الفصل التاسع والأربعون

وقد لقي معاوية وزياد في هذا الاستلحاق شططًا، فأما معاوية فقد احتاج إلى أن يعنف بقومه من بني أمية خاصة ومن قريش عامة؛ ليدخل عليهم هذا النسب الجديد، وما أراهم احتملوا منهم ذلك إلا خوفًا من بطشه أو رغبة في ماله، وكثير منهم أظهر القبول وأضمر الإنكار، وكثير منهم تحفظ فلم يستطع أن يَنسب زيادًا إلى أبي سفيان، فاكتفى بذكر اسمه أو نسبه إلى أمه سمية.

وأما زياد فقد لقي الشطط كل الشطط يوم أُعلن هذا الاستلحاق بمشهد من الجماعة في دمشق، فقد أجلسه معاوية على المنبر إلى جانبه، ثم دعا من شهد على سمية بأنها عرفت أبا سفيان معرفة الإثم، وسمع في أمه ما لا يحب الرجل الكريم أن يسمع في أمه، وبلغ من ضيقه بذلك أن خرج عن طوره فقال لبعض الشهود: لا تشتم أمهات الرجال فتُشتَم أمك. وقال لبعضهم الآخر: إنما دُعِيت شاهدًا لا شاتمًا. وهو على ذلك قد رضي بهذا الاستلحاق كل الرضى، بل سعى فيه فأحسن السعي، وهو قد خطب في البصرة فحمد الله الذي رفع منه ما وضع الناس، كأنه رأى انتسابه إلى رجل من أشراف قريش أرفع وأعظم خطرًا من انتسابه إلى عبد رومي، فكيف وهذا الرجل من أشراف قريش؟! هو أبو معاوية الذي صار إليه سلطان المسلمين.

وهذا أول تغير ظاهر في سيرة زياد، وأول جَهر منه بما لم يألفه المسلمون أيام النبي والخلفاء، فقد قام الإسلام — كما عرفت — على التسوية بين السادة والعبيد ولم يفرق بين الناس إلا بالتقوى.

والغريب من أمر زياد أنه خطب الناس خطبته تلك البتراء، فقال فيها كما سترى: «وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أوتى برجل دعا بها إلا قطعت لسانه.» وهو أول من دعا بدعوى الجاهلية، بل عسى أن يكون هو ومعاوية أول من انحرف عما شرع الإسلام وأمر به القرآن وأكدته السنة تأكيدًا، وعاد إلى عرف جاهلي غيَّره الدين الجديد.

فقد ينبغي أن نقف وقفة تأمل واستقصاء عند هذا الاستلحاق الذي فرضه سلطان معاوية على المسلمين فرضًا، وأول ما نلاحظ من ذلك أن في هذه السيرة التي رواها المؤرخون والمحدثون لزياد شيئًا من النقص وكثيرًا من الغموض، فقد وُلِد زياد عبدًا للحارث بن كلدة، الذي كان يملك أمه سمية أو كان أبوه عبدًا لصفية زوج الحارث كما رأيت، ونحن لا نرى زيادًا في التاريخ الذي حُفِظ لنا إلا حرًّا، فمتى عُتِق؟ أو من أعتقه؟ وأين كان هذا العتق؟ وهو نفسه قد أنبأ عمر حين أعطاه ألفًا ثم سأله عنها من قابل، بأنه اشترى بها عُبيدًا أباه فأعتقه، فلم يصر عُبيد إذن إلى الحرية إلا بأخرة، فهل صار زياد إليها قبل أبيه؟ كل هذه أمور لم يقف عندها المؤرخون والمحدِّثون، وهي مع ذلك أيسر ما في سيرة زياد من الغموض.

والمشكلة العسيرة حقًّا في هذه السيرة هي مشكلة الاستلحاق، فقد نحب أن نعلم على أي أصل من أصول الدين أو الدنيا قام هذا الاستلحاق.

فأما الدين فنحن نعلم أن للتبني شروطًا قررها الفقهاء، أولها أن يكون الذي يقع عليه التبني من السن بحيث يمكن أن يُولَد لمن وقع منه هذا التبني، أي أن يكون الفرق بينهما في السن ملائمًا لما يكون بين الآباء والأبناء من اختلاف الأسنان، وليس من شك في أن زيادًا كان أصغر من أبي سفيان، وكان يمكن أن يكون له ابنًا.

الشرط الثاني ألا يكون لمن يقع عليه التبني أب معروف، فليس ينبغي أن يُدعى الرجل لغير أبيه، لقول النبي : «من ادعى لغير أبيه متعمدًا حُرِّمت عليه الجنة.» وقد كان لزياد أب معروف، هو عبيد الرومي ذاك، اعترف بذلك زياد نفسه حين خطب في مجلس الاستلحاق نفسه، فقال: أيها الناس، قد سمعتم قول أمير المؤمنين وقول الشهود، ولست أعلم حق ذلك من باطله، وهم أعلم بذلك مني، وقد كان عُبيد أبًا مبرورًا وواليًا مشكورًا.

وقد رأيت من حديث أبي بكرة أخي زياد لأمه أن زيادًا انتفى من عُبيد حين انتسب إلى أبي سفيان، ورأيت كذلك في حديث أبي بكرة أنه أقسم ما عرف أبو سفيان سمية قط، فزياد إذن قد انتفى من أبيه المعروف حين ادعى لأبي سفيان، ومعاوية قد أراده على ذلك، وليس شيء من هذا لهما بحال من الأحوال.

وهناك شرط ثالث لصحة التبني، وهو أن يقبله من يقع عليه التبني، وقد سعى زياد في ذلك حتى أغرى معاوية به ورغبه فيه، ولكنه حين أُرِيد على أن يعلن قبوله إلى الناس أعلنه على استحياء وتردد، كما رأيت في كلمته التي رويناها آنفًا، والإقرار ببنوة زياد لأبي سفيان لم يصدر بعد بصفة قاطعة عن أبي سفيان نفسه، وإنما زعم الزاعمون أن أبا سفيان لمَّح به ولم يجرؤ على إعلانه مخافة عمر، ولكن أبا سفيان عاش صدرًا من خلافة عثمان، يقول المقللون إنه ست سنين، ويقول المكثرون إنه عشر سنين، وكان عثمان ألين جانبًا من عمر، وكان يُظهر لبني أمية من لين الجانب أكثر مما يُظهر لعامة قريش وعامة المسلمين، فلو قد كان أبو سفيان مؤمنًا حقًّا بأن زيادًا ابنه لأقر بذلك أيام عثمان إلا أن يكون قد عرف أن هذا الإقرار لا يباح له، وأن عثمان لا يمكن أن يجيزه لأن لزياد أبًا معروفًا هو عبيد، ذلك الرومي.

فقد انتظر معاوية باستلحاق زياد أن يموت أبوه، ثم يستلحقه إثر موت أبيه حين كان قريب المكان من عثمان عظيم الشأن في نفسه، بل لم يستلحقه في أيام علي حين كان يعمل في البصرة لعبد الله بن عباس أو حين قام في البصرة مقام ابن عباس، بل لم يستلحقه أيام الحسن، ولم يستَعن به على الصلح ولم يفكر في استلحاقه إلا بعد أن خلص له السلطان من جهة ببيعة الحسن، وحين امتنع عليه زياد في فارس من جهة أخرى.

وعسى أن يكون الاستلحاق شرطًا من شروط الصلح بينه وبين زياد، فهو إقرار سياسي ليس المرجع فيه إلى الدين ولا إلى أصل من أصوله، وإنما المرجع فيه إلى الدنيا وتحقيق مصلحة سياسية، وهذه المصلحة السياسية واضحة كل الوضوح.

فقد كان زياد أعلم الناس بأهل العراق، وأقدر الناس على سياستهم وحملهم على الطاعة عن رضى أو عن كره، ولم يكن ذكاؤه ودهاؤه يخفيان على معاوية، بل لم يكونا يخفيان على أحد، فقد اصطنعه معاوية إذن ليكفيه شرق الدولة، وليستطيع هو أن يفرغ لغربها، ولم يكن بدٌّ لصحة هذا الإقرار من أن يقبله إخوة معاوية، وسائر من ورث أبا سفيان، وواضح أن هؤلاء لم يكونوا يستطيعون إلا أن يذعنوا طائعين أو كارهين.

وهذا الاستلحاق لمصلحة من مصالح الدنيا قد كان معروفًا في الجاهلية، وقد حرَّمه القرآن بالآيتين الكريمتين من سورة الأحزاب: مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.

وقد اتفق المسلمون على أن هاتين الآيتين قد ألغتا بُنوة زيد بن حارثة من النبي ، وكان قد تبناه قبل النبوة في قصته تلك المعروفة، لم يكن يرجو بهذا التبني مصلحة من مصالح الدنيا، وإنما تبناه حبًّا له وعطفًا عليه وعملًا بعرف كان مألوفًا عند العرب، وألغت الآيتان كذلك بنوة سالم من أبي حذيفة، فعدل الناس عن زيد ابن محمد إلى زيد بن حارثة، ولم يعرفوا لسالم أبًا، ولم يعرف سالم لنفسه أبًا، فقال الناس: سالم مولى أبي حذيفة، وكان أبو بكرة يقول: «لا أعرف لنفسي أبًا، فأنا أخوكم في الدين.» وكان ربما قال: «أنا مولى رسول الله.» أو «أنا مولى الله ورسوله.» لأن النبي أعتقه فيمن نزل إليه في غزوة الطائف من عبيد ثقيف.

وكان هذا النحو من الاستلحاق معروفًا عند الرومان أيضًا، وكان كثير من قياصرتهم يتبنون الرجال ويجعلون إليهم ولاية العهد من بعدهم، ومن يدري؟! لعل معاوية عرف ذلك فيما عرف من أمر الروم، فلم يستلحق زيادًا بنفسه وإنما استلحقه بأبيه، وجعله من رهطه، واستعانه على سياسة العراق وما وراءه من الأقطار.

وما أريد أن أدخل فيما أكره الدخول فيه دائمًا من القول في رِضى الله عن هذا الاستلحاق أو غضبه عليه، فأمر ذلك إلى الله وحده، وإنما أحب ألا أتجاوز السياسة والتاريخ، وقد ألِف المسلمون منذ عهد النبي ألا يتبنى رجلٌ من كان له أب معروف، أمر بذلك القرآن، وحرج النبي في ذلك على المسلمين أشد التحريج، كما رأيت في حديث عبد الله بن عمر وأبي بكرة: «من ادُّعي لغير أبيه متعمدًا حُرِّمت عليه الجنة.»

ويزيد أمر هذا الاستلحاق تعقيدًا أن معاوية لم يرد إلى الاستلحاق الغامض العام، وإنما أراد أن يضع النقط فوق الحروف، كما يقول الناس في هذه الأيام، وأن يثبت أن زيادًا هو ابن أبي سفيان لصلبه، فأشهد الشهود على أبيه بأنه عرف سمية في موطن من مواطن الإثم، وزاد بعض الشهود، فقال: إنه راود سمية عن أن تلم بأبي سفيان، فقالت له: إذا جاء عبيد الرومي من غنمه ووضع رأسه فنام أتيته، فورط معاوية نفسه وورط زيادًا معه في نكر عظيم، وجرأ يونس بن عبيد على أن يقول له: قضى رسول الله أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقد جعلتَ الولد للعاهر وللفراش الحجر.

فقد خالف معاوية إذن مخالفة ظاهرة عما ألف المسلمون من حكم دينهم، وشاركه زياد في هذه المخالفة، وكان قد بايع المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله، فهو بهذا الاستلحاق عمل بغير ما أمر الله ورسوله، فلا غرابة في أن يرى جماعة من صالحي المسلمين أن بيعته قد أصبحت لا تلزمهم، وأن يخضعوا له كارهين لا طائعين، وساخطين لا راضين، وأن يتربصوا الدوائر وينتهزوا الفرص ليخرجوا حين يتاح لهم الخروج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤