الفصل الثاني

رجال العدالة الأربعة

كانت يد الرجل الطويل في جيبه عندما تحدث المفتش.

كان، عندما دخل القاعة، قد ألقى نظرة سريعة في أنحاء المكان واستوعب كلَّ تفصيلة. فرأى الشريط المطرَّز للخشب غير المطلي الذي يحمي كابلات الإضاءة الكهربية، وحسَّن فرصة إجراء مزيد من الاستطلاع بينما كان الأخ المملُّ يتحدث. كانت توجد لوحة مفاتيح بيضاءُ من البورسلين بها نصف دزينة من المفاتيح على الجهة اليسرى من المنصة. قدَّر المسافة وقذف اليد التي كانت ممسكة بالمسدس.

وأطلق النار.

سُمِع صوت زجاج يتهشَّم، وشُوهِد وميضٌ سريع للهبٍ أزرق من المصاهر المحطمة؛ وعم الظلام القاعة. حدث هذا قبل أن يستطيع المفتش أن يقفز من مقعده إلى الحشد الذي كان آخذًا في الصياح والصراخ، قبل أن يستطيع الشرطي أن يلمح الرجل الذي أطلق الرصاص.

في لحظة أصبح المكان في حالة هرج ومرج.

هدر صوت فالموث ليعلوَ فوق الضوضاء: «صمتًا! صمتًا! الزموا الصمت، أيها الحشد البائس. براون، كورتس، سلِّطا ضوءًا هنا. أيها المفتش، أين مصابيح رجالك؟!»

تموجت أشعَّة دزينة من مصابيح عين الثور فوق الحشد المتصارع.

وقال: «افتحوا مصابيحكم»، وللغوغاء المهتاجين قال: «صمتًا!» ثم تذكر شرطي شاب ذكي أنه قد رأى مشاعلَ غاز حائطية في الغرفة، وشقَّ طريقه بصعوبة عبر الغوغاء الذين كانوا يصيحون حتى وصل إلى الحائط ووجد مكانًا للغاز في مصباحه. حك عود ثقاب وأشعل الغاز، وانحسر الهلع فجأة كما بدأ فجأة.

جالَ فالموث، الذي كان مختنقًا من الغضب، بعينَيه حول القاعة. وقال باقتضاب: «احرسوا الباب. القاعة مطوَّقة ولا يُمكنهم الهرب بأي حال.» وسار بخطوات سريعة عبر الممر المركزي، وتبعه اثنان من رجاله، وبقفزة رشيقة، صعد فوق المنصة وواجه الجمهور. وقفت امرأة جراتس، بوجه شاحب، بلا حَراك، وإحدى يدَيها مستندةٌ على الطاولة الصغيرة، والأخرى على حَلْقِها. رفع فالموث يده ليأمر بالصمت وأطاع منتهكو القانون.

قال: «ليس لديَّ نزاع مع منظمة المائة الحمر. حسب القانون مسموح باعتناق الآراء وترويج المذاهب، مهما كانت مرفوضة؛ أنا هنا للقبض على رجلَين خرَقا قانون هذا البلد. رجلان هما جزء من تنظيمٍ يُعرَف باسم «رجال العدالة الأربعة».»

طَوال الوقت الذي كان يتحدث فيه كانت عيناه تُفتشان في الوجوه التي أمامه. كان يعرف أن نصف الحاضرين لا يستطيعون فهمه وأن الهمهمة التي تصاعدت ما إن انتهى كانت ترجمة لحديثه.

لم يستطع تبيُّن الوجوه التي كان ينشدها. على وجه التحديد، كان يأمُل أن يجعل إمعانُه النظرَ الرجلَين، اللذَين كان يجهل هويتهما، يفضحان نفسَيهما.

ثمة أحداثٌ تافهة، غير ذات أهمية في ذاتها، تُؤدي أحيانًا إلى مسائلَ هائلة. فقد أدى اصطدام حافلة منزلقة بسيارة خاصة في بيكاديللي قد أدى إلى اكتشاف أن ثلاثة من السادة الأجانب الصاخبين كانوا محبوسين في السيارة المقلوبة. وأدى هذا بدوره إلى اكتشاف آخر، وهو أن السائق قد اختفى في غمرة الفوضى الناتجة عن الاصطدام. في الظلام، بمقارنة الملاحظات، كان السجناء الثلاثة قد توصلوا إلى استنتاج؛ وهو أن اختطافهم كان نتيجة لخطاب غامض تلقاه كل واحد منهم، وكان يحمل توقيع «رجال العدالة الأربعة».

لذا في غمرة الفزع الناجم عن الحادث، كانوا من الرعونة بما فيه الكفاية ليلعنوا «رجال العدالة الأربعة» بالاسم، وخضعوا لمزيد من الاستجواب بشأن موضوع «رجال العدالة الأربعة»؛ لكونه موضوعًا مزعجًا يشغل الشرطة، وانتهى الأمر بأن مضى رئيس الشرطة فالموث بالسيارة شرقًا بسرعة كبيرة والتقى في شارع ميدلسكس بأفراد شرطة احتياطيين استُدعوا خصِّيصى.

كان لديه العائق نفسه الذي كان يُواجهه دومًا؛ وهو أن «رجال العدالة الأربعة» كانوا لا يُمثلون له إلا أسماءً؛ رموزًا لقوة سريعة قاسية ضربت ضربتها بثبات ودقة، ولا شيء أكثر من ذلك.

كان اثنان من القادة الثلاثة لمنظمة المائة الحمر قد نأَيا جانبًا بنفسَيهما واقتربا أكثرَ من المنصة.

قال فرانسوا، الفَرنسي، متحدثًا نيابةً عن رفاقه بلغة إنجليزية سليمة: «لا علم لنا، لا علم لنا بهُوية الرجال الذين تنشدهم، ولكن على أساس أنهم ليسوا إخوة من محفلنا، وإلى جانب ذلك»؛ حارت منه الكلمات نظرًا للموقف الغريب، «وإلى جانب ذلك، بما أنهم قد هددونا.» وكرر في ارتباك: «هددونا، فسوف نُقدم لك كل مساعدة.»

انتهز المفتش الفرصة.

وقال: «حسنًا!» ووضع خطة سريعة.

لا يُمكن أن يكون الرجلان قد هربا من القاعة. كان يوجد باب صغير بالقرب من المنصة، كان قد رآه؛ كما رآه الرجلان اللذان ينشدهما. بدا الهروب ممكنًا عبره؛ وكانا قد فكرا في ذلك أيضًا. لكن فالموث كان يعرف أن الباب الخارجي المؤدِّيَ من الدهليز الصغير كان يحرسه اثنان من رجال الشرطة. كانت تلك هي خلاصة الاكتشاف الذي توصل إليه أيضًا الرجلان اللذان كان ينشدهما. فبادر بالحديث إلى فرانسوا.

قال بسرعة: «أريد أن يُكْفَل كل شخص في القاعة. لا بد أن يُثبِت أحدٌ ما هُويةَ كل رجل، ويجب أن يُثبت أحدٌ ما هوية من سيُثبت هويةَ الآخرين نفسِه.»

اتُّخِذَت الترتيبات بسرعة البرق. ومن فوق المنصة شرح قادة منظمة المائة الحمر الخطة باللغات الفرنسية والألمانية واليديشية. بعد ذلك شكلت الشرطة حاجزًا، وتقدم الناس واحدًا تلو الآخر، وبخجل، أو بتشكك أو بوعي ذاتي، حسب طبائعهم المتعددة، مروا عبر حاجز الشرطة.

«ذاك هو سيمون تشيك من بودابست.»

«من يُثبت هويته؟»

صاحت عشرة أصوات: «أنا.»

«فلتمر.»

«هذا هو ميخائيل رانيكوف من أوديسا.»

«من يُثبت هويته؟»

قال رجل قوي البنية، يتحدث الألمانية: «أنا.»

«وأنت؟»

صدرت ضحكة مكتومة صغيرة؛ لأن ميخائيل هو أشهر رجل في التنظيم. انتظر البعض، بعد مرورهم بالصف، كي يُثبتوا هُوية بني عشيرتهم ومواطنيهم.

«يبدو الأمر أبسط بكثير مما كان بوسعي أن أتخيل.»

كان القائل هو الرجل الطويل ذو اللحية المهذبة، الذي تحدث بصوت أجشَّ لم يكن بلكنة ألمانية ولا يديشية. كان يُشاهد الفحص باهتمام مصحوب بالمتعة.

قال وعلى وجهه شبح ابتسامة: «فصل الحملان عن الماعز بعنف.» فأومأ رفيقه قليل الكلام مجيبًا. ثم سأله:

«هل تظن أن أيًّا من هؤلاء الأشخاص سيتعرف عليك باعتبارك من أطلق الرصاصات؟»

فهز الرجل الطويل رأسه نفيًا بحسم.

«كانت أعينهم مسلطة على الشرطة؛ وإلى جانب ذلك، أنا سريع للغاية في إطلاق النار. لم يرَني أحد إلا …»

سأل الآخر، دون أن يُبدي أدنى اهتمام: «امرأة جراتس؟»

قال جورج مانفريد: «امرأة جراتس.»

شكلا جزءًا من صف يشق طريقه بصعوبة ويتحرك ببطء نحو حاجز الشرطة.

قال مانفريد: «أخشى أننا سنُجبَر على الهرب بطريقة واضحة تمامًا؛ فطريقة ركض الثور الهائج بسرعة ودون تخطيط هي طريقة أعترض عليها من حيث المبدأ، ولم أُضطَرَّ أبدًا إلى استخدامها.»

كانا يتحدثان طوال الوقت بلهجة تخللها أصوات حنجرية غليظة، ونظر أولئك الذين كانوا بالقرب منهما ببعض الحيرة؛ لأنها كانت لهجة مختلفة عن أي لهجة تُسمَع في النطاق الثوري.

اقتربا أكثر وأكثر من المفتش الصارم في نهاية حاجز الشرطة. كان أمامهما شاب يستدير من وقت لآخر كما لو كان يبحث عن صديق في الخلف. كان ذا وجه اجتذب أقصر الرجلَين، الذي كان دومًا دارسًا للوجوه. كان وجهًا شديد الشحوب، أبرزه الشعر القصير الداكن والحاجبان الكثان الأسوَدان. كان وجه شخص حالم، يتسم بالجمال من ناحية الصورة الإجمالية، وبالدقة من ناحية الملامح، وفي العينَين المضطربتَين القلقتَين تكمن لمحة من تعصب. بلغ الحاجز وتقدم صوبه عشَرةُ رجال من أجل الحصول على شرف كفالته. ثم مر وتقدم مانفريد بهدوء للأمام.

ذكر اسم قرية ترانسيلفانية مبهمة: «هاينريش روزنبرج من راز.»

سأل فالموث برتابة: «من يُثبت هوية هذا الرجل؟» حبس مانفريد أنفاسه وأخذ أهبة الاستعداد للانطلاق.

«أنا.»

كان القائل هو الشاب الرقيق الذي كان قد مر قبله؛ الحالم ذو الوجه الأشبه بوجه قس.

«فلتمُر.»

مشى مانفريد على مهل، هادئًا مبتسمًا، وعبر حاجز الشرطة مشيرًا برأسه بإشارة ودية إلى منقذه. ثم سمع التحديَ الذي جابهه رفيقه.

سمع صوت بويكارت الواضح الهادئ: «رولف وولفَند.»

«من يُثبت هوية هذا الرجل؟»

مجددًا انتظر بتوتر.

سمع من جديد صوت الشاب وهو يقول: «أنا.»

ثم انضم إليه بويكارت، وانتظرا قليلًا.

رأى مانفريد بطرف عينه الرجل الذي كان قد كفله يمشي متمهلًا نحوهما إلى أن أصبح إلى جانبهما، ثم قال:

«إذا كنتما ترغبان في أن تُقابلاني في كِنجز كروس سأكون هناك بعد ساعة.» ولاحظ مانفريد دون انفعال أن هذا الشاب تكلم أيضًا بالعربية.

مرا عبر الجمع الذي احتشد حول القاعة — إذ كانت أنباء مداهمة الشرطة قد انتشرت كالنار في الهشيم عبر إيست إيند — ووصلا إلى محطة ألدجيت قبل أن يتحدثا.

قال مانفريد: «هذه بداية غريبة لمبادرتنا.» لم يبدُ عليه السرور ولا الأسف. وأضاف بطريقة متفلسفة: «طالما كنت أعتقد دومًا أن العربية هي أسلم لغة في العالم للحديث عن الأسرار؛ إن المرء ليتعلم الحكمة بمرور الأعوام.»

فحص بويكارت أظفاره المطلية بعناية كما لو كانت المشكلة تكمن فيها. قال، مخاطبًا نفسه: «لا توجد سابقة.»

وأضاف جورج: «وقد يكون مصدر إحراج»، ثم قال: «دعنا ننتظر ونرى ما ستجلبه الساعة القادمة.»

جلبت الساعة القادمة الرجل الذي كان قد تصادق معهما بغرابة شديدة. وجلبت أيضًا قبله بقليل رجلًا رابعًا كان يعرج قليلًا، لكنه حيَّا الرجلَين بابتسامة حزينة. سأله مانفريد: «هل أُصِبت؟»

قال الآخر بلا اهتمام: «لا شيء يستحق الحديث بشأنه، والآن ما معنى رسالتك الهاتفية الغامضة؟»

عرض مانفريد بإيجاز أحداث الليلة، وأنصت الآخر باهتمام بالغ.

استهل الحديث بقوله: «إنه موقف يبعث على الفضول.» وعندئذٍ ألجمَته نظرة تحذير من بويكارت. كان الشخص موضوع حديثهم قد وصل.

جلس إلى الطاولة، وصرف النادلَ الواجف الذي كان ينتظر بجواره.

جلس الأربعة في صمت لبرهة وكان الوافد الجديد هو أول من تكلم.

قال ببساطة: «أُطلِق على نفسي اسم برنارد كورتلاندر، وأنتم التنظيم المعروف باسم «رجال العدالة الأربعة».»

لم يُجيبوا.

تابع بهدوء: «رأيتك تُطلق النار؛ لأنني كنت أراقبك منذ لحظة دخولك القاعة، وعندما انتهجت الشرطة طريقة إثبات الهوية، عقدت العزم على أن أخاطر بحياتي وأتحدث نيابةً عنكما.»

قاطعه بويكارت بهدوء قائلًا: «تعنى أنك عقدت العزم على أن تُخاطر، بقتلنا إياك؟»

قال الشاب، وهو يهز رأسه بالإيجاب: «بالضبط، فمن منظور خارجي بحت، من شأن منحًى كهذا أن يكون فعلَ جحودٍ شيطاني، لكنني لديَّ تصوُّر أقربُ إلى المبادئ، وأُدرك أن نتيجةً كهذه لتدخلي هي نتيجة منطقية تمامًا.» اختص مانفريد بالحديث وهو يستند بظهره إلى الوسائد المخملية الحمراء. «لقد أظهرتَ كثيرًا أن الحياة البشرية هي العامل الأقل أهمية في تخطيطك، وقدمت أدلة على وحدة هدفك، حتى إنني مقتنع تمامًا بأنه لو وقفَت حياتي — أو حياة أي واحد منكم — عائقًا أمام تحقيق أهدافكم، فإن تلك الحياة ستنتهي، هكذا!» وفرقع إصبعَيه. قال مانفريد: «وماذا بعد؟» تابع الشاب الغريب قائلًا: «أعرف بشأن مآثرك، ومن ذا الذي لا يعرف بشأنها؟!»

وأخرج من جيبه حافظة جلدية، وأخرج منها قُصاصة من صحيفة. لم يُظهر أيٌّ من الرجال الثلاثة أدنى اهتمام بالورقة التي فضَّها على القماشة البيضاء. فقد كانت أعينهم مسلَّطة على وجهه.

قال كورتلاندر، وهو يُسوي الثنيات من قصاصة من صحيفة «ميجافون»: «ها هي قائمة بأشخاص قُتِلوا، في سبيل العدالة، رجال تغاضى عنهم قانون الأرض، يأكلون عرق البسطاء وفاسقون، لصوص أموال عمومية، مفسدون للشباب؛ رجال اشترَوا «العدالة» مثلما نشتري أنا وأنتم الخبز.» وطوى الورقة من جديد. «لقد دعوت الرب أن ألقاكم يومًا ما.»

«وبعد؟» كان هذا صوت مانفريد مجددًا.

«أريد أن أكون معكم، أن أكون واحدًا منكم، أن أُشارككم في حملتكم و… و…» تردَّد، ثم أضاف بجِديَّة: «وإن دعت الحاجة، في الموت الذي ينتظركم.»

هز مانفريد رأسه ببطء، ثم نظر نحو الرجل ذي العرج.

سأله: «ما قولك يا جونزاليس؟»

كان ليون جونزاليس هذا قارئًا شهيرًا للوجوه، وكان الشاب يعرف ذلك، وأدار وجهه من أجل الاختبار والتقَت عيناه بعينَي الآخر اللتَين كانتا تُقَيِّمانه.

قال جونزاليس ببطء: «متحمس، وحالم، ومُفَكِّر، بالطبع، وثمة موثوقية وهو أمر جيد، وتوازُن وهو أمر أفضل، ولكن …»

تساءل كورتلاندر بثبات: «ولكن؟»

كان الحكم الذي نطق به أن قال: «ثَمة شغَف، وهو أمر سيئ.»

أجاب الآخر بهدوء: «إنها مسألة تدريب. لقد ألقى بي قَدَري مع أناس يُفكرون باضطراب ويتصرفون بجنون؛ إنه خطأ كل التنظيمات التي تسعى إلى تصويب الخطأ بارتكاب الجرائم دون تمييز، التي تعتمد في منطقها على الحواس، والتي حطَّت من قدر المشاعر حتى صارت انفعالًا، والتي تخلط بين الملوك والمُلك.»

سأله مانفريد: «هل تنتمي إلى منظمة المائة الحمر؟»

قال الآخر: «أجل؛ لأن منظمة المائة الحمر تحملني لمسافة قصيرة في الطريق الذي أرغب في أن أسلُكَه.»

«في الاتجاه الصحيح؟»

أجاب الآخر: «من يعرف؟ لا توجد طرق مستقيمة، ولا يُمكنك أن تستنتج وجهتك من الاتجاه الذي يأخذه أولُ خط للمسار.»

قال مانفريد: «لست بحاجة إلى أن أُخبرك بحجم المخاطرة الكبيرة التي تحملها على عاتقك، ولا إلى أن أُجهد نفسي في بيان مدى المسئولية التي تطلب الاضْطِلاعَ بها. هل أنت ثري؟»

قال كورتلاندر: «أجل، ولديَّ ثروة كبيرة؛ أمتلك ضيعاتٍ شاسعةً في المجر.»

قال مانفريد: «أنا لا أسأل ذلك السؤال عبثًا، ومع ذلك ما كان الأمر سيُمثل فارقًا لو كنت فقيرًا. هل أنت على استعداد لأن تبيع ضيعاتك — أعتقد أنها تُدعى «بودا-جراتس» — يا صاحب السمو؟»

لأول مرة ابتسم الشاب.

قال: «لم يُساورني أي شك في أنك عرَفتني، أما عن ضيعاتي فسوف أبيعها دون تردد.»

«وتضع المال تحت تصرفي؟»

أجاب على الفور: «نعم.»

«دون تحفظ؟»

«دون تحفظ.»

قال مانفريد ببطء: «وإذا شعرنا بميل إلى توظيف هذا المال فيما قد يبدو أنه لمنفعتنا الشخصية، هل ستعترض؟»

قال الشاب بهدوء: «لا.»

سأل بويكارت، وهو يميل قليلًا إلى الأمام: «وإثبات ذلك؟»

«وعد من …»

قال مانفريد: «كفى، لا نريد مالك؛ لكن المال هو الاختبار الأصعب.» فكَّر لبرهة قبل أن يتكلم ثانيةً.

قال باقتضاب: «ثمة أمر امرأة جراتس؛ وفي أسوأ الأحوال يجب أن تُقْتَل.»

قال كورتلاندر، ببعض الأسى: «إنه أمر مؤسف.» كان قد أجاب على الاختبار النهائي وكان يعرف ذلك تمام المعرفة. إذعان طوعي مفرط، حماسة زائدة للاتفاق مع الحكم الأعلى الذي يُصدره «الأربعة»، أي شيء كان من شأنه أن يشيَ بالافتقار إلى ذلك الاتزان الذهني، الذي تطلَّبه عهدهم، كان سيُدينه بلا رجعة.

قال مانفريد، وهو يُشير إلى نادل: «لنشرب نخب تفاخر.» فُتِحَت زجاجة النبيذ ومُلئت الكئوس، وهمس مانفريد بكلمات النخب.

«الأربعة الذين كانوا ثلاثة، إلى الرابع الذي مات والرابع الذي وُلِد.»

ذات يوم كان يوجد رابع سقط بعدما أصابه وابلٌ من الرَّصاصات في مقهى في بوردو، وهو مَن شربوا نخبه. في شارع ميدلسكس، في القاعة شبه الخاوية، وقف فالموث محاصرًا بجيش من المراسلين الصحفيين.

«هل كانوا «رجال العدالة الأربعة»، يا سيد فالموث؟»

«هل رأيتهم؟»

«هل لديك أي أدلة؟»

مع كل ثانية كانت تأتي دفعة جديدة من رجال الصحافة، ودخلت سيارة أجرة تلو الأخرى في الشارع القذر، وكان صف السيارات المصطفَّة خارج القاعة يوحي بتجمع أنيق. كانت «فاجعة الهاتف» لا تزال حاضرة في مخيلة العامة، ولم يحتج الأمر إلا إلى نطق الكلمة السحرية «رجال العدالة الأربعة» لتأجيج شرارة الاهتمام مجددًا. شكَّل ممثلو منظمة المائة الحمر حشدًا مُمَيَّزًا في الساحة الأمامية الصغيرة الخالية، وعبر هؤلاء انتشر الصحفيون باجتهاد.

انسلَّ سميث من صحيفة «ميجافون» ومساعده الشاب، ماينارد، عبر الحشد ووجدا سيارة الأجرة الخاصة بهما.

صاح سميث مخبرًا السائق بوجهةٍ ما، ثم غاص مجددًا في المقعد مُصدرًا زفرة تشي بالإرهاق.

تساءل: «هل سمعت أولئك الشبان يتحدثون عن حماية الشرطة؟» وأضاف بغموض: «كل الأناركيين المباركين من كل أنحاء العالم؛ ويتكلمون وكأنه اجتماع أمهات! عندما تسمعهم تحسبهم من أفراد المجتمع الأكثر احترامًا الذين لم يشهد العالم لهم مثيلًا. يا لروعة حضارتنا!»

قال ماينارد: «سألني رجل بلغة فرنسية ركيكة جدًّا إن كان مسلك «رجال العدالة الأربعة» يستدعي المقاضاة!»

في تلك اللحظة، كان أحد قادة المائة الحمر يُوجِّه سؤالًا آخر إلى فالموث، فأجابه فالموث، الذي كان منزعجًا بعض الشيء، بكل ما استطاع استحضاره من تهذيب.

قال ببعض الحدَّة: «يُمكنكم أن تعقدوا اجتماعاتكم. ما دمتم لم تتلفظوا بأي شيء يُراد به إحداث خرق للسِّلم، يُمكنكم أن تتكلموا عن التحريض على الفتنة واللاسلطوية حتى يُصيبكم الإنهاك. سيُخبركم أصدقاؤكم الإنجليز عن المدى الذي يُمكنكم أن تمضوا إليه — ويُمكنني أن أقول لكم إن بوُسعكم أن تمضوا بعيدًا — يُمكنكم أن تُنادوا باغتيال الملوك، ما دمتم لم تُحددوا أي ملك؛ ويُمكنكم أن تتآمروا على الحكومات وتُنددوا بالجيوش والدُّوقات الكبار؛ في الواقع، يُمكنكم التصرف كما يحلو لكم؛ لأن ذلك هو القانون.»

سأله من يستجوبه، مكررًا الكلمات بصعوبة: «ما المقصود بخرق السلم؟»

أوضح له مفتشٌ آخرُ المقصود بذلك.

رافق فرانسوا ورودولف ستارك امرأةَ جراتس إلى مسكنها في بلومزبري تلك الليلة، وتناقشا بشأن إجابة المفتش.

كان ستارك هذا رجلًا ضخمًا، ذا بِنْية قوية، ووجه ممتلئ وبعض الانتفاخ تحت عينَيه. كان يشتهر بأنه ميسور الحال، ويُجيد التعامل مع النساء.

قال: «إذن يبدو أن بوسعنا أن نقول «فليُقتَل الملوك»، ولكن ليس «فليُقْتَل الملك»؛ كذلك يُمكننا أن ندعوَ إلى سقوط الحكومات، ولكن إذا قلنا «لندخل إلى هذا المقهى» — ماذا تدعونه؟ — «المكان العام، ولنكن وقحين مع المالك»، فإننا بذلك نخرق السلم، أليس كذلك؟»

قال فرانسوا: «هو كذلك. تلك هي الطريقة الإنجليزية.»

قال الآخر: «إنها طريقة مجنونة.»

وصلوا إلى باب مسكن الفتاة. كانت هادئة جدًّا أثناء السير، وتُجيب عن الأسئلة التي كانت تُوجَّه إليها بكلمات أحادية المقطع. فقد كان في أحداث الليلة الكثيرُ مما يدعوها إلى التفكير.

ودَّعها فرانسوا باقتضاب متمنيًا لها ليلة طيبة وسار مبتعدًا قليلًا. كان يُعتبَر امتيازًا لستارك أن يقف أقربَ ما يكون إلى الفتاة. عندئذٍ أمسك بيدَيها النحيفتَين ونظر إليها. كان أحدهم قد قال إن الشرق يبدأ عند بوخارست، لكن ثمة لمسة من الشرق في كل مجرًى، وثمَّة فظاظة في مجمل مسلكهم مع النساء تُصيب مشاعر الغربيِّين الرقيقةَ بالصدمة.

قال بصوت خفيض: «ليلة طيبة يا ماريا الصغيرة. يومًا ما ستكونين ألطف، ولن تتركيني عند الباب.» نظرت إليه بثبات، وأجابت، دون أن ترتجف: «ذلك لن يحدث أبدًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤