قاضي البهار

عرفت اسم «قاضي البهار» — للمرة الأولى — عقب ثورة يوليو. أُلغيت الأوقاف الأهلية، فأصبح واجب المستفيدين أن يقدِّموا إلى وزارة الأوقاف شجرة العائلة، بحيث يتأكد قرابتهم إلى صاحب الوقف. وبادر عمٌّ لي (إبراهيم جبريل المهندس بمصلحة التليفونات آنذاك) إلى استخراج شجرة عائلة، جذرها الأصلي هو زين الدين قاضي البهار جبريل، صاحب الأوقاف التي أفادت منها عائلة جبريل، بتوزع أغصانها وأوراقها لأجيال تالية.

الأوقاف الأهلية — كما تعلم — هي «العين الموقوف ريعها لانتفاع أفراد عائلة، على التعاقب، شريطة أن يئول هذا الحق — عند انقراض المستحقين — إلى غرض ديني أو خيري». وبالطبع، فإن المستحقين لم ينقرضوا، بل تضاعفوا، وانتشروا في الأرض، وأقاموا في المدن والقرى القريبة والبعيدة، حتى تقطَّعت الأواصر بين الفروع، فلم تبحث عن الأصول إلَّا عندما كان ذلك البحث شرطًا لحصولها على الأوقاف التي تركها ذلك الجد القديم: زين الدين قاضي البهار جبريل.

وأذكر أن عمي — في رحلة البحث عن الأصول — كان يروي لنا لقاءاتِه مع أفراد من عائلة جبريل، لم يسمع، أو يلتقِ بهم، من قبل، أطباء ومهندسين وعُمَد وتجار وحرفيِّين وصغار موظفين. وبعد أن أتمَّ شجرة العائلة تمامًا، توضَّح له — ولإخوته! — أن قاضي البهار قصر أوقافه على فرع واحد من العائلة دون بقية الفروع، فلم يَعُد من حقهم أن يحصلوا على شيء!

مع ذلك، فإن اسم «قاضي البهار» ظل في ذاكرتي لا يغادرها، يرتبط بقراءاتي المتنوعة في كتب التراث، بتصوراتي لنشأة عائلة جبريل: هل هي مصرية خالصة، أو أنها — كما قال لي أبي — وافدةٌ من إحدى دول المغرب العربي؟ وما الصلة بين جبريل في الإسكندرية والسودان وبلاد العرب؟ … ثم فرض الاسم نفسه — أخيرًا — بطلًا متفردًا في روايتي القصيرة «قاضي البهار ينزل البحر».

•••

المؤكد أن قاضي البهار ليس مصريًّا. والأرجح أنه وافد من المغرب. في كتاب ابن عطاء الله السكندري «لطائف المنن» نعرف أن من بين الأولياء الذين صحبوا أبا الحسن الشاذلي في رحلته من المغرب إلى مصر، الشيخ أمين الدين جبريل، وله مثل بقية أصحاب الشاذلي، علوم وأسرار وكرامات … فهل يكون هذا الولي هو بداية آل جبريل في الأرض المصرية؟ … أو أن الأمر أسبق من قدوم أمين الدين جبريل إلى البلاد؟ … أو أنَّ جدَّنا قاضي البهار هو البداية للأمر كله؟

لعل أحد التخمينات هو الأصح، ولعلها جميعًا خطأ.

وفي حي باب الشعرية حارة باسم «قاضي البهار». لا أدري متى كانت التسمية، ولا بواعثها … هل لأن جدي العزيز كان يسكن في الحارة، أو بالقرب منها، أو لأن عمله كان في الحارة؟

الاحتمال الأول هو الأرجح؛ لأن الأوقاف التي خلَّفها جدِّي قاضي البهار، اقتصر غالبيَّتُها على حيِّ باب الشعرية.

•••

لا شك أن الوجود المغربي في مصر سابقٌ على العصور الحديثة. بالتحديد منذ قصد المغاربة مصر في طريقهم إلى بيت الله الحرام، فضلًا عن المكانة الدينية التي يمثِّلها المشرق بصفة عامة.

كان أول قدوم المغاربة إلى مصر عندما غزاها الفاطميون، وقامت الدولة الفاطمية على أكتاف هؤلاء المغاربة. ويقول المقريزي: إن جوهر الصقلي «لم يدَع مالًا إلَّا جعل فيه مغربيًّا شريكًا لمن فيه» (المقريزي: اتعاظ الحنفا، ص٧٨). وثمة تجار من المغرب والأندلس كانوا يأتون — عبر الأراضي المصرية — بتوابل الهند وطرائف السند والعراق إلى أفريقيا والأندلس. ويُجمِع المؤرخون على أن أعداد الوافدين من المغرب والأندلس تزايدت في أعقاب استيلاء النصارى على الأندلس. وكان من بينهم حرفيُّون وفنيُّون في الصناعات المختلفة، وتجار. وكان من الوافدين — منذ بدايات العصر الفاطمي، والأسماء مبثوثة في كتب التراث — الشيخ أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، أبو الحجاج يوسف بن عبد العزيز بن على اللخمي الميورقي الشافعي، أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري الشاطبي، أبو عبد الله محمد بن لب الشاطبي، أبو الحسن على بن أحمد الهواري الفاسي، أو عمران موسى بن عيسى الغجومي الفاسي، أبو محمد عبد الله بن سليمان بن منصور التاهرتي، أبو الوليد يوسف بن مفضل القذافي، الشيخ أبو مدين الغوث، أحمد بن عبد الله بن هشام بن الحطيئة اللخمي، الحافظ محيي الدين أبو محمد عبد الواحد بن على التميمي المراكشي، أحمد بن على الحسيني البدوي، محب الدين محمد بن عمر رشيد السبتي، عبد الرحمن بن خلدون، أحمد بن المقري التلمساني، أبو مدين شعيب بن عبد الرحمن الدكالي، أبو الحسن على بن محمد الأخفش المغربي الشاعر، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن هانئ، وعشرات غيرهم.

ربما كان «قاضي البهار» واحدًا من هؤلاء الوافدين. ولا أدري — إن كان كذلك — هل كان شيعيًّا، مثل كل المغاربة حينذاك، أو أنه كان سنيًّا؟!

•••

استمرت العلاقات الودية بين مصر والمغرب في عهود المماليك. وظلت الإسكندرية — بالإضافة إلى موقعها البري — أهمَّ محطة بحرية بين المشرق والمغرب. وكانت دائمًا مهبطَ علماء المغرب والأندلس. ومن هنا كانت تسمية العرب للإسكندرية: بوابة المغرب.

•••

كانت فاس هي مدينة البداية للحجاج المغاربة إلى البيت الحرام، فهل كان قاضي البهار ضمن رَكْب الحج الفاسي — نسبةً إلى فاس — وتمييزًا له عن وفود ثلاثة أخرى من الجزائر وتونس وطرابلس؟

•••

كانت الرحلة من المغرب إلى الإسكندرية — أو القاهرة مباشرة — خاصة من طرابلس، عبر الصحراء الغربية، هي أقسى ما في الرحلة عمومًا، ومدتُها ما بين خمسة وأربعين يومًا إلى ثلاثة أشهر. يقول أبو القاسم الزياني: «لما نزلنا على مرحلة من مصر، خرج أهل مصر لملاقاة الركب والتبرك بمباشرة الحجاج. ومَن له قريب، قدَّم له مركبًا مزيَّنًا للوصول عليه للمدينة، لأن مراكبهم لا تبلغ إلَّا ضعيفة من كثرة التعب والسهر وقلة العلوفة والماء.» كان طول مسافة الرحلة يُحتِّم على المسافرين قضاءَ فترات، تقصر وتطول، في مصر، انتظارًا للخروج مع قافلة الحج. الأمر نفسه في رحلة العودة من الأقطار الحجازية. وربما تحولت الإقامة الطارئة — بالمصاهرة أو بالتجارة — إلى إقامة دائمة، في أعقاب رحلة الإياب، وقبيل رحلة الذهاب. وكان الحجاج الذين يصلون الإسكندرية، ينزلون — مدةَ إقامتهم بها — في زاوية أبي محمد صالح، ولهم فيها أوقاف. وثمة مَن كان يفضِّل الإقامة — عند الوصول إلى القاهرة — في الوكائل مثل الغوري وغيرها، إن لم يُتِح ضيقُ الوكائل لغير التجار إمكانيةَ السكنى فيها. وكانت أعدادٌ أخرى تسكن حيَّ طولون لقربه من سوق الدواب في الرملة، وما يحتاج إليه الحاج من أمور السفر. أما بقية الحجاج، فقد كان شاغلهم السكنى قرب الأزهر الشريف، نشدانًا للجو العلمي والروح الدينية، والالتقاء بالعلماء وطالبي العلم من كل الأقطار الإسلامية. وثمة العدد الأقل من الحجاج كانوا يأتون إلى الإسكندرية عن طريق البحر. وكان الحجاج المغاربة يقضون في القاهرة حوالي الشهر، كي ينضموا إلى موكب الحجاج المصري الذي كان يغادر القاهرة في شوال، أو ينتظرون فترة أطول لمن كان يفضل السفر إلى الأراضي الحجازية عن طريق البحر من القلزم (السويس).

•••

أما لماذا كان المغاربة ينتقلون إلى مصر، ولا ينتقل المصريون إلى المغرب، فلأن مصر — كما قلت لك — كانت طريق الحجاج المغاربة، يقضون في مدنها فتراتٍ تطول أو تقصر، يتعرَّفون إلى مظاهر الحياة، ويزورون الجوامع وأولياء الله الصالحين: السيدة نفيسة، والشافعي، وابن الفارض، وابن عطاء الله، والبوصيري، والمغاوري، وغيرهم، ويُقيمون الصداقات مع الأفراد المصريين والأُسَر المصرية، وربما يعقدون صفقات مع التجار المصريِّين. وقد يتردد أحدهم على رواق المغاربة بالأزهر الشريف، فينهل من العلم حتى يُجيزَه الأستاذ. ويعود الحجاج المغاربة إلى بلادهم، في حين يتخلَّف — كلَّ عام — بضعُ عشرات أو بضع مئات، يُؤثِرون الإقامة الدائمة. وتذوي — ثم تنتهي — الصلات بينهم وبين الوطن الأم.

ولم يكن الحجُّ وحدَه باعثَ اختيار آلاف المغاربة مصرَ وطنًا ثانيًا، دائمًا. فقد هاجر إلى مصر عشراتٌ من طلبة العلم، والفارين من الاضطهاد العثماني، ساعد على استقرارهم جميعًا في المدن المصرية أنها كانت قسمًا من البلاد العثمانية التي يُعَد المغرب كذلك قسمًا منها، فهم يُقيمون في قطعة من أرض الخلافة، في جزء من أرض الخلافة، في جزء من الوطن الإسلامي الكبير. وكان للعلماء المغاربة تأثيراتٌ مؤكدة في تكوين الطرق الصوفية في مصر.

•••

استقر المغاربة في أحياء القاهرة. تركَّزت جماعاتهم — بصفة خاصة — في أسواق الجمالية والفحامين ووكالة الكحكيين وباب الشعرية وقناطر السباع وبولاق وطولون، وفي عدد من المواني المطلَّة على البحر المتوسط، مثل الإسكندرية ورشيد ودمياط. وأنشأ المغاربة عددًا من الأسواق والوكائل التجارية، مثل سوق المغاربة الذي أنشأه في منتصف القرن التاسع عشر، التاجر التونسي يوسف بن شعبان، وسوق الكانتو الذي تملكه عائلة الراكشي المغربية، ووكائل الشيخ إبراهيم، وغيرها. ويُشير الجبرتي إلى أن النشاط الأساسي للمغاربة في التجارة، تحدَّد في تجارة البن والبهارات (اسم جدي: قاضي البهار) في الغورية وطولون، فضلًا عن النعال المغربية والبُلَغ. وكما يروي المؤرخون فقد استطاع المغاربة تكوينَ ثروات طائلة، تحققت لهم بها مكانة اجتماعية متميزة. بل إن الدكتور يونان لبيب رزق يَصِف التجار المغاربة بأنهم كانوا يشكِّلون العمود الفقري للطبقة البرجوازية في مصر.

وحتى الآن، فإن المدن المصرية تشغي بلافتات مثل «شارع المغربي»، و«حارة المغاربة»، و«عطفة المغاربة»، فضلًا عن سوق المغاربة الشهير في مدينتي: الإسكندرية. كما أن أوجه التشابه لا تزال قائمةً بين البيئتين المغربية والمصرية: الجلابة والجلباب، الطاقية والعمامة، الشال والسلهام والعباءة، وأثاث البيت؛ كالكنبة البلدي والصندوق والأواني كالطاس والإبريق والطاجن، حتى الحِلَى التقليدية؛ كالخلخال والأسورة والخاتم وغيرها. ومن مشابهات الأمثال المصرية والمغربية في مصر: أذكر الكلب وف إيدك عضمه … وفي المغرب: أذكر الكلب ووجد له عظم … وفي مصر: إذا شفت اتنين متفقين إعرف ان القلب على واحد … وفي المغرب: إذا شفت زوج من الناس متعاشرين إعرف باللي الدرك على واحد … وفي مصر: إذا لقيت الغالي في السوق تمِّنه … وفي المغرب: كيل العالي ولو كان غالي … وفي مصر: إذا كان المتكلم مجنون يكون المستمع عاقل … وفي المغرب: إذا كان المتكلم مهبول يكون المنصت عاقل … إلخ.

•••

الإسكندرية هي أقرب المدن المصرية الكبرى إلى المغرب، فضلًا عن أنها كانت ميناء مصر الرئيس — بل أولى المواني المصرية من ناحية الشمال الأفريقي، قبل اختراع الطائرات في مطالع القرن العشرين. لهذا، فقد استوطن الإسكندريةَ عددٌ كبير من أبناء المغرب، عملوا تجارًا وموظفين في الإدارات الحكومية.

أنشأ سوقَ المغاربة بالإسكندرية، في أواسط القرن التاسع عشر، تاجرٌ تونسي اسمه يوسف بن شعبان. ومن روايات أبي، أن أحفاده يشغلون معظم محال السوق حتى الآن. وكان السوق يعتمد — في تجارته — على صادرات المغرب من الأصواف والماشية، وعلى ما تُصدره السوق إلى المغرب من المنسوجات والسلع المختلفة. ولا يخلو من دلالة اسم «سوق المغاربة» بالقرب من المنشية. كان هذا السوق — كما روى لي أبي — مقصورًا — أو كاد — على التجار المغاربة، هؤلاء الذين وفدوا من المغرب، فقرروا الإقامة في مصر — لسبب أو لآخر — في رحلة الذهاب إلى الحج، أو العودة منه. وغالبية أولياء الإسكندرية ينتمون إلى أصول مغربية. وفي مقدمتهم المغاوري والبوصيري والحلوجي وغيرهم، بل إن معظم الطرق الصوفية بالمدينة، يمتدُّ أصولها إلى أقطاب من المغاربة؛ كالشاذلية والتيجانية والسنوسية والعبسوية والزيانية وغيرها … وأسماء: السيالة، الراكشي، غزالات، مدورة، النديم، كرموس، غبريال، كلها أسماء مغربية، بالإضافة إلى أماكن أخرى تبين عن التأثير الغلَّاب للوافدين المغاربة في مجتمع الإسكندرية. وكان ممثلو الإسكندرية في عهدَي إسماعيل وتوفيق، جميعهم من المغاربة: الشيخ مصطفى خليل جميعي، السيد عبد الرازق جميعي الشوربجي، السيد إبراهيم على جميعي، السيد سليمان المغربي، السيد سعيد الغرياني، عبد الحميد أفندي البيطاش. بل إن صديقي الشاعر السكندري عبد العليم القباني يرجع الحدَّة التي تتسم بها طباع أبناء الإسكندرية — أحيانًا — وأنهم قد يثورون ويغالون في ثورتهم، إلى معاشرتهم الطويلة للمغاربة.

•••

وعلى توالي الأعوام، مارس الشعب المصري خاصيته العجيبة. امتصَّ العائلاتِ والأُسَرَ ذات الأصل المغربي، فلم يَعُد من انتمائها إلى المغرب سوى الاسم أو اللقب، وأصبحت عائلاتٍ وأُسَرًا مصرية، تنتسب إلى مدن وقرى في قلب مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤