الفصل الرابع

في بعض مراسلات بيني وبين بعض من كبار علماء الفرنساوية غير مسيو جومار

فمن كاتبني عدة مرات «مسيو دساسي» ولنذكر لك بعض مكاتيبه، فمنها ما كتبه باللغة العربية، ومنها ما كتبه باللغة الفرنساوية.

صورة مكتوب منه:

من الفقير عليّ — رحمه ربه سبحانه وتعالى — إلى المحب العزيز المكرم، والأخ المعز المحترم الشيخ الرفيع رفاعة الطهطاوي، صانه الله — عز وجل — من كل مكروه وشر، وجعله من ذوي العافية وأصحاب السعادة والخير.

أما بعد: فإن القطعة التي أكملت المطالعة فيها من كتابك النفيس، وحوادث إقامتك في باريس رددتها إليك على يد غلامك، ويصلك صحبتها حاشية مني على ما تقوله في باب تصريف الفعل في لغتنا الفرنساوية، فإذا نظرت فيها تبين لك صحة ما نستعمله من صيغة الفعل الماضي، فمن الواجب عليك أن تصنف كتابًا يشتمل على نحو اللغة الفرنساوية المتداولة عند أمم أوروبا كلها وفي ممالكها؛ حتى يهتدي أهل مصر إلى موارد تصانيفنا من فنون العلوم والصناعات ومسالكها، فإنه يعود لك في بلادك أعظم الفخر.

ويجعلك عند القرون الآتية دائم الذكر، ودمت سالمًا.

كتبه المحب سلوستري دساسي

صورة مكتوب آخر:

إلى حبيبنا الشيخ رفاعة الطهطاوي، حفظه الله، وأبقاه. أما بعدك فإنه سيصلك مع هذا ما طلبته منا من الشهادة بأننا قرأنا الكتاب المشتمل على حوادث سفرك، وكل ما أمعنت فيه النظر من أخلاق الفرنساوية وعوائدهم وسياساتهم وقواعد دينهم وعلومهم وآدابهم وجدناه مليحًا مفيدًا يروق الناظر فيه، ويعجب من وقف عليه، ولا بأس أن نعرض خط يدنا على "مسيو جومار" وإن شاء الله يحصل لك بمصنفك هذا حظوة عند حضرة سعادة الباشا وينعم عليك بما أنت أهله ودمت على أحسن حال.

محبك الداعي: سلوستري دساسي الباريزي
وصحبة هذا المكتوب أرسل إلي ورقة باللغة الفرنساوية لأطلع عليها «مسيو جومار» وهي بالتقريظ أشبه، وصورة ترجمتها.

لما أراد مسيو رفاعة أن أطلع على كتاب سفره باللغة العربية قرأت هذا التاريخ إلا اليسير منه، فحق لي أن أقول: إنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وأن منه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهمًا صحيحًا عوائدنا وأمورنا الدينية والسياسية والعلمية، ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية ومن هذا الكتاب يعرف علم هيئة العالم وبه يستدل على أن المؤلف جيد النقد، سليم الفهم، غير أنه ربما حكم على سائر أهل فرنسا بما لا يحكم به إلا على «أهل باريس» والمدن الكبيرة، ولكن هذه نتيجة متولدة ضرورة من حالته التي هو عليها، حيث لم يطلع على غير «باريس» وبعض المدن.

وقد حرص١ باب العلوم على ذكر المعلومات توطئة للتوصل إلى المجهولات خصوصًا في نبذته المتعلقة بعلم الحساب، وبهيئة الدنيا.

وعبارة هذا الكتاب، في الغالب وضاحة غير متكلف فيها التنسيق، كما يليق بمسائل هذا الكتاب، وليست دائمًا صحيحة بالنسبة لقواعد العربية، ولعل سبب ذلك أنه استعجل في تسويده، أنه سيصلحه عند تبيضه وفي التكلم على علم الشعر ذكر استطرادًا بعض أشعار عربية أجنبية من موضوع هذا الكتاب، على ما يظهر لي، لكنه ربما أعجب ذلك إخوانه من أهل بلاده، وفي الكلام على تفضيل الصورة المدورة على غيرها من الأشكال، ذكر بعض أشياء قليلة الجدوى فينبغي له حذفها، وما ذكرت هذه الأشياء وبينتها هذا التبيين إلا للإعلام بأني دققت النظر في قراءاتي هذا الكتاب.

وبالجملة فقد بان لي أن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكن منها كل التمكن؛ حتى تأهل لأن يكون نافعًا في بلاده، وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس، وله عندي منزلة عظيمة، ومحبة جسيمة.

البارون سلوستري دساسي:
باريس في شهر فبريه سنة ١٨٣١ (١٩ في شعبان سنة ١٢٤٦)
و(هذه) صورة ترجمة مكتوب كتبه لي قبيل خروجي من مدينة «باريس».

بعد إهداء السلام إلى مسيو رفاعة، يحصل لي حظ عظيم إذا جاء عندي يوم الاثنين الآتي، والساعة في ٣ إن أمكنه أن يسرني برؤيتي له لحيظات لطيفة، ويحصل لي أيضًا غاية الانبساط؛ إذا بعث لي أخباره بعد وصوله إلى القاهرة، فإذا لم يتيسر لي رؤيته طلبت له طريق السلامة، ولا أزال أتذكر دائمَا آثاره، وأستنشق أخباره، مع انجذاب قلب، وانشراح صدر.

البارون سلوستري دساسي
وصورة ما كتبه «مسيو كوسين دي برسوال» مدرسا للغة العربية المتداولة في المحاورات، المشهورة باسم الدارجة عند العامة، بدار كتب خانة السلطانية «بباريس» وكنت كتبت له أن يبعث لي رأيه في هذه الرحلة، فكتب هذا الجواب، وصورته:

حضرة المحب العزيز الأكرم، الفصيح اللسان والقلم، جناب الشيخ رفاعة المحترم، حفظه الله آمين.

بعد إهدائكم جزيل السلام، ومزيد التحية والإكرام، فقد ورد علينا عزيز مكتوبكم البارحة، فبادرنا بقضاء حاجتكم، فواصل لكم طيَّة تحرير تحتوي على رأينا في كتاب حوادث سفركم الذي تفضلتم علينا باطلاعنا عليه، وبالحقيقة قلنا مثل ما هو اعتقادنا وشرحنا ما وجدنا فيه من المحاسن، وأما بخصوص المذام فما لقينا من ذلك شيئًا.

وحيث أنكم عازمون على السفر في آخر هذا الشهر، فالمأمول من حسن محبتكم أنكم بعد وصولكم بالسلامة إلى بلادكم لا تحرمونا من خاطركم، وتواصلونا بالإعلام بصحتكم، ونترجاكم أيضًا أنه إذا طبع كتابكم تبعثوا٢ لنا منه نسخة، وبذلك تصيرونا٣ ممنونين، ولأفضالكم شاكرين، والله تعالى يحفظكم والسلام.
محبكم كوسين دي برسوال
٢٤ شباط سنة ١٨٣١
والمراد بطيه التحرير ورقة شهادته بأنه اطلع على هذا الكتاب، وقال رأيه فيه. وصورة ترجمة هذه الطية التي كتبها لمسيو جومار باللغة الفرنساوية ليخبره برأيه في هذه الرحلة:

قرأت بالتأمل مؤلف الشيخ رفاعة الملقب بتخليص الإبريز في تلخيص باريز، فوجدته يتضمن حكاية صغيرة في سفر المصريين المبعوثين إلى فرنسا من طرف وزير مصر الحاج محمد علي باشا، وتشتمل على تخطيط مدينة باريز، وعلى نبذات موجزة في جملة فروع من العلوم المطلوبة التعليم من هؤلاء التلامذة، وقد ظهر لي أن هذا التأليف يستحق كثيرًا من المدح وأنه مصنوع على وجه يكون به نفع عظيم لأهالي بلد المؤلف، فإنه أهدى لهم نبذات صحيحة من فنون فرنسا، وعوائدها، وأخلاق أهلها، وسياسة دولتها، ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية والفنون النافعة أظهر التأسف على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد عندهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي، والترقي في صنائع المعاش، وما تكلم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها، أراد أن يذكر به لأهالي بلده أنه ينبغي لهم تقليد ذلك، وما نظر فيه في بعض العبارات يدل في الغالب على سلامة عقله، وخلوّه من التعسف والتحامل.

وعبارة هذا الكتاب بسيطة أي غير متكلف فيها التنميق، ومع ذلك فهي لطيفة، وحين كان نسخة هذا الكتاب بيدي كان الجزء الذي يتعلق بالعلوم والفنون غير تام، فما رأيت منه إلا نبذة في الرياضيات، وعلم هيئة الدنيا، ومبادئ أصول الهندسة، والجغرافيا الطبيعية، فهذه النبذات وإن كان موجزة إلا أنها مشبعة.

فيترجى أن المؤلف يدوم على تأليف النبذات الباقية بهذه المثابة، وإذا اجتمعت هذه النبذات في الكتاب هذا فإنها تكون كتاب علوم مستقل، مفتاحًا لغيره من العلوم نافعًا لأهل العربية، وإذا فرغ الكتاب بهذه الطريقة فإنه يستدل به على رفعة عقل مؤلفه، واتساع دائرة معرفته.

كوسين دي برسوال

فإذا قابلت هذا المكتوب مع ما تقدم رأيت أن «مسيو دساسي» و«مسيو كوسين» اتفقا على حسن هذا الكتاب، وعلى بساطة عبارته، أي عدم التأنق فيها، وعلى نفعه لأهل مصر.

وإنما «مسيو دساسي» عابه بثلاثة أشياء: الأول: اشتماله على بعض مسائل يعتقد أنها من أوهام الإسلام، الثاني: جعلنا ما ينسب لمدينة «باريس» وغيرها من المدن عامًا لسائر بلاد فرنسا، الثالث: ذكرنا بعض أشياء قليلة الجدوى عند تفضيل الشكل المدور على غيره من الأشكال.

وأما «مسيو كوسين» فإنه لم يتعرض لما جعله «مسيو دساسي» من باب الأوهام، ولما تحدثت معه في شأن ذلك أجابني بأنه لم ير ذلك مضرًا؛ حيث إني كتبت على ما هو في اعتقادي، وإلا لو تتبعت ما قاله الإفرنج، ووافقت آراءهم للحياء أو غيره لكان ذلك محض موالسة، وأما قول «كمسيو دساسي»: إن عبارة في هذا الكتاب بسيطة فمعناه أن تراكيبه لم يحاول فيها سلوك طريقة البلاعة: يقال عند علماء الفرنساوية، عبارة بسيطة في مقابلة العبارة البليغة.

ولنذكر لك هنا رسالة من شخص كان بيني وبينه محبة أكيدة، وصورة اجتماعي لهذا الشخص أني دخلت مكتبه لقراءة «الكازيطات» أي الوقائع اليومية، فتعرفت بهذا الشخص الذي هو (محاسبجي) في وزارة الخزينة المالية، وأخوه مأمور «دبرطمانة٤ «يعني إقليمًا من أقاليم الفرنساوية، وهو من بدنة عظيمة، تسمى: «السلادانية» نسبة إلى «سلادان» يعني صلاح الدين يتوهمون أنهم ينتسبون (ص ١٥٧) إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي، قائلين: إنه يحتمل أن يكون حين محاربته مع الإفرنج تسرّى بفرنساوية، فحملت منه، ثم انطلقت إلى بلادها، فبقي الاسم في أولادها وذراريها إلى الآن، ثم إني كما تعرفت به تعرفت بسائر أقاربه، وما زلت معهم على الصحبة الأكيدة مدة إقامتي في «باريس»، فلما سافرت كان عند أخيه المأمور في إقليم الترك في مدينة يقال لها «البي» فأرسل إليَّ هذا المكتوب، وهذه صورة ترجمته، مع بعض حذف جائز.

إلى حضرة عزيزنا الشيخ رفاعة

قد سلمت أمانتك لابن شيخ المأمورية، ليعطيها لك، فانتظرها بعد وصول هذا المكتوب بزمن يسير، وقد وكلني أخي بأن أخبرك بثنائه عليك على ما صنعته معه من الجميل في إعارتك له هذه الأمانة، وأن أهنيك على بلوغك المأمول.

هل عن قريب تفارقنا لترى وطنك العزيز؟ فإن شاء الله تجتمع بما تركته فيه من الأقارب والأحباب، وتجده بخير، فقد بلغني أن سفرك قد قرب جدًا، حتى إنني لا أظن أن أقابلك في مدينة «باريس» ولكن لو سافرت قبل هذا الزمن بيسير لاجتمعنا في مرسيليا وودعتك في آخر مدينة من مدن الفرنساوية تعبر فيها في سفرك، ولو تأخر سفرك مدة يسير لافترقنا في مدينة «باريس» التي كان بها أول اجتماعنا، ولا أدري إن التلاقي مقدرًا أم لا، ولكن تقلبات الدهر كثيرة، خصوصًا للإفرنج، فلا يمكنني أن أجزم بعدم الاجتماع، وبالجملة فلا شك أنك تركت في فرنسا صديقًا يتذكرك، ويتأثر لك بما يقع لك من النفع والضر، ويسر غاية المسرة إذا بلغه أنك تحظى في بلادك بثمرة فضلك وأوصافك، وليت شعري ترجع إلى بلادك بأي اعتقاد في طبيعة الفرنساوية، وقد رأيت هذه الملة في وقت ينبغي أن يكون تاريخًا من غرائب سيرها، وأظن أنك تسأل في بلادك مرارًا عديدة عن هذه الفتنة العظيمة، ونصرة الفرنساوية في طلب الحرية.

فإذا وقع اتفاقًا أن سفرك توقف مدة أيام فمأمولي أن أراك في مدينة «باريس» وإلا فأرجو منك ألا تسافر حتى تودعني بلسان القلم بمحبتي لك غاية المحبة.» انتهت صورته.

جول سلادان.
وهذه صورة مكتوب تفهم منه أيضًا رغبة الفرنساوية في تحصيل الكتب الغريبة وترغيبهم للمؤلفين أو المترجمين في ترجمة الكتب وتأليفها، وهذه صورة ترجمة هذا المكتوب:
إلى مسيو الشيخ رفاعة: قد حملني «مسيو دبنغ» أن أسأل عن ترجمتك لكتاب العلوم الصغير المشتمل على أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم؛ لأن «مسيو دبنغ» مؤلف هذا الكتاب، فإذا كانت ترجمتك تنطبع في مصر هل٥ يتيسر لمؤلف الأصل أن يقيد السمع لتحصيل عدة نسخ من نسخ هذا الكتاب بالشراء، ونعرفك أنك تخبرنا إلى أي محل وصلت في الترجمة من المجلد الأول من جغرافية ملطبرون، فإن هذا الجزء الآن يطبع طبعًا آخر مصححًا مشتملاً على زيادات لا توجد في الأول فلا بأس أن نحيطك به علمًا، فإنه يكمل طبعه في أثناء هذا الشهر، ومني إليك مزيد التحية.
محبك الصادق: رنو
بخزانة الكتب السلطانية بباريز
١  في الأصل: (أحرص) تحريف.
٢  الصواب: تبعثون.
٣  الصواب: تصيروننا.
٤  Département أي غليم.
٥  الصواب: فهل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤