساروا عليه قرونًا متتالية، وتسلم بايزيد دولةً لا تزال في دور النشوء فأرادها وريثةً لبيزنطة، فاتجهت أنظارُهُ إلى آسية الصغرى بعد شبه جزيرة البلقان، فزحف على إمارة آيدين وأكره أميرها على الطاعة، ثم فرض عليه إقامةً جبريةً في بروسة، وقام في السنة ١٣٩١ فحاصر أَزمير وكانت قد أصبحت بيد الإسبتاليين منذ السنة ١٣٤٥ فلم يقوَ عليها؛ لأنه لم يكن لديه أُسطولٌ بحري.

ثم أخضع إمارة صروخان ومنتش ودخل أَضالية فوصل بها إلى البحر المتوسط، وأنشأ في هذه السنة نفسها أسطولًا بحريًّا فخرَّب جزيرة خيُّوس، وغزا سواحل أتيكة في بلاد اليونان، ثم جمع حوله أُمراء البلقان، وقام إلى إيقونية عاصمة علاء الدين، فحاصرها في أواخر السنة ١٣٩١ ففرَّ أميرُها من وجهه والتجأ إلى جبال طوروس، وكانت قد ساءتْ أحوالُ جبهته في شمالي البلقان، فعاد عن إيقونية وعبر بجُمُوعه وجيوشه إلى أوروبة.

وعاد علاء الدين إلى إيقونية محاربًا، فرجع بايزيد إلى آسية، وما إن وصل إلى كوتاهية حتى فاوضه علاء الدين في الصلح، فلم يقبل وانقض عليه فهزمه وقتله واستولى على إمارة القرمان (١٣٩٢)، وفي السنة ١٣٩٥ حارب برهان الدين أمير قبدوقية، فأجبره على الطاعة، وخشي أمير قسطموني سُوءَ العاقبة، فَفَرَّ والتجأ إلى المغول، ووصل بايزيد إلى البحر الأسود واحتل مرفأي سمسون وسينوب.

وكان بايزيد يتابع في الوقت نفسه أعمالَ الفتح في البلقان التي بدأ بها والده مراد، فاقتص من عازار بعد قوصوة، ولكنه أُعجب بشجاعة الصرب وبأسهم، فعامل ابن عازار معاملةً حسنةً، وأدخل عناصرَ صربيةً في جيشه، وبعد أن جال جولته الأولى في آسية الصغرى غزا البشناق والفلاخ، وانتصر على مرقية Mircea هوسبودار الفلاخ، وأبعده إلى بروسة، وأكرهه على الدخول في طاعته بشروطٍ بقيتْ أساس علاقات العثمانيين بأمراء الفلاخ مدة طويلة: اعتراف بسلطة السلطان، ودفع مال سنوي معين، وتقديم معونة عسكرية عند الحاجة، وامتناع السلطان عن الدعوة للدين الإسلامي شمالي الدانوب، وعن إقامة أَيَّة جالية إسلامية وأي جامع للصلاة،١ وأصبحت المجر بعد هذا كله مركز المقاومة الرئيسي لتقدم الأتراك في أوروبة، وكان لويس ملكها قد تُوُفي في السنة ١٣٨٦ فخلفه في الحكم صهره سيجموند ابن الإمبراطور كارلوس الرابع، وكان هذا أيضًا يحلم بالسيطرة على البلقان،٢ فبادر إلى الحرب فأرسل إنذارًا إلى بايزيد يوجب عليه الجلاء عن بلغارية فلم يُجب بايزيد، فأغار سيجموند على بلغارية واحتل نيقوبوليس بعد حصار طويل، ثم اضطر إلى أن يتراجع بخسارة كبيرة لدى وصول بايزيد إلى الجبهة (١٣٩٢).
ولمس بايزيد تأييدًا لخصمه في الأوساط البلغارية، فاحتل تيرنوفو وسبى جماعاتٍ من البلغار فأسكنهم بَرَّ الأناضول، وألغى الوضعَ السياسي الخاص الذي كان قد أعطاه والده للبلغار فاحتل البلاد احتلالًا وامتنع عن التعرُّف باللفظ «بلغار» في مراسيمه بعد ذلك.٣

وكان منذ أن تَبَوَّأَ عرشه قد تدخل في سياسة القسطنطينية للتفريق بين أفراد الأسرة المالكة، فعطف على يوحنا بن أندرونيكوس الرابع، وشَجَّعَه على الدخول إلى القسطنطينية وعلى التَّرَبُّع في دست الحكم (١٤ نيسان–٧ أيلول ١٣٩٠) مكرهًا يوحنا الخامس على الالتجاء إلى أَحَدِ الحُصُون، ولَمَّا جاء عمانوئيل الثاني بن يوحنا الخامس وطرد هذا المغتصب؛ تَقَبَّلَه بايزيد، وأقطعه أرض سليمبرية، وكان قد أكره يوحنا الخامس على دفع إتاوة معينة وعلى إلحاق ابنه عمانوئيل به على رأس مائة فارس.

وكانت مدينة فيلادلفية «آلاشهر» في آسية الصغرى لا تزال خاضعة للفسيلفس، فأحب بايزيد أن يضمها إلى ملكه، فامتنعت فحاصرها وأمر الفسيلفس وابنه عمانوئيل أن يشتركا في أعمال الحصار! أي أن يُظاهرا السلطان على أتباعهما المخلصين، فأقدما ممتعضين كل الامتعاض، وحاول يوحنا الخامس أن يرمم الحصون في عاصمته فأمره بايزيد بوجوب هدم ما أنشأ مهددًا بسمل عيني عمانوئيل، فخضع الفسيلفس لمشيئة السلطان متحسرًا وتُوُفي بعد ذلك بقليل في السادس عشر من شباط سنة ١٣٩١، وعلم عمانوئيل بوفاة والده وهو لا يزال في بروسة مكرهًا على الإقامة فيها، ففرَّ منها ودخل القسطنطينية، فغضب بايزيد وحاصر القسطنطينية سبعة أشهُر متتالية، ثم فرض على عمانوئيل زيادةً في الإتاوة وإنشاء جامع في القسطنطينية وإقامة حرس تركي في غَلَطة.٤

ثم كان ما كان من أمر الفتح في البلقان والأناضول — كما سبق أن أشرنا — فأصبح بايزيد وريثَ رومة الجديدة وصاحب الحق في نسرها الملكي، ولم يَبْقَ مِنْ تركتها خارج نطاق سلطته سوى العاصمة وبلاد اليونان، وكانت المورة قد دخلت في دور نزاع شديد بين ثيودوروس باليولوغوس ديسبوتس المورة أو بالأحرى: ذلك الجزء منها الذي كان خاضعًا للقسطنطينية وبين بعض أمراء اللاتين المجاورين، فشكا هؤلاء طمع ثيودوروس إلى بايزيد وطلبا تدخله.

فدعا بايزيد جميع أمراء الإقطاع التابعين لملكه إلى سرِّيس في ربيع السنة ١٣٩٤، فلَبَّى الدعوة كل من عمانوئيل الثاني الفسيلفس وثيودوروس باليولوغوس سيد ميسترة والفسيلفس المخلوع يوحنا السابع وأمراء الصرب وسيد مونمغازية اللاتيني، وبعد أن استمع إلى شكوى ماموناس ونظر في ما قاله أفراد أسرة باليولوغوس حكم على جميع هؤلاء بالإعدام ثم أبدل حكم الإعدام بسَمْل أَعْيُن مستشاريهم وأمر ثيودوروس أن يكف عن مونمغازية وأن يتخلى له عن أَرغوس وأن يتقبل في حصونه حاميات تركية، فقبل ثيودوروس ثم فرَّ من سرِّيس خلسة وسبق الأتراك إلى حصونه وامتنع فيها واستعان بالبنادقة، فاحتل بايزيد ثيسالية ونوقيذية واستعاد لماموناس بعض ما فقده وأرجأ الاقتصاص من ثيودوروس إلى وقت آخر.٥

نيقوبوليس (١٣٩٦)

وخشي البنادقةُ — لأول وهلة — التحالفَ التركي البيزنطي، ثم عادوا إلى أنفسهم فرأوا في استيلاء الأتراك على المضايق وعلى القسطنطينية خطرًا أكبر وأعظم، فراحوا يستنهضون الهِمم لحملة صليبية جديدة؛ تُخلص نصارى البلقان والقسطنطينية من الأتراك، فبدءوا بالوصول إلى تفاهمٍ تامٍّ بينهم وبين الجنويين، ثم اتصلوا بعمانوئيل الثاني في تموز السنة ١٣٩٤ وفاتحوه بكلام في هذا المعنى، فأبان الفسيلفس المخاطرَ التي تحيق بحملة برية وارتأى أن يصار إلى تقويته بحرًا،٦ واتصل سيجسموند في هذا الوقت بكارلوس السادس في بوردو وبدوق لانكستر وبالبنادقة، فلقي استعدادًا كبيرًا لدى هؤلاء جميعًا،٧ وتبنى هذا الواجب فيليب دي ميزيير de Mezieres فبث دعوة قوية في أوساط الأشراف في فرنسة وغيرها، فتطوع عددٌ مِن كِبَار فرسان ذلك العصر بينهم وريث دوقية برغونية والمارشال بوسيكو Boucicaut وغيرهما، وتم الاتفاق على أن يتولى سيجسموند تطهير الفلاخ وبلغارية من الأتراك وأن تقوم البندقية بخرق الحصار البحري الذي كان قد ضربه بايزيد حول مداخل القسطنطينية، ثم ترددت البندقية موازِنةً بين مفاوضة بايزيد وبين محاربته، فتأخر انطلاق الحملة سنة كاملة.

وفي ربيع السنة ١٣٩٦ وافقت البندقية موافقةً كاملةً، فتقاطر إلى بودا جيشٌ قويٌّ من فرسان الغرب، وفي صيف هذه السنة تحرك أسطول البندقية إلى مياه الدردنيل والبوسفور، وتمكن في الثامن والعشرين من تشرين الأول من خرق الحصار حول مداخل القسطنطينية وبيرا وبات ينتظر وصول الجيش البري الزاحف عبر الدانوب. وكان سيجسموند قد حاول انتظار بايزيد في ميدان ملائم للقتال متخذًا موقف الدفاع، ولكن الفرسان الغربيين أَبَوْا أن ينتظروا في موقفٍ دفاعيٍّ، وانطلقوا عبر الدانوب فاحتلوا تورنو وبدءوا بحصار نيقوبوليس.

وجاءهم بايزيد بمُشاته المدربين فلم يقوَ فرسان الغرب على اختراق صفوف هؤلاء، فوَلَّوْا مدبرين في الخامس والعشرين من أيلول، ونجا سيجسموند بنفسه على قارب صغير عبر به الدانوب، وقُتل أو أُسر عددٌ كبيرٌ من خِيرة الفرسان الغربيين، وأسعد الحظ مرقية هوسبودار الفلاخ؛ إذ بقي جيشه سالمًا، فتمكن من رد الأتراك على أعقابهم بعد أن قطعوا الدانوب.٨
واتجه بايزيد بعد نيقوبوليس إلى بلاد اليونان فحارب ثيودوروس ديسبوتس المورة في ليونتاريون Leontarion في الحادي والعشرين من حُزيران سنة ١٣٩٧، وتغلب عليه فدخل في طاعته، واستولى السلطان على كورنثوس وأَرغوس ونهب المورة وخرج منها بثلاثين ألف رقيق.٩
وطلب السلطان إلى الفسيلفس أن يسلم العاصمة، فَأَبَى عمانوئيل الثاني، فقام بايزيد يُعد العدة لاقتحام القسطنطينية، فأنشأ على بعد ثمانية كيلومترات منها كوزل حصار «القلعة الجميلة»، ثم أَصْغَى إلى نصائحِ حاشيته فارتدَّ عن حصار العاصمة؛ نظرًا لضعفه في البحر وخوفًا من اتحاد الغرب عليه، وكان عمانوئيل قد اتصل منذ السنة ١٣٩٧ بدوق موسكو باسيليوس الأول طالبًا المعونة، وشاركه في هذا البطريرك المسكوني، فأرسل الدوق معونة مالية،١٠ واستغاث عمانوئيل بملكَي فرنسة وإنكلترة، فأتته من الاثنين معونةٌ ماليةٌ، وأضاف ملك فرنسة كارلوس السادس بعثةً عسكريةً مؤلفةً من ألف ومائتي جندي بقيادة المارشال بوسيكو، ووصلتْ هذه الحملة الصغيرة في أواخر السنة ١٣٩٨ إلى مياه الدردنيل، فاعترضتها قوةٌ بحريةٌ تركيةٌ، فتغلب الفرنساويون عليها، ووصلوا إلى القسطنطينية في وقت كاد بايزيد فيه أَنْ يستولي على غَلَطة، فتراجع بايزيد عن غَلَطة، وحارب بوسيكو بعد ذلك في مواقعَ متعددةٍ، ولكن انتصاراته لم تضمن سلامة العاصمة؛ نظرًا لضآلة عدد المحاربين.١١

عمانوئيل الثاني في الغرب (١٣٩٩–١٤٠٢)

ولمس بوسيكو فداحة الخطر المحدق بالعاصمة، فألح على عمانوئيل بوجوب القيام بنفسه إلى الغرب في طلب المعونة وبوجوب إسناد الحُكم في أثناء غيابه إلى يوحنا السابع، فيضمن بذلك ولاءَ هذا الأمير للدولة ضد الأتراك، وتعهد البنادقة والجنويون بالقيام بالواجب في أثناء غيابه، فقام عمانوئيل في العاشر من كانون الأول سنة ١٣٩٩ إلى الغرب يرافقه المارشال بوسيكو، فوَصَلَا إلى البندقية في نيسان السنة ١٤٠٠ وقاما منها إلى فلورنزة وفرَّارة وجنوى وميلانو ولقيا استقبالًا حارًّا في جميع هذه المدن، ولكن اشتداد المزاحمة بين البندقية وجنوى حال دون الحصول على المعونة المنشودة.

وفي السابع والعشرين من أيار السنة١٤٠٠ أصدر البابا بونيفاسويس التاسع نداءً حارَّا إلى جميع المؤمنين يحضهم فيه على تأييد عمانوئيل في نضاله ضد الأتراك، واعدًا بالغفرانات لمن يحمل الصليب في هذا السبيل كما لو كان يناضل في الأراضي المقدسة نفسها، وتابع عمانوئيل سيره فوصل باريس في الثالث من حزيران سنة ١٤٠٠، فاحتفى به كارلوس السادس، وأصغى إليه إصغاءً شديدًا، ولكنه بعد أن أشار إلى النضال القائم بينه وبين هنريكوس الرابع ملك الإنكليز اكتفى بتقديم ألف ومئتي جندي وضعهم تحت قيادة بوسيكو، وتعهد بنفقاتهم لسنةٍ كاملة.

وعبر عمانوئيل بحر المانش وزار هنريكوس الرابع في لندن فقوبل بالترحاب الشديد ولم يحظَ بأية معونة عسكرية، وعاد عمانوئيل إلى باريس وأقام فيها حتى خريف السنة ١٤٠٢ ولكن دون جدوى.١٢

وهب بايزيد في أثناء هذا يطالب بخضوع يوحنا السابع وبتسليم العاصمة، ولكن يوحنا أبى، فاستشاط بايزيد غيظًا وأقسم «بالله وبرسوله» أنه لن يُبقي رجلًا واحدًا حيًّا في القسطنطينية، ولكن يوحنا أصرَّ على الرفض، فشدد بايزيد أعمال الحصار، ثم فوجئ بتيمور.

تيمور لنك وبايزيد (١٤٠٢)

وكان الأمراء الأتراك الذين استولى بايزيد على إماراتهم في آسية الصغرى قد لجئوا إلى حمى تيمور، وكان بايزيد قد تعرض لصاحب أرزنجان الأرمني، فغضب تيمور لكرامته؛ لأنه اعتبر صاحب أرزنجان تابعًا له، فقام إلى آسية الصغرى في السنة ١٤٠٠ واحتل سيواس وأعمل السيف في رقاب حاميتها التركية العثمانية وقتل أرطغرل أكبر أبناء بايزيد، ثم ولَّى وجهه شطر الجنوب فاكتسح كل من جَرُؤَ على الصمود في وجهه واستولى على عينتاب وبغداد وحلب ودمشق وما بينها جميعًا.

وفي مطلع السنة ١٤٠٢ أرسل إلى بايزيد يأمره بإعادة كل المُدُن والأراضي التي استولى عليها إلى الروم، وكتب إلى الجنويين في غلطة أن يعاونوه ليقضي على بايزيد ودولته، فأبى بايزيد وأجاب جوابًا قاسيًا، فقام تيمور من سيواس إلى أنقره، فوجد في شماليها الشرقي جيوش بايزيد وعددها مائة وعشرون ألفًا بينها عشرةُ آلاف محارب مسيحي بقيادة أسطفان لازاروفيتش.

وفي صباح الثامن والعشرين من تموز بدأت المعركة، فهجم فرسان الصرب على جُند المغول وشدوا عليهم، ولكن بايزيد أمر بتراجعهم خشية التطويق، وتقدم المغول حتى بلغوا الصفوف العثمانية، فألقى السلاجقة المحاربون في صفوف بايزيد سلاحَهم ولاذوا بالفرار رافضين القتال ضد أمرائهم السابقين، وثبت بايزيد وحرسه الإنكشاري حتى المساء، ثم لاذ بالفرار تحت جناح الليل ولكنه أُسر هو وابنُهُ موسى وعددٌ من القادة، وفزع ابناه الآخران محمد وعيسى إلى القرمان، وحاول بايزيد الهرب فشدد تيمور عليه الحصار وحمله معه في قفصٍ من حديد! ثم تُوُفي بايزيد في الأسر في الثامن من آذار سنة ١٤٠٣ فسمح تيمور بدفنه في بروسة.

وأعاد تيمور الأمراء السلاجقة إلى إماراتهم وأبقى تراقية وما يليها في يد سليمان بن بايزيد، فحكمها باسم تيمور، وبعد أن نهب تيمور جميعَ آسية الصغرى قام إلى الشرق البعيد ليحارب الصين، وتُوُفي في التاسع عشر من شباط سنة ١٤٠٥ في أُطرار، فزالت دولته بزواله.١٣

أثر انهزام الأتراك

وتنازع أبناءُ بايزيد المُلك، وكان محمد أشدهم بأسًا وأكثرهم نشاطًا، وكان قد فَرَّ من أنقرة واعتصم في جبال أماسية وطوقات وكتب منها إلى أخيه عيسى مقترحًا تقسيم آسية الصغرى بينهما (١٤٠٣)، وكان عيسى قد احتلَّ مدينة بروسة فرفض ما اقترحه محمد، فتقاتل الأخوان فهزم محمد أخاه، فلاذ عيسى بالفرار إلى القسطنطينية، فأمده أخوه سليمان بالجُند فقام إلى محاربة محمد مرة ثانية فمُني بالخيبة ولقي حتفه في القرمان، فعبر سليمان الدردنيل (١٤٠٤) وأخرج محمدًا من بروسة، فهاجم موسى ممتلكات سليمان في أوروبة، فهزم سليمان أخاه موسى عند القرن الذهبي، ولكن بطانته خانته فقتله بعض الفلاحين في السنة ١٤١٠، وأبى موسى أن يعترف لمحمد بالسيادة.

وفي مطلع السنة ١٤٠٣ عاد عمانوئيل الثاني إلى القسطنطينية، فعلم بما حلَّ ببايزيد فعادت أنفاسُهُ إليه، ولكنه لم يتمكن من استغلال الموقف استغلالًا يُعيد نشاطَه إليه نظرًا لِمَا كان قد حلَّ بدولته من ضعفٍ وهوانٍ، وأراد سليمان بن بايزيد أن يعزز مركزه بالتحالُف فعَقَدَ معاهدةً مع كلٍّ من الجنويين والبنادقة في السنة ١٤٠٣، وفي السنة ١٤٠٥ أعاد إلى عمانوئيل ساحل البحر الأسود وساحل بحر مرمرة وثيسالونيكية والمورة، وأرسل أخاه وأخته رهينين إلى القسطنطينية لقاءَ تعاون عمانوئيل معه ورضائه عنه.١٤
وحارب موسى أخاه سليمان عند القرن الذهبي فخسر الموقعة ففرَّ إلى الفلاخ، ثم عاد إلى قتال سليمان وعمانوئيل، فانفرط عقد سليمان ففرَّ إلى القسطنطينية فقتل قبل وصوله إليها (١٤١٠)، وحاول موسى أن يستعيد ما قدمه سلميان إلى عمانوئيل، فحاصر ثيسالونيكية واستولى عليها، ثم زحف على القسطنطينية نفسها، فاستعان عمانوئيل بمحمد، فعبر هذا إلى أوروبة وتعاون مع أسطفان لازاروفيتش ديسبوتس الصرب، فتَغَلَّبَا على موسى بالقرب من جامورلو في العاشر من تموز سنة ١٤١٣، ولعله قتل خنقًا في معسكر أخيه محمد، وعاد محمد إلى آسية الصغرى تواكبه قوةٌ روميةٌ، فأعلن نفسه سلطانًا على العثمانيين (١٤١٣) وجدد تحالفه مع «والده» عمانوئيل واعترف بسلطته على ساحلي الأسود ومرمرة وعلى ثيسالونيكية وثيسالية،١٥ أما البشناق والصرب والبلغار فإنهم استعادوا حريتهم، وحفظ محمد الأول عهده هذا وحافظ عليه طوال سني حكمه.

عمانوئيل الثاني والمورة

وانتهز عمانوئيل هذه الفرصة، فرصة الوئام بينه وبين محمد، فقام إلى ثيسالونيكية وأقام فيها مدةً من الزمن، ثم برحها في ربيع السنة ١٤١٥ فزار ابنه ثيودوروس الثاني ديسبوتس المورة، وتَفَقَّدَ شئون الرعية في المورة ووطد سلطته فيها، وأنشأ عند برزخ كورنثوس خطًّا دفاعيًّا هامًّا امتد ستة أميال كاملة، ومن هنا اسمه اليوناني Hexamilion وحصَّنه بالأبراج وأنشأ ما قارب المائة والخمسين برجًا،١٦ وأصغى عمانوئيل في أثناء إقامته في المورة لبرنامج فيلسوفها غيميستوس بليثون Gemistus Plethon، وكان هذا الفيلسوف المتأخر شديد الإعجاب بجمهورية أفلاطون، فاقترح إلغاء الملكية العقارية الخاصة وتبسيط الضرائب وإنشاء جيش وطني يحل محل الجنود المرتزقة، وكتب في هذا كله رسالتين وجههما إلى الفسيلفس عمانوئيل الثاني،١٧ وأبقى عمانوئيل بكره يوحنا الثامن في المورة ليعاون أخاه في تنظيم إدارتها وتوطيد السلطة فيها، وعاد هو إلى القسطنطينية في آذار السنة ١٤١٦.

عمانوئيل الثاني ومراد الثاني

وبوفاة محمد الأول انتهت فترة الاستراحة وعاد ابن محمد وخلفه مراد الثاني (١٤٢١–١٤٥١) إلى حلم أجداده؛ أي إلى محاولة الاستيلاء على القسطنطينية والقضاء على ما تَبَقَّى مِنْ دَوْلَة الرُّوم، وأظهر مراد الثاني شيئًا من حُسن النية لدى وصوله إلى العرش، فاقترح على عمانوئيل تجديدَ المعاهدة التي وقعها والده من قبله، وقد سبقت الإشارة إليها، ولكن عمانوئيل طلب إلى السلطان الجديد أن يبقي ابنه رهينةً في القسطنطينية، فأبى.

وفي التاسع عشر من كانون الثاني سنة ١٤٢١ أعلن يوحنا الثامن فسيلفسًا وشريكًا لوالده في الحكم، فأطلق سراح مصطفى بن بايزيد المطالب بالعرش العثماني، كما حرر جنيدآ الوزير السابق الثائر، فاضطر مراد الثاني إلى أن يحارب مصطفى فتلاقيا في ميدان لوباذيون Lopadion فخسر مصطفى المعركة وفرَّ هاربًا، فألقي القبض عليه وأُعدم في أدرنة في مطلع العام ١٤٢٢، وحاول عمانوئيل التقرُّب من مراد ولكن دون جدوى، وقام مراد الثاني بخمسين ألف جندي إلى القسطنطينية وضرب عليها الحصار، واستعان بعددٍ من المدافع القديمة الطراز، ثم اضطر إلى أن يرفع هذا الحصار لمجابهة ثورة هامة أذكاها عمانوئيل في بروسة ونيقية والقرمان، وكان زعيم هذه الثورة مصطفى أخا مراد، وقُدِّر لمراد أن يخمد نار هذه الفتنة بسرعة فعاد إلى أوروبة يزعج خصمه الفسيلفس في المورة، فإنه أنفذ إليها قوةً في السنة ١٤٢٣ فدكت حصون عمانوئيل عند برزخ كورنثوس واستولت على ميسترة وغيرها من القلاع، وقام مراد الثاني بنفسه إلى ألبانية والبشناق وفرض إتاوة على هوسبودار الفلاخ.

يوحنا الثامن في الغرب (١٤٢٣)

وفي هذه السنة نفسها قام يُوحَنَّا الثامن إلى أوروبة يستنهض الهمم، فزار البندقية وميلانو والمجر، وأَحَبَّ البابا مرتينوس الخامس أن ينتهز هذه الفرصة لتوحيد الكنيستين، فارتأى أن يُصار إلى انعقاد مجمع في إيطالية، وأرسل الكردينال سانتانجلو Sant’Angelo إلى القسطنطينية لهذه الغاية، ولكن عمانوئيل الثاني أجاب بأنه لا يمكن تحقيق الاتحاد المنشود دون مجمع مسكوني يُعقد خصيصًا لهذه الغاية، ومما جاء في بعض المراجع الأَوَّلية أن عمانوئيل أوصى قُبيل وفاته «ألا يُنظر إلى الاتحاد إلا كوسيلة لصد الأتراك، وأن يصار إلى المطالبة بعقد مجمع مسكوني، وأن يماطل في ذلك بقصد كسب الوقت، وأنه لا يمكنُ التوفيقُ بين عجرفة اللاتين وعناد الروم.»١٨

وفاة عمانوئيل الثاني (١٤٢٥)

وصالح عمانوئيل مرادًا الثاني على أن يدفع إتاوةً سنويةً قدرها ثلاثمائة ألف آسبر وأن يدخل في طاعة السلطان، ومقابل هذا يسمح له بالاحتفاظ بالمورة وبمزمبرية وذركوس ويُعيد جميع مُدُن مقدونية والبونتوس إلى العثمانيين، ووقعت معاهدةٌ بهذا المعنى في الثاني والعشرين من شباط سنة ١٤٢٤.

وكان عمانوئيل قد تَنَحَّى عن العمل منذ أن توَّج ابنه يوحنا الثاني، ثم لبس أسكيم الرهبنة وانعزل في دير «الكلي القدرة» Pautocrator باسم الراهب مَتَّى، ثم تُوُفي في الحادي والعشرين من تموز سنة ١٤٢٥، وكان في السابعة والسبعين من عمره.
١  Gibbons, H., A., Op. Cit., 192.
٢  Eckhardt, Op. Cit., 40–42.
٣  Guerin-Songeon, Hist. de la Bulgarie, 293-294.
٤  Muralt, Chronog., 6899, 10-11; Donkas, Chronog., XIII, 812.
٥  Zakythinos, D. A., Despotat Grec de Morée, 155-156; Rodd, Princes of Achaea, II, 249-250.
٦  Bréhier, L., Byzance, 468-469.
٧  Delaville-Leroux, La France en Orient, 226–229.
٨  Delaville-Leroux, France, 247ff; Hammer, J., Emp. Ott., I, 324–338; King, G., Die Schlacht bei Nikopolis; Atiya, A. S., Crusade of Nicopolis.
٩  Zakythinos, D. A., Op. Cit., 155ff.
١٠  Ostrogorski, G., Gesch. d. Byz. St., 397-398.
١١  Marinescu, E., Manuel II Paléologue, Bullet. Acad. Roum, 1924, 194ff.
١٢  Schlumberger, G., Un Emp. de Byz. à Paris et à Londres, Byz. et les Croisades, 1927, 87–147; Jugie, M., Voyage de l’Emp., Manuel en Occident, Echos d’Orient, 1912, 322–332.
١٣  Alexandrescu-Dersca, M., Campagne de Timur en Anatolie, (1942); Grousset, R., Empire des Steppes, 476–534.
١٤  Doukas, Chron. XVIII, 157; Hammer, J., Emp. Ott., II, 125ff; Iorga, N., Notices, I, 1403.
١٥  Diehl, C., Europe Orientale, 354; Doukas, Chronog, 97.
١٦  Zakythinos, D. A., Despotat, 175ff.
١٧  Tozer, H. F., A Byzantine Reformer, Jour. Hell. Studies, VII, 353ff.
١٨  Phrantzes, II, 13.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤