الفصل الثاني

في تقسيم اللغات من حيث هي وفي ذكر اصطلاح اللغة الفرنساوية

اعلم أن اللغة لما كانت ضرورية في أفهام السامع معنى يحسن سكوت المتكلم عليه وكانت لازمة في التفهيم والتفهم وفي المخاطبات والمحاورات، وجب عند جميع الأمم على المتعلم أن يبتدئ بها، ويجعلها وسيلة لما عداها، واللغة من حيث هي الألفاظ المخصوصة الدالة على المعاني المخصوصة، وطريقها الكلام والكتابة المختلفة باختلاف الأمم، وهي قسمان: لغات مستعملة، ولغات مهجورة؛ فالأول ما يتكلم بها الآن كلغة العرب، والفرس، والترك، والهند، والفرنسيس، والطليانية، والإنكليز، والإسبانيول، والنمسا، والموسقو، والثاني ما انقرض أهله واندثر ولم يبق إلا في الكتب مثل اللغة القبطية، واللاطينية، واليونانية العديمة المسماة بالإغريقية، ومعرفة هذه اللغات المهجورة في المخاطبات نافعة لمن أراد الاطلاع على كتب المتقدمين، في بلاد الإفرنج توجد مدارس مخصوصة معدة لتعلم هذه الألسن، لما يعلمُون من نفعها.

وكل لغة من اللغات لا بد لها من قواعد لتضبطها كتابة وقراءة، وتسمى هذه القواعد باللغة الطليانية «أغرماتيقا» وباللغة الفرنساوية «أغرمير» ومعناها تركيب الكلام، يعني علم ضبط اللغة من حيث هي، وهو مرادنا هنا فهو: علم به يعرف تصحيح الكلام والكتابة على اصطلاح اللغة المرادة الاستعمال، والكلام ما قصد به إفادة السامع معنى يحسن عليه السكوت، وهو يتركب من الكلمة، وأقسامها عند أهل اللغة العربية ثلاثة: الاسم، والفعل والحرف، والاسم إما مظهر نحو زيد، أو مضمر نحو هو، أو مبهم نحو هذا، والفعل إما ماض كضرب، أو مضارع كيضرب، أو أمر كاضرب، والحرف إما مختص بواحد من قسميه كمن وقد، أو مشترك بينهما كهل وبل.

وإنما قسمنا هذا التقسيم هنا؛ لأنه سيأتي لنا أن الفرنساوية عندهم الضمير واسم الإشارة قسيمان للاسم، ولا يعدان منه بوجه من الوجوه فإنهم جعلوا أجزاء الكلمة عشرة، كل واحد منها قسم مستقل له علامة وهي الاسم، والضمير وحرف التعريف والنعت والمشترك وهو أسماء المفعول والفاعل والفعل والظرف ويسمى عندهم مكيف الفعل، وحروف الجر وحروف الربط وحروف النداء والتعجب ونحوه، فيقولون في تعريف الاسم هو كلمة تدل على شخص أو شيء أي على العالم وغير العالم مثل زيد وفرس وحجر، وفي تعريف الضمير: هو ما يقوم مقام الاسم وحرف التعريف هو أيضًا عندهم لام التعريف كما عندنا إلا أنه يختلف باختلاف الاسم الداخل عليه، فإنه للمذكر «ل» بالضم، وفي المؤنث «ل» بالفتح، ولجمعيهما «لس». ولكن السين لا ينطق بها ويقولون في تعريف النعت هو ما يدل على الاتصاف بوصف من الأوصاف كحسن وجميل، فهو نظير الصفة المشبهة، وأما اسم الفاعل واسم المفعول فإنهما نحو ضارب ومضروب، والظرف عندهم مثله في لغة العرب، وحروف الجر مثل الظروف، وحروف الجر في اللغة العربية، فإذا قال الإنسان باللغة الفرنساوية: «جئت» قبل زيد وبعده، فإن قبل وبعد من حروف الجر عندهم، وإذا قال جاء زيد أولاً أو قبل أو نحو ذلك فإنه ظرف، وأما الحروف الروابط فإنهم يعرفونها بأنها ما تتوسط بين كلمتين أو جملتين نحو واو العطف في قولك جاء زيد وعمرو، ونحو أن قولك أؤمل أن أعيش زمنًا طويلاً، ومن هذا القسم إذن وحينئذ من نحو قولك أنت عاقل، فإذ أنت قابل للتعلم أو أنت فحينئذ قابل، وحروف النداء والتعجب ونحوها معلومة، وقواعد لغتهم يلزمها هذا التقسيم.

ويظهر أن قول بعضهم: أقسام الكلمة أو الكلام ثلاثة في سائر اللغات، وأن الحصر عقلي لعلة استغلالها المفهومية وعدمه، ودلالة ما استقل بالمفهومية على زمان وعدمها فيه بعض شيء.

ورأيت في كتب الفرنساوية من قسمها أولاً إلى هذه الأقسام الثلاثة، ثم قسمها تقسيمًا ثانويًا، فالحصر حينئذ عقلي على حاله.

ثم إن كل إنسان يعبر عن مقصوده إما بالكلام أو بالكتابة، فكلامه يسمى عبارة ومنطقًا، وتعبيره عن مقصوده بالكتابة يسمى نفسًا ومسطرة وقلمًا، فقد يكون قلم الإنسان أفصح من عبارته، فإنه قد يكون الإنسان ألكن، ويكون قلمه فصيحًا ثم إنه إذا أفصح وأغرب غرابة مقبولة كانت عبارته عالية، وإن كانت عبارته مؤدية للمقصود من غير ركاكة فهي مناسبة، وإن كان بها بعض شيء يمجه السماع فهي ركيكة أو رديئة، وعلى كلٍّ، فالعبارة إما بها إطناب أو اختصار أو على الأصل، ثم إن الكاتب إما أن يفصح عن مراده بنظم أو نثر، وعلى كل فإما أن يكون كلامه أو تأليفه باللغة المستعملة في المحاورات المسماة الدارجة أو باللغة الموافقة، فقواعد النثر هو الأصل في الكلام والتآليف، ولا يحتاج إلى وزن تقفية إلا في السجع، وهو لسان العلوم والتاريخ والمعاملات والمراسلات والخطابات ونحو ذلك؛ ولاتساع اللغة العربية كان بها كثير من كتب العلوم منظومًا، وأما لغة الفرنسيس فلا ينظم فيها كتب العلوم أصلاً.

والنظم هو أن يفصح الإنسان عن مقصوده بكلام موزون مقفى، وهو يحتاج زيادة عن الوزن إلى رقة العبارات، وقوة والأسباب الداعية لنظمه، ويعجبني قول بعضهم موريًّا:

صوغ القريض على اختلاف رجاله
ما بين خصبًا لا تعد وجوهرُ
وإذا أردت بأن تفوز بدرِّه
نظمًا فخذه من «صحاح الجوهري»

ولبعضهم:

يا من يقول الشعر غير مهذب
ويسومني التكليف في تهذيبه
لو كان كل الخلق فيك مساعدي
لعجبت من تهذيب ما تهزو به١

وقال بعضهم في فقد الأسباب:

قالوا تركت الشعر قلت ضرورة
باب الدواعي والبواعث مغلق
خلت الديار: فلا كريمٌ يرتجى
منه النوال، ولا مليح يعشق

وقال آخر:

الشعر لا يخفى عليكم حاله
قد بار — وا أسفاه — بعد نفاق٢
وارحمتا لبني القريض؛ فإنهم
ماتوا، وهم أحيا من الإملاق٣

ونظم الشعر غير خاص بلغة الغرب؛ فإن كل لغة يمكن النظم فيها بمقتضى علم شعرها، نعم، فن العروض على الكيفية الخاصة به المدون عليها في لغة العرب وحصره في البحور الستة عشر المستعملة هو لخصوص اللغة العربية، وليس في اللغة الفرنساوية تقفية النثر، ومعرفة فن النظم لا تكفي في نظم الشعر، بل لا بد أن يكون الشاعر به سجية النظم سليقة وطبيعة، وإلا كان نفسه باردًا وشعره غير مقبول:

إلى العربي مل في نظم شعر
فذاك لسان أرباب الكمال
فشعر الفرس أسكرنا بجام
وشعر الترك طرز بالخيال

ولنذكر هنا خلاصة صغيرة من الأشعار ملخصة من أحسن القصائد والمقطعات فنقول: قد اشتهر أن أرق بيت قالته العرب في الغزل قول جرير:

إن العيون التي في طرفها حور
قتلتنا، ثم لم تحيين قتلانا
يسلبن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا

ولنذكر هنا حكاية لطيفة، وهي: إنه دخل أعرابيٌّ على ثعلب، فقال له: تزعم أنك أعلم الناس بالأدب؟ فقال: كذا يزعمون، فقال: أنشدني أرق بيت قالته العرب، وأسلسه فقال قول جرير: إن العيون إلى آخره، فقال: هذا الشعر غث رث، قد لاكه السفلة بألسنتها، هات غيره، فقال ثعلب: أفدنا من عندك يا أعرابيٌّ: فقال: قول مسلم بن الوليد صريع الغواني:

نبارز أبطال الوغى فنبيدهم
ويقتلنا في السلم لحظ الكواعب
وليست سهام الحرب تفني نفوسنا
ولكن سهام فوقت في الحواجب

فقال ثعلب لأصحابه: اكتبوها على الحناجر، ولو بالخناجر! فشعر مسلم ابن أبي الوليد أقوى حماسًا من قول جرير، وأقول: إن نسبة القوة بينهما كنسبتها بين قول بعضهم:

خطرات النسيم تجرح خديـ
ـه ولمس الحرير يدمي بنانه

وقول ابن سهل الإسرائيلي:

إني له عن دمي المسفوك معتذر
أقول: حملته في سفكه تعبا

ومما يمكن نظمه في سلك قول مسلم بن الوليد قول بعضهم:

نعد العذارى من دواهي زماننا
وأقتلها أحداقها والمحاجر
ونشكو إليها دائرات صروفه
وأعظمها أطواقها والأساور

ويعجبني قول أمين أفندي الزللي في همزيته:

واقرن صبوحك بالغبوق، ولا تدع
فرص السرور بغدوة ومساء
واعقد ببنت الحان، واجعل مهرها
عقلي، وأشهد سائر الندماء
واستجلها بكرًا تقلد جيدها
بعقود درٍّ بل نجوم سماء

إلى أن قال:

من كف ساق في لِماه ولحظه
وحديثه نوع من الصهباء
وبخده ورد حماه بأسهم
عن قطفه باللحظ والإيماء

ويحسن هنا ذكر قول الشهاب الحجازي:

لا وغصن راق للطرف ورق
وعليه حلل الظرف ورق
وشموس لم تغب عن ناظري
والشعور الليل والخد الشفق
وعيون حرمت نومي وما
حللت لي غير دمعي والأرق
ما احمرار الراح إلا خجلا
من رضاب سكرت منه الحدق
والذي قد حسبوه حببًا
فوق خد الكاس قطرات العرق

ويعجبني قول بعضهم:

لولا شفاعة شعرها في صبها
ما واصلت وأزالت الأسقاما
لكن تنازل في الشفاعة عندها
وغدا على أقدامها يترامى

وينتظم في سلكه قول بعضهم:

سل سيفًا من لحظه ثم أرخى
وفرة وفرت عليه الحميلة٤
إن شكا الخصر طولها غير بدع
لنحيل يشكو الليالي الطويلة
ومما يفوق قول الواو٥ الدمشقي أو يساويه:
قالت الظعن يا هذا؟ فقلت لها:
أما غدًا زعموا أولاً فبعد غد
فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت
وردًا، وعضت على العُناب بالبَرد

وقول بعضهم:

بنفسي بيضاء العوارض أقبلت
بوجه كأن الشرق من حسنه غرب
وبين الإزار الملوي حقف رملة٦
وبين الوشاح الملتوي غصن رطب
وتحت لئام الخز أنفسها لظى٧
وفوق الرواد السكب لامعها سكب
تبدت مع الأتراب تدعو على النوى٨
وإن لم يكن في الغانيات لها ترب
تسيل على الخد الأسيل٩ دموعها
وصب دموع العين يروي به الصب
وقد وكلت إحدى يديها بقلبها
مخافة أن يرفض من صدرها القلبُ١٠
فلما أجزن الجسر قمن وراءه
كسرب من الغزلان ليس له سربُ١١
وعضت بِدُرّ الثغر فضةَ معصم
يكاد يثنيه من الذهب القلب١٢
وكادت تحط الرحل لولا عزيمتي
في جفون العين أسهمها الهدب

ومما بعد من الأشعار الرقيقة قول الشاعر:

يصفرّ وجهي إذا تأمله
طرفي فيحمر خده خجلاً
حتى كان الذي بوجنته
من دم جسمي إليه قد نقلا

ومما ينسب للخليفة هارون الرشيد:

وإذا نظرت إلى محاسنها
فلكل١٣ موضع نظرة نبل١٤
وتنال منك بحد مقلتها
ما لا ينال بحده النصل
شغلتك وهي لكل ذي بصر
لاقى محاسن وجهها شغل
فلقلبها حلم يباعدها
عن ذي الهوى، ولطرفها جهل
ولوجهها من وجهها قمر
ولعينها من عينها كحل١٥

ومن أرق ما قيل أيضًا قول الشاعر:

لاموا على صب الدموع كأنهم
لا يعرفون صبابتي وولوعي
فأجبتهم: وعد الخيال بزورة
أفلا أرش طريقه بدموعي

ومما يعجب في الرثاء قول أي الطيب في أبي شجاع فاتك:

يا من يبدل كل يوم حلة
إني رضيت بحلة لا تنزع
ما زلت تخلعها على من شاءها
حتى لبست اليوم ما لا يخلع
ما زلت تدفع كل أمر فادح
حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
فظللت تنظر لا رماحك شرَّعٌ١٦
بين الأقام ولا سيوفك قطع
بأبي الوحيد وجيشه متكاثر
يبكي ومن شر السلاح الأدمع
وإذا حصلت من السلاح على البكا
فحشاك رحت به وخدك تقرع

إلى أن قال:

من للمعاقل والجحافل والسرى١٧
فقدت بفقدك قميرًا لا يطلع
ومن اتخذت على الضيوف خليفة
ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيع

وقوله أيضًا في فاتك المذكور:

لا فاتك آخر في مصر نقصده
ولا له خلف في الناس كلهم
من لا تشابهه الأحياء في شيم
أضحى تشابهه الأموات في الرمم
عدمته وكأني سرت أطلبه
فما تزيِّدني الدنيا على العدم

إلى أن قال:

الدهر يعجب من حملي نوائبه
وحمل جسمي على أحداثه الحطم١٨
وقت يضيع وعمر ليت مدته
في أمته من سالف الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم

بالجملة والتفصيل فأحسن وأظرف سائر ما قيل:

سلوت على الأحبة والمدام
وملت عن التهتك والهيام
وسلمت الأمور إلى إلهي
وودعت الغواية بالسلام
وملت إلى اكتساب ثواب ربي
وقدمًا طال عزمي بالغرام
وما أنا بعده معط عنان الـ
ـهوى لكن ترى بيدي زمامي
أبعد الشيب وهو أخو سكون
يليق بأن أميل إلى غرام
فشرب الراح نقص بعد هذا
ولو من راحتي بدر التمام
فكم أجريت في ميدان لهو
خيول هوى وكم ضربت خيامي
وكم قبلت وردًا من خدود
وكم عانقت غصنًا من قوام
سأوتي الكأس تعبيسًا وصدًا
وإن جاءت تقابل بابتسام
عزمت على الرجوع عن المناهي
ومثلي من يدوم على اعتزام
١  الصواب: ما تهذيبه، ليكون الجناس تمامًا.
٢  نفاق: مصدر نفق البيع: راج: ورغب الناس فيه.
٣  الإملاق: الافتقار.
٤  الحميلة: علاقة السيف.
٥  الصواب: الواواء.
٦  الإزار: كل ما سترك، والحقف: كل ما اعوج من الرمل واستطال.
٧  الخز: الحرير، واللظا: النار أو لهجها.
٨  الأتراب: جمع ترب وهو من ولد معه، والنوى: البعد.
٩  الأسيل: اللين الأملس الطويل.
١٠  ارفضّ: تفرق، وذهب.
١١  السرب من الغزلان: القطيع منها، وسرب (في آخر البيت) بمعنى البال والقلب والنفس.
١٢  يثنيه: يكون ثانيًا له، القلب (بالضم)، سوار المرأة.
١٣  الأصل: «فكل» وبه ينكسر الوزن ولعل الصواب ما ذكرناه، فلكل.
١٤  النبل: عظام الحجارة أو صغارها.
١٥  الكحل: سواد منابت شعر الأجفان خلقة.
١٦  شرع: مسددة، مصوبة.
١٧  الجحافل: جمع جحفل، وهو: الجيش العظيم.
١٨  الحطم: الشديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤