وصول القَتَلة
بعد ذلك بوقت قصير هطلت الأمطار وأرغمتنا أن نحتمي أيامًا متوالية في منزلنا بالكهف. وتحولت مسارب الغابة إلى سيول، وأصبحت الغابة مستنقعًا. كنت أتوق إلى عواء قرود الجيبون، بدلًا من هدير المطر المنهمر على الأشجار خارج الكهف. لم يكن المطر يهطل في نوبات متقطعة كما كان عليه الحال في الوطن، بل باستمرار ودون توقف. وانتابني القلق على المنار الذي غدا مشبعًا بالماء ويزداد بَلَلُه مع كل يوم يمرُّ. كيف يتسنى له أن يجفَّ في يوم من الأيام؟ ولكن كنسوكي كان يبدي الصبر والجَلَد إزاء ذلك كله. كان يقول لي: «سوف ينقطع المطر حين ينقطع. لا تستطيع أن توقف هطوله بأن تريد له ذلك. أضف إلى ذلك أن المطر مفيد نافع. فهو يساعد الثمار على النمو، ويحافظ على تدفق الجدول، وعلى حياة القرود، وحياتك أيضًا وحياتي أنا.»
كنت أندفع بأقصى سرعة كل صباح إلى قمة التل ومعي المنظار المقرِّب، وإن كنت لا أدري سببًا لذلك ولا أرى له جدوى، فأحيانًا كان المطر ينهمر بغزارة إلى الحد الذي لم أكن أستطيع معه أن أرى البحر على الإطلاق.
كنا أحيانًا ننطلقُ مسرعَين إلى الغابة لنجمع كمية من الفاكهة اللازمة لطعامنا. كانت الغابة تزخر بأنواع النبق، وكان كنسوكي يصرُّ على قطفها، فلم يكن يكترث بالبلل الشديد مثلما كنت أكترث. كنا نأكل بعضها، ولكن كنسوكي كان يستخدم معظمها في إعداد الخل، ويحفظ الباقي في زجاجات خاصة مع عسل النحل والماء. وكان يقول، إنها محفوظة «لوقت الحاجة الماسَّة، صحيح؟» ويضحك (كان يحب «تجربة» التعابير الجديدة التي تعلمها). كنا نأكل الكثير من السمك المُدَخَّن، وكان فيما يبدو لديه مخزون كافٍ دائمًا بصفة احتياطية. كان يجعلني أشعر بالعطش الشديد، لكنني لم أكن أضيق به قط.
وأنا أتذكر الموسم المطير بسبب انكبابنا على الرسم فيه أكثر من أي سبب آخر. كنا نقوم بالرسم معًا ساعات متوالية، حتى يَنْفدَ حبر الأخطبوط. وكان كنسوكي يميل هذه الأيام إلى الرسم من الذاكرة أكثر من الرسم من الطبيعة، فكان يرسم منزله في نجاساكي، وعدة لوحات لزوجته كيمي وابنه ميشيا واقفَين معًا، دائمًا تحت شجرة الكرز. ولاحظت أنه يترك الوجه دائمًا دون تحديد أي ملامح. وقد شرح لي ذلك ذات يوم (وكانت طلاقةُ حديثه بالإنجليزية تزيد باطِّراد).
قال لي: «أنا أتذكر مَن هما، وأذكر أين هُما. وأستطيع أن أسمعهما في رأسي، لكنني لا أستطيع أن أراهما.»
وقضيت أيامًا متوالية في إحكام محاولتي رسم صورة سعلاة. كانت توموداكي. كانت كثيرًا ما تقبع عند باب الكهف ووجهها يفيض بالحب وجسمها يتساقط منه ماء المطر، كأنما كانت تدعوني لرسمها. وهكذا اغتنمت الفرصة كاملة.
كان كنسوكي سعيدًا باللوحة التي رسمتُها إلى حدِّ النشوة، وأغدق عليَّ عبارات الإطراء. وقال: «يومًا ما يا ميكاسان سوف تصبح فنانًا عظيمًا، مثل هوكوساي، ربما.» وكانت تلك أولَ لوحة على صَدَفَة أرسمها فيحتفظ بها كنسوكي في صندوقه. وأحسست بالزهو الشديد. وبعد ذلك كان يصرُّ على الاحتفاظ بالكثير من أصدافي المرسومة، وكثيرًا ما كان يُخرجها من الصندوق ويدرسها بعناية، مبينًا لي أوجه النقص، ولكن دائمًا بسماحة. وفي ظل رعايته، وبوحي تشجيعه، كانت كل صورة أرسمها تبدو أكثر إحكامًا، وأقرب إلى ما كنت أريد لها أن تكون.
وذات صباح عادتْ قِرَدَةُ الجيبون تعوي، وتوقَّف المطر، وخرجنا لصيد السمك في المياه الضحلة، ثم خرجنا إلى البحر العميق أيضًا، وسرعان ما أعدنا ملء مخزوناتنا من السمك المُدَخَّن وحبر الأخطبوط، وعدنا إلى لعب كرة القدم من جديد، وكان المنار فوق قمة التل يجفُّ ماؤه يومًا بعد يوم.
وكنا أينما ذهبنا الآن نأخذ معنا المنظار المقرب، من باب الاحتياط، وكاد ذلك المنظار يضيع منا ذات يوم عندما سرقه كيكانبو، ولد توموداكي «الشقيُّ»، وانطلق يجري به في الغابة. كان أشدَّ صغار السعالي صفاقًة وأكثرها ميلًا إلى اللهو واللعب، وعندما أدركناه لم يكن يريد إعادة المنظار. واضطر كنسوكي آخر الأمر إلى رِشْوَته: موزة حمراء في مقابل منظار مقرِّب.
لكنه مع مرور الوقت كنا بدأنا نعيش كأنما اعتزمنا البقاء في الجزيرة إلى الأبد، وهو ما بدأ يُقْلقني قلقًا عميقًا، كان كنسوكي يقوم بإصلاح زورقه ذي المساند، وإعداد المزيد من الخل، وكان يجمع الأعشاب ويجففها في الشمس. وكان يبدو أن اهتمامه بترقب وصول أيَّة سفينة يقل باطِّراد، بل كان يبدو أنه نسى الموضوع بِرُمَّتِهِ.
وشعر كنسوكي بقلقي واضطرابي. كان منهمكًا في إصلاحات زورقه ذات يوم وأنا أستكشف الأفق من خلال المنظار المقرب، إذ لم يبارحني الأمل قط، حين قال: «تزداد سهولة الأمر عندما تكون عجوزًا مثلي يا ميكاسان.»
وسألته: «سهولة ماذا؟»
فقال: «سهولة الانتظار. سوف تأتي سفينة يومًا ما يا ميكاسان. ربما يكون ذلك في القريب العاجل، وربما لا يكون في القريب العاجل. لكن السفينة سوف تأتي. يجب ألا نقضي الحياة في الرجاء دائمًا والانتظار دائمًا. فغاية الحياة أن نحياها.» كنت أعرف أنه على صواب، بطبيعة الحال، لكنني لم أكن أستطيع — إلا حينما أستغرق في الرسم — أن أطمس حقًّا كل تفكير في الإنقاذ، وكل تفكير في أمي وأبي.
وَصَحْوتُ ذات صباح وستلا تنبح خارج منزل الكهف. نهضت وخرجت للبحث عنها. لم أستطع في البداية أن أراها في أي مكان. وحين وجدتُها كانت تقف عاليًا فوق التل، وكانت تصدر أصواتًا تتراوح بين الزمجرة والنباح، وقد انتصب شعر رقبتها. وسرعان ما أدركْتُ السبب. كانت سفينة من نوع اليَنْك! سفينة صغيرة في البحر. وهرعت نازلًا التل فقابلني كنسوكي خارجًا من منزل الكهف، وكان يربط حزام سرواله. وهتفت به: «جاءت سفينة! النار! فلنشعل النار!»
وقال كنسوكي: «دعني أنظر أولًا.» ورغم كل احتجاجاتي عاد إلى منزل الكهف لإحضار المنظار المقرب. وانطلقْتُ أجري إلى قمة التل من جديد. كانت السفينة قريبة جدًّا من الشاطئ. ولا بد أن يرى مَن فيها الدُّخَانَ. كنت واثقًا من ذلك. وكان كنسوكي يصعد التل لمقابلتي ببطء يغيظ. لم يكن يبدو أنه في عجلة على الإطلاق. وأخذ يحدق في السفينة من خلال المنظار ويدرسها بعناية، فاستغرق في ذلك وقتًا طويلًا.
وقلت له: «لا بد أن نشعل النار، لا بد لا بد.»
وقبض كنسوكي فجأة على ذراعي، وقال: «إنها نفس السفينة يا ميكاسان. لقد أتى الرجال القتلة. إنهم يقتلون قرود الجيبون ويسرقون أطفالها. لقد عادوا، أنا واثق تمامًا؛ فأنا لم أنس السفينة. أنا لا أنسى أبدًا. إنهم أناس أشرار جدًّا، لا بد أن نذهب بسرعة. لا بد أن نجد جميع السعالي. لا بد أن نأتي بها جميعًا إلى الكهف. ستكون آمنة فيه.»
لم يستغرق وقتًا طويلًا في استدعائها. لم يفعل كنسوكي سوى أنه بدأ يغني ونحن نسير في الغابة.
وإذا بها تظهر من حيث لا ندري، كل اثنتين معًا، وكل ثلاث، حتى اجتمع خمس عشرة، لم تحضر أربع منها، فتوغلنا إلى مسافات أبعد في الغابة للعثور عليها، وكنسوكي يغني طول الوقت. وفجأة أتت ثلاث وهي تصطدم في سيرها بالأشجار، وكانت من بينها توموداكي. لم يكن غائبًا سوى الصغير كيكانبو.
ووقف كنسوكي في باحة مكشوفة في الغابة، تحيط به السعالي، وشرع يغني لكيكانبو المرة بعد المرة، ولكن الصغير لم يأْتِ. ثم سَمِعْنَا صوتَ تشغيلِ محرك، في مكان ما بالبحر، محرك مثبت خارج السفينة. وعاد كنسوكي للغناء بصوت أعلى، وبنبرات أشدَّ إلحاحًا. وأصخنا السمع عسى أن يُصْدرَ كيكانبو صوتًا، وبحثنا عنه وناديناه.
وقال كنسوكي أخيرًا: «لا نستطيع الانتظار أكثر من ذلك، سأسير في الأمام وتسير يا ميكاسان في الخلف. أحضر السعالي الأخيرة معك، هيا، بسرعة.» وانطلق عند ذلك، سالكًا المسرب وسط الغابة، وهو يقود أحد السعالي بيده، ولا يزال يغني. وأذكر أنني خطرت لي، ونحن نسير خلفه، صورة عازف المزمار الأسطوري الذي سحر الأطفال بموسيقاه فاتبعوه حتى اختفوا في كهف في جانب الجبل.
أما أنا فكانت مهمتي محددة في آخر الحشد، كانت بعض الصغار تحب أن تلعب لعبة «الاستغماية» أكثر من اهتمامها بالسير وراء الكبار. واضطررت في النهاية إلى أن التقط اثنتين منها وأحملهما، كل واحدة في ذراع. كان وزنها أكبر كثيرًا مما يدل عليه منظرها، وظللت ألقى النظرات خلفي، من فوق كتفي، عسى أن أرى كيكانبو، وأناديه ولكنه لم يحضر رغم كل ذلك.
وتوقف صوت محرك السفينة، وسمعت بعض الأصوات. كانت عالية، أصوات رجال، وضحكات. كنت الآن أجري، والصغيرتان متعلقتان برقبتي، وكانت الغابة ترتجُّ بأصوات النعيب والعواء في انزعاج في كل مكان حولي.
وعندما وصلت إلى الكهف سمعت صوت أولى الطلقات التي ترَدَّدَ صداها في الفضاء. وهَبَّ كل طائر وكل خُفَّاش في الغابة طائرًا، حتى اسْوَدَّ لون السماء التي امتلأت بصرخاتها الحادة. وحشدنا السعالي معًا في آخر الكهف، وانكمشنا في الظلام معها، وأصوات طلقات الرصاص لا تنقطع.
كانت توموداكي أشد السعالي قلقًا واضطرابًا، لكنها جميعًا في حاجة إلى التسرية وبَثِّ الاطمئنان في قلوبها دائمًا، وهو ما كان كنسوكي يقوم به، إذ لم يتوقَّفْ عن الغناء لها طيلة هذا الكابوس الرهيب.
كان الصيادون قد اقتربوا، بل اقتربوا اقترابًا شديدًا، وهم يطلقون النار ويصيحون. وأغلقت عينيَّ ودعوت الله. وكانت السعالي تئن بصوت مرتفع كأنما تغني مع كنسوكي، وكانت ستلا طول الوقت ترقد عند قدميَّ، وفي حلقها زمجرة مستمرة. وكنت أقبض على غضون عنقها طول الوقت، تحسُّبًا للمفاجآت. وكانت صغار السعالي تدفن رءوسها في جسمي حيثما استطاعت، تحت ذراعيَّ، وتحت ركبتيَّ، وتتشَبَّثُ بي.
كانت الطلقاتُ تُدَوِّي الآن على مقربة شديدة منا، تشق الهواء ويُرْجِع الكهف أصداءها. وسمعتُ صيحات انتصارات بعيدة، وكنت أعرف خير معرفة ما لا بد أن يعنيه ذلك.
وابتعد موقع الصيد بعد ذلك. لم نعد نسمع أية أصوات، باستثناء الطلقة العارضة، ثم ساد الصمت. سكتت الغابة كلها. ومكثنا حيث كنا ساعات طويلة. كنت أريد أن أغامر بالخروج لأرى إن كانوا قد رحلوا، ولكن كنسوكي رفض. كان يغني طول الوقت، وظلت السعالي رابضة معًا حولنا، حتى سمعنا صوت تشغيل محرك القارب. ومع ذلك، فقد جعلني كنسوكي أنتظر فترة أخرى. وعندما خرجنا أخيرًا كانت السفينة قد أبحرت وابتعدت كثيرًا عن الشاطئ.
وبحثنا في الجزيرة عن كيكانبو، وغنَّينا له، وناديناه، لكننا لم نلمح له أثرًا، واستولى على كنسوكي يأس عميق. لم يكن يُعَزِّيه شيء. فانطلق وحده فتركته يذهب. وبعد قليل مررت به وقد انحنى على جُثَّتَيْن من جُثَثِ قرود الجيبون، وكانتا من الأمَّهات. لم يكن يبكي آنذاك، لكنه كان قد بكى قبل أن أصل. كانت عيناه يغمرهما الإحساس بالأذى والحيرة. وحفرنا حفرة في الأرض الرخوة على حافة الغابة ودَفَنَّاهما. لم تبقَ لديَّ كلمات أقولها، ولم تبقَ لدى كنسوكي أغانٍ يغنيها.
كنا نسير في طريق العودة الحزين على الشاطئ حين فوجئنا بالصغير كيكانبو خارجًا من مكمنه: أقبل في شبه هجوم علينا، وهو ينثرُ الرمل علينا ثم قفز فوق ركبة كنسوكي والتفَّ برقبته. كانت لحظة سعيدة، لحظة رائعة.
وفي تلك الليلة غنى كنسوكي معي أغنية «عشر زجاجات خضراء» المرة تلو المرة، بصوت بالغِ الارتفاع، ونحن نتناول حساء السمك. ولا بد أن ذلك كان يمثل رثاءً من نوع ما لقردتَي الجيبون القتيلتين، وأنشودة فرح في نفس الوقت بالعثور على كيكانبو. وَبَدَا أن الغابة خارج الكهف ترجع أصداء غنائنا.
لكنه اتضح لي في الأسابيع التالية أن كنسوكي كان مستغرقًا في تأمل الأحداث الرهيبة التي وقعت في ذلك اليوم. وانطلق يصنع قفصًا من الخَيْزُرَانِ المتين في آخر الكهف كَيْما يُدْخل فيه السعالي فتكون أكثر أَمْنًا إذا حدث وعاد القتلةُ يومًا ما. وظل يتحدث في الموضوع مرارًا وتكرارًا، فكان يقول إنه كان ينبغي أن يصنع القفص من قبل، ويقول إنه لم يكن ليصفح عن نفسه لو كان الرجال قد أسروا كيكانبو، وكم يتمنى لو كانت قرود الجيبون تستجيب لغنائه وتأتي حتى يستطيع إنقاذها كذلك. وقطعنا بعض فروع الأشجار وبعض النباتات من الغابة ووضعناها خارج مدخل الكهف، حتى نستطيع إقامتها ستارًا يخفيه عن العيون.
وأصبح بالغ القلق، بالغ الاضطراب، وكان كثيرًا ما يرسلني إلى قمة التل ومعي المنظار المقرب حتى أرى إن كانت السفينة اليَنْك قد عادت. لكنه مع مرور الوقت، ومع انحسار التهديد بخطر وشيك، عاد له طبعه الأول. ومع ذلك، كنت أحس أنه دائمًا على حذر، دائمًا متوتر قليلًا.
ولما كان يحتفظ الآن بعدد كبير من لوحاتي، فقد اكتشفنا أن ما لدينا من صدفات تصلح للرسم عليها يوشك أن ينفد. وهكذا انطلقنا مبكرًا ذات صباح في رحلة للبحث عن المزيد منها. وفحصنا الشاطئ كله بدقة، وقد انحنى رأسانا، ونحن نسير بجوار بعضنا البعض، لا تفصلنا إلا مسافة قصيرة. وكان العمل بجمع الصدفات دائمًا ما يتضمن عنصر المنافسة: مَنْ أول من يعثر على صدفة صالحة، ومن يعثر على أكبر صدفة، وأكثر الصدفات كمالًا. لم نكن قد قضينا وقتًا طويلًا في البحث، ولم يكن أيٌّ منا قد عثر على صدفة واحدة، عندما أدركْتُ فجأة أنه توقف عن المسير.
وهمس قائلًا: «ميكاسان»؛ مشيرًا إلى البحر بعصاه. كان في البحر شيء ما، شيء أبيض، لكنه كان محدد الملامح، محدد الشكل إلى الدرجة التي يستحيل معها أن يكون سحابة.
كنت قد تركت المنظار المقرب في الكهف. فانطلقْتُ أعدو، وستلا تنبحني طول الطريق، عائدًا إلى منزل الكهف، فالتقطْتُ المنظار المقرب واندفعت حتى وصلت إلى قمة التل. شراع! بل شراعان! شراعان أبيضان. ونزلت التل قفزًا، فدخلت الكهف والتقطت عصًا مشتعلة من النار، وعندما وَصَلْتُ إلى قمة التل كان كنسوكي قد سبقني إليه. وأخذ المنظار المقرب من يدي ونظر بنفسه.
وسألته: «هل أشعل النار؟ هل أشعلها؟»
وقال: «لا بأس يا ميكاسان. وهو كذلك.»
ودَسَسْتُ العصا المشتعلة في أعماق المنار، بين أوراق الشجر والأغصان الجافة في قلب المنار، واشتعلت فيه النار على الفور تقريبًا، وسرعان ما سَمِعْتُ أزيزَ ألسنةِ اللَّهَبِ وهي تضطرم في الخشب، بل وتَكاد تَلْمَسُنا أَطْرَافُها حيثما وَجَّهَتْها الرياح. وتراجعنا من شدة اللَّظَى والحرارة المفاجئة. وأحسست بخيبة الأمل لكثرة ألسنة اللهب، إذ كنت أنشد الدَّخَان، لا النار. كنت أريد سحابات دُخَان تصعد في الجو.
وقال كنسوكي: «لا تقلق يا ميكاسان. سوف يشاهدون هذا قطعًا. سترى.»
وتناوبنا استعمال المنظار المقرب. ولكن اليخت لم يستدر. لم يشاهدوا النار. وكان الدخان قد بدأ يمور صاعدًا في السماء. وباستماتة ألقيتُ المزيد والمزيد من الخشب في النار، حتى أصبحت جحيمًا هادرًا من ألسنة اللهب والدخان الكثيف.
وكنت قد ألقيت آخر الخشب الذي لدينا تقريبًا في النار حين قال كنسوكي فجأة: «ميكاسان! إنها قادمة. أظن أن السفينة قادمة.»
وأعطاني المنظار المقرب. كان اليخت يستدير. كان يستدير قطعًا، وإن كنت لم أستطع أن أتبيَّن إن كان يستدير باتجاهنا أو بعيدًا عنا. وقلت له: «لا أدري. لست واثقًا.»
وأخذ مني المنظار المقرب وقال: «أؤكد لك يا ميكاسان أن السفينة قادمة نحونا، لقد رأونا. واثق كل الثقة. إنها قادمة إلى هذه الجزيرة.»
وبعد لحظات عندما ملأت الريح الشراعين، تأكدت أنه على حق وتبادلنا الأحضان على قمة التل بجانب المنار المتقد. وبدأت أتواثب في مكاني كالمجنون، وغَضِبَتْ ستلا مني. وكنت كلما نظرتُ في المنظار المقرب الآن أرى اليخت يزداد اقترابًا.
وقلت: «إنه يخت كبير، لا أستطيع أن أرى رايته. لكن جسم السفينة أزرق أدكن، مثل بيجي سو»، وفي تلك اللحظة فقط، لحظة النطق باسم السفينة عاليًا، بدأت آمل أن تكون هي، وتدريجيًّا تحوَّل الأمل إلى اعتقاد، وتحول الاعتقاد إلى يقين. ورأيت قبعة زرقاء، قبعة والدتي الزرقاء. إنهما هما! إنهما هما! وهتفت وأنا ما زلت أنظر من خلال المنظار المقرب: «كنسوكي! كنسوكي! إنها السفينة بيجي سو. إنها هي. لقد عادَا من أجلي، لقد عادَا.» ولكن كنسوكي لم يرد. وعندما نظرت حولي اكتشفت أنه غير موجود.
وجدته جالسًا في مدخل منزل الكهف، وكرة القدم في حجره. ورفع بصره إليَّ، وكنت أعرف من نظرات عينيه ما كان يوشك أن يقوله لي.
وقف ووضع يديه على كتفي، وصوَّب إلى عينيَّ نظرة عميقة، وقال: «أصْغ إليَّ الآن جيدًا يا ميكاسان. إنني عجوز جدًّا لا أستطيع التوافق مع ذلك العالم الجديد الذي تحكي عنه. إنه عالم مثير جدًّا، لكنه ليس عالمي، عالمي كان اليابان، من زمن بعيد جدًّا. والآن أصبح عالمي هنا. لقد فكرتُ في الأمر طويلًا. إذا كانت كيمي على قيد الحياة، وكذلك ميشيا، فسوف يظنان أنني متُّ منذ زمن بعيد. سأصبح مثل شبح يعود إلى المنزل. لم أعد نفس الشخص، ولم يعودَا ما كانَا عليه. أضف إلى ذلك أن لي أسرة هنا. أسرة السعالي. لربما عاد القتلة من جديد. من الذي يرعاها إذن؟ لا! سوف أبقى في جزيرتي. هذا مكاني. هذه مملكة كنسوكي. لا بد أن يبقى الإمبراطور في مملكته، ويرعى شعبه. الإمبراطور لا يهرب. ليس أمرًا مشرِّفًا.»
كنت أُدرِك أنه لا جدوى من التوسُّل أو المناقشة أو الاحتجاج، ووضع جبهته فوق جبهتي وتركني أبكي. واستمر قائلًا: «اذهبْ أنت الآن، ولكن قبل أن تذهبَ، لا بد أن تَعِدَني بثلاثة أشياء. أولًا: ألَّا تهجُر الرسم في أيِّ يوم من أيام حياتك، حتى تصبح فنانًا عظيمًا مثل هو كوساي، وثانيًا: أن تفكِّر فيَّ أحيانًا، بل أحيانًا كثيرة، بعد أن تعود إلى وطنك في إنجلترا. إذا رأيت البدر المنير في السماء فتذكَّرْني، وسوف أفعلُ مثل هذا هنا. وهكذا لن ينسى أحدُنا الآخرَ أبدًا. والوعد الأخير بالغ الأهمية لي. مِن بالغ الأهمية ألَّا تقول شيئًا عن هذا، ولا عَنِّي. لقد جئتَ إلى هنا وَحْدَكَ. ومكثتَ وَحْدَكَ في هذا المكان. مفهوم؟ لستُ موجودًا هنا. أما بعد عشر سنوات فَلَكَ أن تقولَ ما تشاء. فلن يبقى عندئذ مني سوى العظام. ولن يهمَّ ما يكون عندها. لا أريد لأحد أن يأتي للبحث عني. فأنا أقيم هنا وأعيش حياة السلم. لا أريد بشرًا؛ فالبشر عندما يأتون ينتهي السلم. مفهوم؟ هل ستكتمُ سِرِّي يا ميكا؟ هل تَعِدُني بذلك؟»
وقلت له: «أَعِدُك.»
وابتسم وأعطاني كرة القدم، قائلًا: «خذ كرة القدم. أنت ماهر في لعب الكرة، ولكنك أمهر كثيرًا في الرسم. اذهب أنت الآن.» ثم وضع ذراعه على كتفي واصطحبني خارج الكهف، وقال: «اذهب.» ومشيتُ خطوات معدودة ثم التفتُّ إليه. كان لا يزال واقفًا في مدخل الكهف فقال: «اذهب الآن من فضلك» ثم انحنى لي. وانحنيتُ له وقال: «سايونارا يا ميكاسان! لقد تشرفت بمعرفتك، أكبر شرف في حياتي.» ولم أجد عندي الصوت الذي أجيبه به.
كانت الدموع تغشي بصري وأنا أجري في المسرب. ولم تَأْتِ ستلا على الفور، لكنها أدركتْني عندما وَصَلْتُ إلى حافة الغابة. وانطلقَت تعدو مسرعة على الشاطئ وهي تنبح السفينة بيجي سو، لكنني ظللتُ مختبئًا في ظل الأشجار أبكي حتى نَفِدَتْ دموعي. وتابعتُ بعيني بيجي سو وهي تدخل مياه شطِّ الجزيرة، وكان فوقها حقًّا والدتي ووالدي. وكانَا قد شاهَدَا الآن ستلا وجعلا يناديانها، وكانت تنبح نباحًا شديدًا أطار عقلها. وشاهدْتُ مرساة السفينة وهي تهبط.
وهمست «وداعًا يا كنسوكي» وأَخَذْتُ نَفسًا عَميقًا وانطلقت أجرى على الرمل وأنا أُلوِّح بيدي وأصيح.
ونزلتُ أجري في المياه الضحلة لملاقاتهما. وجَعَلَتْ أمي تحتضنني وهي تبكي حتى ظننتُ أن عظامي سوف تتكسر. وظلت تقول وتكرر: «ألم أقل لك إننا سنجده؟ ألم أقل لك؟»
وكانت أولى كلمات والدي لي حين رآني: «مرحبًا أيها القرد.»
ظلت والدتي ووالدي يبحثان عني ما يقرب من عام كامل. ولم يكن أحد على استعداد لمساعدتهما، لأن أحدًا لم يكن ليصدق أنني ما زلت على قيد الحياة، وكان الناس يقولون لهما إن احتمال حياته لا يصل حتى إلى واحد في المليون. وقد اعترف والدي فيما بعد بأنه كان يتصور أنني متُّ ولكن والدتي لم تفقد الأمل قط. كنت بالنسبة لها دائمًا على قيد الحياة، وكانت تقول إنني لا بد أن أكون حيًّا، وكانت واثقة من ذلك بقلبها وحسب. وهكذا ظَلَّا يُبحِرَان من جزيرة لجزيرة، ويواصلان البحث حتى عثرا عليَّ. لم يكن ذلك بفعل معجزة، بل بفعل الإيمان.