الإسكندرية مدينة أوروبية

كل الكتابات التي تعرض للحياة في الإسكندرية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، تؤكد أنها كانت أشبهَ بمدينة أوروبية الطابع: المباني والمؤسسات والشوارع والميادين والملاهي. وكان الأوروبيون يُشكِّلون قسمًا كبيرًا من سكانها.

تكثَّف الوجود الأوروبي في الإسكندرية منذ دخول الحملة الفرنسية مصر. وبعد تولِّي محمد علي الحكم، ظلَّت أعدادُ الأوروبيِّين في تزايدها، حتى بلغ عدد المتاجر الأوروبية نحو مائة متجر، فضلًا عن عشرة مطاعم للفرنسيِّين والإيطاليِّين والإنجليز، وبعض القهاوي والمخابز الإفرنجية. وكان وجهاء الجاليات الأجنبية يقيمون في الإسكندرية باعتبارها الميناء الرئيس للبلاد، وبوابته من — وإلى — دول العالم. وكان لتفضيل الأجانب للإسكندرية على سواها من مدن مصر — بما فيها القاهرة — بواعثُه العملية — طبع الأجانب! — وفي مقدمتها استخدام الميناء في التصدير والاستيراد. فليس ثمة نفقات نقل داخلي كما هي الحال بالنسبة لبقية المدن، ومناخ المدينة يميل إلى الاعتدال النسبي، بالإضافة إلى إمكانية إنشاء المصانع والمحالج والشركات التي يُعَد التصدير والاستيراد سمةً أساسية لنشاطها. لم يكن العالم قد عرف الطائرات ولا المطارات. والقادم من بلاد بعيدة يركب الدواب في أحيان قليلة، والسفن في أغلب الأحيان. والإسكندرية هي ميناء مصر الرئيس، وبها ما يفوق عاصمةَ البلاد من مقومات المدنية الحديثة. حتى الصحف — ومنها «الأهرام» — كانت تصدر من الإسكندرية … لذلك كلِّه، كان الأجانب يَفِدون إلى مصر. يواصل القلةُ طريقَهم إلى القاهرة، أو إلى الأقاليم (قهاوي وحانات القرى التي يملكها أروام، ظاهرة امتدَّت إلى أواسط الخمسينيات) أما الكثرة، فقد استقروا في الإسكندرية، يُنشِئون — ويعملون في — المتاجر والمصانع الصغيرة — الكبيرة فيما بعد — والقهاوي والحانات، ويُضفون الطابع الأوروبي على المدينة، وهو الطابع الذي أتصور أن بعض معالمه — رغم التشوهات التي حاقَت بالمدينة — ما تزال قائمة، تُذكِّرني بالوردة التي تذبل، فلا تغيب رائحتها!

ثمة تقدير أجنبي لعدد الأجانب بالإسكندرية في ١٨٦٨م، بأنه قد بلغ حوالي مائة ألف نسمة، بما يَصِل إلى نصف سكان المدينة تقريبًا. وفي مطالع القرن، جاوز عدد الأجانب المائة ألف، في حين كان مجموع الأجانب في مصر كلها ١٥٠ ألف أجنبي.

ومع أن الفترة من بداية الحرب العالمية الثانية إلى نهايتها، شهدت طفولتي الباكرة، فإني أذكر أجهزة الرادار والمدفعية المضادة للطائرات المتناثرة في امتداد الكورنيش، يقف وراءها جنود الإنجليز. وأذكر الآلاف من جنود الاحتلال كانوا يمرون أمام بيتنا، مشاة ومدفعية وبحرية، إنجليز وأفارقة وهنود — فطنت إلى الفوارق فيما بعد! — وكان أهلنا يُخيفوننا من الأفارقة تحديدًا. إنهم ليسوا بشرًا مثلنا، ففي مؤخرة كلٍّ منهم ذيل! … وسألت أبي — في خوف — عن صحة ذلك، فنفاه بدهشة: إنهم بشر مثلنا وليسوا قردة! … لكنني ظللت أفكر في تأكيدات الجميع مقابلًا لنفي أبي وحده، حتى حاذاني جنديٌّ أفريقي وأنا ألعب مع أخي في الشارع الخلفي. مددتُ يدي — بالفضول — أتأكد من وجود ذيل! … وفوجئ الجندي بما فعلت، وزادَت حيرتُه، وربما تخوفه، حين أسرعت — بكل قوتي — وأخي يتبعني — كالعادة — إلى داخل البيت. ووقف الجندي أسفل السلم يتطلع إلينا بتساؤل وغضب، حتى فتحت أمي الباب، فارتمينا في حضنها! ومن يومها، لم يبرح الخوف نفسي لمرأى أيِّ جندي أفريقي. أتوهم أنه هو الذي حاولت تبيُّن الذيل في مؤخرته! …

وعلى الرغم من مضيِّ عشرات السنين على تلك الواقعة، فإني تذكرتها حين قاد سيارتي سائقٌ سنغالي، أسود البشرة، من مطار نواكشوط إلى الفندق داخل العاصمة الموريتانية!

وظلت الإسكندرية — إلى الحرب العالمية الثانية — بيئة بحر متوسطية، بكل خصائصها، امتدادًا لأوروبا على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط. ثمة الحي اليوناني، والحي التركي، والحي الإيطالي، والحي المغربي إلخ. وكانت اللغات التي يستمع إليها المرء في الشركات الكبرى، ومكاتب التصدير والاستيراد، هي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية واليونانية والأرمنية، والعربية أحيانًا. أُذكِّرك بأن مهنة أبي كانت هي الترجمة من لغة أجنبية إلى لغة أخرى، أو من إحدى هذه اللغات إلى العربية. كذلك فإن معظم الشركات التي تَعاملَ معها أبي — كمترجم — طيلةَ حياته، كانت شركات أجنبية، مثل الشركة الألمانية للفحومات الحجرية، وشركة كوري للأقطان، وغيرها … بالإضافة — طبعًا — إلى شركات وهيئات وطنية، كالغرفة التجارية بالإسكندرية، وشركة الجراية للورق. وقد أفدت من ذلك كلِّه في روايتي «النظر إلى أسفل».

وكان اليونانيون — أو الأروام — هم الجالية الأجنبية الظاهرة في أحياء الإسكندرية. دكاكينهم وقهاويهم وباراتهم وتجمُّعاتهم، امتدَّت إلى الأحياء الشعبية. لم يقتصر نشاطهم على عملٍ بذاته، وإنما مارسوا كلَّ المهن. الرومي صاحب قهوة وجرسون وسائق وطبيب ومهندس وبارمان، أي مهنة تدرُّ دخلًا طيبًا. وكان أبي يعجب للغاية بطريقة تخليل الخواجة خريستوفيدس البقال للطرشي البلدي!

وإلى ما بعد قيام ثورة يوليو بأعوام، كان للأجانب في الإسكندرية وجودُهم، ونشاطهم الذي يصعب إغفاله … وهو نشاط كان يستهدف — في غالبيته — تطويرَ الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالمدينة. يقول عامر وجدي لماريانا في رواية نجيب محفوظ «ميرامار»: إنه كان ينبغي عليها أن تهجر الإسكندرية إلى اليونان. فتهتف في دهشة: ولكننا نحن الذين خلقناها؟! ومع أن ماريانا كانت يونانيةَ الجنسية، وكانت تنطق العربية بلكنة أجنبية، فإنها لم تكن قد رأَت اليونان مرة واحدة في حياتها، فهي قد وُلدت في مصر، وعاشت فيها إلى الممات.

وحتى عام ١٩٥٦م أو نحوه، كانت الجاليات الأجنبية منتشرة، حتى في الأحياء الشعبية. وقد أتاحَت تلك «الميزة» للإسكندرية أن تكون عاصمةً ثقافية لمصر. صدرت عشرات الصحف العربية والإنجليزية والفرنسية واليونانية والإيطالية، وظهرت — للمرة الأولى — مواهبُ سلامة حجازي، وسيد درويش في الموسيقى والغناء، ومحمود سعيد، وسيف وانلي، وأدهم وانلي، ومحمود موسى، وأحمد عثمان في الفن التشكيلي، والنديم، والتونسي، وأبي شادي، وشكري والنشار، والشوباشي، وعثمان حلمي في الأدب والشعر.

وحين تلاحقَت الأحداث السياسية في ١٩٥٦م: سحب الولايات المتحدة والبنك الدولي عرض تمويل إنشاء السد العالي، وإعلان تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي، وتكشَّف الوجه القبيح للغرب الأوروبي … أحدث ذلك كلُّه تأثيرَه في هجرة معظم الأجانب من الإسكندرية، ومن المدن المصرية عمومًا.

ومع أن بحري من الأحياء التي يتغلَّب فيها العنصر الوطني بصورة واضحة، فلعلِّي ألفت نظرك إلى روايةٍ جميلة اسمها «غالانوس» للكاتب اليوناني ميشيل بيرزيس، ترجمها الدكتور حسن عون، وتعرض لحياة الأجانب في مدينتي: الإسكندرية.

كانت صورة الحياة مغايرةً تمامًا لما أصبحت عليه الآن. كان يقطن بحري مئاتُ الأُسَر اليونانية، التي أنشأت مدارسَ خاصة لأبنائها. وكانت هناك باراتٌ وقهاوٍ تُقدِّم السهرات والشراب والرقص والغناء، غالبية روادها — بالطبع — من الأجانب. وربما استلهم مخرجو السينما المصرية تلك البارات والقهاوي — المندثرة — لتكون بُعدًا أساسيًّا في الأفلام التي جرَت أحداثُها في بحري، مع أن طفولتي الواعية تعود إلى أواسط الأربعينيات. ولا أذكر أني شاهدت، منذ ذلك الحين، في طول بحري وعرضه، بارًا أو قهوة، لتقديم اللهو البريء — أو غير البريء! — لروَّاده! وكما يروي ميشيل بيريزيس فقد كانت منازلُ شارع فرنسا أشبهَ بالوكالات التي يقطنها الأوروبيون الوافدون. أما الصورة في ميدان محمد علي — ميدان القناصل كما كان يُسمَّى — فقد كانت تتحدَّد في أعداد هائلة من البشر «كقطعان النمل لا تملُّ السير هنا وهناك» (الرواية) وعربات سوارس وحانطور وجِمال تنقل الركاب إلى داخل المدينة وخارجها، وميدان محمد علي — كما تعلم — هو ميدان المنشية، ومعناها المنطقة المنشأة، وتدين بوجودها الرئيس للأجانب الذين انصرفوا لعمليات تصدير القطن المصري إلى مصانع لانكشير الإنجليزية.

وعلى الرغم من تكثُّف إقامة الأجانب في الإسكندرية، في العطارين ومناطق الرمل، فإن عيادة الدكتور مردروس، الطبيب الأرمني الذي كان يُقيم في الطابق الأول من بيتنا، ورواد قهوة المهدي اللبان — أسفل البيت — من الأروام والأرمن والإيطاليِّين، يرطنون بلغاتهم التي يُحادثهم بها أبي أحيانًا. أسأله عنها، فيُجيب وهو يضحك. والبقال اليوناني في شارع الميدان — خريستوفيدس — لا يشتري أبي إلَّا منه. يُثني على بضاعته، وأنه فنان طعام لا مجرد بائع … تعرَّفت من ذلك كلِّه — وغيره — إلى حياة الأجانب، وإلى عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم. حتى علامة التثليث التي طالما فاجأَتْني وأثارَت تساؤلي في بدايات وَعْيِي، تفهمتُها — فيما بعد — (بعد أن فهمتها أُصارحك أن كلمة مسيحي أو يهودي لم تكن تشغلني، أو تضع فرقًا بينها وبين كلمة مسلم — صفتي الدينية — إلى ما بعد حرب ١٩٥٦م).

أذكر الأسرة التركية التي كانت تقطن شقةً في الطابق الأرضي من بيتٍ على الجانب المقابل لبيتنا. يغيب عن بالي صورُ أفراد الأسرة: الزوج والأبناء، وتغيب ظروفُ الأسرة، ومدى اقترابها — وابتعادها — من سكان شارع إسماعيل صبري، فضلًا عن وظيفة الزوج، ومتى بدأت سكناهم للحي، ومتى كانت هجرتهم له. ما أذكره هو وجه الزوجة الذي كان يُطل من النافذة، أحيانًا. كان — بالنسبة لي — وجهًا غريبًا، وجميلًا في الوقت نفسه … فالبشرة تقطر صفاءً ورقَّة، والحمرة الهادئة تختلط بالبشرة البيضاء، والقسمات المنمنمة، فيما عدا العينين اللتين كأنهما بحر صافي الزرقة. كنت صغيرًا، وكان حبي للجمال في ذاته، فلا تشوبه رغبةٌ ما. لاحظتُ أني كنت أُطيل الوقوف في النافذة المطلَّة على شارع إسماعيل صبري، وأتوقف عن اللعب مع الأولاد إذا انفتحت نافذة الدور الأرضي، وأطلَّ الوجه الملائكي!

أذكر كذلك أسرة يهودية كانت تسكن بالقرب من شارع الميدان. لعبتُ مع أبنائها — أولاد وبنات — في الشارع الخلفي الموازي لجامع سيدي علي تمراز. تناقشنا، واتفقنا، واختلفنا، وتحدَّثنا عن الآباء والأمهات والظروف الأسرية … لكن اختلاف الديانتين ظل — بلا نصيحة أو توجيه — في موضع منعزل، لا نتناوله أو نقترب منه، فنحن نمارس حياتنا بمطلق الطفولة، نتوضأ في ميضأة جامع علي تمراز، ونقلد الصفوف في صلاتها، ونحاول فهم عظات الإمام في دروس المغرب، ونعجب لأحاديث أبناء الأسرة اليهودية عن صلاتهم التي تُقام بلا موعد محدد، وأنها بتعدد مناسبات النهار، بدءًا من الاستيقاظ، إلى التوجه للنوم.

وكان تعرُّفي إلى الشاعر العظيم ناظم حكمت من خلال صداقة طارئة لشاب يوناني في العطارين. استوقفني قبل أن أدخل بيتنا، وسأل عن الطريق إلى سراي رأس التين. وصفتُ له الطريق، فأضاف سؤالًا وثانيًا وثالثًا. ولاحظ في يدي كتيِّبًا يضم قصائد زجلية، فقال لي إن الشعر الحقيقي يختلف عن تلك الكلمات المنظومة العابثة. وأفاض — بعد أن دعوتُه إلى بيتنا — في الحديث عن الشعراء اليونانيِّين، وإن توقَّف طويلًا أمام الشاعر التركي ناظم حكمت. بدَا شديدَ الإعجاب به، كأنه — الشاعر — نبيٌّ أو قديس! وصحبني — في يومٍ تالٍ — إلى بيته في شارعٍ خلفيٍّ موازٍ لشارع عبد المنعم. تعرَّفت إلى أمه. سيدة في حوالي الخمسين، بدينة لا تُخطئ العين أرومتها، وقدَّمت لنا الشاي أختُه الصغيرة ياسمين. تُصدِّقها لو قدَّمت نفسها إليك بأنها يونانية، وتُصدِّقها لو قالت إنها مصرية. لم تكن تقطع — عكس الأم والأخ — بملامح محددة. وعرفت — فيما بعد — أن الأم، لما مات زوجها، تزوجت من تاجر مصري، فأنجبا ياسمين التي زاوجت — في تفوق — بين المصرية والإغريقية.

ولعلي أتفق مع نجيب محفوظ، وعبد الحميد السحار، وإحسان عبد القدوس، وغيرهم من أدباء الأربعينيات، على أن الجاليات الأجنبية، والمتمصرة، كانت هي واسطة «الجيل» إلى الحياة العاطفية والجنسية. وكان الطرف المقابل في القبلة الأولى لكلٍّ من أبطال الروائيِّين الثلاثة فتاة يهودية، هي التي أغرَت، وحرَّضت، وأغمضَت عينَيها في ترقُّب. وبالنسبة لي، فقد انهزمت في الكوتشينة أمام الجارة اليهودية التي لم تكن جاوزت الرابعة عشرة. وانتظرتُ العقاب الذي يجب أن يناله الخاسر، فقالت ببساطة — أخجلَتني — أمام الجميع: أبوسك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤