المنقذ

ومرت خمسة أعوام على زواج سلمى ولم تُرزق ولدًا ليوجد بكيانه العلاقة الروحية بينها وبين بعلها، ويقرب بابتسامته نفسيهما المتنافرتين، مثلما يجمع الفجر أواخر الليل وأوائل النهار.

والمرأة العاقر مكروهة في كل مكان؛ لأن الأنانية تصور لأكثر الرجال دوام الحياة في أجساد الأبناء، فيطلبون النسل ليظلُّوا خالدين على الأرض.

إن الرجل المادي ينظر إلى زوجته العاقر بالعين التي يرى بها الانتحار البطيء، فيمقتها ويهجرها ويطلب حتفها كأنها عدوّ غدار يريد الفتك به، ومنصور بك غالب كان ماديًّا كالتراب وقاسيًا كالفولاذ وطامعًا كالمقبرة، وكانت رغبته بابن يرث اسمه وسؤدده تكرِّهُه بسلمى المسكينة وتحوّل محاسنها في عينيه إلى عيوب جهنمية.

إن الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمرًا، وسلمى كرامة كانت في ظل الحياة فلم تثمر أطفالًا. إن البلبل لا يحوك عشًّا في القفص كيلا يورث العبودية لفراخه، وسلمى كرامة كانت سجينة الشقاء، فلم تقسم السماء حياتها إلى أسيرين. إن أزاهر الأودية هي أطفال يلدها انعطاف الشمس وشغف الطبيعة، وأطفال البشر أزاهر يلدها الحب والحنو، فسلمى كرامة لم تشعر قط بأنفاس الحنو وملامس الانعطاف في ذلك المنزل الفخم القائم على شاطئ البحر في رأس بيروت، ولكنها كانت تصلي في سكينة الليالي ضارعة أمام السماء لتبعث إليها بطفل يجفِّف بأصابعه الوردية دموعها، ويزيل بنور عينيه خيال الموت عن قلبها.

وقد صلت سلمى متوجعة حتى ملأت الفضاء صلاة وابتهالًا، وتضرعت مستغيثة حتى بدّد صراخها الغيوم، فسمعت السماء نداءها وبثَّتْ في أحشائها نغمة مختمرة بالحلاوة والعذوبة، وأعدتها بعد خمسة أعوام من زواجها لتصيّرها أمًّا وتمحو ذلها وعارها.

الشجرة النابتة في الكهف قد أزهرت لتثمر.

البلبل المسجون في القفص قد هَمّ ليحوك عشًّا من ريش جناحيه.

القيثارة التي طرحت تحت الأقدام قد وضعت في مهبّ نسيم المشرق ليحرك بأمواجه ما بقي من أوتارها.

سلمى كرامة المسكينة قد مدّت ذراعيها المكبّلتين بالسلاسل لتقتبل موهبة السماء.

وليس بين أفراح الحياة ما يضارع فرح المرأة العاقر عندما تهيئها النواميس الأزلية لتصيِّرها أمًّا. كل ما في يقظة الربيع من الجمال، وكل ما في مجيء الفجر من المسرة يجتمع بين أضلع المرأة التي حَرَمَها الله ثم أعطاها.

لا يوجد نور أشد سطوعًا وأكثر لمعانًا من الأشعة التي يبعثها الجنين السجين في ظلمة الأحشاء.

وكان نيسان قد جاء متنقلًا بين الروابي والمنحدرات عندما تمت أيام سلمى لتلد بكرها، وكأن الطبيعة قد وافقتها وعاهدتها، فأخذت تضع حمل أزاهرها وتلف بأقمطة الحرارة أطفال الأعشاب والرياحين.

مضت شهور الانتظار وسلمى تترقب الخلاص مثلما يترقب المسافر طلوع كوكب الصباح، وتنظر إلى المستقبل من وراء دموعها، فتراه مشعشعًا، وقد طالما ظهرت الأشياء القاتمة متلمعة من خلال الدموع.

ففي ليلة وقد طافت أشباح الظلام بين تلك المنازل في رأس بيروت، انطرحت سلمى على مضجع المخاض والأوجاع، فانتصب الموت والحياة يتصارعان بجانب فراشها، ووقف الطبيب والقابلة ليقدما إلى هذا العالم ضيفًا جديدًا، وسكنت حركة عابري الطريق وانخفضت نغمة أمواج البحر، ولم يعد يسمع في ذلك الحي سوى صراخ هائل يتصاعد من نوافذ منزل منصور بك غالب … صراخ انفصال الحياة عن الحياة … صراخ محبة البقاء في فضاء اللاشيء والعدم … صراخ قوة الإنسان المحدودة أمام سكينة القوى غير المتناهية … صراخ سلمى الضعيفة المنطرحة تحت أقدام جبارين: الموت والحياة.

عندما لاح الفجر ولدت سلمى ابنًا، ولما سمعت إهلاله فتحت عينيها المغلقتين بالألم، ونظرت حواليها، فرأت الأوجه متهللة في جوانب تلك الغرفة … ولما نظرت ثانية رأت الحياة والموت ما زالا يتصارعان بقرب مضجعها، فعادت وأغمضت عينيها وصرخت لأول مرة: يا ولدي.

ولفّت القابلة الطفل بالأقمطة ووضعته حذاء أمه، أما الطبيب فظل ينظر بعينين حزينتين نحو سلمى ويهز رأسه صامتًا بين الدقيقة والأخرى.

وأيقظت نغمة الفرح بعض الجيران فجاؤوا بملابس النوم ليهنئوا الوالد بولده. أما الطبيب فبقي ينظر بعينين كئيبتين نحو الوالدة وطفلها.

وأسرع الخدم نحو منصور بك ليبشروه بقدوم وريثه ويملئوا أيديهم من عطاياه. أما الطبيب فلبث واقفًا ينظر بعينين يائستين إلى سلمى وابنها.

ولما طلعت الشمس قربت سلمى ولدها من ثديها ففتح عينيه لأول مرة ونظر في عينيها واختلج وأغمضها لآخر مرة، فدنا الطبيب وأخذه من بين ذراعيها، وانسكبت على وجنتيه دمعتان كبيرتان ثم همس في سره قائلًا: هو زائر راحل!

مات الطفل وسكان الحي يفرحون مع الوالد في القاعة الكبرى ويشربون نخبه ليعيش طويلًا، وسلمى المسكينة تحدق إلى الطبيب وتصرخ قائلة: أعطني ولدي لأضمه، ثم تحدق ثانية فترى الموت والحياة يتصارعان بجانب سريرها.

مات الطفل ورنات الكؤوس تنمو وتتكاثر بين أيدي الفرحين بمجيئه.

وُلد مع الفجر، ومات عند طلوع الشمس، فأي بشري يستطيع أن يقيس الزمن ليخبرنا ما إذا كانت الساعة التي تمرّ بين مجيء الفجر وطلوع الشمس هي أقصر من الدهر الذي يمر بين ظهور الأمم وتواريها؟

ولد كالفكر، ومات كالتنهّدة، واختفى كالظل، فأذاق سلمى كرامة طعم الأمومة، ولكنه لم يبقَ ليسعدها ويزيل يد الموت عن قلبها.

حياة قصيرة ابتدأت بنهاية الليل وانقضت بابتداء النهار، فكانت مثل قطرة الندى التي تسكبها أجفان الظلام ثم تجففها ملامس النور.

كلمة لفظتها النواميس الأزلية، ثم ندمت عليها وأعادتها إلى سكينة الأبدية …

لؤلؤة قذفها المد إلى الشاطئ ثم جرفها الجزْر إلى الأعماق …

زنبقة ما انبثقت من أكمام الحياة حتى انسحقت تحت أقدام الموت …

ضيف عزيز ترقبت سلمى قدومه، ولكنه ما حل حتى ارتحل، وما فتح مصراعي الباب حتى اختفى.

جنين ما صار طفلًا حتى صار ترابًا … وهذه حياة الإنسان بل حياة الشعوب، بل حياة الشموس والأقمار والكواكب … وحوَّلت سلمى عينيها نحو الطبيب، وتنهدت بشوق جارح ثم صرخت قائلة: أعطني ابني لأضمه بذراعي … أعطني ولدي لأرضعه …

فنكس الطبيب رأسه وقال والغصات تخرسه: قد مات طفلك يا سيدتي فتجلَّدي وتصبَّري لكي تعيشي بعده.

فصرخت سلمى بصوت هائل، ثم سكتت هنيهة، ثم ابتسمت ابتسامة فرح ومسرة، ثم تهلل وجهها وكأنها عرفت شيئًا لم تكن تعرفه وقالت بهدوء: أعطني جثة ولدي … قربه مني ميتًا.

فحمل الطبيب الطفل الميت ووضعه بين ذراعيها، فضمته إلى صدرها وحوَّلت وجهها نحو الحائط وقالت تخاطبه: قد جئت لتأخذني يا ولدي. جئت لتدلني على الطريق المؤدية إلى الساحل. ها أنا ذا يا ولدي فسِرْ أمامي لنذهب من هذا الكهف المظلم.

وبعد دقيقة دخلت أشعة الشمس من بين ستائر النافذة، وانسكبت على جسدين هامدين منطرحين على مضجع تخفره هيبة الأمومة وتظلِّله أجنحة الموت.

فخرج الطبيب باكيًا من تلك الغرفة، ولما بلغ القاعة الكبرى تبدّلت تهاليل المهنئين بالصراخ والعويل. أما منصور بك غالب فلم يصرخ ولم يتنهّد ولم يذرف دمعة ولم يفه بكلمة، بل لبث جامدًا منتصبًا كالصنم قابضًا بيمينه على كأس الشراب.

•••

في اليوم التالي كُفنت سلمى بأثواب عرسها البيضاء، وُوضعت في تابوت موشًّى بالمخمل الناصع. أما طفلها فكانت أكفانه أقمطته وتابوته ذراعي أمه وقبره صدرها الهادئ.

حملوا الجثتين في نعش واحد، ومشوا ببطء متلف يشابه طرقات القلوب في صدور المنازعين، فسار المشيِّعون وسِرْت بينهم، وهم لا يعرفونني ولا يدرون ما بي.

بلغوا المقبرة فانتصب المطران بولس غالب يرتل ويعزم، ووقف الكهّان حوله ينغّمون ويسبحون، وعلى وجوههم الكالحة نقاب من الخلو والغفول.

ولما أنزلوا التابوت إلى أعماق الحفرة همس أحد الواقفين قائلًا: هذه أول مرة رأيت فيها جسدين يضمهما تابوت واحد …

وقال آخر: كأن طفلها قد جاء ليأخذها وينقذها من مظالم زوجها وقساوته.

وقال آخر: تأملوا بوجه منصور بك فهو ينظر إلى الفضاء بعينين زجاجيتين كأنه لم يفقد زوجته وطفله في يوم واحد.

وقال آخر: غدًا يزوجه عمه المطران ثانية من امرأة أخرى أوفر ثروة وأقوى جسمًا.

وظل الكهان يرتلون ويسبّحون حتى فرغ حفار القبور من ردم الحفرة، فأخذ المشيعون إذ ذاك يقتربون واحدًا واحدًا من المطران وابن أخيه، يصبرونهما ويؤاسونهما بمستعذبات الكلام، أما أنا فبقيت واقفًا منفردًا وحدي، وليس من يعزِّيني على مصيبتي، كأن سلمى وطفلها لم يكونا أقرب الناس إليَّ.

عاد المشيعون وبقي حفار القبور منتصبًا بجانب القبر الجديد وفي يده رفشه ومحفره، فدنوت منه وسألته قائلًا: أتذكر أين قبر فارس كرامة؟

فنظر إليَّ طويلًا ثم أشار نحو قبر سلمى وقال: في هذه الحفرة قد مدَّدتُ ابنته على صدره، وعلى صدر ابنته مددت طفلها وفوق الجميع قد وضعت التراب بهذا الرفش.

فأجبته: وفي هذه الحفرة أيضًا قد دفنت قلبي أيها الرجل، فما أقوى ساعديك!

ولما توارى حفار القبور وراء أشجار السرو، خانني الصبر والتجلد فارتميت على قبر سلمى أبكيها وأرثيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤