الفصل السابع

من راهب إلى رب أسرة

أطلقت الخلافات حول الممارسات الدينية حركة الإصلاح الديني. ففي إنجلترا أطلقتها رغبة الملك هنري الثامن في أن يخلِّف وريثًا ذكرًا، وفي فيتنبرج استفزت المبالغ الباهظة المطلوبة لشراء صكوك الغفران لوثر وحثَّتْه على كتابة رسالاته الخمس والتسعين. أما في مدينة زيوريخ فقد أطلقها انتهاك طقوس الصيام، فيما أطلقها في مدينة ستراسبورج الخلافُ الذي نشأ حول حق رجال الدين في الزواج. وكان الخلاف الأخير مهمًّا بقدر الخلافات الأخرى، إن لم يفُقْها أهمية؛ ففي أوروبا الغربية، لم يُفرَض بإصرار شرط امتناع القساوسة (غير المترهبنين) عن الزواج إلا منذ القرن الثاني عشر، رغم أن أقدم الأنظمة الرهبانية فَرضت على الرجال والنساء أن يأخذوا على أنفسهم وعودًا بالعزوبية، ولم يكن الدافع وراء مطالبة الإصلاحيين بحق رجال الدين في الزواج هو الرغبة في الرفقة والممارسة الجنسية والإنجاب وحسب، فقد تمتع القساوسة الذين أقاموا مع الخليلات بكل ذلك، وكان عددهم كبيرًا بما يكفي لأن يبيح الأساقفة لهم ذلك بعتاب يسير. وقد رأى الإصلاحيون أن مَنْح رجال الدين حق الزواج سيحُول دون هذا النفاق، وأنه لا يوجد في الكتاب المقدس ما يمنع الزواج؛ فالزواج مؤسسة يباركها الله ويتيحها لكل مَن يرغب، ولا تستطيع إلا قلة قليلة، في رأيهم، أن تحتفظ بعزوبيتها وتمتنع عن العلاقات الجنسية. من ثَمَّ اعترف إصلاحيُّ زيوريخ أولريش زفينجلي وعشَرةٌ من زملائه في التماسهم الذي قدَّموه عام ١٥٢٢ لأسقف قسطنطين للحصول على إذن بالزواج:

بما أننا حاولنا وفشِلْنا للأسف في أن نطيع قانون العزوبية، اكتشفنا أننا حُرِمنا من تلك النعمة، وأمعنَّا تأمُّل أنفسنا كثيرًا لنتوصل إلى طريقة نعالج بها محاولاتنا البائسة لإدراك العفة.

كان زواج رجال الدين وفقًا لأنصار حركة الإصلاح الديني من الأدلة العلنية التي تشهد على الحرية المسيحية وعلى الرسالة الأساسية لحركة الإصلاح، والتي أوضحوها بلا شك. إن الشيء الصادم في زواج آندرو كارلشتادت من آنا فون موخاو — الذي أشرنا إليه في الفصل السابق — لم يكن أن عُمْر كارلشتادت تجاوز ضعف عمر آنا، بل الصادم هو أن الزيجة تمت من الأساس. أُعلِنت خطوبتهما في حضرة زملاء كارلشتادت؛ يوستوس يوناس وفيليب ميلانشتون، اللذَين صاحبا كارلشتادت إلى قرية خطيبته، وأَوضَحَ إعلانُ الخطوبة، الذي أرسله إلى الناخب فريدريك، الرابطَ بين الحرية المسيحية والزواج. كما احتفل أولرايش زفينجلي وآنا راينهارت — وهي أرملة لها ثلاثة أبناء، خطبها الأخير سرًّا لعامَين — بزفافهما علنًا عام ١٥٢٤ في كاتدرائية زيوريخ، وأُبقيت الخطبة، التي تَعُدُّ مكافئة للزواج، سرًّا لأسباب سياسية وعائلية حساسة. أما الإصلاحي مارتن بوسر فوصل إلى ستراسبورج متزوجًا، بعد أن ترك مجتمع الرهبان الدومينيكي وتزوَّج من راهبة سابقة تُدعَى إليزابيث زيلبرأيزن عام ١٥٢٢. وفي عام ١٥٢٤ أشرف على طقوس زواج ماثيو زيل أول الوعاظ البروتستانت بالبلدة من كاثارينا شوتس، وهي نفسها من أنصار حركة الإصلاح، وقد نشرت دفاعًا جريئًا عن زواجها من ماثيو، ذكرت فيه أنها تُمجِّد الرب بزواجها من قس، وتدعم غيرها من النساء اللائي قُمْنَ بالمِثْل، متَّبعة ما أباحه الله صراحة، وموضحة بديلًا مقدسًا للسلوك الفاضح الذي تبنَّاه بعض القساوسة باتخاذهم عشيقاتٍ. وقد جذب حفل زفافهما حشدًا كبيرًا من المؤيدين لهما من مواطني البلدة وممَّن انتابهم الفضول. وفي عام ١٥٢٣، أصبح زميل لوثر الأوغسطيني السابق فينسيل لينك راعيَ الأبرشية البروتستانتية في بلدة ألتنبورج التي تقع على بعد حوالي ٧٥ ميلًا جنوبي فيتنبرج، ثم أعلن أنه سيتزوج، فألغيت محاضرات علم اللاهوت في فيتنبرج أثناء حضور لوثر وكثير من زملائه الزفاف.

fig9
شكل ٧-١: كاثارينا فون بورا، بريشة لوكاس كراناش، ١٥٢٨. 1

في يونيو عام ١٥٢٥، عندما تزوَّج مارتن لوثر من كاثارينا فون بورا (١٤٩٩–١٥٥٢)، كانا قد تأخَّرَا في الزواج، فأقرب الزملاء إلى لوثر كانوا قد تزوَّجوا بالفعل عدا سبالاتين الذي تزوَّج بعده بستة أشهر، وآمسدورف الذي ظل عَزَبًا. وكانت كاثارينا قد بلغت فيتنبرج قبلها بعامين، وكانت حكايتها معروفة للجميع.

وُلِدت كاثارينا في عزبة والدها جنوب مدينة لايبزيج، ورغم أن والديها انحدرا من أصول نبيلة، إلا أنهما لم يكونا من الأثرياء. والتحقت كاثارينيا بعد وفاة والدتها بمدرسة بنديكتية، وبعدها بخمسة أعوام، عندما كانت في العاشرة من عمرها، التحقت بدير مارينثرون السسترسي بالقرب من مدينة جريما في الأراضي الساكسونية الخاضعة لحكم الدوق جورج، الذي وقف في وجه حركة الإصلاح الديني. وبعدما اشتهرت أفكار لوثر في مارينثرون أرادت الكثير من الراهبات ترك المناخ المعادي للُّوثرية المحيط بهن، ودُبِّرَت مغادرتهن بالاتفاق مع التاجر ليونارد كوب — الذي اعتاد نقل بعض الأغراض للدير بصفة منتظمة — لتسهيل فرارهن، وفرَّت اثنتا عشرة راهبة ليلة أحد عيد الفصح عام ١٥٢٣ من دير مارينثرون، في عربة كوب إلى تورجاو في ولاية ساكسونيا الانتخابية، ويُعتقَد أن ثلاثًا منهن عُدْنَ إلى أُسَرهن، أما التسع الأخريات فقد تمت مرافقتهن إلى فيتنبرج في مراسم احتفالية، حيث يُعتقَد أن كاثارينا أقامت في منزل لوكاس وباربارا كراناش الكبير. ولم يمضِ وقت طويل حتى وقعت في غرام جيروم باومجارتنر، وهو طالب سابق في فيتنبرج، التقته عندما زار البلدة مجدَّدًا عام ١٥٢٣، لكن بعد أن عاد باومجارتنر إلى أسرته المرموقة في نورمبرج أنهى علاقته مع كاثارينا، وأخيرًا تزوَّج من امرأة أصغر سنًّا من أسرة أفضل، فحاول لوثر وآمسدورف أن يجمعا بين كاثارينا وكاسبار جلاتس، وهو رجل أكبر سنًّا كان راعيًا لأبرشية أورلاموند، إلا أن كاثارينا رفضت الزواج منه وأخبرت آمسدورف أنها تؤثر الزواج منه أو من لوثر إن كان هذا هو خيارها الوحيد.

فكان أن تزوجت من لوثر. لا يدري أحد الكيفية التي تمَّ التوصل بها إلى هذا الاتفاق بالضبط، لكن في الفترة ما بين تلاوة لوثر وكاثارينا لنذور زواجهما لأحدهما الآخَر، وحفل الزواج الذي جاء بعد أسبوعين من تلاوة النذور؛ كشف لوثر لآمسدورف عن الدوافع التي اضطرته إلى اتخاذ هذه الخطوة قائلا له:

الشائعات بأنني تزوجت من كاثارينا فجأةً لأضع حدًّا للقيل والقال اللامتناهي الذي انتشر حولي؛ هي شائعات صحيحة بالفعل … كما أنني لم أُرِدْ أن أفوِّت هذه الفرصة الجديدة لألبي رغبة أبي في أن أصنع لنفسي ذرية، وأردْتُ في الوقت نفسه أن أؤكد على ما وعظت به بالممارسة؛ إذ أجد الكثيرين ما يزالون يتخوفون من هذه الخطوة رغم هذا النور العظيم الذي يأتينا من الكتاب المقدس. لقد شاء الرب هذه الزيجة وأتمَّها. لست مغرَمًا أو متيمًا بزوجتي، ولكنني أعتز بها.

كان عامان قد مَضَيَا على معرفة لوثر وكاثارينا أحدهما بالآخر عندما أقيم زفافهما في ١٣ يونيو ١٥٢٥، لكن مراسم الزواج البسيطة، التي عُقِدت في المجمع الأوغسطيني الذي أقام فيه لوثر، فاجأت أغلب مواطني فيتنبرج، فأشْرَفَ بوجنهاجن راعي أبرشية كنيسة البلدة على مراسمِ الزواج، وشهدها أربعة شهود آخرين هم: يوستوس يوناس (الذي رَوى فيما بعدُ أنه لم يستطع أن يمنع نفسه من البكاء)، ويوهان آبل (أستاذ القانون الكنسي الذي تزوَّج من راهبة)، ولوكاس، وباربارا كراناش. وشاهَد الأربعة أيضًا طقس الزينة: الذي تمدَّد فيه لوثر وكاثارينا على فراش الزوجية معًا لوقت قصير. ويرجح أن خاتم زفاف كاثارينا كان هو الخاتم الذهبي الذي أهداه لها ملك الدنمارك الملك كريستيان الثاني، عندما زار منزل آل كراناش عام ١٥٢٣. وقد أقيمت مأدُبة الزفاف التقليدية بعد أسبوعين؛ إذ دعا لوثر والديه وأصدقاءه وآخرين من خارج البلدة، بمَن فيهم لينك وليونارد كوب اللذَين ساعدا الراهبات الاثنتي عشرة في الهروب، وأهدت جامعة فيتنبرج العروسين كأس الحب الفِضي الذي يشرب منه العروسان يوم زواجهما، ووهبهما ناخب ساكسونيا جون فريدريك ١٠٠ جيلدر وسمح لهما بالإقامة في الدير.

غير أن تصريح لوثر لآمسدورف بأنه ليس متيمًا بكاثارينا ولكنه يُعِزُّها ويقدِّرها، لا يعني أنه تزوَّج بلا حب ليبرهن على وجهة نظره؛ فقد أعرب كثيرًا عن حبه وتقديره لها، ودعته أسباب قوية للوثوق بها، فهي لم تنجب له ستة أطفال وحسب، بل كانت ربة منزل كبير مُجدَّة، وهو منزل احتضن الكثير من الأقارب، وتردد عليه الكثير من الضيوف والطلاب، وشاركت أحيانًا في المناقشات التي سُجِّلت في كتاب «أحاديث المائدة»، ودعمت بحماس جهود حركة الإصلاح، كما كانت سيدة أعمال حصيفة أشرفت على العديد من الأملاك، من بينها منزل بمدينة زولسدورف بالقرب من مسقط رأسها جنوب لايبزيج، اشترته من أخيها عام ١٥٤٠، وكان وجهتها المفضَّلة، حيث كانت تمضي فيه أسابيع في هذه الآونة. من هنا بعث لها لوثر — بعد شرائه — خطابًا يمازحها فيه قائلًا: «إلى سيدة زولسدورف الثرية، السيدة حاملة الدكتوراه؛ كاثرين لوثر المقيمة جسدًا في فيتنبرج وروحًا في زولسدورف، إلى معشوقتي.» وكهدية لكاثارينا دبَّر لوثر تزيين مدخل منزلهما — الذي ما يزال يُعرَف إلى اليوم باسم البوابة الكاثرينية — بنقوش أكثر تعقيدًا كهدية لها عام ١٥٤٠.

كانت كاثارينا قد أتمت لتوها السابعة والأربعين من العمر، عندما توفي مارتن بمنأى عن بلدته عام ١٥٤٦، وقد وصفت لزوجة أخيها كريستينا فون بورا مدى حزنها العميق على وفاته قائلة: «إن كانت لي إمارة أو إمبراطورية لما شعرت بكل هذا الحزن لفقدها، كما شعرت بالحزن يوم أن أخذ مني الله — وليس مني وحسب، بل من العالم أجمع — هذا الرجل العزيز النبيل.» عاشت كاثارينا بعد وفاة لوثر قرابة سبعة أعوام، غير أنها كانت أعوامًا قاسية، جابت فيها أرجاء البلاد مع أطفالها الأيتام منفِيَّة إبَّان الحرب التي أعقبت وفاة لوثر في غمرة مخاطر وظروف قاسية، ففَرَّتْ بأطفالها إبَّان الحرب الشمالكالدية التي هُزِم فيها البروتستانت (والتي استمرت من عام ١٥٤٦ إلى عام ١٥٤٧) من فيتنبرج مرتين؛ كانت المرة الثانية إلى مدينة براونشفايج مع ميلانشتون وزميل آخَر للوثر. ولم يستجب ملك الدنمارك لمناشداتها بمنفى دائم، لكنه وفَّر لها ولأطفالها دخلًا سنويًّا بعد أن أعادت افتتاح دير فيتنبرج كنزل إقامة. فلما هدد الطاعون فيتنبرج عام ١٥٥٢، فرَّت إلى تورجاو، إلا أنها أصيبت عندما انطلقت بها الجياد فجأةً، ومكثت طريحة الفراش لثلاثة أشهر قبل أن توافيها المنية في ديسمبر عام ١٥٥٢ وهي في الثالثة والخمسين من العمر، ودُفِنت في كنيسة تورجاو، حيث خُلِّدت ذكراها بنحت شاهد قبر منتصب لها يصورها مرتدية ملابس شتوية وهي تحمل الإنجيل.

خلف لوثر وكاثارينا أربعة أبناء من الستة، أكبرهم هو هانز (١٥٢٦–١٥٧٥) والذي سُمِّي تيمُّنًا باسم جده، ودرس القانون في فيتنبرج وفي كونيجسبرج برعاية دوق بروسيا الدوق ألبرت، الذي كان من أوائل مؤيدي حركة الإصلاح. عاد هانز إلى فيتنبرج قبل عام فقط من وفاة والدته، وعمل فيما بعدُ في محاكم فايمر وبراندنبورج كقاضٍ، وقد أرسل له لوثر خلال اجتماع أوجسبورج (عام ١٥٣٠) خطابًا، وكان وقتها قد قارب بلوغ الرابعة من العمر، يحثه فيه على الاجتهاد في الصلاة والدراسة، ويَعِده بأنه إن فعل هذا فسيُسمَح له بدخول جنة سحرية مليئة بمهور ذات لُجُمٍ ذهبية وأسراج فضية، وفاكهة لذيذة، وصافرات وطبول ذهبية، وأقواس فضية جميلة. أما إليزابيث ثانية أطفالهما فقد وُلِدت إبَّان انحسار الطاعون في فيتنبرج، لكنها توفيت بعد ثمانية أشهر.

قبل مرور عام على وفاة إليزابيث، أخبر لوثر آرمسدورف أن كاثارينا قد أتاها المخاض، وأنجبت بعد ثلاث ساعات دون صعوبات «ابنة تتمتع بصحة جيدة» هي ماجدالينا لوثر (عام ١٥٢٩–١٥٤٢)، التي طلب لوثر من آرمسدورف أن يكون الأب الروحي لها؛ لهذه «الصغيرة لتساعدها على اعتناق المسيحية المقدسة عبر طقس العماد السماوي النفيس». وأثناء اجتماع أوجسبورج عام ١٥٣٠ تلقَّى لوثر من زوجته صورةً لماجدالينا الصغيرة وهي لم تبلغ إلا عامًا، وشكرها في المقابل بتزكية اقتراحات لفطام ماجدالينا تلقَّاها من أرجولا فون جرومباخ، وهي إحدى النساء القلائل اللائي ما تزال كتاباتهن لتأييد حركة الإصلاح الديني قائمة، لكن في عام ١٥٤٢ توفيت ماجدالينا بين ذراعي والدها بعد صراع طويل مع المرض. وتشهد خطابات لوثر وكتاب «أحاديث المائدة» على أن فترة وفاتها كانت فترة عصيبة على والدَيْها وأخيها الأكبر هانز، الذي استُدْعِي إلى منزل الأسرة ليكون مع أخته في لحظاتها الأخيرة، فيقول لوثر مغالبًا مشاعره وهو ينقل ليوناس نبأ وفاتها:

أعتقد أن نبأ انتقال ابنتي ماجدالينا إلى مملكة المسيح الأبدية قد بلغك، وعليَّ أن أشكر أنا وزوجتي الربَّ بسرور على هذا الرحيل السعيد والنهاية المباركة التي نجت بها ماجدالينا من سطوة الجسد، والحياة الدنيا والعثمانيين والشيطان، لكن حبنا الفطري لها شديد القوة، حتى إننا عاجزون عن أن نفعل هذا دون أن نبكي ونشعر بالأسى في قرارة أنفسنا، أو حتى دون أن نقاسي الموت أنفسنا. ما تزال ملامح ابنتنا الفقيدة الحيَّة في قلوبنا، وكلماتها وحركاتها محفورة بعمق في قلوبنا، وحتى ذكرى وفاة المسيح … لا يمكنها أن تُذهِب عنا كل هذا؛ لذا أشكر الرب نيابةً عنا، فقد أنعم علينا بنعمة عظيمة عندما كرم أجسادنا هكذا، فقد اتسمت ماجدالينا (كما تعلم) بطابعٍ ليِّن مبهج، وكانت محبوبة من الجميع … عسى الرب أن يُنعِم عليَّ وعلى جميع أحبابي وأصدقائي بميتة مماثلة، أو بالأحرى حياة مماثلة.

تبقَّى لمارتن وكاثارينا أربعة أبناء، هم هانز وثلاثة أطفال آخَرون وُلِدوا بعد ماجدالينا، هم: ابن يُدعَى مارتن (١٥٣١–١٥٦٥)، وآخَر سُمِّي بول نسبة إلى بولس الرسول (١٥٣٣–١٥٩٣)، وابنة تُدعَى مارجاريته (١٥٣٤–١٥٧٠) كادت أن توافيها المنية بسبب مرضها بالحصبة، وكانت في الثامنة عشرة فقط من العمر عندما توفيت والدتها، وتزوجت بعدها بثلاثة أعوام من جورج فون كونهايم، وهو نبيل وموظف حكومي في مقاطعة بروسيا الشرقية، وقد احتفظت مارجاريته بأصول خمسة خطابات مكتوبة بخط يد أبيها وموجَّهة إلى والدتها، وأَودعت تلك الرسائل في مدينة كونيجسبرج. أما بول لوثر فقد درس الطب وأصبح أستاذًا وطبيبًا خاصًّا لأدواق ساكسونيا، فيما درس مارتن علم اللاهوت وتوفي في الثلاثينيات من عمره. وقد صحب الأبناء الثلاثة لوثر في رحلته الأخيرة، وكانوا على مقربة منه في بلدة مانزفيلد عندما توفي في آيسلبن، وساروا خلف والدتهم وأختهم في الموكب الذي تبع نعشه من بوابة مدينة فيتنبرج إلى كنيسة القلعة حيث دُفِن.

بدت أسرة لوثر — وفقًا للمصادر — أسعد ما أمكن، بالأخذ في الاعتبار أنها كانت أسرة مفرطة الكبر، رأسها راهب وراهبة سابقان في دير سابق، وقد صوَّرها المعلقون الذين نظروا إليها بإعجاب على أنها مثال لأسرة القس البروتستانتي، لكن تلك لم تكن الحال بالطبع، أيًّا كان مفهوم أسرة القس المثالية. فتظهر مراسلات لوثر أن علاقة الوالدين بالأبناء وعلاقتهما ببعضهما البعض اتسمت بالصدق والمودة والمرح، كما أن المنزل لم يمتلئ بالناس وحسب، بل بالموسيقى أيضًا، فقد عشق لوثر الموسيقى، ووصفها بأنها هبة إلهية رائعة لا تقل مرتبة إلا على علم اللاهوت. وروى زوار آل لوثر أنه كان يمضي بعض الأمسيات في إنشاد الأغاني مع أبنائه وطلابه وضيوفه، وأشار يوهان فالتر، الذي عمل معه لوثر جنبًا إلى جنب، والذي أنشد «ساعات عديدة» معه؛ إلى أن حب لوثر للغناء لم يعرف الحدود.

إن كانت أسرة لوثر قد تمتعت بالسعادة لأغلب الوقت، فلعل السبب هو أن مارتن وكاثارينا نظرَا إلى الزواج بعين الجد، رغم أنهما ما عادا يعدانه من الطقوس المقدسة. ومعارضة للعزوبية التي تطلَّبَتْها منظومتا الرهبان والقساوسة، وصف لوثر الزواج بأنه أحد المنظومات الصادقة التي أوجدها الله للبشر إلى جانب الحكومات والكنائس. وأسمى هذه المنظومات الثلاث من المجتمع بالمنظومات المسيحية الحقة؛ لا لأنه حسب أن الزواج للمسيحي وحسب، بل لأن الزواج والعمل الحكومي والعبادات العامة أرفع منزلة من العزوبية واعتزال الحياة العامة والانعزال في نخبة مترهبنة. فاستاء لوثر من تحريم كنيسة العصور الوسطى للزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين، وقال في ذلك:

اعلموا إذن أن الزواج شأن دنيوي جسدي كشئون الدنيا الأخرى. وكما يجوز لي أن آكُلَ مع الوثني أو اليهودي أو التركي أو المهرطق، وأن أشرب وأنام وأسير وأركب الخيل معهم، وأشتري منهم وأتحدث إليهم وأتعامل معهم، يجوز لي أيضًا أن أتزوج منهم وأستمر في هذا الزواج. لا تأبهوا لهؤلاء الحمقى الذين يحرِّمون ذلك، فستجدون الكثيرين من المسيحيين — بل في الواقع الغالبية العظمى منهم — أسوأ بإسرارهم عدم الإيمان من أي يهودي أو وثني أو تركي أو مهرطق. فالوثني شأنه شأن أي رجل أو امرأة، من مخلوقات الله المكرمة، كالقديس بطرس والقديس بولس والقديسة لوسيا، ناهيك عن المسيحي المتقاعس والكاذب.

لم يشمل وصف «الحمقى» هنا أعضاء الكنيسة الرومانية وحسب، بل شمل أيضًا في نهاية المطاف جون كالفن.

وبما أن الزواج للجميع، لم يستخدم لوثر إلا نادرًا تعبيرَ «الزواج المسيحي»، لكنه نصح المؤمنين بكيفية عيش حياة مفعمة بالتقوى وطاعة الله «في مؤسسة الزواج». وكان الزواج من القضايا الملحَّة بالنسبة لأغلب أنصار حركة الإصلاح الديني؛ لأنهم أجمعوا على أنه واجه أزمة في ألمانيا القرن السادس عشر، حتى إن أحد الكتاب صرَّح بأن الوضع قد خرج عن السيطرة «مع تفشي حالات الطلاق والهجر … التي يهجر فيها أحدُ طرفي العلاقة الزوجية الآخَرَ في الساعات الحرجة التي يكون فيها الطرفان في أَمَسِّ الحاجة لأحدهما الآخَر». وفي عام ١٥٢٢ كتب لوثر:

انثلمت سمعة مؤسسة الزواج إلى درجة رهيبة في جميع الأنحاء. فهناك الكثير من الكتب الوثنية التي لا تتحدث عن شيء إلا عن انحطاط جنس المرأة وفسادها، وتعاسة الحياة في مؤسسة الزواج، حتى إن البعض حسب أنه حتى لو تجسدت الحكمة ذاتها في شكل امرأة فلن يتزوجها.

أما المسيحي المؤمن فعليه بأن يسلِّم بأن الزواج هبة من الله ونظام وضعه، ويجب أن يبادل الزوجان المسيحيان أحدهما الآخَر الاحترامَ، وأن يأخذا على عاتقيهما أعباء ومسرات إنجاب الأطفال وتنشئتهم. وسُمِح بالطلاق وفقًا لشروط محددة، لكن على الزوجين أن يغفر كلٌّ منهما للآخَر الإهانة، وأن يحتمل شريكَ حياته وإنْ كان صعب المراس، قبل أن يتخذ الخطوات لإنهاء الزواج. لم تُحرَّم المتعة الجنسية، لكن لوثر اعتنق المفهوم الأوغسطيني القائل بأن الجماع لا يخلو من الذنوب، لكن «الله يغفرها بفضل منه؛ لأن مؤسسة الزواج هي من صنيعه، وهو يحافظ في هذه الذنوب ومن خلالها على كل النعم التي رسخها وباركها في الزواج». تبرز أفكار لوثر هذه بوضوح في خطابه إلى جورج سبالاتين، الذي تزوَّج من امرأة تُدعَى كاثارينا أيضًا، وبعد تهنئة سبالاتين على الزواج وإخباره بأنه كره تفويت حفل الزفاف، طلب لوثر منه أن يبعث أرق تحياته إلى زوجته، ثم أردف قائلًا:

لتقم بهذا أيضًا: عندما تعانق كاثارينا في الفراش، وتقبِّلها أرق القبلات، فكِّر أيضًا بهذا: «لقد وهبني المسيح هذه المرأة؛ أفضل مخلوقات الله، فله الحمد والمجد.» وسأتنَبَّأُ باليوم الذي تتلقى فيه هذا الخطاب، وأبادِل زوجتي الحب بالطريقة نفسها متذكِّرًا إياك.

لاقت آراء لوثر عن الحياة الأسرية والعلاقات ردود فعل متباينة، فهو لم يؤكد على سبيل المثال على استقامة حياة التبتل؛ والسبب على وجه التحديد هو أنه هَدَفَ إلى استرداد كرامة الزواج من إعلاء التبتل باعتباره حالة اجتماعية أفضل، غير أنه أكَّد أنه من الممكن أن يحيا المرء بشرف وهو عَزَبٌ، ما دام لا يقصد بتبتُّله «إنكار نعمة المسيح وفضله». وعَكَسَ ميلُه إلى قِصَر حياة المرأة في نطاق الحياة المنزلية وانتقاداته الحادة، التي وجهها للأزواج والزوجات الذين يرفضون الإنجاب؛ تأثُّرَه بالثقافة البطريركية السائدة في ألمانيا القرن السادس عشر، والتهديد الذي شكلته وفاة الأزواج والأطفال المبكرة على جميع الأسر. كما لم يؤيد لوثر، كمعظم نظرائه، الزواج المثلي الذي وُسِم ازدراءً في هذا العصر ﺑ «الخطيئة المسكوت عنها»، أو «اللواط» أو «الزواج الإيطالي». ظهرت هذه الأوصاف بصفة رئيسة في السياقات التي تلقي باللائمة على اشتراط العزوبية في رجال الدين لتسببه في ممارساتهم الجنسية المشينة. وقد تشكلت آراء لوثر في هذه المواضيع كافة من التوجهات التقليدية المجحفة السائدة، ومن تفسيره للإنجيل، غير أنه أدلى ببعض آرائه كمقولته التالية بحماس:

وعظ الأطباء القدامى وعظًا سديدًا بأن الزواج فضيلة محمودة؛ لأنه يثمر الأطفال والإخلاص والحب. لكن فائدته الجسدية أيضًا من المنافع الثمينة، وتُوصَف استحقاقًا بأنها أعظم فضائل الزواج؛ بمعنى أن كلًّا من الزوجين يستطيع أن يعتمد على الآخَر، وأن يعهد إليه بكل ما له على الأرض، حتى يطمئن إلى زوجه كما يطمئن إلى نفسه.

هوامش

(1) © Kunstsammlung Böttcherstraße, Museum im Roselius-Haus, Bremen/akg-images.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤