الفصل السادس

فيما كان بعد الفتنة في سخرية الفرنساوية على «شرل العاشر» وفي عدم اكتفاء الفرنساوية بذلك

اعلم أنه جاء إلى الفرنساوية خبر وقوع بلاد الجزائر في أيديهم قبل حصول هذه الفتنة بزمن يسير، فتلقَّوا هذا الخبر من غير حماسة، وإن أظهروا الفرح والسرور به، فبمجرد ما وصل هذا الخبر إلى رئيس الوزراء «بولنياق» أمر بتسييب مدافع الفرح والسرور، ولقد صدق من قال:

وكم سرور طيَّه أحزان
لأجل هذا خُلِق الزمان

وصار يتماشى في المدينة كأنه يظهر العجب بنفسه؛ حيث إن مراده نفذ، وانتصرت الفرنساوية في زمن وزارته على بلاد الجزائر، فما كانت أيام قلائل إلا وانتصرت الفرنساوية عليه، وعلى ملكه نصرة أعظم من تلك، حتى إن مادة الجزائر نسيت بالكلية وصار الناس لا يتحدثون إلا بالنصرة الأخيرة: على أن حاكم الجزائر خرج منها بشروط، وأخذ منها ما يملكه، وملك الفرنسيس خرج من مملكته يتندم على ما وقع منه، وللزمان صروفٌ تدول، وأحوال تحول، وكان هذا هو عاقبته على غارته على بلاد الجزائر بأسباب واهية لا تقتضي ذلك، بل بمجرد إرضاء هوى النفس، وإذا نصر الهوى بطل الرأي.

مما وقع أن المطران الكبير لما سمع بأخذ الجزائر، ودخل الملك القديم الكنيسة يشكر الله — سبحانه وتعالى — على ذلك جاء إليه ذلك المطران ليهنيه على هذه النصرة، فمن جملة كلامه ما معناه: أنه يحمد الله — سبحانه وتعالى — على كون الملة المسيحية انتصرت نصرة عظيمة على الملة الإسلامية، ولا زالت كذلك — انتهى — مع أن الحرب بين الفرنساوية وأهالي الجزائر إنما هو مجرد أمور سياسية، ومشاحنات تجارات ومعاملات ومشاجرات ومجادلات، منشؤها التكبر والتعاظم.

ومن الأمثال الحكيمة: لو كانت المشاجرة شجرًا، لم تثمر إلا ضجرًا، فلما وقعت الفتنة كسر الفرنساوية بيت المطران بعد هروبه وخربوه، وأفسدوا جميع ما فيه حتى إنه تخفى، ولم يعلم له أثر ثم ظهر واختفى ثانيًا، وهجم على بيته ثانيًا، وما زال مذمومًا مخذولاً، وقال الشاعر:

لا تعجبنَّ رويدًا إنها دول
دنيا تَنَقَّل من قوم إلى قوم

إلى قوم ثم إن الفرنساوية لما رأوا أن «شرل العاشر» أخرج «باشا الجزائر» من مملكته أيضًا، صاروا يهزءون «بشرل العاشر»، ويصورونه هو وباشا الجزائر في الطرق، ويكتبون في وقائع النوادر تلميحات غريبة، ونكات ظريفة؛ فمن جملة ذلك أنهم صوروه هو والباشا المذكور وكتبوا تحت صورة باشا الجزائر: وأنت أيضًا.. جاءت نوبتك؟!! كأن الباشا يقول للملك استفهامًا ليهزءوا به: وأنت أيضًا عزلت كما عزلتني!

شعر:

فقل للشامتين بنا رويدًا
أمامكمُ المصائب والخطوب

وقال آخر:

الدهر يفترس الرجال فلا تكن
ممن تطيِّشه المناصب والرتب
كم نعمة زالت بأدنى زلة
ولكل شيء في تقلبه سبب

وكتبوا أيضًا في وقائع النوادر ما نصه: إن الباشا المذكور يقول «لشرل» العاشر: قم بنا نلعب لعب كذا، على قدر معلوم، وإن لم يكن معك شيء جمعنا لك شيئًا، على سبيل الصدقة من الناس! يشيرون بذلك إلى أن باشا الجزائر خرج من بلاده غنيًّا، و«شرل العاشر» خرج من بلاده فقيرًا، وصوروا أيضًا الملك المذكور في صورة الأعمى يتكفف الناس، ويقول في سؤاله: اعطوا بعض شيء للفقير الأعمى، يشيرون إلى أنه لم يتبصر في عواقب الأمور، وصوَّروه أيضًا هو ووزيره «بولنياق» خارجين من كنيسة إشارة إلى أنهما لا يفلحان إلا في هذه العبادة الباطلة، وإنهما قسوس لا أمراء، وكانوا يزعمون أن الملك كان يلبس في بعض الأحيان لبس القسيسين، ويقدس بالناس كالقسيس في كنيسته التي في (سرايته)، وكانوا يصيحون في البلدة بعد هذه الفتنة بورقات مطبوعة، فيها: عشق هذا الملك وفساده في صغر سنه، وفسق المطران الكبير، وهكذا، وبأن ابن ابنه ليس هو ابنًا حقيقيًا، وإنما هو ابن مزور، والعجيب أنهم كانوا يصيحون بهذه الأوراق ليبيعوها في ساحة بيت الملك الجديد، الذي هو من أقارب الملك، وأعجب من ذلك أنهم يكتبون في هذه الورقة: إن الملك الجديد هو الذي كتب ذلك سابقًا في «جرنالات» الإنكليز، بعد ولادة حفيد الملك القديم، ويصيحون بذلك، ولا أحد ينكر عليهم، لما أن حرية الرأي قولاً وكتابة تقضي بذلك.

وبعد تولية هذا الملك ظهرت عدة تعصبات عظيمة، منها من يريد عزله ونصب الجمهورية لعدم اكتفائه بالحرية وطلبه أزيد عن ذلك، ومنهم من تعصب لنصب الحكم القديم، وتولية حفيد الملك السابق.

وما زالت هذه الفتنة باقية الآثار إلى الآن، وربما تعدت آثارها إلى غيرها من البلاد.

فمن ذلك: الفتنة التي ترتب عليها انعزال إقليم البلجيك من مملكة الفلمنك، وقد كان جزءًا منها.

ومن آثارها أيضًا: طلب بلاد له الحرية والخروج من حكم الموسقوبية.

ومنها: الفتن التي وقعت في بلاد إيطاليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤