خاتمة

تمتع مارتن لوثر بشخصية قوية جذبت إليه المعجبين والمسيئين على حدٍّ سواء. ومن بين المعجبين به إصلاحيُّ مدينة أوجسبورج أوربانوش ريجيوس، الذي عرج على لوثر للقائه عام ١٥٣٠ في حصن مدينة كوبورج. قال ريجيوس لأحد أصدقائه في جنوب ألمانيا بعد الزيارة:

لا يسع شخصًا أن يكرهَ لوثر بعد لقائه. تقدِّم كُتُبه فكرةً عامةً عن شخصيته، لكن إن تسنَّ لك أن تُشاهِدَه عن كثب، وأن تُصْغِيَ إليه وهو يتناول المسائل الدينية بروحه الشبيهة بروح الرسل؛ فستقول إن لقاءه شخصيًّا أفضل بكثير من السماع عنه. هو أعظم مِن أن يَحكم عليه عالمُ لاهوت آخَرُ، وسيبقى بلا شك عالِمَ لاهوت للعالَم بأَسره، وأنا موقن الآن أنني صرت أعرفه أكثر من ذي قبلُ.

لو كان ريجيوس يعيش في عام ٢٠٠٣ لاستمتع بالفيلم الذي أخرجه إريش تيل، والذي صوَّر لوثر على أنه ثائر، وعبقري، وقائدٌ بطل للتحرير. وقد كان — إلى حدٍّ ما — يتمتع بهذه الصفات الثلاث، لكنه من الناحية العملية آثَر النظام على الفوضى، والإيمان على الحنكة، والاعتدال على الحرية. وقد أخفقت أغلب المحاولات لتصويره على أنه بطل لا تشوبه شائبة، لميلها إلى وصفه بمسمَّيَات مبسَّطة كانت تمثِّل — على أقصى تقدير — أنصاف حقائق عنه. وحتى أصدقاؤه وزملاؤه كانت لديهم هواجسهم؛ فوفقًا لخطابٍ سرِّيٍّ كتبه فيليب ميلانشتون عام ١٥٤٨، شعر ميلانشتون بأنه اضطر أن يلعب دورًا ثانويًّا مع زميله لوثر الأكثر حيوية وشهرة.

بدأ تصوير لوثر كبطل بالكلمات والصور بعد وقت قصير من طباعة أول أعماله في بازل عام ١٥١٨. حثَّ التمهيد لتلك الطبعة — الذي كتبه الإنساني المؤيِّد للإصلاح فولفجانج كابيتو — علماءَ اللاهوت على نبْذِ المناهج السكولاتية التي اتبعها أسلافهم، والعودةِ إلى تعاليم المسيح باتِّباع نهْج لوثر، الذي يسلِّط الضوء على الأناجيل الأربعة وعلى رسالات الرسول بولس. أما الإنساني والمسئول الحكومي في نورمبرج لاتساروس شبينجلر، فقد نشر في نهاية عام ١٥١٩ دفاعًا عن لوثر امتدح فيه العزاء الذي يبثه لوثر في نفوس أصحاب الضمائر المثقلة، والذين أشار لهم لوثر بالأخص في مدينة فورمس على أنهم السبب الرئيس لوقوفه في وجه البابوية، ويُزعَم أن شبينجلر سمع رجال الدين والعامة — على حد سواء — يشكرون الله على أن العمر امتدَّ بهم ليشهدوا لوثر وتعاليمه. أما هانز بالدونج جرين — وهو طالب من جنوب ألمانيا للنحات والرسام ألبريشت دورر — فقد صنع عام ١٥٢١ لوحةً مطبوعةً من حفْر على خشب تصوِّر مثول لوثر أمام مجلس فورمس، وصورت اللوحة لوثر على أنه قديس مُلهَم من السماء مع كتاب مفتوح، وعلى رأسه حمامة محاطة بهالة نورانية. وفي عام ١٥٢٣، أنتج هانز هولباين الأصغر لوحة مطبوعة من حفْر على الخشب تُصوِّر لوثر كهرقل ألمانيا وهو يهاجم ياكوب هوخشتراتن — وهو عالم دين دومينيكي كتب هجومًا على لوثر — وقد تمدَّدَ على الأرض في اللوحة أرسطو وخمسة من لاهوتيي العصور الوسطى مهزومين. وفي العام نفسه كتب هانز ساكس — وهو موسيقار كبير بمدينة نورمبرج — قصيدة مطوَّلة؛ تكريمًا للوثر بعنوان «عندليب فيتنبرج الذي يصدح تغريده في كل مكان».

fig10
شكل ١: لوثر كهرقل ألمانيا، بريشة هانز هولباين الصغير، ١٥٢٣.

استمر الاستحسان الشعبي واستحسان رجال الدين للوثر طوال حركة الإصلاح الديني وما بعدها، فبين عامي ١٥٦٢ و١٥٦٥ ألقى يوهانز ماثيسيوس سلسلة من العظات عن حياة لوثر، أصبحت فيما بعدُ أول سيرة تفصيلية تتناول حياته؛ إذ درس ماثيسيوس في مدينة فيتنبرج، وكان يعترف بتقديره العميق لمُعلِّميه، لكن لأن نزعة القس غلبت على نزعة عالم اللاهوت لديه، صبَّ اهتمامه على كتابات لوثر العملية وفوائدها، ورأى أن العالَم لن يستطيع أن يفي لوثر حقه من الشكر، حتى لو لم يكتب الأخير إلا ملخصاتِ العقيدة المسيحية وصلاة المائدة. كما آمَن ماثيسيوس أن الرب سيغفر للوثر تصريحاته البذيئة اللاعنة؛ لأنه الأداة التي سلَّط بها غضبه على النظام البابوي. حاول كتَاب «صيغة الوفاق»، الذي صدر عام ١٥٧٧، الفصلَ في الادعاءات المتضاربة حول ميراث لوثر، بجعل الكتَاب المقدَّس وأُسُس العقيدة المسيحية القديمة وإقرار أوجسبورج (١٥٣٠)، هي معايير التعاليم اللوثرية. وقيل إن الإقرار يلخص حقيقة كلمة الله التي «خرجت إلى النور من ظلام البابوية المريع» بواسطة «هذا الرجل المذهل الذي اختاره الله»؛ الدكتور لوثر. وبحلول القرن السابع عشر، نُسِبت إلى صورة لوثر قدرةُ عدم قابلية الاحتراق الإعجازية؛ ففي عام ١٦٣٤، زَعم قس ألماني أن لوحة منحوتة من النحاس للوثر نجت من حريق دمَّر مكتبه، وبعدها بحوالي خمسين عامًا، نجت لوحة أخرى للوثر من نيران دمَّرت المنزل الذي وُلِد فيه بمدينة آيسلبن، ويزعم أن تلك اللوحة التي صورته بين المسيح على الصليب وبين صورة ختمه؛ ظلَّت معلَّقة بمنزل لوثر حتى عام ١٨٢٧.

كثر نقاد لوثر أيضًا، وكان أوائلهم من علماء اللاهوت الكاثوليكيين والإنسانيين، الذين عارضوه بعد وقت قصير من فتح قضيته في روما. وفي الفترة ما بين عامي ١٥٢٠ و١٥٢٥ أنتج نحو ٦٠ كاتبًا ما يربو على ٢٠٠ كتاب ومنشور يهاجم حركة الإصلاح الديني، واستهدفت الكثير من هذه الكتب لوثر، وأغلب هؤلاء الكُتَّاب كانوا من العلماء الأَكْفاء، مثل جون إيك وتوماس كاييتان، اللذَين ناظرا لوثر وجهًا لوجه، وظلَّا معارِضَين لحركة الإصلاح الديني، وكَتَبَا دفاعًا واعيًا عن التعاليم الكاثوليكية الخاصة بقرابين القداس وسلطة البابا. ونظرًا لأنهما كانا يكتبان باللغة اللاتينية، كشأن معظم المجادلين الكاثوليك، كان لكتبهم تأثير أقل من المنشورات الألمانية التي صدرت تأييدًا للوثر. ومن أشهر خصوم لوثر ملك إنجلترا هنري الثامن، الذي نشر عام ١٥٢١ — بمساعدة قوية من رئيس مجلس اللوردات فيما بعدُ؛ توماس مور — دفاعًا عن الأسرار المقدسة الكاثوليكية السبعة، كما أيَّد الملك الكتابات المناهضة للوثر، والخاصة بمور وبأسقف روتشستر جون فيشر، الذي استهدف أهم تعاليم لوثر لدحضها دحضًا مطوَّلًا. وفي عام ١٥٢٣ نشر مور ردًّا عنيفًا وبذيئًا على لوثر، امتدحه هو نفسه تحت اسم ويليام روس المستعار، واصفًا إياه بأنه «عمل مصطفًى مدروس وممتع ينمُّ عن الصلاح … يفضح ويدحض — على نحوٍ مثيرٍ للإعجاب — الافتراءاتِ الجنونيةَ التي يهاجم بها لوثر — هذا الأحمقُ البغيض إلى أقصى حد — ملكَ إنجلترا الذي لا يُقهَر هنري الثامن».

نشر يوهان كوكليوس، أول كاتب كاثوليكي لسيرة لوثر، كتابه الجدلي «تعليق على أفعال وكتابات مارتن لوثر الساكسوني» عام ١٥٤٩. كان كوكليوس قد انتقد قبل ذلك هنري الثامن؛ لأنه أعدم صديقَيْه الإنسانيَيْن مور وفيشر، لكنه ظل خصمًا لدودًا للوثر، لا سيما بعد الوقوف أمامه في مناظرة خاصة في مدينة فورمس. وقد نشر كوكليوس عام ١٥٢٩ أطروحة شهيرة تهاجم لوثر باسم «لوثر ذو الرءوس السبع»، يتَّهم فيها الأخير بكثرة تضارُب آرائه، وتُصوِّر اللوحةُ المطبوعة بكليشيه محفور على الخشب في صفحة العنوان؛ لوثر كتنينٍ له سبعة أرؤس (سِفْر الرؤيا، الإصحاح الثاني عشر، من الآية ١ إلى ٦) ظَهَرَ لامرأة حُبلَى تتَّشح بالشمس، وهدَّد بالتهام وليدها. وصوَّرت رءوس لوثر السبعة لوثر كدكتور، وراهب، وتركي، وكنسي أو واعظ يخبر العامة بما يَودون سماعه؛ ومتعصب منتصب شعر الرأس، تحيط برأسه الدبابير؛ ومفتش «زائر» — في إشارة إلى الزيارة الساكسونية التي يزعم أنها جعلت لوثر بابا جديد؛ وأخيرًا اللص الذي أطلق سراحه بيلاطيس البنطي بدلًا من المسيح، وكان اسمه باراباس، وقد صُوِّر كألماني همجي يحمل في يده هِرَاوَة. يبدو أن الرقم سبعة كان مفيدًا للمتجادلين آنذاك، فعدَّد لوثر على سبيل المثال في دفاعه عن رأيه في تمثُّل المسيح في العشاء الرباني سبعة «أرواح» خالفته في الرأي؛ وهم في الأساس بروتستانتيون آخَرون رفضوا تقبُّل تفسيره للكلمات التي استخدمها المسيح في استهلال الأسرار المقدسة. ورفض لوثر رفضًا باتًّا أي مودة مع تلك «الأرواح» التي كانت استجابتها بشكل عام متحفظة، أو على الأقل أكثر تحفظًا من استجابة كوكليوس وغيره من الكاثوليكيين المُعَادِين له.

أشار كوكليوس إلى أن لوثر عانى ذات مرة من نوبة أثناء صلاة القداس. فعندما سمع لوثر درس الإنجيل (إنجيل مرقس، الإصحاح التاسع، من الآية ١٤ إلى الآية ٢٩) عن الصبي الذي سكنته «روح أخرس أصم» زجرها المسيح وطردها، يُزعَم أن لوثر سقط على الأرض صارخًا: «ليس هذا أنا! ليس أنا!» وولَّدت هذه الخرافة شكًّا في أن لوثر كان يعاني من اضطراب عقلي، ولا سيما بعد أن جعلها المحلِّل النفسي إريك إريكسون موضوعَ فصل في كتابه الذي صدر عام ١٩٥٨ «الشاب لوثر»، غير أن أغلب المؤرخين رفضوا تشخيص إريكسون لمرض لوثر على أنه مرض عقلي؛ نظرًا لإفراطه في استخدام مصادر غير موثوقة.

تبيَّن أن نبوءة ريجيوس للوثر أن يصبح عالم لاهوت للعالَم أجمع قد انطوت على مبالغة؛ إذ اقتصر تأثير لوثر، تمامًا مثل رؤيته، على أوروبا بصفة أساسية، إلا أن أوروبا التي خلفها لوثر اختلفت عن أوروبا العصور الوسطى المسيحية التي وُلِد بها. وظل جزء قليل من شمال أوروبا تحت سيطرة البابا، فيما تبنَّى الكنائسَ البروتستانتية حكامُ إسكندينافيا ودول البلطيق، وألمانيا، وإنجلترا، واسكتلندا، وهولندا، وسويسرا، وأحدثت هذه الكنائس تغييرًا في حياة الأفراد اليومية، سواء ارتضت العامة هذا أم لا؛ فأزيلت من تلك الكنائس مقامات القديسين، وقلَّ تشجيع رحلات الحج التي عبَر فيها المسيحيون القارة الأوروبية من فنلندا إلى إسبانيا، وتحوَّل القداس اللاتيني إلى طقس عظة يتطلَّب إصغاءَ آذان البروتستانتيين المشاركين به أكثرَ مما يتطلَّب المشاهدة بأعينهم. وأنشد العامةُ الترانيمَ باللهجة العامية، وتلقَّوا لدى الاحتفال بالأسرار المقدسة الخمرَ الذي حُرِموا منه لقرون عديدة مع الخبز. ورَفعت تقنية الطباعة المستحدثة آنذاك نسبةَ المتعلمين، فاقتنى عدد كبير منهم للمرة الأولى الأناجيل الخاصة بهم، وقرءوها ببيوتهم، وحملوها معهم في أسفارهم. واستمر الكاثوليكيون في العيش في هذه البلدان سرًّا أو علنًا، لكن المسيحية البروتستانتية عززت القوات الإقليمية والقومية، التي حاولت البابوية في العصور الوسطى أن تكبحها. كما كانت حركة الإصلاح الديني هدية من السماء للسلطات البروتستانتية المدنية التي استغلت الحركة لإحكام سيطرتها على رعاياها.

اعتنق ميراث لوثر الهائل أكثر من ٧٠ مليون مسيحي في ٧٩ بلدة تنتسب إلى المذهب اللوثري، ويجري تحديث هذه الإحصائية بانتظام من قِبَل المقر الرئيس للاتحاد العالمي اللوثري بجنيف، والذي تنتمي إليه الأغلبية العظمى من هذه الكنائس. وما زال معظم أتباع المذهب اللوثري يعيشون في البلدان الأوروبية التي أيَّدت حركة الإصلاح الديني — ألمانيا، والنرويج، والسويد، وفنلندا، ودول البلطيق — وتعود أصول معظم أتباع المذهب اللوثري بأمريكا الشمالية إلى المهاجرين من هذه البلدان. أما في الولايات المتحدة في الفترة ما بين الحقبة الاستعمارية إلى عام ١٨٥٠، فشكَّل الألمان غالبية المهاجرين الذين استقروا بولاية بنسلفانيا وأوهايو وفيرجينيا ونورث وساوث كارولينا وأخيرًا في الغرب الأوسط، أما بعد عام ١٨٥٠ فشكَّل الإسكندنافيون أغلب المهاجرين الذين زحفوا إلى شمال الغرب الأوسط وما وراءه. وقد شارك اللوثريون في الحركات التبشيرية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وواجهوا تحدِّيَ نَقْلِ كنائسهم من أوروبا وأمريكا الشمالية إلى الثقافات المختلفة حول العالم، وتتزايد أعداد اللوثريين الآن في أفريقيا بصورة أسرع من أي مكان آخَر في العالم. ومع ذلك، فهم يواجهون في كل مكان تحدِّيًا أساسيًّا يعود إلى عهد لوثر وحركة الإصلاح الديني؛ أَلَا وهو كيف يتعاونون تعاونًا وثيقًا مع غيرهم من المسيحيين. فمن جهةٍ كانت رؤية لوثر للكنيسة رؤية عالمية؛ فالكتاب المقدس لجميع المسيحيين أينما كانوا، والإيمان والعماد المسيحي هو الذي يشكِّل كنيسة من كل تجمُّع للمؤمنين للعبادة. ومن جهةٍ أخرى، قطع لوثر أواصر الصداقة مع البروتستانتيين الذين خالفوه الرأي، واتبعت بعض الكنائس اللوثرية نهجه للحفاظ على نقاء تعاليمه.

رغم شهرة مارتن لوثر رائد حركة الإصلاح الديني، فإن أشهر مَن حملوا هذا الاسم هو قائد حركة الدفاع عن الحقوق المدنية الأمريكي مارتن لوثر كينج الابن (١٩٢٩–١٩٦٨)، الذي تشير إليه شهادة ميلاده باسم مايكل كينج الابن، نسبةً إلى والده الذي أضاف اسم لوثر إلى اسمه، وعرَّف نفسه باسم إم إل كينج أو مايكل لوثر كينج. فبعد عودة مايكل لوثر كينج الأب للولايات المتحدة عام ١٩٣٤ من اجتماعٍ للاتحاد العالمي للمعمدانيين ببرلين، بدأ يشير إلى نفسه باسم مارتن لوثر كينج. وفي عام ١٩٥٧، تغيَّر اسم مايكل كينج الابن إلى مارتن لوثر كينج الابن، رغم أنه استخدم هذا الاسم قبل ذلك. وقد دافع مارتن لوثر كينج الابن عن نفسه في مواجهة اتهامه بالتطرف، مستشهدًا بالمسيح وعاموس وبولس وأبراهام لينكولن وتوماس جيفرسون والإصلاحي مارتن لوثر، فقال مقتبِسًا عبارة لوثر: «أَلَمْ يكن مارتن لوثر متطرفًا حين قال: «هأنذا أقف، ولا يسعني أن أفعل غير ذلك، فليساعدني الرب»؟»

من الصعب حصر ميراث لوثر الفكري؛ إذ لم تنطوِ كتاباته على ترتيبٍ منظَّمٍ للمفاهيم، ولم يتفكر كثيرًا في القضايا الميتافيزيقية التي أرهقت عقول المفكِّرين المعاصرين كقضية وجود الله. ومع ذلك، في بعض الأحيان حثَّتْ نظريته اللاهوتية وشخصيته وأفعاله قادة الحركات الدينية على تبنِّي نظرة جديدة لأنفسهم ولعالمهم. فنبعت الحركة الميثودية (المنهاجية) جزئيًّا من تأثُّر جون ويسلي بمقدمة لوثر لرسالة الرسول بولس إلى أهل رومية، التي شعر بعد قراءتها مباشَرةً بارتياح عجيب، واطمأنَّ إلى أن المسيح قد خلَّصه من آثامه. وثمَّة مفكِّرون أوروبيون آخَرون قرءوا كتابات لوثر، فرأَوه من منظور التزاماتهم الفكرية والسياسية. وألهمت مناشدته بالاحتكام إلى الضمير بمجلس فورمس فلاسفة عصر التنوير بالنظر إليه على أنه مناصِر للحرية الفردية في مقابل الهيمنة العقائدية الدينية؛ فوصفه يوهان جوتفريد هيردر، على سبيل المثال، بأنه هرقل حقيقي أعاد الاحتكام إلى المنطق في القضايا الروحانية لجميع البشر، حتى هؤلاء الذين لم يتقبَّلوا معتقداته. فيما خلص مفكِّرون آخَرون إلى آراء شديدة السلبية عنه، فاتهمه فريدريش نيتشه بإبطال ما كاد عصْرُ النهضة أن يُنجزَه، أَلَا وهو محو المسيحية، أما فريدريش إنجلز فاتهمه بخيانة البسطاء، بمنحهم من ناحيةٍ الإنجيلَ الذي بُنِيت عليه مطالبتهم بالحرية، واستغلال الإنجيل نفسه من ناحية أخرى ضدهم لإباحة التجبُّر الفاشستي الذي قمع ثورتهم.

أُعِيد اكتشاف شخصية لوثر في القرن العشرين بمناهج البحث العلمي الحديثة. فباستخدام محاضرات لوثر التي تمت استعادتها وتحريرها ونشرها، بدأ كارل هول نهضة لوثرية، أسفرت مع نهاية القرن عن مئات — إنْ لم يكن آلاف — المقالات والكتب التي كتبها دارِسون دينِيُّون وعلمانيون. وكان الأساس المشترَك الذي قامت عليه كل تلك الأعمال هو التحليل المكثَّف لكتابات لوثر بالألمانية واللاتينية التي أُتِيحت في طبعة فايمار وبنُسَخ باللهجة العامية. وهيمنت القضايا اللاهوتية التي سلَّط هول عليها الضوء — كالتبرر بالإيمان وأثره على الضمير، واكتشاف لوثر في حركة الإصلاح الديني — على دراسة شخصية لوثر لأغلب القرن، لا سيما بين علماء اللاهوت في أوروبا وأمريكا الشمالية، لكن شيئًا فشيئًا أصبحت دراسة شخصية لوثر متوافِقة مع التطورات الجديدة التي شهدتها دراسات حركة الإصلاح الديني، وبدأ الدارسون من مختلف الحقول العلمية في دراسة لوثر؛ فبدأ أخصائيو اللغة الألمانية، ومؤرخو الفن والموسيقى والفلاسفة، ودارسو التاريخ السياسي والديني في دراسة أثر لوثر على مجالاتهم، ولم تَعُدْ دراسة لوثر والإصلاح الديني تُهيمن على دراسة أواخر عصر النهضة أو بدايات العصر الحديث في أوروبا، كما كانا في ذروة مقررات الجامعة التي صدرت بعنوان «عصر النهضة والإصلاح الديني». ويشكك الكثير من المؤرخين اليوم في فكرة وجود إصلاح واحد، ويفضِّلون التحدُّث عن «الإصلاحات» التي شهدها القرن السادس عشر.

في عام ١٩٨٣، عززت الذكرى الخمسمائة لميلاد لوثر الوعي العام بلوثر في أوروبا والولايات المتحدة، حيث كان لحركة الإصلاح الديني أكبر الأثر، وبعد ذلك بوقت قصير، سهلت وحدة ألمانيا عام ١٩٨٩ زيارة مدينة فيتنبرج والمواقع الأخرى التي ارتبطت بحياة لوثر، فلا تُعَدُّ قاعة لوثر بفيتنبرج بالمجمع الأوغسطيني، الذي أقام به لوثر، متحفًا تُقدَّم فيه معارض منتظمة وحسب، ولكنها أيضًا مركزٌ حيويٌّ لإجراء البحوث عن لوثر من خلال فريق الخبراء الذي يعمل فيها، ومستودع المنشورات والكتب والصور والتحف المرتبطة بالإصلاح. وفي عام ٢٠١٧، سينعقد المؤتمر الدولي الثالث عشر للبحوث المَعْنِيَّة بلوثر في فيتنبرج، كجزء من الاحتفال بالذكرى السنوية الخمسمائة لنشر أطروحاته الخمس والتسعين وبميلاد حركة الإصلاح الديني.

برزت تحديات أخرى واجهت حركة دراسة لوثر؛ كاختفاء منظومة المجتمع المسيحي، وتمازُج الثقافات، وتقارُب الأديان، والتعصُّب بشتى أنواعه، واندلاع الحروب بطرق شتى، وبروز اللاأدرية والإلحاد بقوة. ويمكن العثور في كتابات لوثر على أفكار حول هذه القضايا، لكن ميراثه يرتبط أولًا وآخِرًا بمستقبل المسيحية والأديان بوجه عام. فمِن أول وهلة، لا يبدو أن كتاباته تساعد على بدء حوار بين الأديان، فقد كانت مصبوغة — إلى حدٍّ كبير — بالخطاب المُعَادِي لليهودية الذي ميَّز أوروبا في أواخر العصور الوسطى، وبالتهديد الإسلامي، وبمعلومات لا يُعول عليها بأن بعض جوانب فكره أكثر إثمارًا من غيرها. على سبيل المثال، أصرَّ لوثر على أن الدين لا يَقوم بالأساس على الأخلاقيات الشخصية، بل على الإيمان والعدل، وليس على تحسين الذات إلى الحد الذي يُكسِب المرء الخلاص، بل على تحسين حياة الآخرين كما أراد الرب بالأساس للبشرية؛ فصرَّح بأنه، فيما يتصل بعلم اللاهوت، ثمة نوعٌ آخَر من الأعمال التي تختلف عن الأفعال الأخلاقية. فاستغلال الدين لتحسين الذات على حساب الآخرين هو ضرب من الوثنية، وهي الخطيئة التي اتُّهِم العالم المسيحي في العصور الوسطى باقترافها. وفي مقابل الوثنية يوجد الإيمان والحب، أي الثقة في الله وخدمة الآخرين. ومن الواضح أن لوثر ملأ النموذج الذي تمثِّله الديانة الحقة بمحتويات من المسيحية؛ إذ تمثَّل هدفه في إعادة المسيحية الحقة إلى ألمانيا، مع هذا قد يصلح هذا النموذج كمعيار لتحديد أهمية الدين لأي مجتمع، لا سيما على ضوء الجدل الجاري حول ما إذا كان الدين يضر أكثر مما ينفع. وربما يكون أفضل ما انطوى عليه ميراث لوثر هو اجتناب التعصب الديني، والإصرار على أن الأديان ليست وسيلة لاسترضاء الآلهة ونيل استحسانهم، بل هي وسيلة تذكير دائمة لتقديم العالم واحتياجاته على الرغبات الأنانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤