الساعة العاشرة!
في تلك الليلة، كان السكون والهدوء والسماء الصافية التي تلمع على صفحتها الزرقاء، النجوم تُخيم على الكهف السري، بينما غرق الشياطين في تأملاتهم، وكانوا في تلك اللحظة يجلسون في البهو الواسع في الطابق الثاني، يستمتعون بالأضواء الخافتة، والموسيقى الهادئة التي تجتاح المكان بعبق السكينة والارتياح.
كان «أحمد» يجلس مائلًا إلى الخلف بكرسيه، وبجانبه «بو عمير»، بينما جلس بقية الشياطين في وضع دائري، وأخذوا جميعًا يتأملون النجوم، ويحصون عدد نجمات الدب الأكبر والأصغر السبعة حين صاح «عثمان» قائلًا: لقد ذكَّرتني نجوم السماء الآن بالمغامرة السابقة «صفقة الأسلحة»، لقد كانت غريبة فعلًا، ولعلنا جميعًا لن ننسى الخطأ القاتل الذي وقعنا فيه حين اتفقنا في وقت واحد على صفقة «الكلاشنكوف» التي أوقعتنا في ورطة؛ مما جعل زعماء عصابات الأسلحة يشكُّون فينا، ويلقون القبض على مجموعتَينِ منا.
عندئذٍ قال «أحمد»: ما تقوله صحيح يا «عثمان»، إن خطأً واحدًا كفيلٌ بأن يهدم ما بناه الإنسان طوال عمره، وهذا ما يسمونه الخطأ القاتل.
تدخَّلَتْ «إلهام» في الحديث قائلةً: إنني لن أنسى منظر الأُسُود الجائعة، والفئران المتوحِّشة، وهي تحومُ حولنا في القفص الحديدي الضخم «زنزانة الموت والرعب».
ضحك «قيس» وهو يقول: إن معظم العصابات في شتى أنحاء العالم يتفنَّنُون في وسائل التعذيب، بل إن هناك أشخاصًا مهمتهم ابتكار أساليب جديدة لتعذيب الأشخاص لإجبارهم على الاعتراف.
قال «أحمد»: إنني لن أنسى كرسي الاعتراف … الذي يكشف الكذب … لقد حاولتُ مرتَينِ كسْبَ بعض الوقت لحين وصول مجموعة «عثمان» من «فرنسا» دون جدوى، فما إن أتحدَّثُ حتى تُضاء بعض اللمبات الحمراء، ويصرخُ جهازٌ صغير مُثبَّتٌ على الكرسي، ليُعلن فورًا أن ما أقوله ليس حقيقيًّا.
اشتركَتْ «هدى» في الحديث وهي تقول: فعلًا، لقد كانت هذه اللحظات من أصعب ما واجهنا أثناء مغامراتنا، رغم كثرة المواقف الصعبة الأخرى التي كثيرًا ما قابلتنا.
سكتَ الشياطين لحظاتٍ عَلَتْ فيها أصوات تأتي من بعيد، ثم اقتربَتْ من الكهف السري، ولم تمضِ سوى دقائقَ حتى دوَّى رنين الأجراس، وجاء الصوت عَبْر سماعات الإذاعة الداخلية للكهف، يُعلن لقاء الزعيم بعد عشر دقائق.
نظرَ الشياطين بسرعة إلى ساعاتهم الرقمية، وكانت مضبوطة على رقم ٩,٥٠ باللغة الإنجليزية، ابتسم الشياطين وهم يردِّدون: العاشرة أيضًا، ولكن هذه المرة مساءً!
كانوا قد اعتادوا جميعًا على لقاء الزعيم في العاشرة صباحًا، فقال «عثمان» وهو يتأهب للقيام من على كرسيه: لعلنا محظوظِينَ من الرقم «١٠».
فأجابه «بو عمير» وهو يضحك: إنه رقم «سوبر».
وابتسم الشياطين وهم يتوجَّهُون إلى قاعة الاجتماعات الكبرى بالطابق الثاني للمقر السري. كانت الساعة تُشير إلى العاشرة تمامًا حين جلس الشياطين على مقاعدهم الدائرية في قاعة الاجتماعات الواسعة المزودة بشاشة عرض سينمائي عملاقة، وسرعان ما سمعوا جميعًا صوت الأقدام التي اعتادوا سماعها، وتوقَّفَ الصوت خلف المنصة الزجاجية ذات اللون الداكن، ثم أُطفِئَت الأنوار ليسود الظلام لحظات، أُضيئَت بعدها شاشة العرض العملاقة ليظهر عليها مجموعة من الأشخاص ركَّزَت الكاميرا عليهم كثيرًا … وانتقلت بعدها على مجموعة من الآثار الفرعونية الجميلة … تمثال للملك «رمسيس» الثاني، أعظم ملوك مصر القديمة، ثم تجوَّلَت الكاميرا على الأهرامات العملاقة، وبجانبها تمثال «أبو الهول» الذي يحمل وجهَ آدميٍّ، وجسدَ أسدٍ … وأخيرًا انتقلت الكاميرا على وجوه بعض التماثيل، عرفها الشياطين على الفور فهي ﻟ «توت عنخ آمون» أو ابن الشمس العظيمة، ثم على وجه «ست نفرت»، سِت الحُسن، وأقرب الزوجات إلى قلب الملك «رمسيس» الثاني، وانتهَتْ جولة الكاميرات بالتركيز على الملكة «حتشبسوت»، صاحبة الفتوحات والغزوات التي وصلَتْ إلى مشارف بلاد النوبة والسودان، قبل أن تتوقف نهائيًّا على وجه أحد التماثيل الصغيرة المجهولة، فلم يعرفها أحد من الشياطين.
انتهى الفيلم التسجيلي، وتوقف صوت ماكينة العرض لتنطفئ الشاشة العملاقة، ويسود الظلام من جديد جنبات القاعة قبل أن تُضاء الأنوار، ويغمر ضَوْؤُها المكان، ويأتي بعدها صوت رقم «صفر» وهو يرحِّب بالشياطين ويقول: «مرحبًا بكم أيها الشياطين.» ويكمل: لقد أنهيتم مغامرتكم السابقة «صفقة الأسلحة» بكل نجاح، رغم الخطأ الفادح الذي وقَعْتُم فيه، وكاد أن يسبب لكم حَرَجًا بالغًا، ولعله يكون الخطأ الأول والأخير … فالمفروض ألا تُخطئوا أبدًا … وأنتم تعرفون جيدًا أننا نعتمد في حساباتنا على أخطاء الآخَرِينَ، وندرس خططنا جيدًا، بحيث لا نضع في الحسبان أيَّ خطأ لنا.
سكت رقم «صفر» لحظاتٍ قبل أن يقول: إن أمامكم مغامرة من نوع جديد، ولكنها في منتهى الأهمية والخطورة، ولعلكم عرفتم من خلال بدايتنا المفاجئة بالعرض السريع لبعض آثار مصر الفرعونية أن المغامرة القادمة ستكون بشأن هذه الآثار.
ثم أكمل رقم «صفر» حديثه قائلًا: إنكم تعرفون جيدًا حيرة كل العلماء — وأنا أقصد علماء الغرب على وجه التحديد — بسبب هذه الآثار، وأنتم على يقين بكل محاولات السرقة التي تمَّتْ لهذه الآثار بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، وهذا جانب، أما الجانب الآخَر فهو خطير فعلًا، أن يتحول اهتمام هؤلاء العلماء إلى قضية التحنيط التي عجزوا عن تفسيرها حتى الآن.
صمت رقم «صفر» طويلًا قبل أن يُكمل حديثه قائلًا: لقد استطاعَتْ إحدى عصابات الآثار سرقة مومياء لفتاة رومانية، وهي التي ركَّزَتْ عليها الكاميرا في نهاية الفيلم.
إن هذه الفتاة مُحنَّطة بنفس طريقة قدماء المصريِّينَ، ولعلكم تعرفون أن العصر الروماني كان آخِر العصور الفرعونية، ويسمونها «العصور المتأخرة»، رغم أنها آخِر العصور، ولعل كلمة «متأخر» كان مقصودًا بها التأخُّر في كثير من الصناعات، سواء التي تخص الناحية المعمارية أو الفنية.
المهم أن هذه العصابة قد استطاعَتْ سرقة هذه المومياء بسرية تامة، ثم راحت في إعلان المزاد عليها سرًّا.
وقد سارعَتْ أكثر من جهة طبية للحصول على هذه المومياء، حتى وصل سعرها إلى أكثر من مليون دولار، وسكت رقم «صفر» مرةً أخرى قبل أن يقول: لا تتعجبوا من سعر هذه المومياء؛ فالسبب معروف، وهو إجراء بحوث عليها لمعرفة سر التحنيط الفرعوني، وهذا سيدفعهم بكل تأكيد لتشريحها وأخذ عينات منها لتُفحَص مجهريًّا؛ ليتوصلوا إلى سِرِّ المادة التي تجعل هذه الجثث الآدمية محتفِظة بكل صفاتها الشكلية، برغم مرور أكثر من سبعة آلاف سنة عليها.
يكمل رقم «صفر» حديثه قائلًا: إن عودة هذه المومياء أمر ضروري وحيوي جدًّا … لسببَينِ، كلاهما أقوى من الثاني … السبب الأول: هو غيرتنا على أجدادنا، وهل منكم مَن يتخيل العبث الذي يتم على هذه الجثث بعد دفنها منذ عُمر طويل؟
ثم ثانيًا: إنها ستكون السابقة الأولى من نوعها، وقد تتلوها سوابق أخرى، إن معناها العميق هو دفن حضارة شعب بأكمله، حضارة عمرها ٧ آلاف سنة.
ويصمت رقم «صفر» طويلًا قبل أن يُنهي الاجتماع قائلًا في حِدَّة: «أيها الشياطين … أتعرفون كم تُساوي عملية سرقة مومياء وعرضها للبيع بهذا الثمن؟ إنها تساوي كرامة وكبرياء الدول العربية كلها، بل وما فيها من حضارات قديمة أذهلَتِ العالم …» ثم دوَّت كلماته الأخيرة مع أطراف أقدامه وهي تبتعد: «إن عودة المومياء كأنها عودة الروح لنا».
تركَتْ كلمات رقم «صفر» صدًى عميقًا في نفوس الشياطين، وعرفوا على الفور أن القضية كبيرة فعلًا حتى يصفها الزعيم بهذا الوصف، ومعناه أننا لسنا أحياء ما دامت هذه المومياء مسروقة، ولن تعود لنا الروح إلا بعودتها.
كان من الواضح أن رقم «صفر» متأثرًا بسرقة هذه المومياء، فهذه حادثة فريدة من نوعها لم تحدث من قبل، وهي ليسَتْ حادثة فردية تخص أحد الأفراد، ولكنها حادثة تخص تاريخ وحضارة شعوب … إن الشعب المصري بالذات صاحب هذه الحضارة العريقة هو المقصود على وجه التحديد بهذه السرقة، ولذلك فقد كان الموضوع يمضي سرًّا لا أحد يعرفه.
نهض الشياطين ورءوسهم تعج بالأفكار وتمتلئ بالصور والخيالات، فكيف تتم سرقة مومياء بالكامل؟! وكيف تم التدبير لذلك؟!
كان من الواضح أن هذه المغامرة غريبة وفريدة من نوعها، وكان من الواضح أيضًا أن المغامرة لن تنتهي إلا بعودة المومياء المسروقة قبل فوات الأوان.
كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة مساءً، حين توجه الشياطين إلى فراشهم دون أن يتبادلوا الحديث مع بعضهم كالعادة … لقد أخذتهم طبيعة المغامرة الجديدة والغريبة، فجعلتهم في وضع التفكير الفردي، فلم يتحدث أحد مع الآخَر، ثم خلدوا جميعًا إلى النوم، وقد عَلِقَت التساؤلات برأسهم.
وأتى الجزء الأخير من الليل على الكهف السري، فغرق الجميع في سبات نوم عميق، عدا نوبات الحراسة التي ظلَّت تجوب المكان طوال الليل وحتى يحين موعد إشراق الشمس بخيوطها الذهبية لتكسو المكان بالحياة … لتُعيد دقات القلب إلى المكان الهادئ الذي ظلَّ طوال الليل ساكنًا لا يتحرك.