الفصل الخامس

فيما حصل للوزراء الذين وضعوا خطوط أيديهم على الأوامر السلطانية التي كانت السبب في زوال مملكة الملك الأول الذي فعل فعلته، وفي العواقب لم ينظر، وطمع بما لم يظفر

كما قال الشاعر:

إن النفوس على اختلاف طباعها
طمعت من الدنيا بما لم تظفر

اعلم أن الفرنساوية بعد هذه الفتنة اهتموا غاية الاهتمام بالتفتيش على الوزراء الذين كانوا السبب في ذلك، وأيضًا فإنه بمقتضى القوانين أن الوزراء يضمون ما يقع في المملكة من الخلل فهم المحاسبون دون الملك: وليس على الملك شيء أصلاً، فحملهم ثقيل، ووظيفتهم شاقة التحمل، فعليهم الوزر في كل ما يحدث، قال الشاعر:

يتداول الناس الرياسة بينهم
وأريد حظهموا فلا أسطيع
وأكلف العبء الثقيل وإنما
تبلى به الأتباع لا المتبوع
فعليهم الأثقال يرمى حملها
وعلى الرئيس الختم والتوقيع
فبرزت الأوامر في جميع طرق البلاد أن يوقفوهم إذا مروا عليهم، وقد قلنا: إن رئيس الوزراء كان «بولنياق» فمسك من الوزراء أربعة منهم هذا الأمير المذكور، وصورة القبض عليه: إنهم وجوده خارجًا من بلاد فرنسا في صورة خادم لامرأة عظيمة، فعرفوه، وأوقفوه وخفره الخفر الموجود في الطريق خوفًا من الرعية، ثم اعلموا بذلك الديوان في «باريس» فكتب هو مكتوبًا إلى ديوان مشورة «البير» وقد كان من رجال المشورة يقول فيه: إنه لا معنى للقبض عليه؛ حيث إنه من أهل هذا الديوان، واحتج بالمادة الرابعة والثلاثين من الشرطة، لا يمكن أن يحبس أحد من أهل ديوان «البير» إلا بأمر أهل ذلك الديوان، ولا يمكن أن يحكم عليه غيرهم في مواد الجنايات، فما كان جوابهم إلا أنهم اجتمعوا وقرءوا مكتوبه ثم تشاوروا فكانت خلاصة المشورة الإذن بالقبض عليه وحبسه؛ حتى يحكموا عليه، فجيء به إلى بلدة «ونسينه»١ بقرب «باريس»، وحبي في قلعتها، ثم قبض على الثلاثة الأخر وحبسوا معًا من غير أن يحصل لأحد منهم شيء من الترذيل أبدًا مدة حبسه، ثم أنهم مدة حبسهم بنوا لهم محلاً عظيمًا في ديوان مشورة «البير» لتسمع دعواهم فيه وجعلوه بناء متينًا وثيقًا على صورة عظيمة، حتى لا يمكن للرعية الهجوم عليهم لأذيتهم ولا لأحبابهم أن يخلصوهم من الحبس، وكلفوا ذلك أموالاً لها وقع عظيم ثم جاءوا بهم إلى هذا المكان وحبسوهم في محل منه، وصاروا يأتون بهم كل يوم وكانت دعوتهم من أعظم ما يتعلق غرض الإنسان بسماعه.
ومن أجل ما يدل دلالة قطعية على تمدن الفرنساوية وعدل دولتها: ولنذكر لك بعض شيء منها فنقول:

اعلم أن ملك الفرنسيس الجديد لما تولى تعلقت إرادته بعزل سبعين رجلاً من أهل مشورة «البير» الذين كان ولاهم «شرل العاشر» الملك السابق ثم سمى منهم تسمية جديدة من كان على غرضه فلو كان هؤلاء السبعون (فضلوا) من أهل الديوان لكانوا يحامون عن الوزراء، فكان غالب أهل ديوان مشورة «البير» أعداء لهم إلا أن التمسك بالقوانين، وطيب نفوسهم في الجملة وعدم ميلهم بالطبيعة إلى الظلم كان سببًا في نجاة الوزراء المذكورين، ومما يتعجب منه أن الوزير «بولنياق» حين القبض عليه أراد أن يختار واحدًا يحامي عنه من العارفين بالأحكام، فلم يختر إلا «مرتنياق» أحد الوزراء المعزولين قبله ليس بينه وبينه وصلة ولا محبة، وأعجب من ذلك أن الآخر الذي هو «مرتنياق» وفى بذلك مع غاية الأمانة التامة، وبذل ما عنده من المعارف لدفع الإيرادات عن موكله، وكذلك كل واحد من الوزراء المقبوض عليهم وكّل محاميًا لهم، ثم لما فتحوا الدعوى أرسلوا لكل واحد من الوزراء المحبوسين يطلبونه بخصوصه مع غاية الرفق واللين.

وكيفية أول ما يسأل به: ما اسمك؟ ما وصفك؟ ما منصبك؟ ما رتبتك؟ فيجيب بأجوبة هذه الأسئلة، ولو كانوا يعرفون ما ذكر ثم قالوا لكل واحد منهم: أتقر بأنك وضعت خط يدك تحت أوامر الملك؟ قال: نعم، ولأي شيء فعلت ذلك؟ فيجيب بأن الملك أراده، ولأي شيء أراد الملك فعل ذلك؟ وهل عزم عليه من قديم الزمان أو الآن فقط؟ وقد كان كل منهم يجيب في مثل هذه الأسئلة بقوله: لا أفشي سر ديوان حضرة الملك أصلاً، مع غاية التعظيم في المجلس لمليكهم المعزول ولم يتفوه أحد منهم بشيء من أسرار الديوان أبدًا، ولم يكرههم أحد على ذلك، ثم بعد سؤالهم وانتهائه، وكتب خلاصته جاء المحامون عنهم ومكثوا أيضًا عدة أيام، ليظهروا أن الوزراء بريئون من الذنوب وأن مقصدهم كان حسنًا، وهكذا، فبعد ذلك امتحنت المشورة جميع الدعوى، ثم قضت بما هذه صورته: من حيث إن الوزراء وضعوا خط أيديهم تحت الأوامر المخالفة لقوانين المملكة، ومن حيث إنهم هتكوا حرمة القوانين ومخالفتها، حكمت المشورة عليهم بالحبس الدائم، وتجريدهم من أوصاف الشرف وألقابه، وحكمت على «بولنياق» زيادة على ذلك بالموت الحكمي وهو تقريبًا نظير مسألة من انقطع خبره وحكم بموته القاضي باجتهاده، بعد مضي مدة لا يعيش فوقها غالبًا، والموت الحُكْمي عند الفرنساوية، ويقال له: «الموت المدني» هو أن يكون حكم الحي عندهم كحكم الميت في كثير من الأحوال، وهو أن المحكوم عليه بذلك يزول عنه جميع ما يملكه ليدخل تحت يد ورثته مثل ما إذا مات حقيقة، ولا يصح أن يرث غيره بعد ذلك: ولا أن يورث هو غيره الأموال التي ملكها بعد ذلك، ولا يمكنه أن يتصرف في أمواله جميعها أو بعضها بهبة أو وصية، ولا يجوز إهداؤه، ولا الوصية له إلا بالقوت، ولا يجوز أن يكون وليًا ولا وصيًا ولا شاهدًا في شهادة شرعية، ولا تقبل دعواه، ولا ينعقد نكاحه، بل ينفسخ نكاحه الأول، بالنظر للأحكام المترتبة عليه: ولزوجته وأولاده أن يصنعوا في أمواله أو في أنفسهم كما لو مات هو حقيقة، وبالجملة فهو حي ملحق بالموتى، ولكن لما كان هذا الوزير وأمثاله ممن يحكم عليهم بذلك من أعيان الناس، وكانت ذريته حسنة التربية، كان المحكوم عليه بذلك يبقى في العادة على ما كان عليه قبل الحكم؛ لكون عائلته تعتقد أن هذا من باب التعدي المحض، وأنه ناج بينه وبين مولاه، ولا تفارقه زوجته أصلاً؛ لاعتقادها أنها في عصمته باطنًا، ولو ولدت منه بعد ذلك ولدًا ورثه الإخوة معهم، وإن كان هذا خلاف الأحكام المترتبة على الموت الحكمي، ولما سمعت الرعية بذلك قاموا وقالوا لا بد من الحكم عليهم بالموت الحقيقي، فأخبرهم أهل الدولة أن هذا يناقض ما تطلبونه من الحرية والعدل والإنصاف، وإن كتاب القوانين لم يعين نوع عقوبة الوزراء إذا حصلت منهم خيانة، وإنما حكمت المشورة بالاجتهاد عقوبة لهم وزجرًا لأمثالهم، ويصلح في حقهم قول الشاعر:

فهم من المجد في حضيض
وهم من الجد في الروابي
وهم إذا فتشوا وعدوا
أعز من عودة الشباب
ثم ليلة أن حكم عليهم بذلك، قبل أن يطلعوهم على خلاصة المشورة أخرجوهم من هذا الحبس الذي كان بني لأجلهم، وخفروهم إلى قلعة «ونسينه»٢ فحبسوهم بها، ومنها نقلوهم إلى قلعة أخرى، وهم محبوسون بها إلى الآن، والحكم عليهم بهذه الكيفية، مما يدل على حسن أخلاق الدولة الفرنساوية.
١  Le Ville de Vincennes.
٢  Le chateau de vincennes.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤