أيام في المعهد الديني

لعل الأعمال الروائية كانت أصدقَ تعبيرًا — ربما عن كتابات المؤرخين — في تصوير فترة التناحر الحزبي، في مجتمع ما قبل ثورة يوليو ١٩٥٢م. حيرة الشباب، وتوزُّعه، بين مختلف التنظيمات والأحزاب، السرية والمعلنة، هي نبضُ العديد من الأعمال الروائية لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وعبد الحميد السحار ويوسف إدريس وثروت أباظة وغيرهم. وكم كان مؤثرًا — في ختام «السكرية» — أن يستقبل السجن عبد المنعم شوكت الإخواني، وشقيقه أحمد شوكت الشيوعي، بينما ابن عمهما رضوان ياسين، الذي آثر استغلال مواهبه الجسدية في تحقيق طموحاته، يجني الثمار في سهولة ويسر.

بالطبع، فإن حداثةَ سنِّي لم تهبني الفرصةَ لتبيُّن مبادئِ كلِّ حزب واتجاهاته بصورة متكاملة، إنما هي ملامح مشوَّهة وغائبة التفاصيل، لكنها — مع ذلك — تُوضِّح، بدرجة وبأخرى، طبيعةَ الحياة السياسية المصرية، في واحدة من أخصب فتراتها.

أول حادثة سياسية أذكرها، عندما عاد أبي من عمله ظهر الأحد ٢٥ فبراير ١٩٤٥م (كنت في السابعة من عمري) في يده صحف اليوم، يتصدرها نبأُ مصرع الدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس الوزراء آنذاك. تقدَّم منه الشاب محمود العيسوي عضو الحزب الوطني، في البهو الفرعوني — بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ — تظاهر بالرغبة في مصافحته، ثم أفرغ رصاصات مسدسه في صدر رئيس الوزراء. كان الشاب قد أصدر حكمه، ونفَّذه، عقابًا لأحمد ماهر على اقتراحه بأن تُعلن مصر الحرب على ألمانيا الهتلرية.

لم أكن أفهم الموت تمامًا، فأثار ملاحظتي فحسب، أن كلَّ الصور المنشورة بالصحف كانت للرجل — أحمد ماهر — وهو يبتسم! … الموت — كما أفهمه — كريهٌ، فلماذا لا يحزن الرجل بعد أن مات؟ …

أعلنتُ ملاحظتي، فضحكت أمي، وقال أبي: كانت هذه الصور للرجل قبل أن يموت. مَن يموت لا يبتسم ولا يحزن ولا يشعر بما حوله! …

هززت رأسي كأني عرفت، وإن أخليت ذهني — فيما بعد — لتساؤلات لا نهاية لها.

كانت تلك هي المرة الأولى التي أتعرَّف فيها إلى أسماء: أحمد ماهر، محمود العيسوي، البرلمان، المحور، الحلفاء. ثم فرضَت الأوضاع التي أفرزَتها الحرب العالمية الثانية أن أنشغل — بقدر وَعْيِي المحدود — بالأحداث السياسية المهمة. شاركت بالقراءة والمتابعة، والمناقشة أحيانًا. وأعتقد أن وَعْيِي السياسي قد نضج في وقت مبكر؛ ذلك لأني حاولت أن أُدليَ برأيٍ في القضية الفلسطينية، قبل أن يُقرَّ مجلس الأمن مبدأ التقسيم، فرمقني «أحدهم» بنظرة استنكار واضحة، وقال: مش تشوف مذاكرتك الأول؟! … وتطوَّع جارٌ لنا، أتاح لي — قبلًا — فرصةَ النقاش في موضوعات شتى، بأن يمسح قطرات العرق التي تفجَّرت في صمت، وقال: بالعكس، إن وعيَه السياسي ممتاز! … وعرفتُ — يومها — أن آرائي السياسية — وقد استهوَت جارنا العزيز — ليست ساذجةً ولا نكرًا.

•••

كان عام ١٩٤٨م بدايةَ اهتمامي الفعلي بالقضية الفلسطينية. كنت في العاشرة من عمري. أعرف في السياسة بالقدر الذي يُتيحه لي ما يأتي به أبي من صحف، فضلًا عمَّا تضمُّه مكتبته من كتب سياسية. وتناول الشيخ عبد الحفيظ إمام جامع سيدي علي تمراز، في خطب الجمعة، معارك الشعب الفلسطيني ضد عصابتَي شتيرن والهاجاناة وغيرهما، وأمَّ المصلين في صلاة الغائب على روح عبد القادر الحسيني، وطالعت نداءات الدعوة للجهاد التي ألصقها الإخوان المسلمون والجماعات والأحزاب السياسية على جدران المباني، وفي الميادين، وتطوع للقتال الشقيق الأكبر لصديقي حسن السويفي، وقال حسن إن والدَيه حزنَا بشدة لتصرُّف شقيقه، وامتدَّت أحاديثُ أبي وأصدقائه، تتناول القضية منذ بداياتها، وأكَّد زوج عمتي جعفر بدر إبراهيم — وكان مأمورًا لمرصد كوم الناضورة — أن دخول القوات المصرية فلسطين، فرصة للتدرب الفعلي على فنون القتال، بعد أن شاركت — بالفرجة تقريبًا — في أحداث الحرب العالمية الثانية. وزادت متابعتي لتطورات الأحداث منذ الخامس عشر من مايو ١٩٤٨م. أحاول النطق السليم لاسم القدس — وكنت أنطقه بالفتحة جميعًا — والتعرف إلى الفرق بين سوريا وروسيا، وإن كانت أبعاد القضية قد توضحت أمامي تمامًا، ساعد على ذلك — كما قلت — أنباء الصحف ومعلومات الكتب ومناقشات أبي وأصدقائه. وكنت أشارك في تلك المناقشات — أحيانًا — بما لا يرى فيه أبي وأصدقاؤه سذاجةً ولا نكرًا!

•••

وأثناء انتخابات ١٩٤٩م، كنت في طريقي إلى الطنطاوي بائع الفول بشارع التتويج. وتسللتُ وسط حلقة من الناخبين كانوا يناقشون مرشحًا سعديًّا — لا أذكر سوى أنه كان ممتلئ القامة! — وكانوا يُنصتون — في تأثُّر واضح — إلى كلماته التي تركزت حول حادثة ٤ فبراير، وعلاقة مصطفى النحاس — وقرينته — باللورد كيلرن. وكان من خلفنا صورةٌ للنحاس وزينب الوكيل واللورد، تحتها كلمات تنعَى خيانة الزعامة الوفدية. وكضيف غير مدعو، قلت للمرشح السعدي: إذا كان النحاس قد أخطأ بقبول الأمر الواقع في ٤ فبراير، فإن النقراشي قد ارتكب جريمةً بحادثة كوبري عباس. لم يغضب الرجل لاقتحامي المتحمس. لقَّبني بالقاضي الصغير، وناقشني في خروج الزعامة الوفدية عن المسار الصحيح لحركة الوفد المصري، وأن السعديِّين هم التواصل الحقيقي لمبادئ الوفد كما كان يمثِّلها الراحل سعد زغلول، ومن هنا كانت تسمية «السعديِّين». وطال النقاش، والناس من حولنا ينظرون إلى صبي صغير، يرتدي بيجامة وصندلًا وبيده «كسرولة»، ومرشح يحاول أن يصوِّر لناخبيه — بالصبر على تبجُّح صبي — مدى ديمقراطيته.

والحق أن لم أشارك بجهد إيجابي في الحياة السياسية حتى أواخر الخمسينيات، اللهم إلَّا إذا كان ذلك الجهد الإيجابي قد تمثَّل — يومًا — في مظاهرة تدعو لأحد المرشحين.

كان أبي ينتمي — بعقله — إلى الحزب الوطني، وبعاطفته إلى الوفد. أما أنا فلم يكن يشغلني في كل ما أناقشه إلَّا تلمُّس جوانب الصواب والخطأ؛ فالنقراشي يصرخ في مجلس الأمن: أيها القراصنة، اخرجوا من بلادنا! … فهو إذن قد اختار الصواب. والنقراشي يفتح كوبري عباس على الطلاب المتظاهرين، فهو قد ارتكب جنايةً يستحق عليها الإعدام. وجرائم إسماعيل صدقي البشعة لا تلغي إنجازه لكورنيش الإسكندرية. ومواقف النحاس الوطنية لا تضع ستارًا على حادثة ٤ فبراير. لم أكن قد تعلَّمت النظر إلى الأحداث في بانوراميتها التي تتصل فيها النتائج بالأسباب، إنما هي مواقف لهذا الزعيم — أو الحزب — أو ذاك، فأرضى عنها، أو أسخط عليها، دون أن تتشكل خلال توالي الرضا والسخط، وجهة نظر أقتنع بها، وأدافع عنها.

ثم دعَت حكومة الثورة إلى إجراء انتخابات عامة لمجلس الأمة عام ١٩٥٨م، وسعيتُ للمرة الأولى في حياتي إلى شقة متواضعة بالقرب من طريق الكورنيش، حوَّلها أحد المرشحين مقرًّا انتخابيًّا له. وكان الباعث على ذلك التصرف أن المرشح — وأذكر من اسمه جمال الدين — كان أستاذًا بكلية العلوم، لم يسبق له الدخول في المعارك الانتخابية، بينما كان منافساه يُنفقان آلاف الجنيهات في كسب الأصوات، بدءًا بدفع ورقة نصف الجنيه، والاحتفاظ بالنصف الثاني حتى إعلان النتيجة، وانتهاء بالقسَم على المصحف أن يعد الذي يعطي الخصم صوته خارجًا من دين محمد، ويستحق النار حدفًا.

ولاحظنا — بعد أيام من بدء الحملة الانتخابية — أن عدد المترددين على المقر في تناقص مستمر. وكان السبب واضحًا، فلم يعد ما قدمه المرشح إلى ناخبيه فناجين الشاي أو القهوة. واقترحت — في تأدب — أن نفعل مثل الآخرين، فننظم مظاهرةً تطوف شوارع الدائرة الانتخابية، لعل المتعلمين من أبنائها يتنبهون إلى المرشح الخافت الصوت، فيعطونه تأييدَهم.

وغادرَت المظاهرة — عصر اليوم التالي — «مقرَّنا» الانتخابي. كانت تتألف من حوالي عشرين شخصًا، راحوا يعالجون الحرج في البداية — فلم يكن لأيٍّ منهم سابقُ عهد بالانتخابات، ولا بالمظاهرات الانتخابية — ثم انضم إلى المظاهرة — كالعادة — عددٌ من الذين ينضمون إلى كل مظاهرة، بصرف النظر عن انتماءاتها، ولا إلى ماذا تدعو، وعلَت الأصوات شيئًا فشيئًا، حتى تنبهت إلى نفسي فجأة، وأنا أتوسط المتظاهرين في شارع السيالة، أُردِّد الهتاف الذي لم يتغير: إن جيت للحق … جمال أحق! …

لكن الأمل في وعي متعلِّمي دائرة الجمرك شحب وتلاشَى أمام الأموال التي أنفقها المرشحان المنافسان. وكان نصرًا مبشِّرًا عندما استطاع مرشحنا أن ينال من الأصوات ما يستردُّ به تأمينه الانتخابي!

•••

كانت الشيوعية أولى التسميات السياسية التي تعرَّفتُ إليها. كنت أتلقَّى تعليمي الأوَّلي في مدرسة البوصيري بالموازيني، وأحاول الإفادة مما تعلَّمته بقراءة — الأدق: تهجي — ملصقات الأفلام، ولافتات الدكاكين، وكل ما تُصادفه عيناي. هزَّتني — في البداية — تلك الكلمات التي كُتبت بخط كبير على جدران المحكمة الشرعية بشارع فرنسا، ثم تكررت رؤيتي لها في جدران مباني الإسكندرية: «الشيوعية ضد الدين».

ولأن بيتنا كان يُطل على جامع، ولأني كنت أعشق أبا العباس: سيرته وضريحه وصحنه الفسيح وأعمدته الرخامية والميدان الصغير أمامه وناسه واحتفالات مولده، ولأن الترغيب — والترهيب — بالدين والحساب والعقاب والجنة والنار، كان بعض الطعام الذي فطمتُ عليه في طفولتي … لذلك كله، فقد هزَّتني الكلمات — أول ما استطعت قراءتها وفهمها — هزًّا عنيفًا: ألَا تخشى تلك الشيوعية أن تقف ضد الدين، بكل ما يحمله من قوًى جبارة؟! وتجسَّدَت خطورةُ الكلمات في ذهني إلى حدٍّ رفضتُ معه أن أسأل أبي عن معناها وبواعثها. دار السؤال في الذهن كثيرًا، وإن لم أَقُلْه. لعلي كنت أتهيَّب التعرُّف إلى مفاجآت لم تخطر لي ببال.

•••

نحن نلحظ أن عمران الإسكندرية كان يتمركز دومًا حول أضرحة أولياء المدينة، مثل القباري وبشر والشاطبي وجابر الأنصاري وأبي الدرداء والطرطوشي وغيرها … فضلًا عن منطقة بحري التي يعتبر أبناؤها جيرتَهم لأولياء الله شرفًا لا يقلُّ عمَّا يحسُّ به أبناء القاهرة بجيرتهم للحسين والسيدة زينب والشافعي والرفاعي والسيدة نفيسة وزين العابدين، وجيرة أهل طنطا للسيد البدوي، وأهل دسوق لإبراهيم الدسوقي، وأهل قنا لعبد الرحيم القنائي، وأهل دمياط لأبي المعاطي، وأهل الأقصر لأبي الحجاج الأقصري … إلخ.

بحري هو أشد أحياء الإسكندرية ازدحامًا بالمساجد والزوايا وأضرحة الأولياء. الدين هو الملمح الأهم: المرسي أبو العباس، البوصيري، ياقوت العرش، الطرطوشي، محمد صلاح الدين، ومحمد المنقعي، ومحمد مسعود أبناء الإمام زين العابدين بن الحسين، الشريف المغربي، أبو وردة، محمد الغريب شقيق قطب السويس عبد الله الغريب، أبو نواية، الطرودي، نصر الدين، مكين الدين، علي تمراز، عبد الرحمن، خضر … العشرات من أولياء الله الصالحين، مساجد وزوايا وأضرحة وأحواش أذكار، وليالي المولد النبوي، وعاشوراء، والإسراء والمعراج، والرؤية، ورمضان، ومواكب الصوفية، وحلقات الذكر، والقادمين من المدن المجاورة، نشدانًا للنصفة والبرء من المرض والستر والمدد.

أذكر — كالأطياف، أو كالحلم — عمليات إعادة إنشاء جامع أبي العباس المرسي في حوالي ١٩٤٣م — كنت أيامها في حوالي الخامسة من العمر — دمَّرَته عاصفة كهربية في ١٩٣٥م (كان الجامع — قبل ذلك — صغيرًا ومتواضعًا، يعاني شيخوخةَ أعوام تبلغ المائتين أو نحوها، منذ أُنشئ في القرن الثامن عشر). أُعيد بناؤه منذ ١٩٣٩م، وكنت أمرُّ بصحبة أبي أمام عمال البناء وهم يحملون قصاع الأسمنت المخلوط بالزلط، يستحثُّهم النغم الأشهر: هيلا ليصة! … وتم البناء في ١٩٤٣م، وإن افتُتح رسميًّا في ٦ مايو ١٩٤٥م. فلما كبرت، صرت أقضي فترةَ ما بين صلاتَي العصر إلى العشاء كل يوم في أبي العباس، للصلاة والاستذكار …

كنت أتصور أن الضريحَ المكسوَّ بالقماش الأخضر يضمُّ رفاتِ سلطان الإسكندرية، سيدي المرسي أبي العباس. ثم علمت أن الضريحَ لا يعدو الرمز، المعنى، الدلالة. هنا يقف الناس ويطوفون، يتلون آيات القرآن الكريم، يقرءون الأوراد والأحزاب والأدعية، يبثُّون السلطان شكاياتهم وما يعانون. أما الضريح الأصلي فهو في غرفة تحت الأرض، وإلى جواره مقبرة أخرى تضم رفات ولدَي المرسي: محمد وأحمد. وللضريح مدخل خاص من خلف الجامع.

•••

تعرفت في أبي العباس إلى ما لم يكن يُتاح لي التعرُّف إليه، لولا تردُّدي على جامع سلطان الإسكندرية. معتقدات وعادات وتقاليد وأنماط حياة. ونشأَت بيني وبين المترددين على الجامع من الشبان للاستذكار وللصلاة مثلي صداقات دائمة، وطارئة، وانغمستُ في أنشطة دينية وصلَت إلى حدِّ «الدروشة». قررت — في فورة من الحماسة الدينية — أن أصوم الدهر فلا أُفطر أبدًا، وأخلصت في تنفيذ قراري فعلًا، فأضفت إلى تأدية الصلاة في أوقاتها صومًا متصلًا. حتى وجبة السحور كنت أُعاني عدم تناولها، لا لإهمال من أبي في إيقاظي، وإنما لتعمُّد، حتى يقرصني الجوع نهار اليوم التالي، فأُنهي الصيام. ولمَّا توضَّح لأبي إصراري على الصوم، ولأني كنت أعاني هزالًا لا يصح معه الصوم، فقد لجأ أبي إليَّ أمام جامع سيدي علي تمراز القريب من بيتنا، ورجاه أن يُقنعني بصوم يوم واحد في الأسبوع، لخميس أو الإثنين. وقال الرجل — فيما أذكر، ضمن نصائحه — إن الله يعاقب المرء على إيذائه لنفسه. واقتنعت، واكتفيت بالصوم كل خميس. ثم اقتصر صومي على شهر رمضان، وهو ما أحرص عليه منذ صباي إلى الآن.

•••

لما بدأ تعرفي إلى التسميات السياسية من مبادئ وأحزاب وتنظيمات وشعارات، وكلمات مبهمة وبرَّاقة وتُثير الإعجاب والابتسام والغضب، كانت الشيوعية — كما قلت لك — في مقدمة التسميات السياسية التي توضَّحت دلالاتها — في تصوري — بالقراءة والمناقشات والتعرف المباشر. الملاحظة الثابتة التي لم تتغير في نظرتي إلى الشيوعية، منذ سِنِي الطفولة إلى الآن، أنها كانت هي التهمة التي تحرص السلطة الحاكمة على إلصاقها بالأصوات المعارضة غير التقليدية. وكانت التهمة نفسها هي مبعث الذعر الحقيقي أمام كلِّ تحرُّك نضالي، تعد له القوى التقدمية، حتى تلك التي ترفض الماركسية في برامجها. فبصرف النظر عن اعتبار الشيوعية من المبادئ الهدامة، التي يقابل بالسجن اعتناق أيِّ مواطن لها، كانت الشيوعية — كما حاولت السلطة، وأفلحت في تصويرها للملايين من أبناء الشعب المصري، وأنا مواطن مصري — أمرًا بالغ البشاعة والغرابة. ولعلي أستطيع التأكيد — في ثقة — أن السلطة الحاكمة والاستعمار البريطاني معًا قد أفلحا في تخويف القوى السياسية والاجتماعية من تأثيرات الشيوعية، حتى تلك التي جعلت شاغلها — بحق — قضايا الجماهير ومشكلاتها، وتحدَّدت أهدافها في أُطُر تقدمية. الشيوعية — على سبيل المثال — لا تعترف بالزواج، ومن حقِّ أيِّ رجل وامرأة أن يُقيما علاقة جسدية، بلا رباط اجتماعي أو قانوني، على أن تتكفل الدولة بتربية الأطفال. وطبيعي أن الرجل لا يقصر علاقته بامرأة واحدة، وأن المرأة — أيضًا — لا تقصر علاقتها برجل واحد؛ فالكل أزواج للكل، وليس ثمة رباط من أي نوع. الشيوعية تعني «المشاع»، والمشاع — في العلاقات الجسدية — أن تُصبح كلُّ امرأة زوجًا لكل الرجال، وأن يُصبح كلُّ رجل زوجًا لكل النساء. أما الأطفال فإنهم يلحقون — فور ولادتهم — بدور حضانة تملكها الدولة، فلا يغادرونها إلَّا إلى المدارس، فالجامعات والمعاهد العليا. ثم يلتحق الخريج — فور تخرُّجه — بالجيش الأحمر، ليبدأ — بعد فترة تجنيده — حياتَه كمواطن مسئول، والشيوعي لا يُعَد كذلك ما لم يرفض وجود الله، والذي يُجاهر بإيمانه — أو يُخفيه — يجد نفسه عرضةً لعذابات، أقلُّها السجن، وربما حُكم عليه بالإعدام …

وعثرتُ في مكتبة أبي على «آثرت الحرية» الكتاب الذي ترجمه زكي نجيب محمود لمواطن روسي فرَّ — بأعجوبة — من جحيم الشيوعية. تجسَّدت — في تصوري — لسنوات سجون ومعتقلات وعمليات إعدام بالجملة، وسيطرة حتى على ترددات الأنفاس. تكوَّنت الجزئيات في اللاوعي من أحاديث بعض أصدقاء أبي — ولا أذكر أن أبي قال أمامي في الشيوعية برأي محدد — ومن عبارات الجدران التي كنت أتعلم القدرة على القراءة فيها، ومن كلمات متناثرة في عظات الشيخ عبد الحفيظ إمام جامع سيدي علي تمراز، بين صلاتَي المغرب والعشاء …

وروَت لي ابنة عمتي عن «حدتو»، ذلك التنظيم السري الذي جعل من دروس التقوية وسيلةً لاجتذاب تلاميذ وتلميذات المدارس (بالمناسبة: هزمني التحيُّر، وأعتقد أن الحيرة لا تزال تتملكني حتى الآن، وأنا أقرأ على الجدران — في أواسط الأربعينيات، والاستعمار قائم في الأرض المصرية، والخطر الصهيوني في فلسطين — نداءً غريبًا: نريد الخبز بدلًا من السلاح. ولماذا لا نطلب الخبز والسلاح معًا؟!) …

ثم أتاحت لي الظروف أن أتعرَّف — بصورة مباشرة — إلى العاملين في حركة السلام — هذا كل ما أذكره من اسمها — وكان لها مكتب في شارع فرنسا، من بين أنشطته إصدار المطبوعات السياسية والثقافية. ولأني كنت أثق في قدراتي الأدبية في المرحلة بين الطفولة والصِّبا، فقد سعيت إلى المكتب، لعله ينشر بعض ما كتبت. كانوا ثلاثة من الشبان، أعمارهم بين الخامسة والعشرين والثلاثين. لم يقبلوا — أو يرفضوا — ما سعيت إلى نشره، ولم يحاولوا قراءته أصلًا. بذلوا كلمات مشجعة، وتحدَّثوا عن الأهداف التي يعمل لها المكتب. ولم أفهم — في الحقيقة — شيئًا. كانت الكلمات أكبر من ثقافة صبي في نحو الثانية عشرة، ومن وعيه وإدراكه. بل إني أحاول استعادةَ بعض تلك الكلمات الآن، فلا أذكر شيئًا. كل ما أذكره أني أُعجبت بالكلمات التي قالها الشبان الثلاثة، فلم أحاول حتى أن أعرض كتاباتي التي تطلب النشر عليهم …

وغادرت المكتب بوعد — أعلنته — أن تتواصل صداقتي بالشبان الثلاثة، وبقرار — لم أُعلنه — أن أصبح شيوعيًّا!

•••

لم أكن قرأت عن الشيوعية شيئًا، ولم أكن خرجت من حديث الشبان الثلاثة بغير المعنى — الكلمات كانت غايةً في الصعوبة — أن الهدف النهائي للشيوعية توفير الحياة الطيبة لكل إنسان.

كنت — أيامها — أتردَّد على مبنى الطلبة الملحق بالمعهد الديني بالمسافرخانة — وهي غير مسافرخانة القاهرة — لزيارة صديق من طلبة المعهد، تعرَّفت إليه — مصادفةً — في سينما الأنفوشي. كان من أبناء الدلنجات، وأذكر من اسمه: تعلب. وأوضح — في حديثه — أنه يهوى الأدب. وكانت تلك أرضية مناسبة لصداقتنا. والحق أني لم أَعُد أتردَّد على المعهد الديني لمجرد صداقتي للأديب تعلب. فقد أحببت المكان، وأسلوب الحياة فيه: الطلبة بجببهم وعمائمهم، أدوار الشاي التي لا تقل عن ثلاثة، طريقة المذاكرة التي تقتضي هزَّ الرأس بآلية كبندول الساعة، الأصوات المتداخلة والمدغمة، تشكِّل — في مجموعها — تآلفًا هارمونيًّا عجيبًا، الحياة التي يشغي بها المبنى أربعًا وعشرين ساعة. وثمة سبب آخر — أصارحك به — كان يشدُّني إلى المعهد الديني، وتأمل طلبته وقاعاته وحجراته وسلالمه وأبوابه. حتى النوافذ الضخمة والأبواب الحديدية، كنت أُطيل التحديق فيها، أحاول أن أجد لها موضعًا في الصور الكثيرة التي رسمها أبي في مخيِّلتي بأحاديثه عن المواقف العدائية لطلبة المعهد الديني ضد الإنجليز والسراي وحكومات الأقلية، والتي تمثَّلت في عمليات اعتصام ومظاهرات وتفجير قنابل وتوزيع منشورات (كما علمت، فقد بدأ المعهد نشاطه في ٢٦ أبريل ١٩٠٤م، حين صدر قرار سلطاني بتعيين شيخ للمعهد باسم «شيخ علماء الإسكندرية». وكان عدد طلبته في العام الأول ٣٤١، ثم زاد ذلك العدد — في الأعوام التالية — وتضاعف. وكان التعليم في المعهد السكندري يَفضُل التعليم في الأزهر نفسه. كان المعهد أنبوبة اختبار لحركة إصلاح التعليم الأزهري كما تصورها الإمام محمد عبده، والتي اختار لها مجموعة من نوابغ تلاميذه مثل الشيخ محمد شاكر والشيخ عبد الله دراز وغيرهما).

لم أكن أجد فيمن حولي وفيما حولي ما يُثير أو يلفت الانتباه: الأجساد الضامرة، التصرفات العفوية، الضحكات الرائقة، المناقشات التي كأنها شجرة لها عشرات الأفرع ومئات الأوراق. حتى تشققات الجدران، كنت أحاول أن أربط بينها وبين الأحداث التي لا بد أنها امتدت إلى داخل المعهد نفسه. لم أشهد — في الحقيقة — أيًّا من تلك الأحداث، وإن تَفِد إلى ذاكرتي مظاهرة متلاصقة الصفوف لطلبة المعهد الديني، في انحناءة المسافرخانة إلى شارع صفر باشا، كأنها لقطة ثابتة، فهي لا تملك ما قبل أو ما بعد، وتَدَع التفصيلات للخيال يجسِّدها على النحو الذي يريد.

ساعد على انبهاري بطبيعة الحياة في المعهد، أني كنت أحاول كتابة القصة القصيرة، بل إنها كانت مبعثَ صداقتي للأديب تعلب. جرَّنا الحديث في ظلام سينما الأنفوشي إلى موضوعات شتى. أبدينا ملاحظات في سذاجة قصة الفيلم، وقال إنه يكتب القصة، وقلت إني أكتب القصة، وذكرت له عنوان بيتي، وشرح لي الطريق إلى المعهد الديني. وعندما مِلتُ من شارع الحجاري إلى المسافرخانة، ثم إلى اليسار ليستقبلني المعهد — للمرة الأولى — بالبوابة الحديدية الضخمة، فإنه لم يكن في بالي إلَّا أن ألتقيَ بصديقي الجديد، يعرض عليَّ محاولاته، وأعرض عليه محاولاتي، ونتناقش فيما قرأناه، وآرائنا في الفن …

لكن الطبيعة المتميزة التي كان يصخب بها مسكن الطلبة، احتوتني تمامًا. بدَت عالَمًا غريبًا، وثريًّا، ومناقضًا لطبيعة بيئتي الساحلية. الريف في قلب المدينة، داخل هذا المبنى ذي الطوابق الثلاثة. العادات والتقاليد والقيم والطعام والأزياء. شبان من كفر الدوار والمحمودية وإيتاي البارود والدلنجات ودمنهور وحوش عيسى ودسوق، يُعِدُّون أطعمة يدعونني إليها، فأعتذر. تبدو مغايرةً للطعام الذي أتناوله في بيتنا. أكتفي بالشاي. لا أحبُّه لذاته، وإنما للأكواب الصغيرة يصبُّ منها الشاي من بزبوز براد، أخفى السوادُ لونَه الحقيقي. كلما وضعت الكوب الفارغ، قدَّموا لي التالي، حتى العد الثالث!

امتدَّت صداقتي بتعلب إلى طلبة آخرين. طالت الأحاديث. وقُلت في الشيوعية كلامًا كثيرًا، وإن لم يجاوز المعنى الذي خرجت به من لقائي بالشبان الثلاثة أعضاء حركة السلام: إن الهدف النهائي للشيوعية هو توفير الحياة الطيبة لكل إنسان!

ثم قبلت — بشجاعة، أو بغباء — مناظرةً مع أحد الطلبة حول الفرق بين الإسلام والشيوعية. ولأني كنت أعاني عدم الفهم لتعاليم الإسلام، ولمبادئ الشيوعية في آنٍ؛ فقد حاولت أن أختصر المناظرة، لأَصِل إلى النهاية التي تُجاوز بي الحرج! علَا صوتي، ونظراتي تتأمل تأثير ما أقول في المشايخ الصغار من حولي: إن الإسلام والشيوعية يلتقيان في هدف واحد، هو توفير الحياة الطيبة لكل إنسان! وأنهيت المناظرة.

وحين عدت إلى المعهد في اليوم التالي، كانت في انتظاري مفاجأة. جلست بين المشايخ الصغار، أنتظر بداية الحديث، وأدوار الشاي، والحياة التي أحببتها … لكن الدقائق تقضَّت بلا حديث ولا أدوار شاي، ونظرات المشايخ المتأملة، أحسست كأنها التصقت — لثباتها — بجسدي.

قلت: أستأذن.

فاجأني أحد المشايخ بالسؤال: هذا الإطار الأحمر في بيجامتك، هل هو شعار المذهب الشيوعي؟ (لم يكن يشغلني — حينذاك — أن أرتديَ القميص والبنطلون، أو البيجامة!)

كاد الزهو يتسلل إليَّ. أفلحتُ في تصوير نفسي شيوعيًّا إلى الحد الذي بدا معه المشايخ يجدون في ثيابي تعبيرًا عن إيماني بالمذهب … لكن الأصوات المتداخلة للمشايخ — في اللحظة التالية لإلقاء السؤال — بدَّدَت الزهو والصمت. قالوا كلامًا كثيرًا، ملخَّصُه أن تردُّدي على المعهد لم يَعُد مقبولًا، وأنه قد صدر قرار من العميد بمنع دخولي!

تداخلَت في نفسي مشاعرُ متناقضة: الزهو لخطورتي، والحزن لطردي من المكان الذي أحببته، والخوف مما قد يترتب على ما حدث من نتائج سلبية.

وكان ذلك آخر عهدي بالمعهد الديني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤