دنيا جديدة

أذكر أن خطوط الاتصال بالجنس الآخر كانت — في بعض الأحيان — واهية. وكانت — في معظم الأحيان — مقطوعة. وإذا كنت قد لامست النجاح — في مرات قليلة — فإن مبعث ذلك — بالتأكيد — للمصادفة، ولجرأة الجنس الآخر.

كان بيتنا — كما قلت لك — يُطل على الجهات الأربع. وكان البيت المواجه، في شارع رأس التين، يتبع الأوقاف، ويعاني الشيخوخة، حتى إنني كنت أغالب التردد، كلما جازفت بارتقاء سلالمه. أما لماذا المجازفة، فلأن مربيتي أم عايدة (الاسم مستعار) كانت تسكن — مع أولادها — إحدى غُرَفه. وكنت أتوق لاقتحام عالم الجنس الغريب الذي أطلَّت به أم عايدة — بمداعبات يدَيها، ونظراتها، وكلماتها الموحية — من بعض نوافذه. وتعرفتُ إلى فاطمة — جارة أم عايدة — فتاة في نحو السادسة عشرة، وإن بدَت أكبر من عمرها. تُذكِّرني بالوصف الذي أطلقه فرج القواد على حميدة زقاق المدق، فهي عاهرة بالسليقة … لكنني لم أتنبَّه، أو أني كنت أُعاني خجلًا شديدًا. وكما أتذكر الآن، فقد حاولَت فاطمة كثيرًا، فلم أتنبَّه، حتى سألني ولدٌ شقي — اسمه سيف — وهو يقف معي في الشرفة المطلَّة على شارع رأس التين: ما علاقتك بهذه البنت؟

قلت بصدق: جارة أم عايدة.

قال الولد: إذن … يجب أن تقوم بينكما علاقة … إنها تدعوك بنظراتها!

تظاهرتُ بإهمال الملاحظة. ثم أعدتُ ترتيب المواقف، فوجدت أن إقامة علاقة مع فاطمة مسألة وقت، وأنه يجب اختصار هذا الوقت!

وبنفسها، جاءت فاطمة إلى شقتنا. فتحتُ الباب لأجدها أمامي. سألت — وهي تبتسم — عن شقيقتي، وأنها — فاطمة — تريد استخدام ماكينة الخياطة. وتعددت زيارات فاطمة، وإن لم تحاول الانشغال عما بيدَيها. تُنهيه، وتذهب.

ويومًا، وجدت فاطمة وحدها في الشقة. كان أخواي يلعبان في الشارع الخلفي. وكانت شقيقتي تزور جيران الطابق الخامس. ووقفتُ على باب الغرفة أرقب فاطمة، تحيك ثيابها على الماكينة، وتُدندن. وقررت — فيما يُشبه الجنون — أن أتصرَّف كرجل. قلت: فاطمة … أنا عاوز منك حاجة.

قالت دون أن تتوقف: حاجة إيه؟

– بس احلفي إنك ماتقوليش لحد.

علا حاجباها: مش اعرف حاجة ايه؟!

– احلفي الأول.

في استسلام: أحلف.

– برحمة أمك وأبوكي.

ابتسمت: برحمة أمي وأبويا.

– واللي ميتين لك.

– واللي ميتين لي.

– أنا خايف لتقولي لاختي!

– يا أخي … مش حاقول.

– أنا … عاوز … بوسة.

وحتى تُدرك خطورة ما طلبت، فالحق أني لم أكن تذوقتُ طعم القبلة في فم فتاة من قبل، بل ولم أكن تحدَّثت حول المعنى مع أية فتاة. وانتظرت — دهرًا — قبل أن ترفع فاطمة رأسها، وتتجه إليَّ بنظرة، أدركت — فيما بعد — أنها كانت مشجعة، وقالت وهي تضم شفتيها: آسفة يا أستاذ!

كان المفروض — أستعيد ما حدث! — أن أنتزع القبلة المشتهاة، لكن الرفض جرح مشاعري الغاضبة — وهي، للأسف، سريعة التأثر — فقلت من بين أسناني: أرجوكي … ماتكلمنيش تاني!

وبالفعل، خاصمتُ فاطمة من يومها، حتى جرَت الأعوام، وفهمتُ.

•••

لم أكن — إلى ما قبل البلوغ — أعرف الفرق — تشريحيًّا — بين الشاب والفتاة (أظنك فاهمني!) وكانت ثقافتي الجنسية تقتصر على هوامشَ ومعانٍ مجردة، التقطتُها من أصدقائي وزملاء الدراسة، فلا تُواتيني جرأة على السؤال: وماذا بعد؟ … أو أحاول التعرف إلى تفصيلات، أُتيح لي — بعد ذلك — معرفتها.

كانت أول علاقة جنسية لي بما لم أتوقعه، أو أعددت له نفسي: مات أبي، فأقام أخي الأكبر في بيت عمي بمحرم بك، وأقامت شقيقتي في بيت عمتي بالرصافة، بينما سافر أخي الأصغر إلى القاهرة ليقيم في بيت عمتي بالمنيرة. أما أنا فقد فضَّلتُ أن أظلَّ في بيتنا، لا أهجره. وكنت أستقبل — أحيانًا — بعض أقارب أبي، أو أمي، أو بعض أصدقاء الأسرة، يسألون عن الأحوال، ويعرضون المساعدة. ولاحظتُ أن أم عايدة كانت تُكثر من التردد على الشقة، تُعِد لي الطعام، وتغسل ثيابي، وتُثير — ونحن نقف في البلكونة المطلَّة على الميناء الشرقية — ملاحظاتٍ تتصل بالجنس على نحوٍ ما. وجاوزَت أم عايدة تلميحاتها — ليلة — إلى البوح. وذكَّرتني باحتضانها لي وأنا طفل، وسكوتي عن مداعباتها بعد أن كبرت. ثم التمعت عيناها ببريق لم أتعرف إليه في فتاة ولا امرأة من قبل: كنت أحتاجك!

أضافت وهي تمسح جسدي براحة يدها: عمك فلان — زوجها — مات وأنا في عز الشباب … لهذا كنت أحتضنك!

واستطردت بلهجة ملونة: وأحتاجك!

لم أكن أعرف معني العلاقة الجنسية، ولا أعي تفصيلاتها. ولم أكن — كما صارحتك — أُدرك الفارق بين جسد الرجل وجسد المرأة. وتخلصًا من المأزق الذي وجدتني فيه، قلت لأم عايدة وهي تنزع سروالي: اتصرفي!

وتصرفت! …

وكانت تجربة قاسية. شملني قرف وتقزز، وظللت — لأيام — أتذكر ما حدث، فيلفني شعور بالغثيان.

•••

حين نظرت إليَّ، ونظرت إليها، لم أكن أتصور أنها ستشارك في تجربتي التالية، الفاشلة. كانت تشغلني تجربة أم عايدة. تصورت أن ما حدث لن يتكرر مع امرأة أخرى. بدا لي الجنس مقززًا، وكرهته … لكن الفتاة أبطأت في خطواتها عند نهاية الشارع الموازي لترعة المحمودية، ثم توقفت. تشكَّكتُ إن كانت تخصُّني بنظراتها. فلما تلفَّتُّ في الشارع الهادئ — زمان! — وعادت عيناي إليها بنظرة متسائلة، كانت شفتاها قد اتسعتا بابتسامة مشجعة. وواتَتني جرأةٌ ليست في طبعي، وبالذات في علاقتي بالجنس الآخر. كنت أفضِّل هدوء الشارع للمذاكرة، فطويت الكتاب، واتجهت نحوها. صحبتها — في المساء — إلى بيتنا بشارع إسماعيل صبري. انتظرت في محطة الترام أمام قهوة فاروق، حتى أضاءت نور الحجرة المطلة على الكورنيش. واربت باب الشقة، فدخلت البيت، والشقة، دون أن يسألها البواب ولا فضول الجيران: إلى أين؟

ضايقني هدوءها وتحديقها الصامت في أرجاء الشقة. أمسكت أصابعي — متوترة — بساعدها، تقودها إلى غرفة نومي. هزت لفة ورقية بيدها، وقالت: قميص نوم.

واستطردت في هدوء لم تهمله: سأظل معك إلى الصباح، فلا تتعجل! …

جلسنا على طرف السرير، فقبَّلتها. كانت أم عايدة قد نزعت ثيابها وثيابي تمامًا، فتصورت أن هذا هو ما يجب أن نفعله.

هتفت في استنكار: عيب كده!

غالبت الدهشة: ألن …

قاطعتني: بعدين … مش معقول كده!

قبَّلتها ثانية، فلم تُمانع. ارتميت بجسدي العاري عليها. في بالي ما تعلمته من أم عايدة، لكنها انتترت غاضبة: قلت لك بعدين … إنت مش بتفهم؟!

بادلتها الغضب: أمَّال جاية ليه؟

صرخت: أنا بني آدمة يا أخي!

قلت في تخاذل: يعني أعمل إيه؟

– أهدا الأول.

قبَّلتُها للمرة الثالثة. ونسيتُ تحذيرها لي، ارتميتُ عليها. تملَّصَت من قبضتي، وصفعتني. أذهلتني الكراهية في عينَيها: لماذا استدعتني بنظراتها في البداية؟ ولماذا أتت بقميص النوم؟!

قبل أن أفكر في رد الفعل، ما يجب أن أفعله، كانت قد فتحت باب الشقة، وجرت.

•••

وذات مساء، وفي ظروف لا أتذكَّرها جيدًا، أتاحت لي ابنةُ فاكهي بميدان الخمس فوانيس، أن أداعب جسدها. ولأني كنت قد تعلمت أن الفتاة — أية فتاة — يجب أن تظل عذراء، فقد اكتفيت بالملامسة، لكن الفتاة فاجأتني بالعلاقة الكاملة. وبحثت عن الدم الذي يصاحب — كما سمعت — أول العلاقة، فلم أجد شيئًا، وكانت صديقتي تبتسم …

وفهمتُ أنها لم تكن عذراء!

•••

اجتذبتني — فيما بعد — علاقات طارئة. أومأت، فاندفعتُ نحوها بلا تردد، وإن واصل الخيال علاقتي بالمرأة حين ظلت — المرأة — في مجال التصور. عود على بدء. أُسلم نفسي للعادة السرية، أقيم علاقات لا حصر لها مع بنات الجيران (أذكرك بفاطمة) وصور الجميلات في الصحف، وربما «ألفت» فتاة لا وجود لها في الواقع (أصارحك بأني أفدت من ذلك في روايتي «النظر إلى أسفل». تعرفت إلى «العقدة» أو «التيمة» في تجربة شخصية، أثناء زيارة عمل في ١٩٧٥م للعاصمة الموريتانية نواكشوط، كتبت — بتأثيرها — قصتي القصيرة «الأكسر»، ثم ضفَّرتها في «النظر إلى أسفل» برؤًى وخبرات وذكريات، ينتسب بعضها إلى تلك المرحلة الباكرة في حياتي).

ومع أني كنت أمارس العادة السرية في دور السينما، للمشاهد التي تُثيرني، وفي حدائق رأس التين، وعلى الكورنيش، يسعفني الخيال بما أفتقده، فإني أعجب — الآن — للجنون الذي كان يدفعني إلى توهم الحياة منفردًا! واجهت — بالفعل — مآزقَ صعبة، واستمعت إلى ملاحظات وشتائم، وزغدني أحدهم — للعيب الذي رآه — وإن لم تشتطَّ ردود الأفعال يومًا، فتصبح إيذاءً بدنيًّا!

ولما وصلت إلى القاهرة للبحث عن عمل في إحدى الصحف، أقمت في بنسيون بشارع فهمي المتفرع من ميدان الفلكي. وكانت مشرفة البنسيون امرأة، تأتي لنا بالنساء من ملاهي وسط البلد، ومن كلوت بك. ثم أقمت مع إحداهن في شقة مستقلة بشارع نوبار. وتعرفت — أثناء ذلك كله — إلى ما كان مجهولًا في الغابة الوحشية.

•••

اللي مالوش كبير يشتري له كبير. مثل مصري أتذكَّره الآن، وأتفهم دلالاته. لم أكن مسئولًا حتى عن ذاتي. لا أحد يناقشني، أو يبذل لي النصيحة. ما أريده أفعله، لا يهمني إن كان خطأً أو صوابًا. حتى النتائج لا تشغلني، ولا أتدبرها. وكنت أحلم — أحيانًا — بالصدر الذي أرتمي عليه، وأبكي، أو الصيحة التي تزجرني لتصرُّف خاطئ أكون قد ارتكبته. بدا لي الجنس — بعد أن تعرفت إلى ملامحه جيدًا — مثل الماء المثلج، لا أرتوي منه أبدًا، لولا عاملان حالَا دون أن أفقد نفسي بصورة كاملة:

العامل الأول هو نشأتي الدينية، يُزلزلني — عقب كل علاقة — ما هو أقسى من تأنيب الضمير. أتذكر أيام المذاكرة في أبي العباس، وعظات الشيخ عبد الحفيظ في علي تمراز، والأذان، وصلاة العيدين، وتسابيح الفجر، والموالد، وحلقات الذكر، وقسوة أمي، ونصائح أبي، وسِنِي أدائي للصوم في كل الأيام، وصداقتي لشبان يعرفون للدين قدرَه. وكنت أبتعد عن العلاقة تمامًا، وأُتمتم بكلمات الاستغفار إذا تناهى صوت المؤذن من المسجد القريب، فاجأني — وفتاتي — في الموقع الذي اخترناه: ردهة صغيرة أمام باب السطح أعلى بيتها. أقف على شاطئ الأنفوشي، تطمئن إلى خلو البيت، فتُبلغني برفع الغسيل من مناشره، وتُلقي بنا المتعة في جزر لا صلة لها بالزمان ولا المكان، حتى أنهض مفزوعًا على صوت الأذان من الجامع القريب، ثم أعود — بعد انتهائه — إلى عناق فتاتي!

ربما تؤذيك صراحتي. وقد تغيب عليَّ ما كنت أفعله … لكن ذلك ما حدث بالفعل.

أما العامل الثاني فهو القراءة. كنت أقرأ كثيرًا، ما لم أبِعْه من كتب أبي، وما يُعيره لي الأصدقاء، أو أستعيره من مكتبة النن الأب بشارع الموازيني، والنن الابن بالقرب من بيتنا، ومكتبة عم حجازي أول شارع الميدان.

ومع أن القراءة لم تصرفني عن ممارسة العادة السرية، بل كنت ألجأ إليها — أحيانًا — بعد قراءتي لرواية مثيرة، فإنها لم تجعل الجنس في حياتي بحرًا وحيدًا أسلم نفسي لأمواجه، فأغرق!

وفررت من ذلك كله، عندما تزوجت قبل أن أبلغ الثالثة والعشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤