الفصل الأول

بيجي سو

اختفيتُ في الليلة السابقة لعيد ميلادي الثاني عشر، يوم ٢٨ يوليو ١٩٨٨م. ولم أكن أستطيع قبل الآن أن أروي تلك القصة العجيبة، وها أنا ذا أرويها أخيرًا — القصة الحقيقية. كان كنسوكي قد جعلني أَعِدُهُ بألَّا أقول شيئًا، بل لا شيء على الإطلاق، قبل مرور عشر سنوات على الأقل. ويكاد يكون ذلك آخر ما قاله لي، وما دُمْتُ وَعَدْتُه، فقد اضْطُرِرْتُ أن أعيش في أكذوبة، وتمكنتُ من الكتمان والحفاظ على أكذوبتي فترة ما، لكنه قد انقضى ما يزيد الآن على عشر سنوات، انتهيتُ فيها من الدراسة في المدرسة والجامعة، وتسنَّى لي الوقتُ اللازمُ للتفكير. وهكذا، فمن حق أسرتي وأصدقائي الذين خَدَعْتُهم فترة طويلة أن أخبرهم بحقيقة اختفائي الطويل، وكيف عشتُ حتى أُتيح لي أن أعود من دنيا الأموات.

ولكنَّ لديَّ سببًا آخر يدفعني إلى الكلام الآن، وهو سبب أفضل من ذلك كثيرًا، إذ إن كنسوكي كان رجلًا عظيمًا، كريمَ الخُلق، وكان صديقًا لي، وأريد أن يعرِفَه العالم مثلما عَرَفْتُه.

كانت الحياة تسير على منوالها الطبيعي حتى بلغت عامِيَ الحادي عشر تقريبًا، وحتى وَصَلَنا الخطاب. كنا أربَعة يعيشون في المنزل: والدتي، ووالدي، وأنا، وستِلَّا أرتوا، كلبة الرعي ذات اللونين الأبيض والأسود، وكانت لها أُذُن تتدلى والأخرى منتصِبة، وكانت دائمًا تعرف، فيما يبدو، ما يوشك أن يحدث قبل حدوثه، ولكنَّ ستلَّا نفسَها لم تكن تستطيع أن تتنبأ بقدرة ذلك الخطاب على تغيير مسار حياتنا إلى الأبد.

وأنا أتذكر الآن أن فترة طفولتي الأولى كانت منتظمة وتسير على وتيرة واحدة. فأنا أقطع الطريق كل صباح إلى المدرسة، وكان والدي يسميها «مدرسة القرود»؛ لأنه كان يقول إن الأطفال فيها يصيحون ويصرخون ويتعلقون في أوضاع مقلوبة بجهاز التسلق مثل القرود في الفناء. وكان يناديني دائمًا ﺑ «القرد» عندما يريد السخرية والملاعبة، وكثيرًا ما كان كذلك. وأما اسم المدرسة الحقيقي فهو مدرسة سانت جوزيف، وكنت سعيدًا فيها، أو في أغلب الأحيان على أية حال. فبعد انتهاء الدراسة كل يوم، ومهما تكن حالة الجو، كنت أنطلق إلى الملعب لألعب كرة القدم مع إدي دُودْزْ، أفضل صديق لي في الدنيا، ومع مَطْ وبوبي والآخرين. كانت أرض الملعب يكسوها الطين، فإذا حاولتَ تمريرَ الكرة وَقَفَتْ والتصَقَتْ بالوحل. كان لدينا فريقُنا، الذي أسميناه «مدلاركس»، ومعناه اللاعبون في الطين، وكنا فريقًا قديرًا. وكانت الفرق الزائرة تتوقع — لسبب ما — أن تَرْتَدَّ الكرة حين تصطدم بالأرض، وإلى أن تدرك أنها لن ترتدَّ، نكون نحن قد تفوقنا عليهم بهدفين أو ثلاثة أهداف في حالات كثيرة. أما إذا لعبنا مباريات خارج ملعبنا فلم نكن بنفس المهارة.

وفي عطلة نهاية الأسبوع كنت أقوم بتوزيع الصحف على المنازل، لحساب المستر باتل، صاحب الدكان على ناصية شارعنا، وكنتُ أدَّخِرُ أجْري لشراء دراجة تسلُّق، أي إنني كنت أريد أن أركب الدراجة في الطرق الصاعدة في المروج من حولنا مع إدي، ولكن المشكلة هي أنني كنت دائمًا أُنفق ما ادَّخَرْتُه، وما زلت كذلك.

أما أيام الأحد، فكانت دائمًا مناسبات خاصة، حسبما أذكر، إذ كنا نُبحر جميعًا في زورق شراعي صغير في مياه الخزان، وكانت ستلا أرتوا تنبح نباحًا شديدًا للزوارق الأخرى كأنما لم يكن من حقها الإبحار أيضًا. وكان أبي يحب ذلك، كما يقول؛ لصفاء الجو ونقاء الهواء وخلائه من تراب الطوب، فقد كان يعمل آنذاك في مصنع الطوب القريب. وكان يتمتع بمهارات يدوية عالية ومولعًا بالعمل اليدوي، وكان يستطيع إصلاحَ أيِّ شيء، حتى لو لم يكن بحاجة إلى الإصلاح، وهكذا كان يشعر في الزورق أنه في مكانه الطبيعي. وكانت والدتي تعمل نصف الوقت في المكتب بمصنع الطوب نفسه، وكانت تستمتع كثيرًا برحلة الزورق. وأذكر أنني شاهَدْتُها ذات يوم جالسة عند ذراع الدفَّة، وقد مدت رأسها إلى الخلف أمام الريح وأخذت نَفَسًا عميقًا ثم هتفت «هذا هو الصواب! هذا هو ما ينبغي أن تكون الحياة عليه! رائعة! رائعة فعلًا.» كانت دائمًا ترتدي القبعة الزرقاء. كانت رُبَّان السفينة الذي لا خلاَفَ عليه؛ فإذا كان النسيم يَهُبُّ من أيَّة جهة، وَجَدَتْ هذه الجهة وحاولت استغلال النسيم. كانت تتمتع باستعداد فطري لذلك.

كم قضينا من أيام سعيدة على سطح الماء! كنا نخرج والجو عاصف، عندما يُحْجِمُ الآخرون عن الخروج، وننطلق متواثبين فوق الأمواج، مستمتعين بسرعة الزورق، ولَذَّةِ الانطلاق الخالصة. وحتى عند سكون الهواء، لم نكن نكترث لذلك. وأحيانًا كنا الزورق الوحيد فوق مياه الخزان، وعندها نجلس وحَسْب ونشرع في صيد الأسماك، وأقول بالمناسبة إنني كنتُ أبرعَ من أمِّي وأبي في الصيد، وكانت ستلا أرتوا تقبع خلفنا في الزورق، وقد بدا عليها المَلَلُ من ذلك كله؛ لأنها لا تجد شيئًا تنبحه.

ثم وصل الخطاب. التقطَتْه ستلا أرتوا من فتحة الخطابات في الباب وكادت تمزقه، فقد كانت به ثقوب من أنيابها، وكان مبتلًّا، لكننا استطعنا قراءته. كان الخطاب يقول إن مصنع الطوب سوف يُغْلَق، وإن أبي وأمي فَقَدَا وظيفتيهما.

كان الصمتُ الرهيبُ يسودُ مائدةَ الإفطار في ذلك الصباح. وبعدها توقفنا تمامًا عن الإبحار في أيام الأحد. ولم يكن لديَّ ما يدعوني إلى السؤال عن السبب. وحاول والدي ووالدتي الحصول على وظائف أخرى، لكنه لم تكن هناك أية وظائف خالية.

وساد المنزلَ إحساس بالكآبة والبؤس. كنت أحيانًا أعود إلى المنزل فأجدهما يلتزمان الصمت. كانا يتجادلان كثيرًا، وحول أشياء صغيرة تافهة، ولم يكن هذا عهدهما من قبل على الإطلاق. وتوقف والدي عن إصلاح الأشياء في المنزل. بل ونادرًا ما كان يمكث في المنزل على أية حال، فإذا لم يكن يبحث عن عمل، فهو في المشرب القريب. وكان عندما يعود إلى المنزل يجلس صامتًا وهو يتصفح أعدادًا لا تنتهي من مجلات الإبحار في اليخوت الشراعية.

كنت أحاول قدر طاقتي ألَّا أمكث في المنزل وأن ألعب كرة القدم، ولكن إدي كان قد انتقل من مسكنه لأن أباه وجد عملًا آخر في مكان ما في الجنوب. ولم يكن لكرة القدم مذاقُها المميز دون وجوده. وانفرط عِقْد فريق «مدلاركس» بل انفرط عقد كل شيء من حولنا.

ثم عدت ذات يوم من أيام السبت بعد جولة توزيع الصحف لأجد والدتي جالسة في أسفل السُّلَّم وهي تبكي. كانت دائمًا قوية صُلبة، ولم أشاهدها من قبل في هذه الحال قط.

قالت: «مغفَّل! أبوك مغفَّل يا مايكل! هل تسمع؟»

وسألتها: «ماذا فعل؟»

وقالت لي: «لقد ذهب!» وتصورتُ أنها تعني أنه ذهب بلا رجعة، لكنها قالت: «لم يشأ أن يصغَى لصوت العقل، لا! بل يقول إنه خطرت له فكرة. لم يخبرني بها، لكنه يقول فقط إنه باع السيارة، وإننا سوف ننتقل إلى الجنوب، وإنه سوف يجد لنا مسكنًا.» وتَنَفَّسْتُ الصعداء، بل شعرتُ بالسرور في الواقع، فلا بد أن الإقامة في الجنوب ستجعلني أقرب من إدي. وأَرْدَفَتْ قائلة: «إذا كان يظن أنني سوف أترك هذا المنزل، فلا بد أن يستعد لمفاجأة! وأؤكد لك!»

وقلت لها: «ولماذا لا نتركه؟ ليس لدينا الكثير هنا.»

فقالت: «بل لدينا! لدينا البيت أولًا، ثم جدتك، ثم المدرسة.»

وقلت لها: «توجد مدارس أخرى»، وإذا بها تحتدم غضبًا، بل زاد غضبها عما عَهِدْتُه فيها في أيِّ يوم من الأيام.

وقالت: «تريد أن تعرف القشة التي قصمت ظهر البعير؟ إنها أنت يا مايكل! أعني قيامك بجولة توزيع الصحف هذا الصباح. هل تعرف ما قاله والدك عندها؟ هل تريد أن تعرف؟ سأخبرك! قال لي والدك: «هل تدركين أن هذا هو الأجر الضئيل الوحيد الذي يدخل هذا المنزل، أقصد ما يكسبه مايكل من توزيع الصحف! ماذا تظنين إحساسي إزاء ذلك؟ ابني في الحادية عشرة، وهو يعمل وأنا دون عمل».»

وحاوَلَتْ تهدئة نفسها برهة قصيرة قبل أن تواصل حديثها، وقد اغْرَوْرَقَتْ عيناها بالدموع قائلة: «لن أنتقل من هنا يا مايكل. فلقد وُلِدْتُ هنا. لن أذهب مهما يَقُلْ، لن أترك هذا المكان.»

كنت في المنزل حين جاءت المكالمة التليفونية بعد نحو أسبوع. كنت أعرف أن أبي هو المتحدث. لم تقل أمي إلا أقل القليل، ولذلك لم أستطع فهم ما يجري، وذلك حتى دَعَتْني إلى الجلوس فيما بعد وأخبرتني.

قالت أمي: «يدل صوتُه على أنه قد تغيَّر يا مايكل. أعني أنه عاد إلى طبيعته، بل إلى طبيعته الأولى في الأيام التي تعرَّفتُ إليه فيها أول الأمر. قال إنه وجد لنا مكانًا نقيم فيه. وأضاف قائلًا: «ما عليكما سوى إعداد حقائبكما والمجيء.» اسم المنطقة فيرهام. وهي قريبة من ميناء ساوثامتون. وقال: «إنها تُطلُّ مباشرة على البحر.» لقد أحسستُ اختلافًا كبيرًا فيه، وأؤكد لك ذلك.»

والواقع أن والدي بدا رجلًا مختلفًا. كان ينتظرنا عندما هبطنا من القطار، وعيناه تبرقان من جديد ويجلجل بالضحكات. ساعَدَنا في حمل الحقائب وقال: «المكان قريب» وهو يعبث بشعر رأسي. وأضاف: «انتظر حتى تراه أيها القرد! لقد رتَّبْتُ كلَّ شيء، كلَّ شيء! ولن يُجْدِي أن يحاول أحدكما إثنائي عن عزمي. فأنا مصمم عليه.»

وسألْتُه: «مصمم على ماذا؟»

فقال: «سوف ترى.»

وكانت الكلبة ستلا أرتوا تتواثب في الطريق أمامنا، وقد رفعت ذيلها وبدت عليها السعادة. وأعتقد أننا جميعًا كنا سعداء.

لكننا في النهاية ركبنا حافلة بسبب ثقل الحقائب الشديد، وعندما غادرنا الحافلة وجدنا أنفسنا على شاطئ البحر مباشرة. ونَظَرْتُ فلم أجد أيَّ منازل من حولنا، لا شيء سوى مَرْسًى لليخوت والسفن الصغيرة.

وسأَلَتْهُ والدتي: «ماذا نفعل هنا؟»

وأجاب قائلًا: «يوجد من أريد أن تقابلاه، من أصدقائي المقربين، واسمها بيجي سو، وهي تتطلع إلى لقائكما، وقلت لها كل شيء عنكما.»

ونَظَرَتْ والدتي إليَّ مُقَطَّبة الجبين في حيرة، لكنني لم أكن أعرف أكثر مما تعرفه. ولم أكن متأكدًا إلا من أنه يتعمد الغموض والإلغاز.

وسِرْنا ونحن ننوءُ بِحَمْل الحقائب في الطريق، وطيور النورس تصيح فوقَ رءوسنا، وأشرعةُ اليخوت الراسية المطوية تُصَفِّقُ حولنا، والكلبة ستلا تثرثر عما يجري، حتى وقفنا أخيرًا أمام مطلع خشبي يؤدِّي إلى يَخْت لونه أزرق أدكن براق. ووضع أبي الحقائب على الأرض والتفت إلينا وهو يبتسم ابتسامة عريضة.

وقال: «ها هي ذي! فلنبدأ التعارف. هذه هي بيجي سو، منزلنا الجديد. ما رأيكما؟»

وبدا أن والدتي متماسكة رغم كلِّ شيء، فلم تَصْرُخْ في وجهه، بل لزمت الصمت التام، وظلت صامتة طيلة استغراقه في الشرح ونحن نحتسي الشاي في مطبخ السفينة السفلي. قال والدي: «لم تكن هذه فكرة خَطَرَتْ لي فجأة، بل لقد فكرت في الأمر طويلًا، على مدى السنوات التي عملت فيها في المصنع. نعم! ربما كنت أحلم بذلك وحسب في تلك الأيام. والأمر غريب عندما أتأمله، فلولا أنني فقدت وظيفتي ما جرؤت قط على فعل ذلك» وتوقف والدي، إذ أدرك أنه لم يشرح شيئًا ثم عاد يقول: «لا بأس، إذنْ! سأقول لكما ما فَكَّرْتُ فيه. ما أحبُّ عمل إلى قلوبنا؟ الإبحار؟ صحيح؟ وهكذا قلتُ في نفسي ألنْ يكون رائعًا أن ننطلق وحسب فنبحر حول العالم؟ لقد فعلها غيرنا. ويُسمَّى ذلك الإبحار في المياه الزرقاء. وقَرَأْتُ عنه في المجلات.»

«كانت الفكرةُ حُلْمًا وحسب في البداية، كما ذكرت. ثم أتى فقدان العمل وفقدان الفرصة في الحصول على عمل. ماذا يقول المرء في هذه الحالة؟ اركب الدراجة. إذن لِمَ لا نركب سفينة؟ لقد حصلنا على نقود التعويض عن الفصل من العمل، مهما تكن قليلة. ولدينا بعض المُدَّخَرات، وثمن بيع السيارة. ليست ثروة كبيرة ولكنها تكفي. ماذا نفعل بها؟ لي أن أضعها في البنك كلها، مثلما فعل الآخرون. ولكن لماذا؟ حتى أَشْهَدَها تتناقص يومًا بعد يوم حتى تَنْفَد؟ قلت في نفسي ربما استطعت أن أفعل شيئًا جميلًا حقًّا بها، شيئًا لا يحدث إلا مرة واحدة في العمر، إذ لنا أن نبحر حول العالم. أفريقيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا والمحيط الهادئ. لنا أن نشاهد أماكن لم نعرفها إلا في الأحلام.»

وجلسنا صامتَين من الصدمة، وعاد والدي يقول: «أعرف ما يجول بخاطركما. أنتما تقولان إننا لم نعرف من قبل إلا الإبحار في مياه الخزان، في الزورق الصغير. وتقولان إنني مجنون، فَقَدْتُ عقلي، وتقولان إنه أمر خَطِر، وتقولان إنني سوف أُفلس تمامًا بعدها، ولكنني فكَّرْتُ ودبَّرْتُ كل شيء، بل حتى فَكَّرْتُ في أمر جَدَّتِك يا مايكل — مثلًا. فنحن لن نختفي إلى الأبد. وسوف تكون في انتظارنا عندما نعود. فهي في أتم صحة وعافية.»

«ولدينا النقود الكافية. لقد حَسَبْتُ حساباتي: سوف نقضي ستة أشهر في التدريب، ثم نقطع الرحلة في عام أو في ثمانية عشر شهرًا، وَفْقَ ما تكفي النقود. وسوف نَحْرِصُ على السلامة في الرحلة، ونقوم بها على الوجه الصحيح. وسوف تحصلين يا «ماما» على شهادة قيادة اليخت. آه! ألم أذكر لكما ذلك؟ لا لم أذكره من قبل: سوف تكونين رُبَّانَ السفينة يا «ماما»! وسوف أكون ضابط السفينة الأول والقائم بالأعمال اليدوية. وأنت يا مايكل سوف تكون غلام السفينة. وأما ستلا؛ الواقع أن ستلا يمكن أن تلعب دور «قطة السفينة»!» كان والدي مُفْعَمًا بالحماس، يلهثُ من فَرْطِ الانفعال. «سوف نُتْقِنُ التدريب، ونقوم بعدة رحلات عبر القنال الإنجليزي إلى فرنسا، وربما أيضًا إلى إيرلندا. وسوف نعرف كل صغيرة وكبيرة عن هذه السفينة كأنها فرد من أفراد الأسرة. طولها أربعة عشر مترًا، وأماكن المجاديف مُحْكَمة الصنع والتصميم، بل أفضل ما يمكن العثور عليه وأكثرها أمانًا. لقد دَرَسْتُ الأمر جيدًا. ستة أشهر من التدريب ثم نقوم برحلة حول العالم. ستكون مغامرة العمر. فرصتنا الوحيدة. لن تُتاح لنا فرصة أخرى. ماذا تقولان إذن؟»

وقلتُ في حماس: «ﻣﻤ .. ﺘﺎز»، وكان ذلك حقًّا رأيي.

وسَأَلَتْهُ والدتي: «تقول إنني سأصبح قائد السفينة؟» وقال والدي وهو يضحك ويحييها تحية البَحَّارَة: «نعم، نعم أيها الرُّبَّان!»

فعادت تقول: «وماذا نفعل في مدرسة مايكل؟»

وقال والدي: «فكرت في هذا أيضًا. سألت في المدرسة المحلية هنا. لقد رتبنا كل شيء. سوف نصحب جميع الكتب التي يحتاجها. وسوف أتولى تعليمه. وكذلك أنت. وسوف يُعَلِّمُ نفسه. ودعيني أؤكد لك بالمناسبة أنه سوف يتعلم في عامين بالبحر أكثر مما يمكنه أن يتعلم على الإطلاق في مدرسة القرود التي يذهب إليها. هذا وعد مني.»

ورَشَفَتْ والدتي رشفة من فنجان الشاي وأَوْمَأَتْ برأسها ببطء. ثم قالت: «لا بأس.» ولاحظْتُ أنها تبتسم، ثم أضافت: «ولِمَ لا؟ عليك بها إذن. اشْتَرْها! اشْتَرِ السفينة.»

وقال والدي: «لقد اشتريْتُها بالفعل.»

لا شك أنه كان جنونًا. كانا يعرفان ذلك، بل كنت أعرفه أنا، ولكن ذلك لم يكن مهمًّا. وحين أتذكر ما حدث آنذاك أقول إنه كان، ولا بد، لونًا من الإلهام الذي دفعه إليه اليأس.

كان الجميع يُحَذِّروننا من ذلك. وجاءتْ جدتي لزيارتنا وقضت معنا فترة في السفينة. وقالت إن الأمر يدعو للسخرية، ويدل على التهور وانعدام الإحساس بالمسئولية. كانت تتحدث عن البلايا والمِحن التي تنتظرنا: جبال الجليد الطافية، والأعاصير، والقراصنة، والحيتان، وناقلات النفط العملاقة، والأمواج العاتية، وتنتقل من أهوال إلى أهوال، حتى تُخِيفَني وبذلك تُخيف أمي وأبي حتى يَتَخَلَّيَا عن الفكرة. ولا شك أنها نجحت في تخويفي، لكنني لم أُظْهِرْ خوفي قط. لم تفهم جدتي أننا نحن الثلاثة أصبحنا نرتبط برباط واحد من الجنون. لقد صممنا على الرحيل ولن يفلح شيء أو شخص في إثنائنا عن عزمنا. كنا نفعل ما يفعله الناس في القصص الخيالية: كنا نريد الانطلاق سعيًا وراء المغامرة.

سارت الأمور في البداية وَفْقَ التخطيط الذي وضعه والدي، فيما عدا أن التدريب استغرق وقتًا أطول بكثير، فسرعان ما عَرَفْنا أن الإبحار في سفينة أو يخت طوله أربعة عشر مترًا ليس مجرد إبحار في زورق أكبر. كان القائمُ بتعليمنا بحَّارًا عجوزًا ذا شارب كث يعمل في «نادي اليخت»، واسمه بيل باركر (وكنا نسميه بارناكل بيل، من وراء ظهره، وتعني بيل «اللزقة»). وكان قد أبحر مرتين حول كيب هورن، في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية، وعبر المحيط الأطلسي مرتين وحدَه، وعبر القنال الإنجليزي «مرات يزيد عددها على عدد الوجبات الساخنة التي تناولتها في حياتك يا بُنَيَّ.»

والحق، أن أيًّا منا لم يكن يحبه كثيرًا. كان صاحبَ عَمَل لا يرحم. وكان يعاملني ويعامل ستلا أرتوا بنفس القدر من الاحتقار، إذ كان يرى أن الأطفال والكلاب مجرد مصدر للمضايقة، وإذا وُجِدَ أيٌّ منهما على ظهر سفينة أصبح عبئًا على البحَّارة. ولذلك تحاشيت اللقاء به قدر طاقتي، وكذلك كانت ستلا أرتوا تتحاشاه.

ويقتضي الإنصاف أن أقول إن بارناكل بيل كان يجيد صنعته. وعندما انتهى من تعليمنا، وحَصَلَتْ والدتي على شهادتها، شعرنا أننا نستطيع الإبحار في بيجي سو إلى أي مكان في العالم. كان قد غَرَسَ فينا احترام البحر وخشيته، وهو شعور صحي، ولكننا كنا نشعر في نفس الوقت بالثقة في قدرتنا على «التعامل» مع أي شيء تقريبًا يأتي به البحر.

ومع ذلك، فلقد مَرَرْتُ بلحظات أحسستُ فيها برعب يُجَمِّد الأطراف. وكان والدي يشاطرني الإحساس بالرعب في صمت. وتعلمت أنك لا تستطيع التظاهر بالاطمئنان حين تَدْهَمُك موجة خضراءُ عالية طولها سبعة أمتار، وكنا نهبط في منخفضات مائية بلغ من عمقها أن أحسسنا أنه من المحال الخروج منها. لكننا كنا نخرج منها، وكلما نجحنا في التغلب على خوفنا، وركوب الأمواج العالية، ازدادت ثقتنا بأنفسنا وبالسفينة من حولنا.

وأما والدتي فلم تُبْدِ قط أَدَقَّ ذرة من ذرات الخوف. والفضل يرجع لها وللسفينة بيجي سو معًا في تغلبنا على أسوأ ما مَرَّ بنا من لحظات. كانت تُصاب بدُوَار البحر من حين لآخر، لكننا لم نُصَبْ به قط. وكانت هذه مَزِيَّة لنا.

figure

كنا نعيش بالقرب من بعضنا البعض، ملتصقين تقريبًا، وسرعان ما اكْتَشَفْتُ أن الآباء أكثر من مجرد آباء، إذ أصبح والدي صديقًا لي، بل مَلَّاحًا زميلًا لي، وغدا كلمنا يعتمد على صاحبه. وأما والدتي فالحق — وأنا أعترف به — أنني لم أكن أعرف أنها تتمتع بهذه المقدرة. كنت أعرف دائمًا أنها شجاعة، وأنها كانت دائمًا تُصِرُّ على المحاولة حتى تنجح في فعل ما تريد، ولكنها واصلت الليل بالنهار في دراسة كتبها وخرائطها حتى أتقنت كلَّ شيء، ولم تتوقف لحظة واحدة. صحيح أنها كانت تتسم ببعض الاستبداد إذ ما تهاونَّا في الحفاظ على السفينة بأكمل صورة ممكنة، ولكنني لم آبَهْ كثيرًا لذلك، ولم يأبه والدي هو الآخر، وإن كنا تظاهرنا بعكس ذلك. كانت هي ربانَ السفينة. وكانت الخُطَّةُ أن تطوفَ بنا حول العالم وتُعيدَنا. كانت ثقتنا مطلقة فيها، وكنا فخوريْن بها. كانت باختصار نابغة. ولا بد أن أقول أيضًا إن غلام السفينة وضابطها الأول كانا من النوابغ أيضًا في تشغيل الروافع، وإدارة الدفة، وكانا ماهرَين في إعداد الفاصوليا المعلبة في مطبخ السفينة، وهكذا كنا فريقًا متكاملًا رائعًا.

وفي يوم ١٠ سبتمبر ١٩٨٧م — وأنا أعرف التاريخ لأنني أضع سجلَّ السفينة أمامي أثناء الكتابة — وبعد أن حشدنا في كل ركن وزاوية بالسفينة ما نحتاج إليه من مئونة ومن زاد، أصبحنا أخيرًا على استعداد للإقلاع حتى نبدأ مغامرتنا الكبرى، ملحمة الأوديسية العظمى لنا.

كانت جدتي حاضرة لوداعنا وقد اغْرَوْرَقَتْ عيناها بالدموع، وكانت في النهاية قد وافقت على قيامنا بالرحلة، بل قالت إنها تريد أن تصحبنا لزيارة أستراليا — إذ كانت دائمًا تتوق إلى مشاهدة دببة الكوالا الصغيرة على الطبيعة. وكان في وداعنا حشد كبير من أصدقائنا أيضًا، ومن بينهم بارناكل بيل. وجاء صديقي الصغير إدي دودز مع والده. وألقى إليَّ بِكُرَة قَدَم أثناء رفع المرساة. وصاح عاليًا «إنها تميمة السعد!» وعندما فحصتُها فيما بعد وجدتُ أنه غَمَرَها بتوقيعاته مثل نجوم كأس العالم لكرة القدم.

ووَدَّعَتْهُم الكلبةُ ستلا أرتوا بنباحها، كما وَدَّعَتْ جميع القوارب الراسية أثناء مرورنا بمضيق سولينت الذي يفصل جزيرة وايت عن أرض إنجلترا، ولكننا أثناء عبورنا تلك الجزيرة سكتت فجأة عن النباح، ربما أدركَتْ، مثلما أدركنا، أنه لا عودة إلى الوراء الآن، لم يكن ذلك حُلْمًا، بل لقد بدأنا الإبحار حول العالم. كان ما يحدث حقيقيًّا، وحقيقيًّا حقًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤