عالم من القراءة

لا شك أن الحواديت التي كنَّا — إخوتي وأنا — نستمع إليها من أمي، وجدِّي لأمي، وبعض سيدات العائلة، سبقت القراءة في حياتي. حواديت مجهولة المؤلف، توارثَ روايتَها أجيال: الزوج الذي «يحمل» في سمانة ساقه بدلًا من الزوجة المريضة … يا ست يا ستنا ياللي قصرك أعلى من قصرنا … ماتدنيش عنقود عنب … للعليل اللي عندنا؟ … يا بير يا بير … ادِّيها صراصير كتير … طبل طار … طبل طار … خدها ابن السلطان وطار … إلخ … بالإضافة إلى الحواديت المستمدة من ألف ليلة وليلة، وإن داخلها — من الرواة — حذف وإضافة، بما يسهل علينا — نحن الصغار — فهمه.

وكانت مكتبة أبي بدايةَ تعرُّفي إلى عالم القراءة العامة. لا أذكر متى تنبهت إلى كومات الصحف والكتب التي امتلأ بها ذلك الدولاب — المغلق دائمًا — في غرفة نومنا، نُتابع أبي، يفتحه — أحيانًا — ويُغلقه، بعد أن يقلِّب — لفترة — فيعثر على الكتاب الذي يطلبه، أو يُعيد كتابًا أتمَّ قراءته، أو فيما يتطلب عملُه أن يقرأه. كان أبي مترجمًا، يترجم من العربية إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية والتركية والإيطالية، ويترجم من هذه اللغات إلى العربية. وكانت ملاحظتي أنه لم يكن يأخذ أو يُعيد سوى قواميس اللغة. أما الكتب الأخرى التي كانت تضيق بها أرففُ المكتبة، فقد علمت من ملاحظات الهوامش التي كان يحرص على تدوينها، أنه قد سبق له قراءتها.

كانت أيام طه حسين بدايةَ ما أذكره من قراءاتي في الكتب الأدبية. قبلها قرأت العبرات والنظرات وماجدولين وغيرها من كتب المنفلوطي، وبعض الروايات المترجمة، من بينها — ربما — الفرسان الثلاثة لألكسندر دوماس، فضلًا عن مجلات ثقافية ودينية وقصص للأطفال كتبها سعيد العريان وفريد أبو حديد وكامل كيلاني، أُلِّفت، أو تم تبسيطها، من أعمال روائية لأدباء معروفين. كانت قراءتي للأيام مصادفة. أراد شقيقي الأكبر أن يستأجر دراجة. المقابل ثلاثة قروش، بينما لم يكن معه سوى قرشين فقط. وفي بساطة، سحب كتابًا من دولاب أبي، ودفعه إليَّ قائلًا: تشتريه بقرش؟

كان ذلك الكتاب هو الأيام.

لم أستطع فهمَ شيء في القراءة الأولى، إنما هي انطباعات عن صبي صغير وترعة وسور وعفاريت ومردة وغيلان واحتفالات بالمولد النبوي، ورسوم للفنان بيكار. ثم أعدت — بعد أقل من شهر — قراءة «الأيام» للمرة الثانية. واستطعت أن أُلمَّ ببعض التفصيلات، وتبدَّت أمامي صورة الحياة — وإن غلب عليها الغموض — في تلك القرية من قرى الصعيد. وتعاطفت مع «صاحبنا» الذي عانى العمى، والوحدة، وإيذاء الفقيه والعريف. وتأثرت لموقفه أمام أصحاب أبيه وهو يتلعثم في تلاوة سور القرآن الكريم. وفرحت لما أفلح في القراءة بلغة سليمة، وأعصاب هادئة، وإن لم يفارقني الإشفاق على المأساة التي كانت تنبض بها سطور الكتاب، والتي كان صبيُّنا الضرير بطلًا لها. وأذكر أني لم أُفلح — حتى في القراءة الثالثة — في فهم كلمات الختام التي وجَّهها الراوي إلى طفلته عن «ذلك الملك القائم الذي يحنو على سريرك إذا أمسيت لتستقبلي الليل في هدوء ونوم لذيذ، ويحنو على سريرك إذا أصبحت لتستقبلي النهار في سرور وارتياح. أنت مدينة لهذا الملك بما أنت فيه من هدوء الليل وبهجة النهار؟ لقد حنا يا ابنتي هذا الملك على أبيك، فبدَّله من البؤس نعيمًا، ومن اليأس أملًا، ومن الفقر غنًى، ومن الشقاء سعادة وصفوًا.» ثم عرفت — فيما بعد — أن ذلك الملك الحارس هو زوجته. وكان اكتشافي لما أراد الراوي أن يقول، ثم إعجابي المتزايد بتلك الكلمات التي تُعَد — في تقديري — تعبيرًا متفوقًا عن الخصائص الجمالية في أسلوب طه حسين … كان ذلك هو الدافع لأن تكون محاولتي المطبوعة الأولى باسم «الملاك»، وأن تكون متأثرة — إلى حد كبير — بأسلوب طه حسين، كما تبدَّى في ختام «الأيام».

•••

أحببت القراءة — والأدب بالتالي — من قراءاتي المنوعة في مكتبة أبي. عزفت عن مشاركة الأولاد ألعابَهم في الشارع الخلفي لبيتنا: كرة الشراب وأولها إسكندراني، والنحل، والبلي، وصلَّح، وغيرها. حتى السباحة التي يُقبل على تعلُّمِها — ربما غريزيًّا — أبناءُ الإسكندرية، لم أحاول تعلُّمَها. تحدد عالمي في القراءة. أحببتها، وأقبلت عليها. وحتى بعد أن جاوزتُ سِنِي الصِّبا، لم أحاول فهمَ الطاولة والدومينو والكوتشينة، ولم أحاول — بالتالي — لعبَها. وعندما حاول صديقاي عبد الفتاح الجمل وكمال الجويلي تعليمي إياها، عجز فهمي القاصر عن إدراكها. وأذكر أني تصورت — يومًا — إجادتي للعبة الكوتشينة. وما كدت أبدأ في توزيع الورق، حتى انتتر الجالس أمامي، وقال: قم … طريقة إمساكك بالورق خطأ! … وطالت بي الجلسات في قهوة الكورسال. يحاول الجمل، والجويلي، والراحل عبد الحميد عبد النبي، والكاتب المسرحي علي سالم، أن يُتيحوا لي تفهُّمَ تلك اللعبة الصعبة، المعقدة: الطاولة. ثم هزمنا اليأس!

•••

أذكر من قراءاتي الأولى: كتابات فائق الجوهري في الثقافة الجنسية، ومجلة «الإسلام» التي كان يُصدرها أمين عبد الرحمن. قرأت فيها قصة الإسراء والمعراج، وتمنيتُ أن أُعيد — ذات يوم — كتابتها، ومسرحية ستيفان زفايج «إرميا»، وهي تتناول تصفيةَ نبوخذ نصر البابلي مملكة يهوذا في العقد الثاني من القرن السادس قبل الميلاد، ترجمها أستاذنا مفيد الشوباشي بتكليف من أصحاب جريدة «البصير» السكندرية. وعرفت — متأخرًا — أن المسرحية كانت جزءًا من مخطط يستهدف تهيئةَ الأذهان لقبول فكرة الدولة الصهيونية. وحين ناقشت الشوباشي — فيما بعد — في ظروف ترجمته للمسرحية، ابتدرني مقاطعًا: كانت الترجمة مقلبًا لم أفطن إليه … لا أحب أن أتذكَّرَه ولا أحب أن تُذكِّرَني به!

وقرأت في سنٍّ، لعلها أصغر من أن أعيَ فيها كلَّ ما أقرؤه جيدًا: تاريخ الجبرتي، والسيوطي، وابن إياس، وفتاوى ابن تيمية، ومقدمة ابن خلدون، وأدب الماوردي في الدين والدنيا، وما أُتيح لي من فقه الشافعي، وتفسير القرطبي، وأدب الجاحظ، وابن قتيبة، وفلسفة ابن رشد، وتصوف الغزالي، ووفيات ابن خلكان، وقرأت السِّيَر الشعبية: الزير سالم، والهلالية، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، والظاهر بيبرس، وذات الهمة، وقرأت ما صدر من أعداد خاصة في مناسبة مرور ألف عام على ميلاد أبي الطيب المتنبي، لمجلات الهلال ودار العلوم وغيرها، وبعض الكتب التي تناولت سيرتَه وشعرَه. بدا لي شخصية مثيرة، أقرب إلى تراجيديات المسرح الإغريقي. وأيقنتُ أنه قد ملأ الدنيا بحق، وشغل الناس فعلًا. وشغلني المتنبي لأعوام طويلة، تالية، حتى بعد أن أصبحت مكتبةُ أبي ذكرى بعيدة.

الإثارة في عبقرية المتنبي الشعرية، تُوازيها — أو ربما تبدو أشدَّ إثارة — رحلة طموحه الغريبة التي انتهت بمأساة. جمع بين القوة الإنسانية والضعف الإنساني. خاض المعارك إلى جانب سيف الدولة. ولمَّا أحسَّ بما يُقلق، همَّ بالفرار. ومن قصائده:

وإذا لم يكن من الموت بدٌّ
فمن العجز أن تموت جبانًا

لكن سعيه وراء الولاية والمكانة الأعز، دفعه إلى مواقف صغيرة، حتى وصفه أحدُ دارسيه بأنه أعظم شعراء العرب فكرًا وأملًا، وإن كان من أدناهم نفسًا وأشدِّهم جشعًا (محمد جلال، المتنبي، مجلتي، سبتمبر ١٩٣٥م). كان المديح بُعدًا رئيسًا في قصائد الشعراء وقتذاك، فبدَّل المتنبي حتى في هذا البعد، عندما قصر مديحه على الملوك. وحين دعاه الوزير الصاحب بن عباد لزيارة أصفهان، وكتب إليه يُرغِّبه في الزيارة، ويبذل له الوعود، إلى حدِّ مشاطرته — المتنبي — نصفَ أموال الوزير، إنْ هو مدحه بقصيدة واحدة. قال المتنبي: «بلغني أن غليمًا معطاء، يُدعَى الصاحب، يريد أن أزوره وأمدحه، ولا سبيل إلى ذلك، فأنا أترفَّع عن مدح غير الملوك.» وعانى سيف الدولة غرور المتنبي وغطرسته، حتى إنه — المتنبي — اشترط على سيف الدولة ألَّا يُقبِّل الأرض بين يديه، وأن يُنشده الشعر وهو جالس. بل إن سيف الدولة كان يُقبِّل رأس شاعره ليُصالحه إذا أغضبه. ولكن أبا الطيب هو الذي تحمَّل إيذاء أعوان سيف الدولة، وإيذاء سيف الدولة نفسه، له …

وإذا كانت حياة المتنبي — في ظاهرها — حياة مجد وفروسية، فإنها — في الحقيقة — كانت حياةً مضطربة، تزداد تعقيداتُها بتعاظم طموحاته، وانتقاله من بلد إلى آخر، حتى لقيَ مصرعه في دير العاقول …

قيمة المتنبي الأولى هي تجديده المؤكد في مسار الشعر العربي. مع ذلك، فإن العبيدي في «الإبانة عن سرقات المتنبي» يجد في المتنبي لصًّا، لا أكثر. يقول: «لقد تأملت أشعارَه كلَّها، فوجدتُ الأبيات التي يفتخر بها أصحابه، وتعبِّر بها آدابه من أشعار المتقدمين منسوخة، ومعانيها من معانيهم المخترعة مسلوخة.» وقد عبَّر القاضي الجرجاني عن تباين الآراء في شخصية المتنبي بقوله: «إن أهل الأدب ما بين مطنب في تقريظ المتنبي، منقطع إليه بجملته، منحط في هواه بلسانه وقلبه، يتلقَّى مناقبه إذا ذُكرت بالتعظيم، ويُشيع محاسنه إذا حكيت بالتفخيم، ويعجب ويعيد ويكرر ويميل على مَن عابه بالزراية والتقصير، ويتناول مَن ينقصه بالاستحقار والتجهيل، فإن عثر على بيت مختل النظام، أو نبَّه على لفظ ناقص عن التمام، التزم من نصرةِ خطئِه وتحسينِ زللِه، ما يُزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقام المنتصر، وعائب يروم إزالته عن رتبته، فلم يسلم له فضله ويحاول حطَّه عن منزلةٍ بوَّأه إياها أدبه، فهو يجتهد في إخفاء فضائله، وإظهار معايبه، وتتبُّع سقطاته، وإذاعة غفلاته. وكلا الفريقين إما ظالم له أو للأديب فيه. وكما أن الانتصار جانب من العدل لا يسدُّه الاعتذار، فكذلك الاعتذار جانب هو أولى به من الانتصار، ومَن لم يفرق بينهما وقف بين الملامة بين تقريظ المقصِّر وإفراط المفرِّط …»

وأذكر أن الكتابة عن حياة المتنبي تخلَّقت في داخلي كالأمنية، حتى كتبتُ روايتي «من أوراق أبي الطيب المتنبي» وإن خرجَت في صورة غير التي كنت أتصورها لها، فهي لم تقتصر على رحلة الشاعر، وإنما ناقشت همومًا وشجونًا مصرية، وتحول المتنبي إلى شاهد على عصره، يشاهد، ويسجل، ويكتفي من المشاركة بالتأييد القلبي.

ولعلي أستطيع أن أقرر — في ثقة — أن قراءاتي لروايات جرجي زيدان التي تناول فيها التاريخ الإسلامي، كانت هي المدخل للأعمال التي حاولت فيها استلهام — أو توظيف — التاريخ. استفزَّتني، وتمنيت أن أستلهم التاريخ في أعمال مماثلة. الأثر نفسه — تقريبًا — أحدثَته في نفسي روايات علي الجارم «غادة رشيد»، و«فارس بني حمدان»، و«هاتف من الأندلس»، و«الشاعر الطموح»، وغيرها. وإذا كان كتاب الجارم «الشاعر الطموح» قد سقط من بين مراجعي في رواية «من أوراق أبي الطيب المتنبي» فإن ذلك كان من قبيل النسيان، لا التناسي!

•••

كان العقاد في مقدمة من استهوتني كتاباتهم. قرأت له «في بيتي»، فكان المدخل لقراءة كل ما استطعت قراءته وفهمه من مؤلفاته. بدا لي العقاد صعبًا في البداية. حاولت الإفادة من المعلومات التي تشتمل عليها كتاباته، ثم حاولت أن أجاوز التلقِّي السلبي إلى المناقشة والفهم. وتصورت العقاد — في حواري الصامت مع أعماله — عملاق الجسد والفكر. ساعد على ذلك صوره التي كانت تنشرها الصحف، تَسِمها جدِّية واضحة. ساعد على ذلك أيضًا لقب «الأستاذ» الذي كان يعنيه، حتى لو لم يسبق اسمه، بالإضافة — طبعًا — إلى تلك الأستاذية الواضحة في كل ما كتب. كان يُحسن القراءة والاستيعاب والتوصل إلى وجهة نظر محددة، بحيث لم تشغله الانتقادات التي عابَت على كُتُبه خلوَّها — إلَّا فيما ندر — من المصادر والمراجع، يُذكِّرني بألدوس هكسلي، ميزته الأولى تلك الملكة المذهلة، بهضم المعارف على تنوُّعها، وإعادة تقديمها بأسلوب ومنهج مميزَين. وتمنيتُ أن ألتقيَ بالعقاد، أقترب منه، أُصافحه، أتعرَّف إلى ملامحه وانفعالاته، يدور بيننا حوار.

ويومًا، كنت أعبر الطريق في شارع صفية زغلول، عندما اتجهَت عيناي إلى الوجه الذي طالما تمنيت أن ألتقيَ بصاحبه …

كان العقاد — بجسده العملاق وملامحه الصارمة — يجلس في المقعد الخلفي لسيارة عتيقة الطراز. تهيبت، وترددت، وتلعثمت — لك أن تُدرك مشاعري! — قبل أن أتقدم من نافذة السيارة، وأهمس: مساء الخير!

ردَّ الرجل التحية بمثلها. وسألت وأجاب. وكان نبض الحوار ما كتبه في ميزانه عن فلسفة الثورة.

بدا لي الرجل مغايرًا لكل ما قرأته عنه، وللصورة التي حاول ذهني القاصر أن يُجسِّدها. كان أبويًّا وودودًا وطيبًا. وتعانق — فيما بعد — حبي لشخصه وكتاباته في آنٍ معًا. وعندما تهيأت للسفر إلى القاهرة، كان العقاد في مقدمة مَن أتطلع إلى لقائهم، أتعلَّم على أيديهم، أناقشهم، أُفيد من توجيهاتهم. والتقيت في القاهرة بغالبية الذين تطلَّعت للقائهم، فيما عدا العقاد. ترددتُ — بالخجل الكامن في أعماقي من المشاركة في المجتمعات — عن زيارته في ندوته الأدبية. ولأن الغد له غد، فقد تواصلَت الأيام، حتى رحل العقاد عن عالمنا في الثالث عشر من مارس ١٩٦٤م.

•••

كانت مكتبة أبي — برغم ضخامتِها وتنوُّعِها — خاليةً من كتاب لسلامة موسى. لم أحاول — بعد أن تعرَّفتُ إلى كتابات الرائد العظيم — أن أسأل أبي: هل قرأ سلامة موسى؟ … ولا أن أُناقشَه — بالتالي — في كتاباته. وكنت أعزف عن اللعب — أحيانًا — فأجلس إلى شاكر، الصنايعي بدكان الأسطى عبد الهادي الترزي أسفل بيتنا. أُناقشه في قراءاته، ويناقشني في قراءاتي، وتمتد المناقشات، تنحسر الموضوعية أمام الرغبة في إظهار الثقافة، وتأكيد الذات، وإن اعترفت — الآن — أن شاكر كان مثلًا لهؤلاء الذين يجاوزون — بالتثقيف الذاتي — كلَّ المراحل الأكاديمية في التعليم، فهو زبون دائم لحمامة النن بائع الصحف بشارع إسماعيل صبري، ولوالده، بائع الصحف أيضًا — والكتب القديمة — بأول شارع الموازيني، ويُعيره عمُّ حجازي — صاحب المكتبة الحجازية الشهيرة على ناصية شارعَي الميدان وإسماعيل صبري في أبوة غريبة — كلَّ ما يرغب في قراءته من كتب جديدة، أو قديمة، فلا يحصل منه على مقابل ما. بل إنه يُوبِّخه إذا طال احتفاظه بالكتب، فهو قد انشغل عن القراءة إذن، وإذا أعادها بلا قراءة، فهل اكتملت ثقافتُه حتى يفرض الاختيار فيما ينبغي — أو لا ينبغي — قراءته؟!

لم يكن سلامة موسى من الكُتَّاب الذين قرأت لهم، وإن ظللت شغوفًا بالتعرف إليه من الكتابات التي ناقشَت آراءه، مؤيدةً، أو متحفظة، أو رافضة، ومن أحاديث شاكر المتحمسة عن مقدمة السوبرمان والاشتراكية والتصنيع والعلم والتقدم والتحديث ونبذ الخرافة. وطالبته — لكي تتساوى كفَّتا المناقشة — أن يُعيرَني مؤلَّفًا لكاتبه الأثير …

وقرأت «تربية سلامة موسى». شدَّتني البساطة التي تناول بها الرجلُ أخطرَ القضايا، وإن أشفقت من حرصه على تأكيد انتمائه الطائفي، بحيث تناثرت كلمة «القبطية» ومشتقاتها في صفحات الكتاب بما يَصِل إلى المبالغة. عمَّق ذلك الإحساس ما كنت قرأته في كتاب أستاذنا الكبير الراحل الدكتور محمد محمد حسين «في الأدب المصري الحديث» والذي أدان فيه الحركات الطائفية والشعوبية، والمؤامرات التي تستهدف تشويهَ إسلامية المجتمع المصري، فضلًا عن أحاديث صديقي فتحي الإبياري التي كانت تضع سلامة موسى في موضع الإدانة دائمًا، وتعيب عليه دورَه المشبوه في حياتنا الفكرية.

وحتى الآن، فإن ملاحظتي السلبية في كتابات سلامة موسى، هي حساسيته الطائفية المفرطة، وملاحظات أخرى تتصل برفض التراث العربي، والحضارة العربية، والتركيز على المدنية الأوروبية في إطلاقها. وفيما عدا ذلك، فإني أدين للأبعاد الإيجابية في كتابات سلامة موسى بالكثير من أفكاري وآرائي وإدراكي للأمور.

•••

كانت مكتبة البلدية الملاصقة لمدرستي — الإسكندرية الثانوية — أولى المكتبات العامة التي تردَّدتُ عليها. أقضي فترات الفسح، أو الحصص التي بلا مدرِّسين، في قاعتها الفسيحة المطلَّة على شارع الرصافة، أقلِّب في البطاقات، فأختار الكتاب الذي يشدُّني اسمُه، أو اسمُ صاحبه. لا أطلب كتابًا بالذات، ولا كاتبًا بالتحديد؛ فالقراءة مطلبي إطلاقًا، أقرأ وأقرأ وأقرأ، في كل شيء، ولكل الأسماء. عشرات المجلات والكتب، وآلاف الصفحات، وملايين الكلمات والأسطر. تُبهرني فكرة، فأعتنقها، ثم تطويها قراءة اليوم التالي. فلما كبرت، صرتُ أُقبِل على القراءة وأنا أتمثَّل قول فرنسيس بيكون: «اقرأ لا لِتُعارِض ولا لتُفنِّد، اقرأ لا لتُصدِّق، ولا لتأخذ الأمر قضيةً مسلَّمة، ولكن لكي تفكر وتَزِن الأمور.»

أحاول الآن أن أتذكَّر كتابًا فرض نفسه — في ذاكرتي — على عشرات الكتب التي أُتيح لي قراءتها — آنذاك — فلا أُوفَّق، وإن كنت أذكر جيدًا تلك الدقائق الخصبة، والمثمرة، التي تسبق تسلُّمي للكتاب الذي طلبته. أتصفح الدوريات المصفوفة على حوامل خشبية في قاعة القراءة: الهلال والرسالة والثقافة والمختار وغيرها من زاد المعرفة. الموضوع الذي يستهويني أقرؤه، فلا أتركه حتى أُتمَّه. وربما أرجأت قراءة الكتاب الذي طلبته إلى اليوم التالي، لاستكمال قراءة مواد إحدى المجلات. في مقدمة كتابي «مصر في قصص كتابها المعاصرين» رويتُ لك حيرتي بين القراءات. تهزُّني أفكار آخر كتاب قرأته، ولا أعانق فكرة واحدة أبدًا. تعرَّفت إلى جزر مجهولة، وأسماء لم أكن طالعتُها من قبل. ووجدت في المجلات الثقافية تنوُّعًا يرجوه ذلك الذي يُنشد القراءة لذاتها، وأحببت الفلسفة والتاريخ والتراجم والسير وقصائد الشعراء. أما القصة، فقد أحببتها. الأدق أني كنت أحببتها مطلقًا، صارت عالمي الحقيقي — قارئًا وكاتبًا — منذ بهرَتني أيام طه حسين، فحاولت تقليدها في كُتَيِّب مطبوع، أشبه بمرثية لأمي التي غيَّبها الموت قبل أن أبلغ العاشرة. ضمَّنته جملًا للمنفلوطي، وتيمور، والحكيم، وعبد الحليم عبد الله، والسباعي، وغراب، وآخرين. لم أكن تعرَّفتُ إلى نجيب محفوظ بعد، لكن بصمات «الأيام» كانت واضحةً في التناول، وفي الجمل المطولة التي نقلتها — ببساطة — من كتاب طه حسين.

وتعرَّفت إلى يوسف كرم — للمرة الأولى — في مكتبة البلدية. قرأت له سلسلةَ كُتُبِه في تاريخ الفلسفة الحديثة. شدَّتني بساطتُه وسهولة لغته. استطعت فهمَ كلماته بأيسر من فهمي للمواد الدراسية. ومع تنوع قراءاتي في الفلسفة، فإني لم أجد مثل هذا التعريف المبسَّط لماهية الفلسفة ودورها: «الفلسفة ليست مقصورةً على تقرير الواقع ودفع الشبهات عنه، وإنما غرضها الأكبر تفسير الواقع بالرجوع إلى مبادئه، أي وضع نظرية تستتبعه كنتيجة لازمة، وتجلوه من كل جفاء.» أسهم يوسف كرم في تعرُّفي إلى تاريخ الفلسفة. المؤكد أني لم أكن أعرف تطوُّرَ الفكر الفلسفي في العالم، لو لم أقرأ كُتُبَه عن الفلسفة اليونانية، والفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، والفلسفة الحديثة، إلخ … بل إن تناوله للفلسفة الوجودية أعفاني من التناول الخاطئ الذي كتبه — فيما بعد — أنيس منصور. احترامي للفلسفة الوجودية يجد بدايتَه في كتابات يوسف كرم. الوجودية كمذهب فلسفي، العلمية والموضوعية والنأي عن الإثارة التي اتسمت بها كتابات تالية. ولم أكن أعرف عن حياة الرجل ولا ظروفه الخاصة أيَّ شيء، حتى قرأت في الصحف عن انهيار المنزل الذي كان يُقيم فيه بطنطا، وضياع ترجمات لمؤلفات فلاسفة الإغريق، وأصول كتاب كان قد انتهى من تأليفه عن الأخلاق. وشغلني — من يومها — الجانبُ الشخصي في يوسف كرم، أسأل وأتابع وأقرأ، حتى لحقَته الوفاة يوم الخميس ٢٨ مايو ١٩٥٩م، وكان في الرابعة والستين من عمره.

•••

ومع أن الاستعارة الخارجية في المكتبة الأمريكية بشارع فؤاد — طريق جمال عبد الناصر فيما بعد — قد أضافت الكثير إلى تكويني الثقافي، فإن موسوعة ول ديورانت «قصة الحضارة» كانت هي الكتاب الأهم الذي ترك — في ذهني — تأثيرات مؤكدة. بل لعل قراءتي لتلك الموسوعة كانت هي المدخل الفعلي لاهتمامي بدراسة التاريخ، كقارئ في البداية. ثم تناولي لأحداثه وتحليلاته بعد اشتغالي بالكتابة، سواء في صورة توظيف أحداث التاريخ في الأعمال الأدبية، أو في صورة دراسات كما في «مصر في قصص كتابها المعاصرين»، و«مصر من يريدها بسوء». الكل يكتب ويُبدع، فلا يخلد إلَّا الأقل من المؤلفات المهمة. ولعلي لا أُجاوز الحقيقة حين أضع موسوعة ديورانت في مقدمة أهم مائة كتاب في السنوات المائة الأخيرة. بل إني أتفهم الآن — بعد مرور ما يزيد عن ثلاثين عامًا على قراءة ما كان قد تم ترجمته من موسوعة ديورانت — قول توينبي إنه «ما من عقل واحد، أو حياة واحدة، تستطيع أن تقوم بهذه المهمة على الوجه الأكمل.» توضح لي في «قصة الحضارة» مسار الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى: الدين والحكم والسياسة والزراعة والاقتصاد والعلم والثقافة والفن … إلخ. بانوراما متكاملة للجنس البشري منذ فجر التاريخ. وأتصور أن تأثير موسوعة ديورانت كان دافعًا لأن أُعلن في غلاف محاولتي الباكرة «ظلال الغروب» أني أُعِدُّ لعمل كبير، اسمه — فيما أذكر — «الشعلة المقدسة» عن تاريخ مصر، منذ شق النيل مجراه في أرض مصر، وتخلقت الحياة على ضفَّتَيه. وبالطبع، فإن شعلتي المقدسة لم تُجاوز حدَّ الأمنية!

وقد أحببت أبطال الإلياذة والأوديسا لهوميروس. إنهم يحيَون في البطولة، ويموتون فيها. رجال حقيقيون كاملون، يَعُون دورهم في الحياة وما يجب أن يفعلوه، همُّهم الإفادة من كل ما وهبَتهم الآلهة من قدرات وإمكانات، ليُثبتوا لأنفسهم أنهم على مستوى المسئولية التي يواجهونها. وطبيعي أن هؤلاء الأبطال ليسوا وقفًا على مجتمع بذاته، ولا زمان بالتحديد. ولعلي أذكِّرك بشخصيتَي الأستاذ بكر رضوان في «الأسوار» وشخصية علي عبد الحسين في «إمام آخر الزمان».

•••

حين كنت أعد أشهر الصيف ضيفًا على عمتي بحي المنيرة، كان التردد على المكتبة الفرعية لدار الكتب القريبة من البيت، في مقدمة ما أحرص عليه. تعرَّفت فيها — على مدى أعوام — إلى آدم متز، وراسل، وكامي، وفوكنر، وهمنجواي، ودي بوفوار، ولاسكي، وفيتزجرالد، وبروست، وفرويد، وستاندال، وفلوبير، وبلزاك، وزولا، وديكنز، وديستويفسكي، وتشيكوف، وجوركي، ونيرودا.

لست أذكر متى تعرفت إلى البير كامي للمرة الأولى، لكنني قرأت له، وأحببته، وأصبحت صديقًا لسيرة حياته وفنه، قبل أن يفجأه الموت في حادثة سيارة. أحببت كامي في كل شيء، وإن رفضت عدم إيمانه. البعد الديني — في داخلي — مما لا أستطيع تجاهله، أو التهوين منه. قرأت له «الطاعون»، و«كاليجولا»، و«العادلون»، و«أسطورة سيزيف». وتمنيت أن أكتب — مثله — في الرواية والمسرحية والدراسة الفلسفية. كما تمنيت — عند فوزه بجائزة نوبل — أن أحصل على الجائزة العالمية يومًا. أزيد فأُصارحك بأني تركت التصور في امتداداته إلى حفل تسلُّم الجائزة. ولأني من سكان الساحل، أُحب البحر والشمس والشاطئ، فقد أعجبني للغاية قولُ كامي: «لقد نشأت في البحر، وكان الفقر بالنسبة لي ترفًا جميلًا، ثم فقدت البحر، وإذ ذاك بدَت لي جميع النعم باهتةً تافهة، والبؤس أمرًا لا يُحتمل.» وكان إعجابي بكامي يقابله رفضٌ لموقفه المتخاذل — وربما الرجعي — من الثورة الجزائرية. فقد ناهض فكرة استقلال الجزائر «علينا أن نعتبر مطالبة الجزائر بالاستقلال إحدى ظواهر الإمبريالية العربية (!) الجديدة التي تتطلع مصر إلى تزعُّمها بدافع من الغرور، والتي يستخدمها — حتى الآن — الاتحاد السوفييتي لفائدة أهدافه الاستراتيجية ضد الغرب». وكان يستخدم في حديثه إلى أبناء الجزائر كلمة «أنتم»، بينما يتحدث عن المستوطنين الفرنسيين بكلمة «نحن». وبلغ به التبجح — لا أجد تعبيرًا آخر — حد القول «إنني مؤمن بالعدالة، لكنني أدافع عن أمي — فرنسا — قبل العدالة.» وكم أثَّرَت في نفسي مقالةٌ للمناضل الجزائري الأخضر الإبراهيمي، أكَّد فيها أن كامي «سيظل — في نظرنا — كاتبًا جليل القدر، أو بالأحرى صاحب أسلوب فني ممتاز، ولكنه سيبقى إلى ذلك غريبًا عنَّا، لا صلة بيننا وبينه مطلقًا» (الهلال، سبتمبر، ١٩٧٢م).

وإذا كان فوكنر قد أعلن — يومًا — أنه يستطيع الكتابة عن قريته وهو خارجها دون توقُّف على الإطلاق، فلعلي أزعم الأمر نفسه بالنسبة لبحري: رأس التين، والأنفوشي، والسيالة، وأبي العباس، والميناء الشرقية، والبوصيري، و«الخمس فوانيس»، وغيرها. أحببت في فوكنر إخلاصه لبيئته المحدودة، والمحددة، وأحببت في أعماله تحول الحادثة البسيطة — وربما التافهة — إلى أسطورة، إلى زخم روائي يحفل بالشخوص والمواقف والأفكار والأحداث. حتى الفتاة التي تجلس فوق الشجرة، يُحيلها الفنان — بخياله ورؤاه وقراءاته وخبراته وتجاربه — روايةً تشغل مئات الصفحات!

أما سكوت فيتزجرالد، فقد أفدتُ من أسلوب عمله في جمع المعلومات التي تُعين على التفهم الأوضح للبيئة المكانية والزمانية للعمل الروائي، خاصة ذلك الذي يستدعي بعض أحداث التاريخ القديم أو المعاصر.

وأما همنجواي، فقد لاحظت أن النثر في أعماله ليس مجردَ زخارف هامشية، لكنه بناء معماري ينبض بالحيوية والفن. وكان ذلك ما أريده تمامًا، وأتوق إلى تحقيقه. كنت أجد في نثر عبد الحليم عبد الله — على سبيل المثال — تشبيهاتٍ وكنايات وجملًا بلاغية، لكنها لا تُسهم في البناء المعماري، لا تُشكِّل عنصرًا فعالًا في العمل الفني، لا ترتبط، أو تتفاعل — عضويًّا — بالعناصر الأخرى التي يتألف منها. وأهملت ما كان يُبهرني من عبارات عبد الحليم. لم أَعُد أرجع إليها لأتأمل دلالاتها الجمالية. بدَت لي أشبهَ بالفلاشات التي تنتهي باختفائها، لا تترك أثرًا، ولا تُضيف شيئًا.

وكان أشد ما يمضُّني — لأعوام — أني كنت أقرأ عن رائعة جيمس جويس «يولسيس» دون أن يُتاحَ لي قراءتها. أحببت الوسيلة الفنية التي اختارها جويس، وتمنيت — من مجرد القراءة عنها — أن أكتب مثلها، أخلط الزمان والمكان والتصور والحدث والخاطرة، أخلط ذلك كلَّه في عمل فني.

وقد أثارَتني عبارة ديستويفسكي «كلُّنا خرجنا من معطف جوجول». وأقبلت على ما أُتيح لي قراءته من أعمال جوجول، فزاد إعجابي بهؤلاء الذين خرجوا من المعطف، قبل أن أقرأ قصة المعطف نفسها، أو أعمالًا أخرى لكاتبها. والحق أني أحببت أدب روسيا القيصرية في إطلاقه، أدب تلك الفترة المثقلة بالتمرد والثورة والإضافة والتطوير، تخرج القصة القصيرة من معطف جوجول، فيُجيد تورجنيف التعبير عن طبقة الفلاحين، ويحتوي تولستوي أمته الروسية في أدبه، ويقدم تشيكوف شخصياته البسيطة والمرهقة التي لا تُنسى، ويبشر جوركي — بنبرة عالية الرنين، ربما أشد مما ينبغي! — بدنيا جديدة، ويُفيد ديستويفسكي علم النفس أضعاف ما أفادته الأعمال الأدبية الأخرى، منذ المسرح الإغريقي إلى شكسبير، حتى الأعمال المعاصرة. باختصار، فقد كان الأدب الروسي هو المدرسة التي تعلَّم فيها معظم أبناء جيلي، سواء في الرواية أو القصة القصيرة أو المسرحية. وحين تجرأت فكتبت — لا أدري كيف — مقالًا بعنوان: «كيف تكتب قصة قصيرة؟» فإن المثل المتكامل للقصة القصيرة كان هو قصة «لمن أسرد أحزاني؟» لتشيكوف، ذلك الحوذي الذي لا يجد مَن يسرد عليه أحزانه لوفاة ابنه، ويلجأ — في النهاية — إلى جواده، يروي له القصةَ من بداياتها. كانت الطبقة الوسطى — والفقيرة أيضًا، بعكس ما يزعمه النقد — هي نبض أعمال تشيكوف، الحياة العادية البسيطة، ما ينتمي إلى الواقع الروسي، وإن تحقق له البعد الإنساني المطلق. إلى أية طبقة ينتمي حوذي تشيكوف الأشهر؟!

وأعترف أني انبهرتُ بدعوة برتراند راسل للسلام. وكانت أولى قصصي «ياسلام» تأثرًا مباشرًا بتلك الدعوة. فلما تحدد الصراع العربي الصهيوني في مقولة شكسبير الشهيرة «نكون أو لا نكون» بدا السلام تعبيرًا عن السذاجة في مقابل الهجمة التترية العنصرية الضارية التي تسعى لاجتثاث الجنس العربي إطلاقًا. وبعد عشرين سنة من «ياسلام» كتبتُ العديد من القصص القصيرة، فضلًا عن روايتي «من أوراق أبي الطيب المتنبي» التي أكَّدت على «المقاومة» سبيلًا للتخلص من المأزق الذي نحياه.

ولعلي حين بدأت إعداد كتابي «مصر في قصص كتابها المعاصرين» كنت متأثرًا بقول بابلو نيرودا: «على كل إنسان أن يعيش في وطنه، أن يُصيخَ السمع إليه، أن يضرب بجذوره في تربته.» وقد دفعني بابلو نيرودا — تحديدًا — إلى البحث عن ناظم حكمت: «إننا نُحسَب في عداد الشعراء عندما نقف بجوار ناظم حكمت …»

ولعلي أزعم أيضًا، أني حاولت الإفادة من آخر ما قالته فرجينيا وولف: «عمل عمل عمل. إنه آخر وصفاتي …»

تبقى حكاية التأثير الكافكاوي على أدب الستينيات.

أُصارحك أني لم أتعرَّف — ومعظم جيلي — إلى كافكا، بصورة حقيقية، بحيث يحدث التأثير والتأثر، إلَّا من خلال ما ترجمه الدسوقي فهمي ومصطفى ماهر في أواسط الستينيات. قبل ذلك، ربما لم يقدِّم كافكا إلى العربية سوى طه حسين عندما كتب عن «المحاكمة» في الكاتب المصري. أما القول بأن أعمال كافكا كانت ميسورةَ التداول، فإن الإجابة عليه هي أن معظم مَن وجد النقاد في أدبهم ذلك التأثير، لم يكونوا يعرفون لغةً ثانية. وأذكر في مقدمتهم صديقي المتفوق محمد حافظ رجب.

•••

كانت مكتبة المنيرة هي المكان الذي التقيتُ فيه — للمرة الأولى — بنجيب محفوظ. عرَّفني به أحمد أفندي عاكف بطل «خان الخليلي».

كنت قد قرأت للمنفلوطي، والمازني، وطه حسين، والعقاد، وتيمور، ونجوم جيل نجيب محفوظ قبل أن يخسف بهم ضياؤه: السحار، والسباعي، وغراب، وعبد الحليم عبد الله، والبدوي، وغيرهم. قلت لنفسي: هذا هو الكاتب الذي أريده. وقرأت عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طيبة، والقاهرة الجديدة، وزقاق المدق، وبداية ونهاية. أحسست بالمسافة الواسعة التي تفصل بين نجيب محفوظ وأدباء الأجيال السابقة، وأبناء جيله أيضًا. ولكن مجموعة «همس الجنون» لم تحقق — في داخلي — التأثيرَ نفسه الذي حققته رواياته. وحتى الآن، فإني أتحفظ في إبداء الإعجاب بغالبية قصص نجيب محفوظ القصيرة، بينما أجد في رواياته إضافاتٍ مهمة، لا إلى الرواية العربية وحدها — رأْي تغيب عنه الحماسة! — ولكن إلى الرواية العالمية بعامة. روايات نجيب محفوظ هي الأقرب — بمواصفات النقد — إلى العالمية (وقد حصلت — بالمناسبة — على جائزة الدولة التشجيعية في النقد الأدبي!) أما قصصه القصيرة، فإنها تُعاني — أحيانًا — غيابَ خصائص فن القصة. وقد يغلب عليها الوعظ والمباشرة، وربما أضيف: والسذاجة أيضًا!

•••

لم أكن أعلم أن أسلوب القراءة الذي اخترته في مكتبة المنيرة، ثم أهملته، سبقني إليه «العصامي» في «الغثيان» لسارتر، حين وهب حياته لقراءة كتب مكتبة البلدية من الألف إلى الياء. ثقَّف البطل السارتري نفسه عن طريق قضاء ساعات طويلة في القراءة بمكتبة البلدية. وهو ما حاولتُ أن أفعله — قبل أن أقرأ الغثيان — في مكتبة المنيرة. بل إني بدأت تنفيذ مشروعي للقراءة بالطريقة نفسها التي اتبعها روكتان، أقرأ كل الكتب التي تضمها المكتبة وفقًا للتسلسل الأبجدي لأسماء المؤلفين. وقد توقفَت عملية التثقيف الذاتي بالنسبة لروكتان عندما طُرد من المكتبة بتهمة تحسُّس ذراع تلميذ صغير. أما أنا، فقد طُردت من مكتبة المنيرة، وأنهيت — بالرغم مني — عملية التثقيف الذاتي، لأن أمين المكتبة ضايقَته الأحاديث الهامسة التي كنت أتبادلها وليلى أ. ع. (أهديتها أول ما أصدرت من إبداع مطبوع!) كانت تُقيم في البيت المواجه لبيت عمتي بالمنيرة، وقررنا أن تنتقل العلاقة من وراء الشرفات إلى مكان آخر، أخفقنا في تحديده، حتى تذكرت مكتبة المنيرة. لم تكن ليلى ممن يقرءون، اكتفَت بإجادة القراءة والكتابة، ثم لم تَعُد تقرأ. وحدثتها عن المكتبة والكتب وجدوى القراءة. والتقيتُ بليلى عن قرب، لأول مرة. لم يَعُد يفصل بيننا شارع — هو المواردي — وزقاق متفرع منه — لا أذكر اسمه الآن — ينتهي إلى شرفة ذات مشربية كانت ليلى تُطِل منها، بينما كنت أقف لأحادثها داخل شرفة في شقة عمتي، أوارب الشيش، فلا يراني — ما عداها — أحد. لاحظ أمين المكتبة أحاديثنا الهامسة، وأننا لا نقرأ كتابي الاستعارة. اقترب مني — بتأدب — وقال في أُذُني بصوت هامس:

– المكتبة للقراءة لا لتبادل الأحاديث!

وقررنا — ليلى وأنا — أن نلتقيَ في أماكن أخرى. ولم أَعُد — لخجلي — أتردَّد على المكتبة.

•••

أفدتُ من ابن عمٍّ لأبي، الصحفي محمد عوض جبريل، دون أن ألتقيَ به. مات وأنا طفل، فلم أتعرَّف إليه إلَّا في صورة معلقة على جدار بيته حين زرته مع عمتي في إجازات الصيف. أَذِنت لي أرملتُه — فاطمة هانم — بالاطلاع على مكتبته. وكانت مكتبة ثرية بالفعل، غاب عنها التخصص لأن معظم ما حوَته كان إهداءات من المؤلفين لصحفي مرموق!

وأحببتُ السِّيَر الأدبية والشخصية للمازني وأحمد أمين وزكي نجيب محمود وغيرهم. فلما قرأت — فيما بعد — اعترافاتِ جان جاك روسو، بدَت مغايرةً لكل ما قرأته في أدب السيرة، وهزَّتني هزًّا عنيفًا.

وقرأت عن بيرم التونسي، منذ مولده بالإسكندرية في ١٨٩٣م، وتعلُّمه في الكُتَّاب، وفي قراءات المكتبات العامة، وعلى أيدي المثقفين، واشتغاله بالعديد من الحِرَف: بيع الخضر والسمن، والصيد، ونفوره من صناعة الهوادج، وكتاباته الزجلية الباكرة، وأولى قصائده: المجلس البلدي، فإصدار المسلة: لا جريدة ولا مجلة، والخازوق. ثم النفي من مصر، والعودة بالتخفِّي، والنفي — ثانيةً — بعد العثور عليه. ومع أني كنت أعلم أن جامع أبي العباس قد أُعيد بناؤه في منتصف الأربعينيات، بل إني أذكر الصور غير الواضحة التي تنتسب لأعوام الطفولة، لعمليات البناء: الرمال، والطوب الأحمر، وخلطة الأسمنت، والفواعلية، وهيلا ليصة … صور لا تتصل بما قبل ولا بعد كطبيعة ذكريات الطفولة، حين يلفُّها الضباب، وتبدو غيرَ متصلة. مع ذلك، فإني كنت — أثناء مذاكرتي في صحن أبي العباس — أتخيَّل الأماكن التي ربما تلقَّى فيها بيرم التونسي تعليمَه عندما كان أبو العباس مقرًّا للمعهد الديني.

وقرأت الترجمة العربية للمجلدات الأولى في موسوعة أرنولد توينبي الثرية «دراسة التاريخ». لم تكن ترجمات كاملة، لكنها وافيةٌ بحيث استطعت — من خلالها — أن أتعرَّف إلى فكر توينبي. وبالتحديد: نظرته إلى الحضارات وأصولها، ميلادها وارتقائها وذوائها، فموتها! أخضع توينبي تطور الحضارات لمنهج تجريبي، أثبت من خلاله أن الحضارات لا تُفهم إلَّا في إطار النمط الدوري. الكائن الحي الذي يمرُّ بكل مراحل الحياة، بدءًا بالميلاد، وانتهاءً بالموت. الحضارة تولد وتنمو حتى تصل إلى ذروة قوتها، قبل أن تشيخ وتموت. ليست الحضارة الإنسانية وحدها، وإنما كل ما هو إنساني. حتى أبي لم يَعُد هو ذلك الأب القديم بحيويته وفتوَّته. بدأت «حضارته» في الذواء. وأذكر أني سألت نفسي وأنا أناقش فكرةَ توينبي في بواعث حضارة الغرب وذوائها: هل تصادف حضارة الغرب ما ذهب إليه توينبي في فكرته؟ … هل تشهد الانحلال الذي توقَّعه لها توينبي، فتتحقق الحتمية التاريخية، رغم الحلول التي وضعها توينبي نفسه، لإنقاذ تلك الحضارة مما يتهددها؟!

•••

وأثناء انشغالي بإتمام الجزأين الثاني والثالث من كتابي «مصر في قصص كتابها المعاصرين» — عقب صدور الجزء الأول في ١٩٧٢م — دلَّني صديقي الدكتور رفعت السعيد على مصدر لم أكن تنبهت إليه، هو عصام الدين حفني ناصف. فلما أتاحَت لي أرملتُه أن أقرأ كُتُبَه، وأقلِّب في أوراقه، كان ذلك بدايةَ تعرُّفي — وإن جاء متأخرًا — إلى عالمٍ خصبٍ وثريٍّ لواحد من أساتذتي الأساسيِّين. أزعجتني — في البداية — أوراقُه المسرفة في الإلحاد، إلى حدِّ أنه وضع النكات والقصائد الساخرة التي تتناول الذات الإلهية. مولدي ونشأتي بالقرب من أبي العباس والبوصيري وعلي تمراز، وأدائي للفرائض في سنٍّ باكرة، وتواصل حياتي في أجواء قريبة من الدين، أو لصيقة به … ذلك كلُّه جعل كتاباتِ عصام الدين حفني ناصف الملحدة أشبهَ بالصدمة. زاد من وَقْعها أنها كانت أولَ ما طالعَته عيناي في أوراقه. لكن العالم الحقيقي للرجل ما لبث أن توضَّح في كتابات تكفل له مكانةً متفوقة بين مفكري عصره وأدبائه، وربما بين القيادات الاجتماعية والسياسية لذلك العصر.

يسأله المحقق في إحدى قضايا الرأي: تُشير في كتاباتك إلى الأموال التي تُصرف في إسراف مخيف، وتكفي لتحسين حالة الفلاح لحد ما … فماذا تقصد من ذلك؟

يُجيب: أريد مثلًا، الأموال التي تُنفق على الزينة في أعياد جلالة الملك، ولا يستفيد منها غيرُ أصحاب محلات الكهرباء والأجانب وغير ذلك حاجات كثيرة جدًّا. فالأغنياء مثلًا يشترون الماسات، ويُقيمون الأفراح ونحو ذلك. ومثال ذلك أيضًا، البرنس يوسف كمال، عنده ٤٠ كلبًا للصيد يذبح لها خرفانًا مخصوصة، بينما الفلاحون في أرضه لا يأكلون غير المش، وهو وغيره يحجزون على أملاك الفلاحين إذا خسرت الزراعة.

أما الكتاب، فهو «التجديد الاجتماعي». أصدره عصام الدين حفني ناصف في ١٩٣٠م. ولخطورة ما ورد في الكتاب من أفكار قدَّمت حكومةُ إسماعيل صدقي مؤلِّفَه إلى المحاكمة. كان رأْي عصام ناصف أن «الفلاح يزرع، فيجب أن يحصد. الفلاح هو المنتِج، فيجب أن يكون هو المتمتع». وقد تقلَّب الرجل بين أكثر من حزب سياسي، لكنه احتفظ دائمًا بأفكاره المناهضة للاستعمار والرجعية والإقطاع والرأسمالية الاحتكارية. وتوضَّحت أفكارُه وما يدعو إليه عندما مارس الكتابة الأدبية والدينية والسياسية. قدَّم كتاب «النشوء والارتقاء» لداروين، تأكيدًا لحتمية انتصار العلم على المنطلقات السلفية والنقلية. ثم ترجم قصة تولستوي «النور يُضيء في الظلام»، وترجم لديستويفسكي «الزوج الأبدي»، ثم انصرف — فيما يُشبه التفرغ — للكتابة عن الاشتراكية. وبلغ ما أصدره ٢٣ كتابًا، بالإضافة إلى عشرات الدراسات والمقالات في الصحف. ومما أعتزُّ به، تلك الأوراق التي سجَّل فيها بعضَ خواطره وأفكاره، والتي ما زلتُ أحتفظ بها، بمبادرة سخية من أرملته.

•••

ولأني — منذ بدايات حياتي العملية — كنت أُعاني ضآلة المرتب، بحيث بدا شراء الكتاب، وربما المجلة، عبئًا لا أقوى على تحمُّلِه، ولأني انصرفتُ أعوامًا تزيد عن السبع، لتأليف كتابي «مصر في قصص كتابها المعاصرين» فقد تحدَّدَت مواردي في المكافأة التي كنت أتقاضاها من جريدة «المساء»، والتي أُنقصَت — للغرابة — بعد أن تمَّ تعييني، وصارت مرتَّبًا، يصعب — والتعبير لصديقي الراحل فاروق منيب — أن تُطعم قطة!

أُصارحك بأن ذلك الوضع المادي المأزوم لم يشهد انفراجة، إلَّا حين أقنعني أستاذي عبد المنعم الصاوي وصديقي صلاح الدين حافظ بالسفر في رحلة عمل إلى سلطنة عمان، توليت أثناءها إصدارَ جريدة «الوطن»، وهو ما رويته — بإفاضة — في سلسلة مقالات نشرَتها مجلة «الدراسات الإعلامية». أعود إلى الأجندات الصغيرة التي كنت أسجِّل فيها — أحيانًا — بعض الملاحظات. الملاحظة التي لم تتغير في كل افتتاح لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، أن مرتَّبي لم يكن يأذن لي بشراء الكتب التي أريدها. حاولت — في أعوام الحصار المادي، كم كانت طويلة! — أن أُفيدَ من مكتبات أصدقائي. أتاحوا لي قراءةَ ما تضمُّه مكتباتهم. وزاد البعض — مثل يحيى حقي ونجيب محفوظ ومحمود تيمور وثروت أباظة — فأهدوني النسخ المكررة مما بحوزتهم من الكتب. ولما شغلني البحث عن مراجع ومصادر لكتابي «مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين» أفسح لي صديقي محمد فهيم شلتوت مكتبَه في دار الكتب لقراءة كل ما أطلبه. كما أفدت من مكتبة الدومينكان بالعباسية. صداقة الأب جاك جومييه وفَّرت لي مراجعَ، بعضها لم يكن في قوائم دار الكتب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤