أبي

ماتت أمي قبل أن أبلغ العاشرة، فأنا لا أذكر منها سوى ملامح كالأطياف. ومع أن ذكرياتي المحدودة والمحددة، تضع أمي في إطار القسوة، فإني أثق — الآن — أن الطيبة كانت هي السمة الأساسية في شخصية أمي. ساعدني على تفهُّم ذلك أحاديث أبي عنها، وقراءاتي في الرسائل التي كانت تبعث بها من دمنهور — مدينتها — إلى أبي في الإسكندرية، رسالتين، وربما ثلاثًا كل يوم. كل رسالة تبدأ بالقول: «حبيبي الغالي لطفي أفندي»، أو «خطيبي العزيز لطفي بك» … ويتصدر الرسالةَ، أحيانًا، رسمٌ بأقلام ملونة لساعي بريد، أو قلبين، أو وردة، أو كيوبيد بقوسه الأشهر. وكانت كلمات الرسائل بسيطة ومحبة وطيبة. وثمة ذكرياتي الشخصية المتناثرة، بعد غربلتها من تأثيرات عقابها لتصرفاتي، والذي بلغ — في معظم الأحيان — حدَّ القسوة.

كان اللعب في الشارع الخلفي يحتاج إلى وساطة من أبي، حتى تُعلن أمي موافقتَها. وكانت نظافتنا اليومية حرصها الدائم. أحكي لها عن توضُّئي في جامع سيدي علي تمراز. تهزُّ رأسها في غير اقتناع: ادخل اتشطف!

وحين عانت مصرُ وباءَ الكوليرا في ١٩٤٧م، كان من بين الإجراءات التي اتخذتها وزارة الصحة فتحُ أبواب حمام الأنفوشي لتلاميذ المدارس، والعاملين في الميناء والمصالح الحكومية بحي الجمرك. كان التلاميذ — والعمال — يذهبون في طوابير إلى الحمام. يُسلِّم كلُّ واحد ثيابه، ويتسلَّم قطعة صابون، ويغسل جسده جيدًا بالماء الساخن، ليحلَّ آخرُ مكانَه، ويحصل — عند انصرافه — على ثيابه بعد تعقيمها. وجدَت أمهاتُنا ذلك التصرفَ أمرًا معيبًا: هل نُعاني القذارة، بحيث نذهب — قسرًا — إلى الحمام العمومي، فنغتسل ونُطهر ثيابنا؟!

تفتَّق ذهنُ صديقي وجاري عادل الصبروتي عن حيلة بارعة: لماذا لا نستغل رفض الأمهات في الفرار من الواجبات التي ينتهي عدم مذاكرتنا لها بعلقة ساخنة؟ … وألفنا الادعاء أن المدرسة ستُنظِّم لنا في الغد زيارةً إلى الحمام. وألفنا كذلك أن ترفض أمُّ الصبروتي، وأمي، خروجنا من البيت: ماذا يظننا هؤلاء الناس؟ … وكنَّا — بدلًا من أداء الواجب اللعين — نُزجي النهار في لعب متواصل، على بسطة السلَّم!

كنت «شيئًا» ينبض بالشقاوة والعفرتة. أُحطِّم ما يصادفني، وأشارك الأولاد مشاغباتِهم لخلق الله. وكان الجيران يشكون لأمي، فتضربني وهى تصيح: أموتك … ولا تطلعش مجرم! … يتملَّكني الضيق، وأتساءل: هل تكرهني؟! … وكانت أمي تُشدد علينا، فنعود عقب أذان الفجر مباشرة، وقبل أن يُضيء عفريت الليل مصابيحَ الغاز بعصاه الخشبية الطويلة.

ويومًا، شارك أخي أبناء الجيران معاكساتِهم لعم سيد ساكن الشقة العلوية: يا راجل يا عجوز … مناخيرك قد الكوز …

ومع أني عزفت عن المشاركة — ربما لأني كنت أتوقَّع عقاب أمي — فقد شكا الرجل الطيب لأمي «أولادها». وبهمة غير منكورة، قيدَت سيقاننا — أخي وأنا — بحبل واحد، ثم انهالَت بعصا «التنفيض»، لا تأبه بتوسلاتنا ولا صرخاتنا، حتى أنقذنا — باستثارة أمومتها — جارُنا الأعز عبده فرج الصبروتي!

وماتت أمي، وكبرتُ أنا، وتزوجتُ، وأنجبت. وكان من الطبيعي أن تعود الذكريات، وتنشأ المقارنة، وتتوضح معانٍ كانت غائبة، من بينها إشفاق الأبوين على مستقبل أبنائهما، والفارق بين التدليل والإفساد، والتعويد على الحياة السهلة، أو تلك التي تحرص على القيم. كان الإشفاق والحنان والخشية من الانحراف، هو الباعث وراء الإيذاء المتواصل من أمي …

أدركت ذلك متأخرًا، وبعد فوات الأوان!

•••

من الصعب أن أنسى ماعانَته أمي من مناقشات حامية، طرفها المقابل أهل أبي. كانوا يتحلَّقون حولها في غرفة «العقاد»، يُعيدون عليها رأيهم بأن أبي أخطأ حين تزوج فلاحة! — ألم يكن أصلُه القريب فلاحًا؟! — وكنت أُشفق على أمي جدًّا. مع أني لم أكن أفهم مَن الخاسر ومَن المنتصر في تلك المعارك الكلامية، فإني كنت أُشفق عليها لمجرد أنها تُواجه — بمفردها — أربعَ أو خمس نسوة، أتَينَ إليها ليطرحنَ السؤال — مجددًا — كيف تزوجت أبي؟!

•••

على الرغم من أنه قد مضى على وفاة أمي عشرات السنين، فإني أتذكر يوم رحيلها كأنه الأمس …

كانت تُعاني مرضًا في القلب، أضاف إلى تأثيراته حبُّها المسرف للنظافة. كانت تحرص على نظافتها الشخصية ونظافة البيت، إلى حد الوسواس …

رأسًا على عقب، لم أجد ما يصدق في التعبير عن هذا المعنى إلَّا في حرص أمي على النظافة، نظافة تُكرر نفسها كلَّ صباح إلى قرب المغرب، فهي تبدأ في تنظيف الشقة فور انصراف أبي إلى عمله، وانصرافنا — إخوتي وأنا — إلى مدارسنا، لا تكل ولا تمل؛ فالكراسي تُوضَع مقلوبة على ترابيزة السفرة، وأرضية الحجرات تُكنس، وتمسح الصالة والطرقة بالماء والصابون والليزول، والفوطة تجري على كل ما في البيت، حتى السرير النحاسي في غرفة نومها، تطمئن إلى التماعه بعينَين متفحصتَين، ورأس العبد — أداة نظافة مندثرة! — تنفض التراب من الشبابيك والأسقف والجدران. يقرصنا الجوع، فتُسكته بسندوتش حتى تنتهيَ من عملية التنظيف اليومية. ربما جلسنا إلى طعام الغداء قبل المغرب أو بعده، ولم تكن الخادمة تجد — في الأغلب — ما تفعله، إلَّا مراقبة أمي وهى تحمل المنفضة ورأس العبد والجردل والخيشة … وهات يا تنظيف! … وربما أعادت ما فعلته الخادمة بإهمال، سواء أكان ذلك صحيحًا أم أنه ما كانت تتصوره أمي. وحين أسرفت أمي في التشديد على الخادمة الجديدة أن تغسل كلَّ شيء، أقدمت الخادمة المسكينة على غسل الحلاوة الطحينية بالماء … وبالطبع، فأنت تعرف النتيجة!

زاد المرض على أمي، فلزمَت الفراش. ألفتُ رؤيتَها راقدةً سنة كاملة، يعودها جدِّي وجدَّتي وأخوالي من دمنهور، ويعودها — أحيانًا — أهل أبي. كانت فترات تعرُّضها للإغماء تطول، فيُداخلنا القلق. لكن الطبيب المصري الذي يسكن شقةَ الطابق الثاني — ولقبه، فيما أذكر: النجار — حظيَ بيتنا بطبيبَين، كما ترى، أرمني ومصري، وإن لم تَحُل رعايتهما دون وفاة أمي في سنٍّ باكرة. هذا الطبيب، كان يبادر إلى إسعافها بما لم أتبيَّنْه من أدوية.

في ذلك اليوم، وعقب عودتنا من مدارسنا، نادَت أمي على شقيقتي بصوت واهن، وأوصَتها بما لم أسمعه منها من قبل، بأبي وبنا وبالبيت. وشدَّدت على أهمية أن ترعى أخي الأصغر، وكان في عامه الثاني. واستمعَت شقيقتي إلى نصائح أمي في صمت، لم تسأل أو تناقش، وخمَّنت — في وقفتي على باب الحجرة — أنها — مثلي — لم تفهم مما قالته أمي معنًى محددًا. فلما قَدِم أبي من عمله — وكنت لا أزال في مكاني على باب الحجرة — تحسَّس جبهةَ أمي بيده، ليطمئن — فيما يبدو — على حرارتها، فأخذَت يده، وقبَّلتها — لم أكن رأيتها تفعل ذلك من قبل — وقالت: سامحني يا لطفي — اسم أبي — أتعبتُك بمرضي!

وهوَّن أبي الأمر عليها، ودعا لها بالشفاء.

ذهبتُ إلى الحجرة المطلَّة على الميناء الشرقية. تشاغلتُ بتأمل مراكب صيد المياس، وروَّاد قهوة فاروق، والقادمين إلى بحري في ترام رقم ٤. ثم دخلت الشقة على أصوات متلاغطة، وبدا الجميع مذهولين وهم يدخلون، ويغادرون، غرفة أمي. وقالت الجدة في شقة الطابق الرابع، إنها كانت تجلس بجوار أمي، تعودها، لما انتفضت أمي — فجأة — وأشارت إلى ما لم تتبيَّنْه العجوز، وهتفت: أبعدوه من هنا! … ثم سكت صوتها، وجسمها.

أمرني أبي بالنزول إلى مردروس، الطبيب الأرمني بالطابق الأول. وصعد الطبيب السُّلَّم بخطوات متباطئة. وكان يقف، في كل طابق، أمام النافذة المطلَّة على الشارع الخلفي، ربما ليأخذ أنفاسه، وكنت أدعوه — بيني وبين نفسي — إلى الإسراع في الصعود، كي يُنقذ أمي.

أطال الدكتور مردروس تأمُّلَ الجسد الساكن. كانت العينان جاحظتَين، والبطن منتفخًا بصورة ملحوظة، والجسد بكامله متصلِّبًا، كأنه وُضع في قالب. مال الرجل على صدر أمي، وباعد بأصبعَيه بين الجفنَين، وضغط بقبضة يده على البطن المنتفخة، ثم هزَّ رأسه في أسًى: ماتت!

وانطلقت صرخة من إحدى الواقفات.

قضينا — إخوتي وأنا — ليلتنا في شقة الجيران المقابلة. وأصرَّ أبي — في الصباح — أن نذهب إلى مدارسنا. فلمَّا عدنا، ظللنا في دكان عم عبد السلام الحلاق أسفل بيتنا، فلم يُؤذَن لنا بمغادرته، حتى شُيِّعت الجنازة. ولا زلت أذكر ارتجافةً شملتني حين رأيتُ قطعة الليف التي «غُسِّلت» بها أمي، في أرض الطريق.

وقد انعكست مشاهدُ ذلك اليوم في العديد مما كتبتُ.

•••

داخلني شعورٌ بالراحة لوفاة أمي. كنت أسأل نفسي: لماذا تُعاملنا بهذه القسوة؟ … لماذا ترفض نزولنا للعب في الشارع الخلفي؟ … لماذا تضربنا عمَّال على بطَّال دون تثبُّت من الاتهامات التي نُواجهها؟

•••

يصعب القول أني تأثرت بأمي على نحوٍ ما. فقد ماتت — كما رويتُ لك — قبل أن أُجاوز التاسعة. ووجدت بعض الآراء النقدية في رحيل أمي الباكر، عاملًا في غياب المرأة عن معظم ما كتبت، وهي آراء تفتقد الموضوعية؛ لأن مجتمع «الأسوار» يخلو من المرأة لطبيعة المجتمع نفسه، فهو معتقل، و«إمام آخر الزمان» استلهمت واقعة ظهور المهدي في ضوء العقيدة الشيعية الإمامية؛ بحيث يغيب أيُّ دور فعلى للمرأة. وكان رحيلُ زوج المتنبي آخرَ عهده بالمرأة. غابت المرأة حتى عن قصائده، واتفق النقَّاد على أن غزليات المتنبي هي أضعف ما في ديوانه. لكن المرأة لم تَغِب عن «قاضي البهار ينزل البحر»، و«قلعة الجبل»، و«النظر إلى أسفل»، و«الصهبة»، وعشرات القصص القصيرة؛ بحيث يصعب التأكيد على غياب المرأة عن أعمالي بصورة قاطعة.

مع أن أبي (١٨٩٧م) من مواليد قرية «بركة غطاس» التابعة لمركز أبو حمص، التابع لمديرية البحيرة — محافظة البحيرة الآن — (شملَتني فرحةٌ غامرة عندما قرأت في كتب التاريخ أن قرية أبي «بركة غطاس» قد سدَّت مجرى الماء فيها، كي تحولَ بين قوات نابليون والشرب منه، وإن أحزنني — في الوقت نفسه — أن جنود الفرنسيِّين عاقبوا أهل القرية، بإحراقِ القرية ونهبِها). ومع أن حلَّ الأوقاف الأهلية قد أظهر في شجرة عائلتنا جَدًّا اسمه «قاضي البهار» ترك أراضٍ وعقارات في باب الشعرية وأطفيح وكوم حمادة ومناطق أخرى في مصر، ومع أن أبي كان يعتزُّ بانتمائه إلى الإسكندرية التي نشأ فيها، وعمل، وتزوَّج، وأنجب أبناءه … مع ذلك، فإن الجدَّ القديم لعائلتنا «جبريل» — كما روى لي أبي — ربما أتى من إحدى دول المغرب العربي. والملاحظ — بالفعل — أن العديد من عائلات الإسكندرية وفدَت من المغرب العربي، سواء بالطريق البري، عبر صحراء ليبيا — لوبيا، اسمها قبل الخمسينيات — أو بالسفن من طريق البحر.

لكن وَعْيِي تفتَّح على الإسكندرية. شهدَت طفولتي ونشأتي وصباي ومطلعَ شبابي، وهي صورة «الموطن» في ذاكرتي، وهي المكان الذي تخلقت فيه — حتى الآن — غالبية أعمالي، وبالذات: هذه المنطقة ما بين المنشية وسراي رأس التين، تضم المرسي أبو العباس، والبوصيري، وياقوت العرش، وعلي تمراز، والميناء الشرقية، وحلقة السمك، والسيالة، والصيادين، والمسافرخانة، والحجاري، والموازيني، وشارع الميدان، وسراي رأس التين … إلخ. في هذه المنطقة، مارس أبطال قصصي حيواتهم: سكنوا البيوت، وتنقَّلوا في الميادين والشوارع والأزقَّة، جلسوا على شاطئ الكورنيش، قضَوا الأمسيات في حدائق رأس التين، عاشوا اللحظات الهانئة، والقاسية، اصطادوا بالسنارة والجرافة والطراحة، واصطادوا المياس ساعات العصارى، ترقَّبوا النوات وعانَوا تأثيراتِها، بدءًا باختطاف الرجال في البحر، إلى توضح الكساد في ملازمة البيوت، أو شغل الوقت بالجلوس على القهاوي.

•••

كان أبي حريصًا على الزيِّ الكامل: البذلة والكرافتة والطربوش والحذاء المغلق. لا أذكر أني شاهدته يومًا يرتدي قميصًا أو صندلًا، أو أنه يغادر البيت، أو يأتي إليه، بلا طربوش. ومع أن الطربوش لم يَعُد زيًّا رسميًّا منذ العام الأول للثورة، فإن أبي ظل حريصًا على ارتدائه، ودفعت — أحيانًا — ثمن حرصه. تحوَّل الغالبية من أصحاب محال الطرابيش إلى مهن أخرى. وكنت أنتظر بالساعتين أو الثلاث، حتى ينتهيَ «الطرابيشي» الوحيد الذي ظل على ولائه لمهنته في حيِّنا، في امتداد شارع إسماعيل صبري بعد تقاطعه مع شارع الميدان. كان يستقبل طرابيش هؤلاء الذين عزَّ عليهم أن يتخلَّوا عن أغطية رءوسهم، حتى لو فعل الآخرون ذلك. أرقب الرجل وهو يضع الطربوش في قالب النحاس، ويرشُّه بالماء، ويضعه فوق النار، وفوقه المكبس. فإذا انتهى كيُّ الطربوش، ركَّب الرجل له الزرَّ، وانتقل إلى سواه. وفيما أذكره من بقايا أعوام الحرب، فقد كان أبي يوافق على نزول أمي وأختي إلى المخبأ عندما تنطلق صفارة الإنذار، بينما يرفض نزولي وأخي الأكبر، فنحن رجال. يأمرنا بالبقاء في السرير، ويُطفئ النور، ويقف بالقرب منَّا، يتلو آياتٍ من القرآن الكريم وأدعية، ويكلِّمنا، ويسلِّينا، ويروي بعض ذكرياته التي لا تتصل بلحظات الغارة. ولم تكن كلمة «الخوف» تأتي على لسانه.

وكان أبي يرفض أن نحدِّد المكان الذي نخرج إليه: الشارع الخلفي أو جامع المرسي أبو العباس، أو كورنيش الميناء الشرقية، وإن اشترط أن نذكر المكان الذي كنَّا فيه حين يُفاجئنا بالسؤال، فلا نكذب. وكان ذلك دافعًا لأن نحاذر في تصرفاتنا، لا نذهب إلى مكان نضطرُّ لإنكاره إذا سُئلنا: أين كنَّا؟

•••

تنقَّل أبي بين العديد من الشركات، ربما لأن المؤسسات الخاصة لم تكن تُعطي — حين يتركها الموظف — سوى مكافأة نهاية الخدمة، فلا تأمينات ولا معاشات. وثمة بطاقة لأبي — ما زلت أحتفظ بها — كتب فيها ثلاثةَ مواعيد لثلاث شركات، كان يعمل فيها من التاسعة إلى الحادية عشرة صباحًا، ومن الحادية عشرة والنصف إلى الواحدة والنصف بعد الظهر. أما الموعد الثالث فهو من الرابعة إلى السادسة مساء. وكان يترجم — في البيت — لشركات أخرى …

كان يُتقن — كتابةً وكلامًا — الإنجليزية والفرنسية والتركية والإيطالية واليونانية والألمانية. زاد من تعمُّقه فيها أنه كان يُترجم من كل لغة إلى الأخرى. فلما اشتدَّ مرضُ الربو على أبي، تصرَّف كالربَّان الذي أوشكَت سفينته على الغرق، فهو يتخفف من معظم ما تحمله السفينة لكى يحول بينها وبين المأساة. وقد «تخفف» أبي من الأعمال الإضافية في البيت. ثم لحق ذلك بالاستقالة من إحدى الشركات. ثم استقال من شركة ثانية. ثم أجبره اشتدادُ المرض على هجر عمله جميعًا، ولزم البيت.

وعشنا أيامًا صعبة.

•••

لم يكن أبي يكتفي بالتحدث عن المنفلوطي وطه حسين والعقاد والزيات والحكيم وهيكل والمازني وغيرهم، هؤلاء الذين أحبَّهم واقتنى مؤلفاتهم … لكن أحاديثه امتدَّت — أحيانًا — فشملَت العديدَ من أدباء الإسكندرية الذين لم تضمَّ مكتبةُ أبي أيًّا من مؤلفاتهم؛ ربما لأن غالبيتهم لم يُصدروا كتبًا، أو لأنه كان يكتفي بقراءة مقالاتهم في «البصير» و«السفير»، وغيرها من صحف الإسكندرية. تحدَّث عن عبد الحميد سالم، وعبد اللطيف النشار، وصديق شيبوب، وخليل شيبوب، وأحمد زكي أبو شادي، وإسماعيل أدهم، ونقولا يوسف، ويوسف فهمي الجزايرلي، وفليكس فارس، ومفيد الشوباشي … فلم أكن أعرف إلَّا أنهم أدباء من مدينتي، لم يُتَح لي — أيام صباي — أن أقرأ لهم، وإن أفلحتُ — فيما بعد — في أن أقرأ لهم قليلًا، وأقرأ عنهم كثيرًا. ثم جمعتني الصداقة والتلمذة بالنشار والشوباشي. تعرَّفت إلى الأول في مكتبِه بسراي الحقانية، ومجلسه المختار في بار قديم بشارع البوستة، خلف ميدان المنشية. وقرأت للثاني ترجمته لمسرحية ستيفان زفايج «إرميا». أعجبت بها كعملٍ فنيٍّ، وإن غابَت عني أهدافها الصهيونية المعلنة. فلمَّا توضحَت لي الأمور — فيما بعد — تحدَّثتُ إلى الشوباشي في شقته المطلة على شارع المساحة، عن شكوكي القديمة في أهداف مسرحية زفايج، والتي أصبحت — بعد أعوام قليلة — يقينًا كاملًا. ووافقني الرجل الطيب على الشك، وعلى اليقين، وأكَّد أنه لم يكن يُدرك حجم المخطط الصهيوني عندما قَبِل ترجمة المسرحية، فلم تكن التطورات الساخنة للقضية الفلسطينية قد لاحَت في الأفق القريب. ثم طلب — في أبوة نبيلة — أن أُهمل الإشارة إلى المسرحية، كأنها لم تُترجم، وكأني — بالتالي — لم أقرأها!

عمومًا، فسأحدثك عن النشار والشوباشي — كيف تتلمذت عليهما — في مناسبة قادمة.

•••

لعل اهتمامات أبي — حين أتذكَّرها الآن — كانت تؤهله لأن يُصبح كاتبًا. حوَت مكتبتُه آلافَ المجلدات، أفدتُ منها، وكانت بدايةَ تعرُّفي إلى الثقافة كاهتمام، وإلى الأدب كقضية حياة. وكان عمل أبي — كمترجم — قد أتاح له الاطلاع على الكتب في مصادرها. حتى الصحف الأجنبية؛ مثل «البورص»، و«الإجبشيان جازيت»، و«البروجريه إجبسيان»، كنت أجدها ضمنَ صُحُفِه اليومية. كان يُكلفني بشرائها من بائع الصحف على ناصية شارع التتويج وإسماعيل صبري (تعرَّضتُ — بسبب ذلك — لعلقة ساخنة من بعض الصبية، لا زلتُ أتذكَّر تأثيراتها على جسدي الصبي — آنذاك — فقد كان الصراع العربي الصهيوني في إحدى ذُرَى تفاقمه، عندما اشتريت لأبي مجموعةَ الصحف ذات صباح. وبعفوية، ثنيتُ الصحف بحيث كان ظاهرُها مكتوبًا بالفرنسية أو الإنجليزية. وهتف صبيٌّ: خواجة! والتفَّ الأولاد حولي، كلٌّ يحاول تأكيدَ شعوره الوطني بمقدار ما يُوجهه لي من ضربات ولكمات). وقد حرص أبي على تسجيل مذكراته اليومية، روى فيها — بأسلوب جيد للغاية — تطورات حياته، وتطورات حياتنا أيضًا، منذ حملَت بنا أمُّنا، حتى خرجنا إلى الوجود، وما عانيناه من أمراض، وما أنفق علينا من مصاريف، ومقدار استجابةِ كلٍّ منَّا لاختبارات الذكاء التي كان يُخضعنا لها بين حين وآخر.

وذات يوم — أتذكره جيدًا — كتب أبي مقالةً عن الأوضاع الاقتصادية في مطلع الخمسينيات — الفترة نفسها التي كتب فيها مقالته — ووضع المقالة في مظروف، وطالبني بتسليمها إلى صديق له يعمل مديرًا لمكتب «المقطم» بالإسكندرية. وسلَّمت الصديق المظروف، وتسلمتُ — بعد أيام — نسخةً من الجريدة، وطالعت — بحب — اسمَ أبي يلي عنوان المقالة، ويسبق المقالة التي احتلَّت نصف عمود في الصفحة الأخيرة.

وكان أبي صديقًا لعدد من قادة الأحزاب وكبار المسئولين. ويحتفظ ببطاقات المعايدة والرسائل التي يبعثون بها إليه في المناسبات المختلفة. خصص لها درجًا في «بوفيه» صغير بحجرة نومه — هو الدرج الوحيد المغلق في الشقة كلها — وكان يعتزُّ بوطنيةِ ابنِ عمه الصحفي الراحل محمد عوض جبريل، ويفتش عن مناسبة يتحدث فيها عن دور عوض جبريل في أحداث ثورة ١٩١٩م، والسلة التي طالما أخفى فيها القنابل، وحملها إلى أفراد الجهاز السري بقيادة عبد الرحمن فهمي، فضلًا عن كتاباته — عوض جبريل — التي لم يُتَح لي قراءتها، وإن أكَّد أبي أنها التزمت خطًّا وطنيًّا مطلقًا. وكانت مناقشات أبي مع أصدقائه تتسم بالفهم والوعي والاجتهاد وحسن الإنصات وبساطة التعبير عن الرأي، مهما يتجه إلى المخالفة … أتذكَّر ذلك في صورته الكلية، البعيدة، فأعجب لاكتفاء أبي — حتى وفاته — بعمليات الترجمة من لغة إلى أخرى، دون أن يجاوز ذلك إلى الكتابة في قضية ما تشغله — وما أكثر القضايا التي شغلته — أو، في الأقل، يترجم بعض الموضوعات التي لا تتصل بعمله، والذي تحدد في أمور الاستيراد والتصدير، والقضايا التجارية عمومًا. كنت أرجو أن يعتزَّ أبي بثقافته الواسعة، وإجادته الترجمة، لكنه كان يعتبر ذلك كله جزءًا من طبيعة عمله، فهو لا بد أن يكون قارئًا جيدًا، لاتصال القراءة بالمجال الذي اختاره حرفةً له، والترجمة كذلك وسيلته لكسب العيش. وكما أن سائق السيارة «المحترف» لا يباهي بأنه سائق جيد؛ لأن ذلك هو ما يجب أن يكون كذلك بالفعل، فإن أبي كان يعتبر اللغات ضرورةً لعمله، كمترجم، ولا يصحُّ بالتالي أن يتباهى بإتقانها. لكن ما كان يعتزُّ به أبي جدًّا، ويلحُّ في تأكيده، دوره في مساعدة شركة «الجراية» للورق بأفكاره وجهده، حتى تحوَّلت من دكان صغير إلى مصانع ومخازن ومكاتب، وأصبحت — في أواخر الأربعينيات — أولى شركات الورق في مصر، ثم لحقَتها في ١٩٦١م قراراتُ التأميم …

لكن اهتمامات أبي، ومناقشاته، مع الآخرين أو معي، ومكتبته الضخمة، كانت بدايةَ انحيازي إلى الأدب، حتى من قبل أن أتعرَّف إلى الأدب كتسمية. كنت أحيَا بما يُشبه اليقين أني سأُصبح أديبًا، أو لا أُصبح شيئًا على الإطلاق. وضعتُ كلَّ بيضي في سلة واحدة. راهنتُ على المستقبل المحدد بكل ما في حوزتي.

وقد انعكست شخصيةُ أبي في العديد مما كتبت: رواية «قاضي البهار ينزل البحر»، وقصة «تكوينات رمادية»، ذلك الأب الطيب الذي يعمل بالترجمة، ويعاني الهموم نفسها التي يُعانيها ملايين المصريين.

•••

مع أني أخبرت أبي باعتزامي أن أكون كاتبًا، ومع أنه كان يتابع — بإشفاق وخوف — انغماسي في حرفة الأدب، فأنا أُعيد كتابًا في مكتبته لأحصل على كتاب آخر، لا أكاد أفرغ لمذاكرتي، ومع أنه شاهدني وأنا أكتب، وأمزق ما كتبت، ثم أكتب وأمزق ما كتبت … مع ذلك فإن أبي أظهر عدمَ تصديقه بأن المحاولات التي عرضتُها عليه من تأليفي. يذكِّرني بما فعله والد بابلو نيرودا حين دفع إليه ابنه بمحاولته الأولى في الشعر. تلقَّاها — والكلام لنيرودا — وهو شارد الذهن، قرأها وهو شارد الذهن، أعادها إلى الصغير وهو شارد الذهن، وسأل: من أين نقلتها؟ كان أبي يتصفح ما أكتبه بنظرة عابرة، ثم يسأل في عدم تصديق: بذمتك أنت اللي كاتب الكلام ده؟!

أصرخ: طبعًا يا بابا.

يهزُّ رأسه: مش ممكن … أنت ابني وأنا عارف قدراتك!

لست أدري: ماذا كان يعني أبي بأنه يعرف قدراتي؟ وكيف استطاع أن يعرفها؟ وهل كان يتصور أني أنقل مما أقرأ؟ … معظم قراءاتي — وكتاباتي أيضًا — كانت في غيبة منه، ربما لو أنه لاحظ تقليبي في مكتبته بحثًا عما أقرؤه، لمنعني — خوفًا على الكتب، وإشفاقًا على وقت مذاكرتي — وربما لو أنه لاحظَ انشغالي بالكتابة إطلاقًا، بحيث تأخرَت هموم الدراسة إلى مرتبة تالية، لنصحني — في الأقل — أن أُعنَى بدروسي!

مع ذلك، فإن أبي أصدر حكمه على قدراتي، وانتهى الأمر. لم أحاول أن أناقشه، لأني كنت في غاية الإعجاب بقراءاته وكتاباته (تلك التي تمثَّلت في مذكراته اليومية، أو في ترجماته لمكاتبات العديد من الشركات، مثل كوري للأقطان، والجراية للورق، وغيرها …)

أحيانًا، أسأل نفسي: لو أن أبي عاش، هل كنت أظفر برضائه؟ … هل كان يطمئن إلى ما أكتب بعد أن يعلم أني أنا الكاتب بالفعل؟ … وهل كان يغفر لي مناقشتي لبعض تصرفاته، ورفضها في بعض الأحيان؟

ذلك كلُّه مما يصعب أن أقطع فيه — الآن — برأْي. ولعل إصراري — منذ البداية — على تأكيد سمات بعينها في محاولاتي، مبعثه ذلك السؤال الذي كان يُواجه به أبي ما أعرضه عليه من محاولات: بذمتك أنت اللي كاتب الكلام ده؟!

•••

كانت الفرنسية أحب اللغات الأجنبية إلى أبي. وعند موته كان قاموس الفرنسية مفتوحًا بالقرب منه. وأذكر أن المدرسة الأميرية الابتدائية كانت أول مدرسة حكومية تجعل من الفرنسية لغةً ثانية — بعد العربية — كي لا تصبح للإنجليزية وحدها السيادة على التعليم الوطني. ولأن أبي — كما قلت لك — كان يفضل الفرنسية على اللغات الأجنبية الأخرى، ولأنه — فيما يبدو — قد اقتنع بهدف إنشاء المدرسة، فقد ارتكب جريمةَ — لا يحضرني تعبير آخر! — نقلي من مدرستي إلى المدرسة الجديدة. والتحقت بالمدرسة الأميرية في منتصف العام الدراسي دون أن أعرف كلمةً واحدة من الفرنسية. وظلت كأنها عقدتي الدراسية إلى شهادة الثقافة العامة، فرسبتُ فيها بجدارة!

حاول — فيما بعد — أن أقتربَ من الفرنسية، أن أتعرَّف إليها، وأذاكرها، وأصادقها، تصبح هي لغتي الثانية كما أراد أبي، حتى استطعتُ — في النهاية — أن أُتقنَها.

•••

لم أكن أعرف أن «اللوتارية» هي اليانصيب. التسمية يونانية، واليونانيون هم الذين أدخلوا «اللوتارية» إلى مصر، وإلى الإسكندرية تحديدًا. مهنة رائجة في اليونان، نقلها معه أبناءُ الجالية اليونانية، ربما كنوعٍ من التكافل الاجتماعي فيما بينهم. ثم اتسعت الدائرة، فأقدمَت الهيئات والمؤسسات المصرية على إصدار أوراق اليانصيب لزيادة مواردها، وتعالَت في شوارع الإسكندرية صيحات الباعة: الإسعاف … المبرَّة … المواساة. كنت أكره اليانصيب، وأكره حتى الباعة الذين كانوا يعرضون على أبي كلَّ ما بحوزتهم من أوراق، يثقون أن توقُّعَ «الحظ»، وما يتصل به، يدفعه إلى شراء الأوراق. يضع بيدي حصيلةَ كلِّ يوم، عصر اليوم التالي، لتبيُّن ما إذا قد فاز بجائزة ما. وكنت أُبدِّل قدمي من التعب في وقفتي أمام دكان السجاير الصغير بشارع التتويج. بيدي قائمة أوراق اليانصيب التي اشتراها أبي، أراجعها على قوائم الأرقام، أسماء غريبة ولا حصر لها: الفراشة … الذبابة … الجعران … النحلة … إلخ. أعود — في الأغلب — بلا أرقام فائزة، وأعود — أحيانًا — برقم فاز بجنيهَين أو ثلاثة. يُعلن أبي فرحته بينما يكون قد دفع ثمنًا للأوراق — في اليوم نفسه — عشرة جنيهات أو أكثر!

كان اليانصيب، أو «اللوتارية» مأساةً نحياها، ونُعاني تأثيراتها السلبية القاسية، لكنها تحوَّلت في حياة أبي إلى إدمان لا يقوى على التخلُّص منه. وكان الجيران يُشفقون من طوابير الباعة الذين يسعَون للتخلص من كل ما بحوزتهم من أوراق، فيتسللون إلى شقتنا في الطابق الثالث، يتركون أبواب الشقق مفتوحةً ليُتاح رؤية الصاعدين إلى أبي، وطردهم. وكان أبي يجد فيما يفعله الجيران تدخُّلًا معيبًا في حياته!

•••

لستُ أذكر متى أُصيب أبي بالربو. عايشتُ — منذ طفولتي — توالي الأزمات في صدره. كان يتنفس بصعوبة، ويُطالبنا بفتح النوافذ لدخول الهواء، فلا يهدأ صدرُه إلَّا بحقنة الأدرينالين، أو قرص الإفيدرين، وغيرها من أدوية الربو التي كان يبعث بي لشرائها من صيدلية الإسعاف بشارع التتويج. كانت الأزمات متوالية، وقاسية، ينعكس تأثيرها — وتوقعاتها — على الوجوه، ويتملكنا عجزٌ حقيقي عن فعل أي شيء.

هل عانى أبي ما عاناه نتيجة تناوله المستمر للقهوة؟ …

النصيحة الطبية تقول: إن الإدمان على تناول القهوة بشكل مستمر، يومي ودائم، وبكميات كبيرة، يترك الكثير من الأضرار والعوارض المرضية، في مقدمتها اضطراب الجهاز العصبي فيثور مدمن القهوة لأتفه الأسباب — وكم عانينا من ثورات أبي — فضلًا عن عدم انتظام ضربات القلب، وقلة النوم، والحياة في أسر قلق دائم … إلخ. عرفت من الصور والمذكرات الشخصية التي خلَّفها أبي، أنه كان يحاول العلاج من مرض الربو، والفسحة — في الوقت نفسه — بصيد البط في كنجى مريوط (٣٥ كيلومترًا من الإسكندرية) أيامًا تبلغ العشرة أحيانًا، ثم يعود بكُتُبِه وأوراقه ومعدات صيده. وكان المعنى الذي يؤكده عقب كل المرات التي زار فيها كنجى مريوط، وإن تغيَّرت الكلمات: تحسُّن الحالة الصحية!

وقد صحونا — ذات ليلة — على «صوات» أمي يُعلن وفاةَ أبي. علَت الأزمة في صدره، حتى اختنق تمامًا …

لم أكن أُدرك معنى الموت، وإن تملَّكني خوفٌ للكلمات والتصرفات التلقائية التي واجهَت بها أمي الموقف؛ فهي تصرخ في عيوننا المبحلقة: أبوكو مات يا ولاد! … ونحن نقرض أظافرنا في عصبية وانعدام حيلة، وهى تلطم خدَّيها في تواصل، ونحن نُسلم أيديَنا إلى الجيران، يُغلقون علينا باب الشقة المجاورة، وهي تدفع الباب في هستيريا: خلِّيهم يشوفوا أبوهم، ونحن نتلاصق في خوف من المجهول … ويحاول عم نجيب الدخاخني — رب الأسرة المجاورة — إقناعنا بالنوم، لكن الدقائق، فالساعات، تمضي، والأصوات — في شقتنا — عالية، صاخبة، متلاغطة، والموت معنى كبير مخيف، وإن غاب عنَّا فهمه. ثم يفتح الباب فجأة، وصوت أمي يسبق خطواتها: أبوكوا عايش يا ولاد … أبوكو عايش! … وتقودنا الأيدي المترفقة إلى حيث أبي. كان قد استند بظهره إلى أعمدة السرير النحاسي. وبدا لنا المشهد غريبًا، وغير مألوف. ألفنا رؤية أبي في مقعده، فهو — طيلة بقائه في البيت — لا يكاد يغادره، ينشغل بأوراقه وكتبه وقواميسه التي شغلَت كرسيًّا مجاورًا، أو يُعِد لنفسه فنجان القهوة (نصحه الطبيب بأن يتناول مشروبًا ساخنًا، ليحرِّك البصاق الساكن في صدره، فاعتبرها فرصةً، واكتفى بالقهوة مشروبًا وحيدًا، يتناوله كلَّ دقائق!) أو يُدير الكرسيَّ المقابل، فيُسند ذقنه إليه، وينام. كانت تلك — منذ وعيت — طريقةَ نومه، فلا يغيِّرها. بدا لي المشهد غريبًا إذن، فلم أكن رأيت أبي من قبل على السرير، نائمًا أو جالسًا. وكانت محاولته لأن ينام — كما علمت — هي باعث الأزمة، التي رأى فيها الموت فعلًا!

•••

ربما كانت وفاة أمي التي صوَّتت قبل سنوات لوفاة أبي، ومرض أبي الدائم، والأزمة التي تصوَّرت أمي أنه قد مات بتأثيرها؛ فالأزمات التالية — في حياة أمي — وبعد موتها … هي باعث ترقُّبي لرحيله. كان يكبرها بسنوات. وكانت أزمات الربو تتوالى على صدره المتعَب، فبدا لي دنوُّ أجله في الأفق القريب. وكنت أُحدِّق في ذلك الأفق كل صباح.

كانت الأزمة تُفاجئه، فيختنق، ويستغيث بنسمة هواء، أو تأتيه إغماءة — ولعله كان ينام — وهو سائر في البيت، فيسقط، وكان دائم الحديث — بإشفاق — عن مستقبلنا … وجعل ذلك كلُّه وفاةَ أبي حدثًا في قبضة اليد. أصحو، فأُطِل من الباب الموارب، أطمئن إلى نومه على الكرسي، وأنفاسه التي تعلو بها حساسية الصدر. وإن حرصت فلم أُظهر ذلك التخوف الدائم من أن يُفاجئَنا أبي — يومًا — بالرحيل. لم أُصارح إخوتي، ولا أيَّ أحد.

ومع أن الأعوام طالت بأبي وهو يعاني أزماتِ المرض، فإنَّ تخوُّفي من رحيله — المفاجئ! — ظل هاجسًا أحيا في إساره غالبية أيامي، وأحرص على عادتي اليومية — أصبحت عادة! — بالنظر من الباب الموارب إلى جلسته النائمة، الثابتة، على الكرسي!

ثم مات أبي — فعلًا — في يناير ١٩٥٥م. ولم يكن معه سوى شقيقي الأصغر. كان يراجع بعض المفردات في قاموس الفرنسية، عندما أدرك دنوَّ الأجل. طلب من أخي أن يستدعيَ جارةً لنا في الطابق الأول. وصعدَت الجارة — اسمها، فيما أذكر، أبلة عزيزة — لتسمل عينَيه.

وقد عانى أبي — في أيامه الأخيرة — تربُّصَ الآخرين به؛ فهم يحاولون قتله. يطمئن إلى إغلاق النوافذ والأبواب، يتطلع — في عز الليل — من خصاص النافذة إلى الطريق، ويعطي انتباهه لكل صوت، ويشدِّد في السؤال عن شخصية الطارق، وطلب من شقيقتي أن تسأل — بعد وفاته — جارَ الطابق الأول عن السر الذي صارحه به أبي. وسألَت شقيقتي الجار، فاكتفي بالقول: ولا حاجة! فلما ألحَّت شقيقتي في السؤال، قال الرجل — في غير تصديق — أخبرني أبوك أنه ربما لن يموت ميتةَ ربه؛ فسيغتاله آخرون! …

وكانت تلك الأحداث — فيما بعد — إطارًا لقصتي «تكوينات رمادية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤