الفصل الثالث

في تغريب الوالي لنا في الشغل والاجتهاد

جرت عادته من مدة خروجنا من مصر بأنه كان يبعث لنا «فرمانًا» كل عدة أشهر، يحثنا فيه على تحصيل الفنون والصنائع، فمن هذه «الفرمانات» ما كان من باب ما يسمى عند العثمانية إحياء القلوب مثل الفرمان الآتي، ومنها ما كان من باب التوبيخ على ما كان يصله منا ويبلغه عنا من بعض الناس حقًا أو غير ذلك، (كفرمان) آخر وصلنا قبل رجوعنا إلى مصر القاهرة، ولنذكر لك هنا (فرمانًا) من النوع الأول الذي هو إحياء القلوب، وإن كان فيه أيضًا شائبة توبيخ لتعلم كيف كان يحثنا على التعليم، وهذه صورة ترجمته:

قدوة الأماثل الكرام (الأفندية) المقيمين في «باريس» لتحصيل العلوم والفنون زيد قدرهم.

ينهي إليكم أنه قد وصلنا أخباركم الشهرية والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم، وكانت هذه الجداول المشتملة على شغلكم ثلاثة أشهر مبهمة لم يفهم منا ما حصلتموه في هذه المدة، وما فهمنا منها شيئًا وأنتم في مدينة مثل مدينة «باريس» التي هي منبع العلوم والفنون، فقياسًا على قلة شغلكم في هذه المدة عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم، وهذا الأمر غمنا غمًا كثيرًا، فيا (أفندية) ما هو مأمولنا منكم، فكان ينبغي لهذا الوقت أن كل واحد منكم يرسل لنا شيئًا من أثمار شغله وآثار مهارته، فإذا لم تغيروا هذه البطالة بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة، وجئتم إلى مصر بعد قراءة بعض كتب فظننتم أنكم تعلمتم العلوم والفنون، فإن ظنكم باطل فعندنا ولله الحمد والمنة رفقاؤكم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة، فكيف تقابلونهم إذا جئتم بهذه الكيفية، وتظهرون عليهم كمال العلوم والفنون، فينبغي للإنسان أن يتبصر في عاقبة أمره، وعلى العاقل ألا يفوِّت الفرصة، وأن يجني ثمرة تعبه، فبناء على ذلك أنكم غفلتم عن اغتنام هذه الفرصة، وتركتم أنفسكم للسفاهة، ولم تتفكروا في المشقة والعذاب الذي يحصل لكم من ذلك، ولم تجتهدوا في كسب نظرنا وتوجهنا إليكم، لتتميزوا بين أمثالكم، فإن أردتم أن تكتسبوا رضاءنا فكل واحد منكم لا يفوّت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون، وبعد ذلك كل واحد منكم يذكر ابتداءه وانتهاءه كل شهر، ويبين زيادة على ذلك درجته في الهندسة، والحساب، والرسم، وما بقي عليه في خلاص هذه العلوم، ويكتب في كل شهر ما تعلمه في هذا الشهر زيادة على الشهر السابق، وإن قصرتم في الاجتهاد والغيرة فاكتبوا لنا سببه، وهو إما من عدم اعتنائكم، أو من تشويشكم، وأيّ تشويش لكم هل هو طبيعي أو عارض؟ وحاصل الكلام أنكم تكتبون حالتكم كما هي عليه حتى نفهم ما عندكم، وهذا مطلوبنا منكم، فاقرءوا هذا الأمر مجتمعين، وافهموا مقصود هذه الإرادة.

قد كتب هذا الأمر في ديوان مصر، في مجلسنا في إسكندرية، بمنّه تعالى: فمتى وصلكم أمرنا هذا فاعملوا بموجبه، وتجنبوا وتحاشوا عن خلافه (خمسة في ربيع الأول، سنة ١٢٤٥) خمسة وأربعة بعد الألف والمائتين من الهجرة، انتهت صورة المكتوب.

ومن وقت هذا المكتوب صرنا نكتب كل شهر جميع ما قرأناه وما تعلمناه في ذلك الشهر، ويكتب تحته المعلمون أسماءهم ويبعثونه إلى الوالي، فلما تساهل بعض منا في ذلك كتب «مسيو جومار» إلينا جميعًا مكاتيب، ليأمر من كان مواظبًا على كتابة هذه الأوراق في كل شهر أن يدوم على مواظبته، ويوبخ من تساهل، وهذه صورة ترجمة المكتوب الذي أرسله إلي في هذا المعنى، ولنذكره كما هو:

إلى محبنا العزيز الشيخ رفاعة:

لا يخفى عليكم الأمر الوارد من الوالي المتعلق بالأوراق الشهرية، المشتملة على الدروس التي قرأتموها، فدم على ما أنت عليه من المواظبة، وابعث هذه الأوراق في اليوم الثلاثين كل شهر «لمسيو المهردار أفندي» واطلب منه أوراقًا غير مكتوبة، ولتكتبها بعد ذلك، ومن المعلوم أن هذه الورقة الشهرية لا تأخذ في كتابتها إلا نصف ساعة؛ لأن الغرض منها مجرد ضبط عدد الدروس التي قرأتها، ومعرفة نوعها، وليكتب رئيس مدرستك في كل شهر في الورقة الشهرية تحت اسمك، ولا يخفى علي اجتهادك، ولا أجهل قدر ثمرة تحصيلك، فاطلب منك أن تواظب على توفية الحقوق التي كلفت بها، واعلم وتيقن بمحبتي لك.

جومار
أحد أرباب ديوان الأنسطيطوت
باريس ١٥ في شهر يونيه ٢٥ في شهر محرم سنة ١٢٤٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤