الفصل الثالث عشر

في ذكر تقدم أهل باريس في العلوم والفنون والصنائع، وذكر ترتيبهم، وإيضاح ما يتعلق بذلك

الذي يظهر لمن تأمل في أحوال العلوم والفنون الأدبية والصناعة في هذا العصر بمدينة «باريس» أن المعارف البشرية قد انتشرت وبلغت أوجها بهذه المدينة، وإنه لا يوجد من حكماء الإفرنج من يضاهي حكماء «باريس» بل ولا في الحكماء المتقدمين كما هو الظاهر أيضًا، غير أن صاحب النقد السديد قد يقول: إن سائر الفنون العلمية التي يظهر أثرها بالتجارب، معرفة هؤلاء الحكماء بها ثابتة، وإتقانها عندهم لا نزاع فيه، كما يشهد لذلك قول بعض أجلة الحكماء: «الأمور بتمامها، والأعمال بخواتيمها، والصنائع باستدامتها».

وأما أغلب العلوم والفنون النظرية فإنها معروفة لهم غاية المعرفة، ولكن له مبعض اعتقادات فلسفية، خارجة عن قانون العقل، بالنسبة لغيرهم من الأمم، غير أنهم يموهونها، ويقوونها، حتى يظهر للإنسان صدقها وصحتها، كما في علم الهيئة مثلاً، فإنهم محققون فيه: وأعلم ممن عداهم بسبب معرفتهم بأسرار الآلات المعروفة من قديم الزمان، والمخترعة له.

ومن المعلوم أن المعرفة بأسرار الآلات أقوى معين على الصناعات غير أن لهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها، وسيأتي لنا كثير من بدعهم، وننبه عليها في محالها إن شاء الله تعالى.

وإنما نقول هنا: إن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع، فسائر كتب الفلسفة يجري فيها الحكم الثالث، من الخلاف الذي ذكره صاحب متن السلم في الاشتغال بعلم المنطق. فحينئذ يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يفتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه، وقد قلت جامعًا بين مدح هذه المدينة وذمها:

أيوجد مثل «باريس» ديار
شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح
أما هذا وحقكم عجيب!

ومن جملة ما يعين الفرنساوية على التقدم في العلوم والفنون سهولة لغتهم وسائر ما يكملها، فإن لغتهم لا تحتاج إلى معالجة كثيرة في تعلمها، فأي إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أي كتاب كان؛ حيث إنه لا التباس فيها أصلاً، فهي غير متشابهة، وإذا أراد المعلم أن يدرس كتابًا لا يجب عليه أن يحل ألفاظه أبدًا، فإن الألفاظ مبينة بنفسها، وبالجملة فلا يحتاج قارئ كتاب أن يطبق ألفاظه على قواعد أخرى برانية من علم آخر، بخلاف اللغة العربية مثلاً، فإن الإنسان الذي يطالع كتابًا من كتبها في علم من العلوم يحتاج أن يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقق في الألفاظ ما أمكن، ويحمل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها.

وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها، فليس لكتبها شراح ولا حواش إلا نادرة، وإنما قد يذكرون بعض تعليقات خفيفة تكميلاً للعبارة بتقييد أو نحوه، فالمنون وحدها من أول وهلة كافية في إفهام مدلولها، فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكاة الألفاظ. فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم، وعن مجرد المنطوق والمفهوم، وعن سائر ما يمكن إنتاجه منها، ولما غير ذلك فهو ضياع مثلاً إذا أراد إنسان أن يطالع علم الحساب، فإنه يفهم منه ما يخص الأعداد من غير أن ينظر إلى إعراب العبارات، وإجراء ما اشتملت عليه من الاستعارات، والاعتراض بأن العبارة كانت قابلة لتجنيس وقد خلت عنه، وإن المصنف قدم كذا، ولو أخره كان أولى، وأنه عبر في محل الواو والعكس أحسن، ونحو ذلك، ثم إن الفرنسيس يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، وتشوقون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالاً لسائر الأشياء، فليس غريبًا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء، ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون، ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة، وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون للغاية من صغرهم، فالواحد منهم كما قال الشاعر:

عشق المعاني الغر وهو مراهق
وافتض أبكار الفنون وليدا

فإن قد تخاطب الصغير الذي خرج من سن الطفولية عن رأيه في كذا وكذا، فيجيبك بدلاً من قوله لا أعرف أصل هذا الشيء بما معناه «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» ونحو ذلك، فأولادهم دائمًا متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق.

والعادة أنهم يزوجون أولادهم قبل تمام تعلمهم، وهذا يكون غالبًا في عشرين إلى خمس وعشرين سنة، فقل منهم من كان في سن العشرين، ولم يبلغ درجة التدريس، أو يتعلم صنعته التي يريد تعلمها، غير أنه قد يمكث مدة طويلة ليتمكن من العلوم والفنون غاية التمكن، وهذا السن في الغالب تظهر به براعة الإنسان وحسن طالعته، كما قال الشاعر:

إذا ما أول الخطّي أخطا
فما يرجى لآخره انتصار
إذا جاز الفتى عشرين عاما
وما بلغ المراد فذاك عار
فكان هذه١ السن عند سائر الأمم سن انتهاء الناجب، فانظر إلى الأخضري فإنه في سن إحدى وعشرين سنة قد نظم رسالة السلم وشرحها، وكذلك العلامة الأمير فإنه في دون العشرين بيسير صنف مجموعة فتورك٢ على قول الأخضري:
ولبني إحدى وعشرين سنة
معذرة مقبولة مستحسنة

بأنه وهو في دون ذلك السن ألف في أصعب من ذلك المقام، وما قلناه بالنسبة لأرباب المعارف من الإفرنج.

وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر لتعلمهم تعلمًا تامًا عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرًا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالمًا، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء، ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية التي من جملتها علم الأحكام والسياسات.

ومعرفة العلماء في فروع الديانة النصرانية هينة جدًا، فإذا قيل في فرنسا: هذا الإنسان عالم لا يفهم منه أنه عالم في دينه، بل إنه يعرف علمًا من العلوم الأخرى [ي]، ويظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم، وبذلك تعرف خلو بلادنا، عن كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفأس، ومدارس بخارى ونحو ذلك كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية كعلوم العربية. والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية، والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم، فهي دائمًا في الزيادة فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئًا جديدًا، فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات، وستعرف بعض هذا إن شاء الله تعالى.

ومما يستغرب: أن في رجال العسكرية منهم من طباعه توافق طباع العرب العربا في شدة الشجاعة الدالة على قوة الطبيعة، وشدة العشق الدالة ظاهرًا على ضعف العقل، مزاجهم كالعرب في الغزل بالأشعار الحربية، وقد رأيت لهم كلامًا كثيرًا يقرب من كلام بعض شعراء العرب مخاطبًا لمحبوبته بقوله:

ولقد ذكرتك والوغى بحر طغى
والنقع ليل والأسنة أنجم
فحسبته عرسًا ونحن بروضة
وأنا وأنت بظله نتنعم

وقول الآخر:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
برقت كبارق ثغرك المتبسم

وقول صاحب لامية العجم:

لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت
برشقة من نبال الأعين النجل٣
ولا أهاب صفاح البيض تسعدني
باللمح من خلل الأستار في الكلل٤
ولا أخل بغزلان تغازلني
ولو دهتني أسود الغيل بالغيل٥

ولنذكر لك مجامع العلماء، والمدارس المشهورة، وخزائن الكتب، ونحو ذلك لتعرف به مزية الإفرنج على غيرهم.

فمن خزائن الكتب: الخزانة السلطانية، وفيها سائر ما أمكن الفرنساوية تحصيله من الكتب في أي علم كان بأي لغة كانت، مطبوعة أو منسوخة، وعدة ما فيها من الكتب المطبوعة أربعمائة ألف مجلد، وفيها مبلغ عظيم من الكتب العربية الخزائنية التي يندر وجودها بمصر أو بغيرها، وفيها عدة مصاحف لا نظير لها أبدًا، ثم إن المصاحف التي عند الفرنساوية في خزائنهم غير مهانة، بل هي مصونة غاية الصون، وإن كان عدم إهانتها حاصلاً غير مقصود، غير أن الضرر في كونهم يسلمونها لمن يريد أن يقرأ القرآن منهم أو يترجمه أو نحو ذلك، وتوجد المصاحف للبيع في مدينة «باريس»، وبعضهم لخص من القرآن العظيم سائر الآيات التي اختارها للترجمة ثم ترجمها، وضم إليها قواعد الإسلام، وبعض شعبه، وقال في كتابه إنه يظهر له أن دين الإسلام هو أصفى الأديان، وأنه مشتمل على ما لا يوجد في غيره من الأديان.

ومن خزائن الكتب: الخزانة المسماة خزانة «مسيو» وتمسى خزانة «الأرسنال»٦ ومعنى «أرسنال» (ترسانة) وهي أعظم الخزائن بعد الخزانة السلطانية، وبها نحو مائتي ألف مجلد مطبوعة، وعشرة آلاف منسوخة، وأغلب هذه الكتب كتب تاريخ وأشعار، خصوصًا الأشعارالإيطاليانية.
ومنها: خزانة «مزارينه»٧ وفيها خمسة وتسعون ألف مجلد مطبوعة، وأربعة آلاف منسوخة.
ومنها: خزانة «الأنسطيطوت»٨ أي دار العلوم، وفيها خمسون ألف مجلد.

ومنها: خزانة المدينة، وهي نحو ستة عشر ألف مجلد، وهي دائمًا في الزيادة، وكتبها آداب.

ومنها: خزانة بستان النباتات،٩ وفيها عشرة آلاف مجلد في العلوم ولفيها خزانة الرصد السلطاني، وفيها كتب علم الهيئة.
ومنها: خزانة مكتب الحكمة، ومنها خزانة «أكدمة١٠ الفرنسيس» وهي خمسة وثلاثون ألف مجلد، وكل هذه خزائن موقوفة.

وهناك خزائن مملوكة وهي كثيرة جدًا: فمنها ما يشتمل على خمسين ألف مجلد، ومنها للدولة نحو أربعين خزانة، فأقل ما يوجد في كل خزانة منها ثلاثة آلاف مجلد، وأكثرها في الغالب خمسون ألف مجلد، وقد تنيف عن ذلك ولا حاجة لتسميتها هنا.

ولكل إنسان من العلماء أو الطلبة أو الأغنياء خزانة كتب على قدر حاله، ويندر وجود إنسان «بباريس» من غير أن يكون تحت ملكه شيء من الكتب، لما أن سائر الناس تعرف القراءة والكتابة، وسائر بيوت الأعيان فيها خلوة مشتملة على خزانة الكتب، وعلى آلات العلوم وأدواتها، وعلى التحف الغريبة التي تتعلق بالفنون، كالأحجار التي بحث عنها علم المعادن ونحو ذلك، ففي «باريس» كثير من الخزائن التي يقال لها «خزائن المستغربات»،١١ فيوجد بها ما تتشوق إليه نفوس الفضلاء ليستعينوا به على الغوص في الطبيعيَّات كالمعادن والأحجار والحيوانات البرية والبحرية المحفوظة الجثة، وسائر المواليد من الأحجار والنباتات، وسائر الأشياء التي فيها آثار القدماء.

وتعلق هذه الأشياء العلوم إن الإنسان يدرس ما يراه في الكتب ويقابله، فإن رأى في كتاب تعريف حجر كذا، وحيوان كذا، وكان الحجر أو الحيوان نصب عينه قابله مع الأوصاف المذكورة في الكتب، وأنفع الأشياء بالنسبة للطبيعيات بمدينة «باريس» البستان السلطاني المسمى «بستان النباتات» وفيه سائر ما يعرفه البشر من الأمور الخارجة من الأرض الغريبة، ويزرع بأرضه سائر النباتات الأهلية التي يعالجون تطبعها عندهم بقوة الصناعة والحكمة، فيطالع طلبة علم العقاقير والحشائش دروسهم ويقابلون ما في الكتاب على ما يرونه، ويأخذون فرعًا من كل صنف من الحشائش يضعونه في نحو ورقة، ويكتبون اسمه وخاصيته، وفيه أيضًا سائر مراتب الحيوانات الحية غريبة أو أهلية برية أو وحشية، فيوجد بها نحو الدب الأبيض والأسود، والسبع، والضبع، والنمورة والسنانير الغريبة، والإبل، والجواميس، وغنم بلاد التبت، وزرافة سنار، وفيلة الهند، وغزلان البربر، والأيل، وبقر الوحش، وأنواع القردة، والثعالب، وسائر أنواع الطيور المعروفة لهم، وسائر هذه الحيوانات التي تراها حية بهذا البستان تراها ميتة أيضًا محشوة بالتبن، يراها الإنسان على صورة الحية، كبو البقر الذي يصنعه الفلاحون بوادي مصر.

ويوجد في هذا البستان أروقة مملوءة بالمعادن النفيسة، وسائر الأحجار سواء كانت (غشيمة)١٢ أو طبيعية، فترى فيها مراتب الطبيعيات الثلاثة يسافر أجناسها وأنواعها وأنصافها، ففيها كثير من الأشياء التي لا يمكن أن نجد لها أسماء عربية كحيوانات بلاد أمريكية أو نباتها وأحجارها.

وكل هذه الأشياء موضوعة بهذا البستان كالعينة أو الأنموذج من كل شيء، ومكتوب على كل شيء اسمه باللغة الفرنساوية، أو اللاطينية، مثلاً في القاعة التي فيها سبع مكتوب عليها اسم السبع باللغة الفرنساوية وهو «ليون» وهكذا.

ومما وقع في هذا البستان ما اشتهر أن بعض السباع قد مرض، فدخل حارسه، ومعه كلب فقرب الكلب من الأسد، ولحس جرحه فبرئ الجرح، فحصلت الألفة بين الأسد والكلب، وخلت محبة الكلب في قلب الأسد فصار الكلب يتردد دائمًا على الأسد، ويتملق إليه، ويراه كأنه من أصحابه، فلما مات الكلب مرض الأسد لفرقته، فوضعوا معه كلبًا آخر، امتحانًا لتطبعه، فتسلى به عن الميت، ولا زال معه.

وفي بستان النبات رواق يسمى «رواق التشريح» وفيه جميع «الموامي» أي الجثث المحنطة المصبرة ونحوها من الجثث.

ويوجد بهذا الرواق بعض شيء من جثة المرحوم الشيخ سليمان الحلبي الذي استشهد بقتله للجنرال الفرنساوي «كليبر» وقتل الفرنساوية له في أيام تغلبهم على مصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومن محال العلوم الفلكية «الرصد السلطاني»١٣ بمدينة «باريس» وهو من أغرب المراصد الموجودة على ظهر الدنيا، وذلك أنه مني من مجرد الحجارة بغير دخول الحديد أو الخشب في مادته، وهو على شكل مسدس الأسطحة المتوازية القائمة الزوايا، موجه الضلوع الأربعة إلى الجهات الأربع: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، في طرف الجهة الجنوبية صومعتان مثمنتًا الزوايا، وفيه طرف الجهة الشمالية صومعة ثالثة مربعة وهي باب الرصد، وفيه رسم الفرنسيس في رواق في الدور الأول خط نصف نهارهم، فخرج ذلك الخط يقسم الرواق قسمين متساويين فمن هذا الخط يحسب الفرنساوية درجة الطول، فينسبون إليه غيره من الأماكن المغايرة له في السمت، وقد أسلفنا ذلك موضحًا في الفصل الأول من المقالة الثانية، وارتفاع سطحه ثلاث وثمانون قدمًا فوق الأرض، وهو منقسم إلى عدة أروقة مناسبة لحاجة أشغال الفلك، فمن هذه الأروقة ستة لها ممارق مفتوحة قطر كل ممرق ثلاثة أقدام، وهو موضوع على كيفية يمكن معها رؤية السماء، ويعين فيها على ما يحتاج إلى رصده، فترى منها النجوم وأنت في المخادع التي تحت الأرض، وفي هذه الأروقة امتحنوا ثقل الأجسام الطبيعية، وميزان الهواء، وفي هذا الرصد رواق كبير فيه آلات، وعلى قلته آلة تعديل الرياح المسماة: «الأنيمومتر»١٤ بها تقاس قوة الرياح وفيها طشت يسمى: «دن العيار» يعدل به ماء المطر الذي ينزل كل سنة.

ومخادع هذا المرصد هي داخلة في الأرض التي عمقها يساوي سمك حيطان الرصد، وإلى هذه المخادع ينزل بدرج على الدوران والانعطاف؛ كدرج المنارة، وعدة درجها ثلثمائة وستون، ووظيفة هذه المخادع أنها قد تفيد الطبائعية والكيماوية أن يصنعوا بها تجاربهم بأن يجمدوا فيها المائعات، ويبردوا بها الأجسام، ليعرفوا مزاج الأهوية، وفيها رواق يسمى «رواق المناجاة» أو رواق الأسرار؛ وذلك أن فيه أمرًا عجيبًا من قرع الصوت للأذن، أي وصوله بالهواء إليها، وذلك أن بالرواق عمودًا يقابله عمود آخر، فإذا وضع الإنسان فمه على العمود، وأسر بكلام فإنه يسمعه الإنسان الذي بالعمود الآخر، ولا يسمعه من يقرب منه، وهذه الأمور يفهمها من له إلمام بخاصية الصوت.

ومن المحال العلمية بمدينة باريس موضع يقال له: «الكنسروتواز» (بضم الكاف، وسكون النون، وكسر السين، وسكون الراء، وفتح الواو، وسكون التاء) كلمة فرنساوية معناها المخزن أو المحفظ، أو نحو ذلك، وفي هذا المحل جميع الآلات سواء العظيمة وغيرها، خصوصًا الآلات الهندسية، كآلات الحيل، وتحريك الأثقال، ويزعم الفرنساوية أنه ليس في الدنيا نظير هذا المخزن، وفي هذا المحل يرد الصدى صوت الشخص برد عجيب.

ثم إنه يكثر بباريس مدارس سائر العلوم والفنون والصنائع، وقد سلف الكلام على اعتناء الفرنساوية بالحكمة يعني علم الطب ولهم فيها مدارس كثيرة.

ولنذكر هنا محال العلماء ومراتبهم فنقول: إن العلماء في مدينة «باريس» لهم مجامع عظيمة تسمى بأسماء مختلفة، فمنها ما يسمى: «أكدمة»، ومنها ما يسمى: مجمعًا أو مجلسًا، «الأنسطيطوت» عندهم اسم عام يشتمل على جميع اجتماع «الأكدمات» أي المجالس الخمس، وهي: «أكدمية» اللغة الفرنساوية و«أكدمية» العلوم الأدبية، ومعرفة الأخبار والآثار، و«أكدمية» العلوم الطبيعية والهندسية، و«أكدمية» الصنائع الظريفة،١٥ و«أكدمية» الفلسفة، وقولنا «أكدمية» أو «أكدمة» أو «قدمة» هو لفظ مأخوذ من اسم مكان في مدينة «أثينا» كان أفلاطون الحكيم يعلِّم فيه تلاميذه، ومنه قيل لطائفة من الفلاسفة القدماء: «الأكدميون» وكان يقال لهذا المكان «من أكدمية» لأن صاحبه كان شخصًا يونانيًا اسمه: «أكدمس»، وقد جعل هذا المكان وقفًا لأهل مدينة «أثينا»، وصيروه بستانًا يتماشون فيه، ويتفرجون، فكان يدرس فيه أفلاطون، ومنه قيل لجماعة أفلاطون «أكدميون» ويقال لهم «أفلاطونيون» وهم مشهورون أيضًا في كتب العربية بالإشراقيين (بالقاف، والفاء) ويقال لهم أيضًا إلهيون، ويطلق «أكدميون» الآن عند الفرنساوية فيفهم منه بمجرد إطلاقه أهل أكدمة الفرنسيس، وهم كبار علماء الفرنساوية، فإذا قيد فالمعنى ظاهر كما إذا قيل: «أكدمة مصر»، فالمراد بها الجامع الأزهر؛ لأن المراد به ديوان أكابر علماء مصر.
فأوّل علماء «باريس» بل وعلماء فرنسا ديوان العلوم المسمى: «أكدمة الفرنسيس» وأهلها أربعون عالمًا، كل واحد من الأربعين يسمى: عضوًا، يعني أن هذا الديوان بأربابه كالبدن، وكل واحد كالعضو منه، وفي الغالب أن أرباب هذا الديوان لهم فضل عظيم على من عداهم من الفرنساوية، ووظيفتهم تأليف القواميس الفرنساوية، وأنهم يمتحنون مؤلفات العلوم الأدبية وكتب التاريخ، وقد اتفق أن بعض علماء الفرنسيس قد بلغ درجة عالية في العلوم، وصلح لأن يكون من أرباب هذا هذه «الأكدمة» بدل واحد من أربابها مات، وكان هذا العالم كثير المجون، فتوقفوا في قبوله في هذا الديوان، فما كانت حيلته إلا أنه كان دائمًا يعرّض بهجو أهلها، فمن نوادر وقائعه: أنه مر ذات يوم ومعه بعض أصحابه على هذه «الأكدمة» فتحدث مع أصحابه، فتذاكروا في فضل علماء «أكدمة» فقال: لا شك أن عقول أرباب هذا الديوان كعقل أربعة، يشير بذلك إلى بعض الأمثلة١٦ الفرنساوية، من قولهم في مدح الإنسان: إن له عقلاً كعقل أربعة ومشيرًا إلى أن عقل كل عشرة منهم كعقل واحد، فظاهر عبارته من باب المدح وباطنها غير ذلك.

ومن نوادره: أنه كتب قبل موته كعادة الفرنساوية على رخامة قبره المهيَّأ له بيت شعر باللسان الفرنساوي يقول فيه ما معناه بالعربية:

هنا قبر من لم يك شيئًا أيمه
كلا ولا من علما أكدمه

ومعناه: هذا قبر من لم يصل إلى درجة أيّاما كانت حتى لو بلغت هذه الدرجة في الحقارة درجة هؤلاء العلماء.

وهناك أكدمة تسمى «أكدمة تقييد الفنون الأدبية» وأهل ديوان هذه الجمعية ثلاثون نفسًا، ووظيفتها الاشتغال بالألسن النافعة، وبآثار الأمم وأخلاقها، وغالب شغلها تكميل آداب العلوم الفرنساوية بما خلت عنه، مما هو في كتب علوم اللغات الغريبة؛ كاللاطينية، والعربية، والفارسية، والهندية، والصينية، واليونانية، والعبرانية، والقبطية وغيرها.

ومن الأكدمات الأكدمة المسماة «أكدمة العلوم السلطانية» وأهلها منقسمون أحد عشر قسمًا، لكل قسم منهم فرع مخصوص فتكون فروعهم اثني عشر فرعًا: فأهل القسم الأول: يشتغلون بالرياضيات، كالهندسة والحساب: وأهل القسم الثاني بعلوم الحيل كعلم جر الأثقال ونحوه، والثالث: بالعلوم الفلكية والرابع: بالعلوم الجغرافية، والعلوم التجريبية، والخامس: بعلم الطبيعة العامة، والسادس: بالطبيعة، والسابع: بعلم المعادن والأحجار، والثامن: بعلم الحشائش، والتاسع: بتدبير مصاريف الأرض، والعاشر، بتطبيب الدواب، والحادي عشر: بالتشريح، والثاني عشر: بفن الطب والجراحة.

ومنها: الأكدمة السلطانية المسماة: «أكدمة مستظرفات الفنون»،١٧ وهي خمسة فروع: الأول: فن الرسم، الثاني: في النحاتة، والثالث: فن العمارات، الرابع: فن النقاشة، والخامس: فن تركيب حروف الموسيقى.

ومنها: مكتب الفنون الظريفة، وهو مكتب موقوف على تعليم علم الرسم وتوابعه، وفيه يتعلم الرسم، والنقاشة والعمارة.

ومن مجالس العلوم جمعية تسمى: «أثينة الفنون» وهي تعين على تقدم الفنون والصنائع، وهي كالحكم الذي ينفذ الأشياء، ويقضي فيها برأيه.

ومنها: «أثينة باريس» السلطانية، وهي محل علوم وفنون، ولا يكون فيها الإنسان للتعلم إلا إذا دفع شيئًا يسيرًا كل سنة، والمدرسون فيها أرباب فضل.

ومنها: جمعية تسمى «الجـمـعـيـة الفـيلوماتـيـة»١٨ ومعناه: محبو العلوم — والغرض من هذه الجمعية الإعانة على التقدم في علوم التولّدات، وهي مرتبة الحيوانات والنباتات والمعادن.

ومنها: جمعية تشتغل بعلوم الإنشاء والبلاغات والغرض من هذه الجمعية تدوين العلوم الأدبية، وحفظ غريبها؛ حتى لا تفسد لغة الفرنسيس، وإذا اخترع الإنسان معنى غريبًا، أو أجاب عن سؤال غريب أو قال شعرًا مقبولاً، فإنهم يعطونه جائزة ذلك.

ومنها: جمعية تسمى: «حسن الدروس» ووظيفتها تعليم الآداب القاثوليقية، والدين القاثوليقي.

ومنها: جمعية تسمى «أكدمة أبناء أبلون» يعني الأدباء، وهي مجلس أرباب الفنون الأدبية.

ومنها: جمعية تسمى: «الجمعية الأسياتية»١٩ يعني في لغات أهل آسيا، أو اللغات المشرقية، ووظيفتها تحصيل كتبها الغريبة، وترجمتها إلى الفرنساوية، أو طبعها لتشتهر.

ومنها: جمعية تسمى «الجمعية الجغرافية» وهي معدة لتحسين وتكميل علم الجغرافيا، فهي تقوى الناس على السفر إلى البلاد المجهولة الأحوال، فإذا سافر فيها إنسان ورجع يطلبون منه سائر ما علقه عليها، فتأخذ ما علقه وتقيده وتدخله في كتب الجغرافيا؛ ولذلك كان ذلك العلم عند الفرنساوية دائمًا يأخذ في الكمال. وبالجملة: فهذه الجمعية هي التي تخدم سائر ما يتعلق بالجغرافيا، كطبع (الخرطات) ونحوها.

ومنها: الجمعية «الغرماتيقية» يعني المشتغلة بنحو اللغة الفرنساوية فإن علم النحو يسمى في اللسان الفرنساوي «الأغرمير» وباللاطينية وبالإيطالية «أغرماتيقا» ووظيفة هذه الجمعية: الاشتغال بتصحيح اللغة وتجديد اصطلاحات، أو إبقاء الاصطلاحات القديمة؛ لأن اللسان الفرنساوي لسان غير قار القواعد كتابة وقراءة.

ومنها: جمعية تسمى «جمعية المولعين بالكتب الخزائنية» ووظيفة أهل هذه الجمعية الحث على طباعة الكتب النافعة النادرة.

ومنها: جمعية للخطاطين، وأهلها يشتغلون بإجادة الخط.

ومنها جمعية تسمى: جمعية المغناطيسية الحيوانية، وهي جماعة تقول: بوجود سيال مغناطيسي في الحيوان.

ومنها: جمعية «حفظة آثار القدماء»، وهي جمعية معدة لحفظ سائر ما يوجد من الآثار الباهرة عند القدماء؛ كبعض مبانيهم، ومومياهم، وملبسهم ونحو ذلك، والبحث عن ذلك؛ ليتوصل به إلى دراسة عوائدهم، ففي ذلك يوجد كثير من الأمور النفيسة المأخوذة من بلاد مصر، كالحجر المصور عليه فلك البروج المأخوذ من «دندرة» فإن الفرنساوية يتوصلون به إلى معرفة الفلك على مذهب قدماء أهل مصر، فإن مثل ذلك يأخذونه بغير شيء إلا أنهم يعرفون مقامه، فيحفظونه، ويستخرجون منه نتائج شتى، ومنافع عامة.

ومنها: مكتبة تسمى «مكتبة الأطوال»، وأهلها اثنا عشر: ثلاثة مهندسون، وأربعة فلكيون، وأربعة بحرية، وواحد جغرافي، فيشتغلون بعلم الهيئة، وتأليف (الرزنامات) السنوية، وتحرير الزيجات،٢٠ وذكر أطوال البلاد.

ومنها: الجمعية السلطانية في علوم الفلاحة، وتحرير توفير المصاريف البرانية والجوانية وأهل هذه علماء، أغنياؤهم يعطون الجائزة لمن يخترع شيئًا جديدًا نافعًا.

ومنها جمعية لتحسين الأصواف، ووظيفة أهلها مباشرة ما يتعلق بالغنم.

ومنها: جمعية تعين على حث الفرنساوية على البراعة في الفنون والصنائع، وهي تعين الصنائع بسائر أنواعها على التقدم، فإذا اقترح إنسان شيئًا نافعًا أخذ من أهل هذه الجمعية تحفة عظيمة وشهرة.

وفي باريس مدارس سلطانية تسمى: «الكوليج»٢١ (بضم الكاف، وفتح اللام، وسكون الياء) وهي مدارس يتعلم فيها الإنسان العلوم المهمة التي تكون وسائل في الأمور المقصودة منها، وهي خمسة (كوليجات) يدرس فيها صناعة الإنشاء والتآليف، والألسن القديمة الغريبة، والعلوم الرياضيات، وعلم التاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، وأصول الطبيعيات، يعني كتبها الصغيرة، وعلم الرسم، وعلم الخط وفيها مراتب للطلبة، فإن الإنسان يسلك فيها في العادة مرتبة كل سنة، ففي كل سنة من ست سنين يخرج الإنسان من مرتبة إلى أعلى، فهي بالترقي، لا بقوة الفهم ولا بغيره، فلا يمكن للإنسان أن يتعدى أبدًا [مرتبته].
وهناك (كوليجان) آخران غير سلطانيين، وفيهما يدرسان ما يوجد في (الكولجات) الخمسة السابقة، وفيها (كوليج) آخر يسمى (كوليج الفرنساوية السلطاني) وهو أعظم جميعها فيتعلم فيه الرياضيات، والطبيعة المخلوطة بالحساب، والطبيعة العملية، والهيئة، والطب، والتشريح العمليان، وفيه تعلم اللغات: العربية والفارسية، والتركية، والعبرانية، والسريانية، والهندسة، ولغة أهل الصين، وعلومهم، ولغة التتار، والحكمة اليونانية التي هي فلسفة اليونان، وعلم الفصاحة والبلاغة في اللسان اللاطيني، وعلوم بلاغة اللغة الفرنساوية، وهذا (الكوليج) يشتمل على أكابر المدرسين، وفيه ستة آلاف طالب. ومن أشهر المدارس: مدرسة «بوليتقنيقا»٢٢ (بضم الباء وكسر اللام، وسكون الياء والقاف، وكسر التاء والنون، وسكون الباء) يعني مدرسة كليات العلوم، وفيه يدرس الرياضيات، والطبيعيات، لتربية مهندسين في علم الجغرافيا، وفي العسكرية، فمهندسو الجغرافيا يهندسون القناطر والأرصفة والطرق والجسور والخلجان، وكل آلات الحبل ورفع الأثقال، وأما مهندسو العلوم العسكرية، فهم يهندسون القلاع والحصون والبروج، والتوقي من ضرر الأعداء، واتخاذ العراضي، وهندسة تسييب البارود، وأرباب هذه المدرسة محققون، لهم باع في سائر العلوم، ويكفي في فضل الإنسان أن يكون من تلاميذها.

ومنها: مكتب يسمي «مكتب الفروع الفقهية» فيدرسون فيه أحكام المعاملات والجنايات ونحوها.

ومنها: مكتب موقوف على تعليم علم الرسم، فيدرس فيه الذكور والإناث علم التصوير.

ومنها: مكتب الغناء السلطاني فيتعلم فيه أيضًا الذكور والإناث علم الألحان الصوتية والغناء الكنائسي.

ومنها: مكتب موقوف أيضًا على الرسم والرياضيات، لتكون وسائل للفنون، فيتعلم فيه الحساب، والهندسة، والقياس، ونحاتة الحجر والخشب، وعلم المساحة، وتصوير البهيمة، والآدمي، والأزهار وأنواع الزينة.

ومنها: مكتب القناطر والجسور: وفيه يتعلم هندسة الطرق والخلجان والأرصفة.

ومنها: مكتب سلطاني لتعلم علم المعادن، وفيه يتعلم وسائط كشف المعادن واستخراجها.

ومنها: مدرسة الفنون والحرف يتعلم فيهما علما الكيمياء والهندسة الداخلان في الحرف والفنون، وفيها يوجد سائر آلات الصنائع الموجودة إلى هذا العصر.

ومنها: مكتب يسمى: مكتب اللغات المشرقية المستعملة، وفيه يتعلم الفارسي والماباري والعربية الأصلية والدارجة ولغة الترك والأرمن والروم.

ومنها: مكتب يسمى «مكتب الأرليغولوغي»٢٣ (يفتح الهمزة وسكون الراء وكسر اللام، وسكون الياء، وضم الغين واللام وكسر الغين الأخيرة) يعني تفسير الكلمات المكتوبة من قديم الزمان في اللغات القديمة، فيفسرون فيه النقود والمعاملات المكتوبة في الأزمنة السالفة والأحجار المنقوشة، وترجمة الهياكل القديمة المكتوبة.

ومنها: مكتب سلطاني يتعلم فيه تواريخ الدول وسياساتها ونحو ذلك.

ومنها: مكتب سلطاني للموسيقى والإنشاء، والخطابة، وفيه يتعلم أهل اللعب والغناء والآلاتية، من الذكور والإناث، وأهل التعلم به أربعمائة نفس.

ومنها: مدرسة بستان السلطان، التي هي بستان النباتات، وبها يقرأ ثلاثة عشر درسًا في جملة فروع؛ كعلم الحشائش، والطبيعيات، والكيميا، والمعادن، والتشريح، والمقابلة بين أجزاء بدن الآدمي والبهيمة.

ومنها: مكتب يسمى «مكتب البستنجية»٢٤ وفيه يتعلم علم زراعة الشجر، وحفظه من البرد وتطبيع٢٥ النباتات الغريبة المنقولة على إقليم المحل الذي نقلته إليه.

ومنها: مكتب تقليم الأشجار غير المثمرة لإخراج ثمرها.

ومنها: مكتب تعليم النباتات والمعادن لمن يريد السفر في بلاد ليميز نباتها ومعدنها.

ومنها: مكتب يسمي: «طب البهائم»،٢٦ وفيه يتعلم تطبيب البهائم، وفيه مارستانات للحيوانات المريضة، وفيه مدرسة كيميا، ومدرسة لعلم الطبيعة، وفيه العقاقير، وبستان حشائش، ومكتب للفلاحة العملية، وجملة أجناس من البهائم، معدة لتجربة اختلاف أصناف البهائم وأصولها، فيطلقون فيه صنفًا مثلاً من الخيل على صنف آخر، كحصان عربي على حجرة٢٧ أندلسية ليتولد منها صنف آخر.

ومنها: مكتب الصم البكم، وهو موقوف على مائة نفس، ويدخلون فيه من إحدى عشرة إلى ست عشرة، فيتعلم فيه القراءة والكتابة، والحساب واللسان، والتاريخ، والجغرافيا، وصنعة من الصنائع، وفي هذا المكتب (ورشة) يتعلم فيها علم الطباخة، والنقاشة، والنجارة والخراطة والخياطة، (والصرماتية) ونحوها.

وزمنها: مكتب العميان السلطاني، وهو موقوف على جملة محصورة من العميان، فيتعلمون القراءة على شيء مكتوب لهم كتابة مخصوصة فيمسونها باليد، ويتعلمون أيضًا علم الجغرافيا، على خرطات مخصوصة أيضًا، ويتعلمون التاريخ واللغات، والرياضيات، والموسيقى بالصوت وبالآلة، وغير ذلك من الحرف كشغل الجرابات ونحوه.

وغير ما ذكرناه يوجد أيضًا عدة مدارس.

ويوجد في «باريس» أيضًا مكاتب تسمى: «البنسيونات» جمع «بنسيون» (بفتح الباء وسكون النون، وكسرالسين، وضم المثناة التحتية، وسكون الواو) وهي مكاتب يتعلم فيها الصغار الكتابة والقراءة وعلوم الآلات كالحساب، والهندسة، وغيرها، كالتاريخ، والجغرافيا، وهي نحو مائة وخمسين (بنسوينا) وفيها أكل الإنسان، وشربه، ونومه، وغسل ثيابه، ونحو ذلك، فيدفع أهالي الأولاد قدرًا معلومًا في السنة.

وغير البنسيونات المذكورة يوجد بيوت صاحبها عالم، فيأخذ عنده عدة أولاد، ليأكلوا معه، ويشربوا معه، ويعلمهم بنفسه، أو يحضر لهم معلمين عنده.

وغير هذا كله فكثير من الناس يحضر لأولاده المعلم في البيت كل يوم ليعلمهم عهده.

ومن الأشياء التي يستفيد منها الإنسان كثير الفوائد الشاردة التذاكر اليومية المسماة: «الجرنالات»،٢٨ جمع «جرنال» وهو يجمع اللغة الفرنساوية على «جرنو» وهي ورقات تطبع كل يوم، وتذكر كل ما وصل إليهم علمه في ذلك اليوم، وتنشر في المدينة وتباع لسائر الناس، وسائر أكابر «باريس» يرتبونها كل يوم، وكذلك سائر القهاوي، وهذه «الجرنالات» مأذون فيها لسائر أهل فرنسا أن تقول ما يخطر لها، وأن تستحسن وتستقبح ما تراه حسنًا أو قبيحًا، وأن تقول رأيها في تدبير الدولة، فلها حرية تامة، ما لم تضر بذلك، فإنه يحكم عليها وتطلب بين يدي القاضي.

«والجرنو» عصب، فكل جماعة لها في رأيها مذهب كل يوم تقويه وتحاميه، وتؤيده، ولا يوجد في الدنيا أكذب من «الجرنالات» أبدًا خصوصًا عند الفرنسيس الذين لا يتحاشون الكذب إلا من حيث كونه عيبًا.

وبالجملة فكتاب «الجرنو» أسوأ حالاً من الشعراء عند تحاملهم أو محبتهم.

«والجرنالات» مختلفة الأنواع والأصناف، فمنها ما هو معد لذكر أخبار داخل مملكة الفرنسيس وخارجها، ومنها ما هو مخصوص بأمور المملكة فقط، وما هو للمعاملات وما هو للطب. ولكل علم على حدته؛ كعلم الطب إلى آخره.

والجرنال الواحد ينطبع منه غالبًا للبيع خمسة وعشرون ألف نسخة، وكل جرنال تكثر نسخه على حسب رغبة الناس، وأرباب «الجرنو» يعرفون الأخبار الغريبة قبل غيرهم؛ لأن لهم مراسلات مع سائر البلاد، وهم في الواقع كخطباء الأمة يتعرضون للمدح والذم، والاستحسان والاستقباح، والتحسين والتقبيح، والإغراء والتحذير، إلى غير ذلك، وقبلهم في ذلك المؤلفون، وربما اتخذ المؤلفون خطابات أرباب «الكازيطات»،٢٩ مادة لهم وأعلى درجة منهم أرباب الخطابات بالجمعيات العمومية الذين هم من أعضاء المجالس، وهم أعلى طبقة في الاعتبار من الشعراء، فإذا نظرت وجدت هذا على نسق العرب في قديم الزمان، فقد قال أبو عمرو بن العلاء ما نصه: «كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب؛ لفرط حاجتهم إلى الشعر، الذي يقيد عليهم مآثرهم٣٠ ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم، ومن غزاهم، ويهيب٣١ من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابُهم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبه ورحلوا إلى السوقة، وتشرعوا٣٢ إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر؛ ولذلك قال الأول: الشعر أدنى مروءة السري٣٣ وأسرى٣٤ مروءة الدنيّ، ولقد وضع٣٥ قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده إلا رفعة.
ومن جملة علوم «باريس» الدفاتر السنوية، والتقويمات الجديدة، والزيجات٣٦ المصححة، ونحو ذلك، فكل سنة يظهر فيها كثير من (الروزنامات) المشتملة على التواقيع وعلى غرائب العلوم والفنون، وعلى كثير من أمور الدولة، وعلى تسمية أكابر الدنيا، وتسمية أعيان فرنسا، وتعيين بيوتهم ودرجاتهم ووظائفهم، فإذا احتاج الإنسان إلى اسم واحد، وإلى بيته راجع في ذلك الكتاب.

وفي «باريس» (أوض) القراءة أو خلوات القراءة، فيذهب الإنسان فيها، ويدفع قدرًا معلومًا، ويقرأ سائر «الجرنالات» وغيرها من الكتب، ويستأجر منها ما يحتاجه من الكتب ويأخذه عنده ويرجعه.

ومما يبهر العقول في باريس دكاكين الكتبية وخاناتهم، وتجارات الكتب، فإنها من التجارات الرائجة مع كثرتها وكثرة المطابع، وكثرة التآليف التي تنطبع كل سنة فإنها يعسر حصرها، وأغلبها المقصود منه الكسب لا النفع، ولا تمر سنة بمدينة «باريس» إلا ويخرج من المطبعة كتب معدومة النظير، واغتناؤهم بالمعارف هو أحسن ما ينبغي أن يمدحوا بهن قال الشاعر:

إذا شئت أن تحظى من الكتب كلها
بأطيب مروي وأحسن مسموع
فطالع مجاميع الدفاتر، إنها
تفرق من همِّ الفتى كل مجموع

وقال آخر:

اجعل جليسك دفترًا في نشْره
ليريك من حكم الزمان نشورا
ومفيد٣٧ آداب، ومؤنس وحشة
وإذا انفردت فصاحبًا وسميرا

وبالجملة فلا يمكن وصف مدينة «باريس» مع تفصيل علومها وفنونها، إلا أنه يمكن التعبير عن ذلك إجمالاً كما ذكرنا.

١  في الأصل (هذا).
٢  تورك: اعتمد.
٣  عين نجلاء: واسعة جميلة.
٤  الغِيل: الشجر الكثير الملتف، والغَيَل: جمع غيلة، وهي القتل خدعة.
٥  الكلل: جمع كلة، وهي الستر الرقيق.
٦  Arsenal la Bibliothéque.
٧  Mazarine.
٨  Bibliotheque de L’Institut.
٩  La Bibliotheque du Jardin des Plantes.
١٠  Bibliotheque de L’Academie Fançaise.
١١  يريد الطب البيطري: “Les musées”.
١٢  غشيمة أي: غفلا، خامًا.
١٣  l’Observatiere Royal.
١٤  Anémomètre.
١٥  الفنون الجميلة  Les Beaux Arts يريد بها.
١٦  يريد الأمثال.
١٧  Les Beaux Arts.
١٨  La Socièté philomathique.
١٩  La Société Asiatique.
٢٠  التقاويم.
٢١  Collége.
٢٢  L’Eçole polytechnique.
٢٣  L’Ecole de L’archéologie.
٢٤  البستنجية: البستانيين — يريد علم فلاحة البساتين.
٢٥  التطبيع: جعلها تتطبع بحالة الإقليم الجديد.
٢٦  يريد الطب البيطري.
٢٧  الحِجرة بكسر الحاء: الأنثى من الخيل.
٢٨  المصحف Jis Journaux.
٢٩  الكازيطات Gazettes هي الصحف.
٣٠  في الأصل: باثرهم — تحريف.
٣١  هيب إلى فلان: جعله مهيبًا عنده.
٣٢  يريد: اتخذوا إلى أعراض الناس طريقًا.
٣٣  السّريّ: صاحب الشرف والمروءة.
٣٤  أسرى: أشرف.
٣٥  وضع من فلان: حط من قدره.
٣٦  الزيجات: التقاويم.
٣٧  الأصل: «معيد» وهو تحريف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤