مقدمة الناشر للطبعة الأولى

يُؤثَر عن جوبرت Joubert قوله: «يجب أن يفتن الغناء» وفتنة الغناء على ما أعتقد ليست ربيبة العذوبة الصوتية فقط، بل هي وليدة الروحانية التي تهز المغني أيضًا، والغناء قرين الشعر فنٌّ جميل، فإذا صدق الزهاوي في رأيه:
إذا الشعرُ لم يهززكَ عند سماعِهِ
فليس حَرِيًّا أن يُقال له شعرُ

فمثله صادقًا من يعتبر الغناء في حكم الضوضاء المهذَّبة، إذا تجرد من العاصفة القوية المؤثرة، وعلى هذا فليس كل منظوم صالحًا لأن يُعَدَّ من شعر الغناء، وما صلح منه لذلك كان جديرًا بأن يُحَبَّ ويُستظهر، فهو سلوة الحزين، وأنس البائس، وراحة العاني، ونديم الأرواح.

تأملت نشأة أو مقر رجال النهضة الشعرية بمصر في القرن الحاضر، فرأيت لبعض المدن حظًّا كثيرًا وأكثرها عديم الحظ، وأظهر الأمثال حظ القاهرة بشوقي ومطران وحافظ والعقاد، وطنطا بالرافعي. فيحق لنا معشر السويسيين أن نهنئ أنفسنا والأدب بإقامة مثل الدكتور أبي شادي بيننا، عرفته منذ سنوات بآثاره: آثار طفولته الأدبية التي لم تخل مع ذلك من نفسية عالية، ثم ببدائعه في كبريات الصحف والمجلات، وبما تفضل به أخيرًا على جريدتي «السويس الناهضة»، فشاقتني قصائده الطلية على تنوع موضوعاتها، وإنما أسفتُ لأنه قليل العناية بآثاره الأدبية، ولا سيما شعره الغنائي الذي لا أشك في أنه نظمه وينظمه سلوى فؤاده وحده، فتبعثرت هذه النفحات الزكية تبعثر الرياحين، وتعرضت للنهب والضياع. فدفعني هذا الشعور والأسف إلى استئذانه في جمع وطبع شيء من هذه النخب الجميلة لشعر صباه، راجيًا أن أُوفق في الطبعة الثانية إلى الاستزادة منه خدمةً للأدب، فحرامٌ أن تضيع أمثال هذه اللآلئ السنية المتساقطة من فم قائلها الشجيِّ المترنِّم، وهو الذي وصفه نادرة العصر في النظم والنثر خليل بك مطران بقوله:

ضنَّ به الدهرُ وما
أضنَّه بمثله
بعالمٍ كعلمهِ
له اتساع عقله
ومخلصٍ إخلاصَه
في نقده ونقله
ومبرئٍ للروح قبـ
ـل الجسم في معتلِّه
وقاطفٍ أعذبَ شهدٍ
من خلايا نحله
ومبدعٍ لبعض ما
أبدَعه لا كلِّه
وثابتٍ في أيسر
الأمر وفي أجلِّهِ
ونائرٍ يروض صعـ
ـب القول روضَ سهله
وشاعرٍ رقيقُهُ
ذو روعةٍ كجزلهِ

ولقد أصبحت مهمة الناشر العصري البحث عن كنوز الأدب المستورة، واقتناص الفرائد المنثورة، لا القنوع بالنقد والطبع وحدهما، فكم من أديب لا يحفل بالتقدم إلى الناشرين ببدائع إلهامه، قانعًا بما فيها من السلوى له وحده، فلا يلبث الزمن أن يودي بها، ويخسر الأدب والإنسانية جمالها. وإني لسعيدٌ بتوفقي إلى إذاعة هذه النغمات والمعاني الشائقة التي اخترت عنوانها الأول أحبَّ اسم للشاعر تردَّد فيها. وأملي أن تساعدني الظروف على اتباع هذه الحسنة بحسنات أخرى في أبواب جديدة لشاعر السويس الناهضة، فالعصر عصر عمل وزكاة لكل ذي علم وأدب، ومن أغفل هذا الواجب على قُدرةٍ منه أغفله الجمهور، وتبرأ من جموده العلم والأدب، فإلى أديبنا العالم الفنَّان أقدِّم شكر الأدب ورجاءه معًا، وأُردِّد قول الشاعر الثائر الكبير الأستاذ محمد صادق عنبر في مخاطبته:

يا حكيم اليراع (مصرُ) ترجِّيـ
ـك فطوِّع لها اليراع الحكيما
وكن اليومَ في الشباب كما كنـ
ـتَ لها في الصِّبا وليًّا حميما
تنفضُ الليلَ فوق طرسك نورًا
وتحيل النهار مسعًى جسيما
مرسِلًا للنثير درًّا نثيرًا
مرسِلًا للنظيم درًّا نظيمًا
ولكم موقف وقفتَ (لمصر)
مُعليًا مجدَها العريقَ الصميما
ناشطَ الكاهلين تحملُ ممَّا
حَمَّلَتْكَ العلياءُ أمرًا عظيما
يا (زكيًّا) عَهْدي به كلما أعْـ
ـوزَ (مصرًا) برٌّ أبرَّ رحيما
وهي تدعو الكفاةَ مِنْ مثلك اليو
مَ فلبِّ الدعاءَ حرًّا عليما
حسن صالح الجداوي
السويس في ١٢ نوفمبر سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤