الفصل الثالث

سجل السفينة

٢٠ سبتمبر

الساعة الآن الخامسة صباحًا. وأنا أقوم بنوبة المراقبة في غرفة القيادة، والجميع نائمون. تركنا ساوثامتون منذ عشرة أيام، وكان القنال الإنجليزي مليئًا بناقلات النِّفْطِ. كانت عشرات الناقلات تغدو وتروح. وهكذا كان أبي وأمي يتبادلان المراقبة في الليلتين الأوليين، ولم يسمحَا لي بذلك. لا أدري لِمَ لا، لم يكن في الجو أيُّ ضباب، وقدرتي على الرؤية لا تقل عن قدرتهما.

كنا نعتزم أن نقطع مسافة ٣٢٠ كيلو مترًا في اليوم، أي أن نسير بسرعة ثماني عُقَد، ولكننا لم نستطع تجاوز ٨٠ كيلو مترًا يوميًّا في الأسبوع الأول.

كان بارناكل بيل قد حذرنا من خليج بسكاي، ما بين فرنسا وإسبانيا، وهكذا توقعنا سوء الأحوال الجوية فيه، وصَدَقَتْ توقعاتُنا. كانت قوة الريح فيه تصل إلى ٩ وأحيانًا إلى ١٠ عُقَد، وكانت الريح تتقاذفنا هنا وهناك. وظننت أننا سوف نغرق. بل كنت أعتقد ذلك حقًّا، وذات يوم عندما حملتنا موجة عالية رأيت مقدم السفينة بيجي سو يشير إلى أعلى، نحو القمر، فكأنما كانت سوف تنطلق إليه، وإذا بنا ننحدر إلى الجانب الآخر بسرعة خارقة حتى تصورتُ أننا سنغوص إلى القاع. كان الموقف سيئًا. أقصد أنه كان رهيبًا، رهيبًا حقًّا. ولكن بيجي سو لم تتفتت، ونجحنا في الوصول إلى إسبانيا.

أحيانًا يضيق صدر والدتي فتبهرنا عندما نرتكب خطأً ما، ولا يبدو أن والدي كان يغضب من ذلك، أقصد هنا — في البحر — بل يكتفي بأن يغمز لي بعينه فنستمر في العمل. كانا يلعبان الشَّطْرَنج كثيرًا عندما يسمح صفاء الجو بذلك. ووالدي متقدم على والدتي بخمسة أشواط مقابل ثلاثة. وتقول والدتي إنها لا تهتم، ولكنها مهتمة، وأستطيع أن أرى الدلائل.

لم نقضِ في ميناء لاكورونيا، شمالي إسبانيا، سوى يومين. كانت والدتي تنام كثيرًا، فهي مرهقة حقًّا. قام والدي بعمل بعض الإصلاحات في حبل الدفة عندما كنا هناك. ومع ذلك فلا يزال غير راض عنه. وبدأنا الإبحار نحو جزر الأزور منذ يومين.

كان أمس أفضل يوم للإبحار حتى الآن. فالنسائم قوية، والسماء زرقاء، ودفء الشمس الساطعة يكفي لتجفيف الأشياء. كنت علقت الشورت الأزرق الخاص بي على حبل الغسيل لكنه طار ووقع في البحر. غير مهم. لم أكن أحبه كثيرًا على أية حال. شاهدنا طيور الأطْيَش البحرية وهي تغطس في البحر في كل مكان لالتقاط الأسماك عصر هذا اليوم. رائع حقًّا. وأخذت ستلا أرتوا تنبح بجنون.

مللت أكل الفاصوليا المعلبة، ولا يزال لدينا مخزون كبير أسفل السفينة.

١١ أكتوبر

شاهدت أفريقيا اليوم! كان الساحل بعيدًا ولكن والدتي قالت إنها أفريقيا حقًّا. ونحن نبحر بحذاء الساحل الغربي. وبَيَّنَتْ والدتي ذلك على الخريطة. وسوف تدفعنا الريح بجانب الساحل لعدة مئات من الكيلو مترات ثم نعبر المحيط الأطلسي إلى أمريكا الجنوبية. يجب ألا نخرج عن المسار المحدد، وإلا دخلنا نطاق الرَّهْو الاستوائي، وهو نطاق سكون وخمود، لا تهب الريح فيه على الإطلاق، وقد تسكن فيه حركة السفينة أسابيع متوالية، أو حتى إلى الأبد.

figure

هذا أشد الأيام حرارة. واكتسى وجه والدي حمرة قانية، وبدأت بشرته عند أطراف أذنيه تتقشر، أما أنا فقد اكتسيت لونًا أسمر كالبندق، مثل والدتي.

شاهدت الأسماك الطيارة هذا الصباح، وكانت ستلا معي، ثم لمحت والدتي سمكة من أسماك القرش بالقرب من مقدم السفينة، وقالت إنها تستمتع بدفء الشمس. وأتيت بالمنظار المقرب، لكنني لم أستطع أن أراها قط. وقالت والدتي إن عليَّ أن أكتب عنها في مذاكرتي ولو لم أكن شاهدْتُها، ثم أرسم صورتها. وهكذا اضطُررت إلى قراءة ما كُتب عنها. إنها أسماك بالغة الضخامة، لكنها لا تأكل البشر، بل تقتصر على الأسماك وكائنات البلانكتون الدقيقة. أحب الرسم، وأفضل صورة رسمتها صورة سمكة طيارة.

أرسلت بطاقة بريدية إلى إدي من جزر الرأس الأخضر. ليته كان معي هنا، إذن لسعدنا وضحكنا معًا.

ستلا تحب الجري وراء كرة القدم في الغرفة ثم تثب فوقها. لسوف تخرقها بأنيابها يومًا ما. أنا واثق من هذا.

كان والدي متجهمًا قليلًا في الآونة الأخيرة، وذهبت والدتي لترقد وحدها، فلديها صداع. أظن أنهما تشاجرا قليلًا. لا أعرف سبب المشاجرة، لكنني أظن أنه الشطرنج.

١٦ نوفمبر

غادرنا لتوِّنا ميناء ريسيفي. وهو في البرازيل. مكثنا فيه أربعة أيام. كان علينا القيام بإصلاحات كثيرة في السفينة. كان جهاز توليد الريح يحتاج إلى إصلاح، وحبل الدفة لا يزال يلتصق بالبكرة أثناء الدوران.

figure

لعبتُ كرة القدم في البرازيل! هل سَمعْتَ بذلك يا إدي؟ لعبت كرة القدم في البرازيل وبِكُرَتِكَ ذات السعد! كان والدي يشاركني تقاذف الكرة وحسب على الشاطئ، وفجأة وجدنا عشرة أطفال ينضمون إلينا. ولعبنا مباراة حقيقية قام والدي بتنظيمها، وانقسمنا إلى فريقين، أطلقت على فريقي اسم «مدلاركس» وأطلق والدي على فريقه اسم «البرازيل»، وهكذا كان الجميع يريدون أن يلعبوا في فريقه — بطبيعة الحال! — ولكن والدتي انضمت إلى فريقنا وفزنا! كانت النتيجة «مدلاركس» ٥ والبرازيل ٣، وبعد ذلك دعت والدتي الأولاد لشرب الكوكاكولا في السفينة. وأخذت ستلا تزمجر في وجوههم وتكشف عن أنيابها، فاضطررنا إلى حبسها في الغرفة. وحاولوا مخاطبتنا بالإنجليزية، غير أنهم لم يكونوا يعرفون سوى كلمتين «جول» و«مانشستر يونايتد». إذن فهذه ثلاث كلمات!

وجاءت والدتي بالصور بعد تحميض الأفلام وطبعها، ومن بينها صورة دلافين تقفز في الهواء، وصورة لي بجوار الرافعة، وأخرى لوالدتي وهي تدير عجلة القيادة، ورابعة لوالدي وهو يقوم بإنزال الشراع الرئيسي بأسلوب بالغ السوء. وكانت من بينها صورة لي وأنا أقذف بقطعة من الصخر في البحر عندما توقفنا في جزر الكناري، وصورة أخرى لوالدي وهو مستغرق في النوم على ظهر السفينة يستمتع بالشمس ووالدتي تقهقه. كانت على وشك أن تضع قطرات الزيت الذي يحمي من الشمس على بطنه (أنا الذي التقطت هذه الصورة، وهي أفضل صورة صورتها). وكان من بين الصور أيضًا صورة لي وأنا أستذكر درس الرياضيات، وقد عبس وجهي وأخرجتُ لساني.

٢٥ ديسمبر

يوم عيد الميلاد في البحر. وجد والدي محطة إذاعة تذيع أناشيد عيد الميلاد. وتناولنا البسكويت «المقرمش» لكنه كان قد ابتل قليلًا فلم يصبح «مقرمشًا»، وتناولنا وجبة حلوى عيد الميلاد التي أعدَّتها جدتي لنا. وأهديتُ كلًّا منهما صورة رسمتها، فأهديتُ والدي صورة السمكة الطيارة وأهديتُ والدتي صورة الربَّان، أي صورتها وهي تدير عجلة القيادة وترتدي قبعتها. وأهداني والدي ووالدتي مُدْيَة جميلة حقًّا اشترياها لي في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل. وهكذا رَدَدْتُ إليهما قطعة نقود. هذا هو المفترض أن تفعله. فهو يجلب الحظ الحَسَن.

figure

عندما كنا في ريو دي جانيرو قمنا بتنظيف السفينة بيجي سو تنظيفًا متقنًا. كانت تبدو متسخة قليلًا من الداخل ومن الخارج، لكنها لم تعد كذلك. واشترينا مقادير كبيرة من المؤن والماء استعدادًا لقطع المسافة الطويلة إلى جنوب أفريقيا. وقالت والدتي إننا نسير سيرًا حسنًا، ما دمنا نحافظ على اتجاه السير جنوبًا، وما دمنا نلتزم بالإبحار في تيار جنوب الأطلسي المتجه من الغرب إلى الشرق.

مررنا جنوب جزيرة تُسمى سانت هيلانة منذ عدة أيام. لم نكن نحتاج إلى التوقف، فليس فيها الكثير. كل ما هناك أنها كانت المكان الذي نُفي إليه نابليون بونابرت. وقد تُوفِّي فيها. من المؤلم أن يموت الإنسان في هذا المكان الموحش. وهكذا كان عليَّ بطبيعة الحال، أن أكتب موضوعًا دراسيًّا عن نابليون في منهج التاريخ. كان عليَّ أن أقرأ ما كُتب عنه في دائرة المعارف وأن أكتب عنه. وقد وجدتُ الموضوع طريفًا لكنني لم أقل لهما ذلك.

الكلبة ستلا تقبع متجهمة في سريري. ربما حزنت لأنها لم تتلقَّ هدية عيد الميلاد من أحد. عرضت عليها أن تذوق حلوى عيد الميلاد التي أعدتها جدتي، ولكنها لم تلتفت إليها تقريبًا أو تشمها. وأنا لا ألومها على ذلك!

رأيت اليوم شراعًا، يختًا آخر. وهتفنا: عيد ميلاد سعيدًا ولَوَّحْنا بأيدينا، ونبحت ستلا نباحًا شديدًا، ولكن من فيه لم يردوا بسبب بعدهم الشاسع عنا. وعندما اختفى الشراع بدا البحر فجأة خاويًا فارغًا.

فازت والدتي في الشطرنج هذا المساء. أصبحت تتقدم على والدي، بواحد وعشرين مقابل عشرين. وقال والدي إنه تركها تفوز بسبب عيد الميلاد. كانا فيما يبدو لا يأخذان الموضوع مأخذ الجد، ولكنَّ كلًّا منهما يريد أن يفوز.

١ يناير

أفريقيا من جديد. مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا، وجبل تيبُل. ولن نمر بها أثناء إبحارنا وحَسْب هذه المرة بل سوف نرسو بالميناء. هذا ما قالاه لي هذا المساء. لم يكونا يريدان أن يقولا لي ذلك من قبل خشية ألَّا نقدر على ذلك ماليًّا، ولكن لدينا ما يكفي. سوف نمكثُ هنا أسبوعين، وربما فترة أطول. سوف نرى الأفيال والأسُود على طبيعتها في البرية، لا أستطيع أن أصدق ذلك. ولا أظن أنهما يستطيعان التصديق أيضًا. وعندما أخبراني كانا مثل طفلين، ضاحكين وسعيدين، لم يكن ذلك عهدي بهما في المنزل من قبل قط، إنهما يبتسمان لبعضهما البعض حقًّا هذه الأيام.

تعاني والدتي من تقلصات في المعدة. ويريد والدي أن يعرضها على طبيب في كيب تاون، لكنها ترفض ذلك. لا بد أن ذلك بسبب الفاصوليا المعلبة. أما الخبر السعيد فهو أن علب الفاصوليا قد نفدت أخيرًا. وأما الخبر السيئ فهو أننا تناولنا عشاءنا من السردين المعلب، أعوذ بالله!

٧ فبراير

كنا قطعنا مئات الكيلو مترات في المحيط الهندي، وإذا بهذا يحدث! فالواقع أن ستلا نادرًا ما تصعد إلى سطح السفينة إلا إذا كان البحر ساجيًا كالحصير. لا أعرف سبب صعودها ولا أعرف لماذا أتت، ربما كنا جميعًا مشغولين وحسب. فوالدي كان يعد الشاي في الطَّابق السفلي، ووالدتي تدير عجلة القيادة، وكنت أنا أمارس تدريبًا عمليًّا في الملاحة بتحديد موقعنا بجهاز السُدْسِيَّة؛ آلة المساحة، وكانت السفينة بيجي سو ترتفع وتنخفض وتتأرجح قليلًا، وكان عليَّ أن أَثْبُتَ في مكاني. ورفعت بصري فشاهدت ستلا واقفة في مقدم السفينة. كانت واقفة وفجأة اختفت.

figure

كنا تَدَرَّبْنَا عشرات المرات على عملية إنقاذ من يسقط في الماء من السفينة، في مضيق سولنت. مع بارناكل بيل. لا بد من الصياح وتحديد مكان السقوط، وتكرار الصياح، وتكرار الإشارة إلى المكان. ثم نلتفت إلى مهب الريح، ونقوم بخفض الأشرعة بسرعة، وندير محرك السفينة. وهكذا، فعندما انتهى والدي من إنزال الشراع الرئيسي والشراع المثلث الصغير في مقدم السفينة، كنا قد بدأنا التحرك إلى الخلف ناحية ستلا. كنت أنا أتولى الإشارة إلى المكان الذي سقطت فيه، والصياح المستمر أيضًا. كانت تضرب الماء بقوائمها حتى تنجو من موجة خضراء مقبلة عليها، وكان والدي قد انحنى على جانب السفينة، وأخذ يمدُّ يَدَهُ حتى يصل إليها، لكنه لم يكن يرتدي سترة الأمان، وكانت والدتي في شبه جنون. كانت تحاول أن تجعل السفينة تقترب إلى أقصى حد ممكن وبأبطأ سرعة من ستلا، ولكن موجة عارمة أبعدتها عنا في آخر لحظة وكان علينا أن نستدير ثم نعود من جديد. وكنت أنا أصيح وأشير بيدي إلى ستلا طول الوقت.

اقتربنا منها ثلاث مرات، ولكننا كُنَّا نتخطاها في كل مرة. أحيانًا كنا نسير بسرعة أكبر مما ينبغي وأحيانًا لم نكن نقترب منها إلى الحد الكافي. كانت بدأت تفقد قوتها، ولا تكاد تضرب الماء بقوائمها، وبدأت تغوص. كانت أمامنا فرصة أخيرة. اقتربنا منها من جديد، على النحو الصحيح هذه المرة، واقتربنا منها اقترابًا يمكِّن والدي أن يَمُدَّ يده ويمسك بها. وتعاون ثلاثتنا في إخراج ستلا من الماء، قابضين على طوقها الجلدي حول رقبتها وعلى ذيلها. وقال لي والدي: «أحسنت أيها القرد!» وجعلت والدتي تسخر وتضحك من والدي لعدم ارتدائه سترة الأمان. ولم يفعل والدي سوى أن احتضنها فاندفعت تبكي. ونفضت ستلا عن نفسها ماء البحر ثم هبطت إلى أسفل السفينة كأنما لم يحدث شيء على الإطلاق.

ووضعت والدتي قاعدة صارمة، وهي عدم السماح مطلقًا للكلبة ستلا أرتوا بالصعود إلى ظهر السفينة، مهما تكن الأحوال الجوية، دون أن نُلبسها سترة الأمان، مثلي ومثل والدي ووالدتي. وبدأ والدي يصنع لها سترة أمان خاصة.

ما زلت أحلم بالفِيَلَة في جنوب أفريقيا. أحْبَبْتُ مشيها في تَمَهُّل وتَأَمُّل، وعيونها الدامعة الحكيمة. وما زلت أذكر تلك الزَّرافات المتعالية التي تطل من عليائها عليَّ، وشبل الأسد الذي يرقد وقد وضع ذيل أمه في فمه. ورسمت صورًا كثيرة ولا أزال أنظر إليها حتى تُذَكِّرَني بما شاهدت. والشمس في أفريقيا كبيرة جدًّا، حمراء قانية.

أستراليا هي المحطة التالية، بحيواناتها ذات الجراب مثل الكُنْغُر والبُوسوم والوُمْبات. وسوف يستقبلنا العم جون في ميناء بيرث. سبق أن شاهدته في الصور لكنني لم أقابله حتى الآن. وقال والدي هذا المساء إننا لا نرتبط إلا بنسب بعيد، وقالت والدتي: «وهو بعيد جدًّا»، وضحك الاثنان. ولم أدرك الفكاهة المقصودة حتى عدت للتفكير في الأمر عندما حَلَّتْ نوبة مراقبتي.

تبدو النجوم أشد لمَعَانًا، ونجت ستلا من الغرق. أعتقد أنني أسعد مما كنت عليه في أي يوم من قبل.

٣ إبريل

figure

اقتربنا من بيرث، في أستراليا، لم أكن أرى حتى اليوم إلَّا المحيط الخالي الخاوي منذ أن غادرنا أفريقيا. يزيد استمتاعي حين تقتصر صحبتنا علينا وعلى السفينة بيجي سو والبحر. وأظن أننا نحس جميعًا هذا الإحساس، ومع ذلك فحين نلمح اليابسة دائمًا ما نحس بالفرحة الغامرة. وعندما لمحنا أستراليا للمرة الأولى تبادلنا الأحضان وجعلنا نتواثب، فكأننا كنا أول ملاحين يكتشفون قارة أستراليا في التاريخ. وأَخَذَتْ ستلا أرتوا تنبحنا كأنما جُنَّ جنوننا! وربما كنا كذلك، لكننا نجحنا! لقد قطعنا مسافة شاسعة من إنجلترا إلى أستراليا بحرًا! أي نصف الطريق حول العالم! وفعلنا ذلك وحدنا.

عادت إلى والدتي تقلصاتُ المعدة، سوف تعرض نفسَها قطعًا على طبيب في أستراليا. وعدتنا بذلك وسوف نجعلها تفي بوعدها.

٢٨ مايو

نحن في البحر من جديد بعدما يقرب من ستة أسابيع مع العم جون. كنا نظن أننا سوف نمكث في بيرث عدة أيام فقط، ولكنه قال إن علينا أن نشاهد أستراليا كما ينبغي أثناء وجودنا فيها. وهكذا اصْطَحَبَنَا للإقامة مع أسرته في مزرعة ضخمة. آلاف الأغنام. لديه أعداد كبيرة من الخيول، وهكذا قضيت وقتًا طويلًا في ركوب الخيل مع ابنتَي عمِّي الصغيرتين: بِيثْ وليزا، ورغم أنهما لم تتجاوزَا السابعة والثامنة، فهما تجيدان ركوب الخيل. كانتا تدعوانني «مايكي»، وعندما حان رحيلنا كانت كلمنهما تريد أن تتزوجني. لكننا سوف نصبح أصدقاء بالمراسلة بدلًا من ذلك.

رأيت حيَّة تُسمَّى ذات الرأس النحاسي. وقال العم جون إنني لو وطأتها بقدمي لقتلتني. وقال لي أن آخذ حذري من العناكب ذات الظهر الأحمر في دورة المياه. وبعدها لم أكن أتردد كثيرًا على دورة المياه.

كانوا يسموننا أبناء عمومتهم البريطانيين، وكنا نقيم حفلًا للشواء في الهواء الطلق كل مساء. وقضينا معهم أوقاتًا ممتعة. ولكنني كنت سعيدًا بالعودة إلى السفينة بيجي سو. والحق أنني اشتقْتُ إليها أثناء مقامنا في أستراليا، مثلما أشتاق إلى صديقي الصغير إدي. كنتُ أُرْسِلُ له بطاقات بريدية، وأحيانًا بطاقات عليها صور حيوانات غريبة إذا عثرت عليها. أرسلتُ إليه صورة دُبَّة الوُمْبات. ولقد رأيت هذه الحيوانات فعلًا، ومئات من حيوان البوسوم، والكثير من الكناغر. ولديهم في أستراليا أعداد كبيرة من الببغاوات البيضاء ذوات العُرْف، بل إنها تُعَدُّ بالملايين مثل العصافير لدينا في الوطن.

ولكن طيور النورس هنا أيضًا. وأينما ذهبنا في هذا العالم وجدنا دائمًا طيور النورس. والخطة الموضوعة هي أن نرسو في ميناء سيدني على الساحل الشرقي لأستراليا فترة من الوقت، ونستكشف الحاجز المرجاني قليلًا، ثم نبحر عبر بحر المرجان وشمالًا نحو بابوا غينيا الجديدة.

تحسنت حالة والدتي كثيرًا بعد تقلصات المعدة. وقال الطبيب في أستراليا إن السبب يمكن أن يكون طعامًا تناولته. وقد شُفِيَتْ الآن على أية حال.

الجو حار وخانق حقًّا، لكنه ساكن أيضًا، ولا توجد رياح، ولا نكاد نتحرك. لا أستطيع أن أرى أية سحب، لكنني واثق أن عاصفة ما سوف تهب. هذا ما أحسه.

٢٨ يوليو

أنظرُ حولي. إنها ليلة حالكة الظلمة. لا قمر ولا نجوم. ولكن السكون قد عاد أخيرًا. سوف أُتم عامي الثاني عشر غدًا، لكنني لا أظن أن أحدًا غيري سوف يتذكر ذلك.

figure

مر بنا وقت عصيب، أسوأ مما مر بنا في خليج بسكاي. فمنذ أن غادرنا سيدني توالت العواصف علينا دون انقطاع، وكانت كلمنها تدفعنا شمالًا عبر بحر المرجان. انقطع حبل الدفة. فَعَلَ والدي ما يستطيع ولكن الحبل لا يزال يحتاج إلى إصلاح. جهاز القيادة الذاتية لم يعد يعمل، وهكذا لا بد من وجود أحدنا عند عجلة القيادة طول الوقت، وهذا معناه إما والدي وإما أنا؛ لأن والدتي عاودها المرض، تقلصات المعدة من جديد، ولكنها ازدادت الآن سوءًا، وهي لا تريد أن تتناول أي طعام، وكل ما تتناوله هو الماء المُحَلَّى بالسكر. لم تستطع أن تنظر إلى الخرائط لمدة ثلاثة أيام. يريد والدي أن يرسل إشارة استغاثة ولكن والدتي تمنعه. وتقول إن معنى هذا هو الاستسلام. شاركني أبي في العمليات الملاحية، وبذلنا قُصارى جَهْدنا، ولكنني أعتقد أننا لم نعد نعرف مكاننا.

إنهما الآن نائمان في أسفل السفينة. والدي يعاني من الإرهاق الشديد. وأنا أدير عجلة القيادة في غرفة القائد، ومعي كرة القدم التي أهداني إدي إياها، لقد جلبت لنا الحظ الحسن حتى الآن، وهو أشد ما نحتاج إليه الآن حقًّا. نحتاج إلى شفاء والدتي، وإلا أصبحنا في مشكلة حقيقية. لا أعرف إن كنا نستطيع احتمال هبوب عاصفة أخرى.

الحمد لله على سكون الجو. سوف يساعد ذلك والدتي على النوم. فالنوم يتعذر حين تتقاذفك الأمواج طول الوقت.

الظلام دامس في البحر وستلا تنبح، وتقف على مقدم السفينة. وهي لا ترتدي سترة الأمان.

كانت هذه آخر كلمات كتبتها في سجل السفينة والصفحات التالية بيضاء.

حاولت أن أنادي ستلا أولًا لكنها لم تأت. وهكذا تركتُ عجلة القيادة تقدمتُ لإعادة ستلا. وأخذتُ الكرة معي لإرضائها وإغرائها بالعودة من مقدم السفينة.

وقبعتُ في مكاني وقلت: «تعالي يا ستلا!» وأنا أنقل الكرة من يد إلى يد، وناديتها «تعالي خذي الكرة.» وأحسست بالسفينة تميل قليلًا بسبب الريح، وعرفت حينذاك أنني أخطأت حين تركت عجلة القيادة. وأفلَتَت الكرة من يدي فجأة وتدحرجت فارتميت خلفها؛ لكنها كانت قد وصلت للجانب الآخر قبل أن أُمسكها. كنت مستلقيًا على ظهر السفينة أتابعُ الكرة بنظراتي وهي تختفي في الظلام. كنت غاضبًا أشد الغضب من نفسي بسبب حماقتي الشديدة.

كنت لا أزال ألوم نفسي عندما تصورت أنني أسمع صوت غناء. كان أحدهم يغني في مكان ما وسط الظلام. ناديتُ ولكنني لم أتلقَّ ردًّا. إذن، فذلك ما كانت ستلا تنبحه.

بحثت مرة أخرى عن كرتي لكنها كانت قد اختفت. كانت الكرة ثمينة جدًّا بالنسبة لي، وثمينة لنا جميعًا. وأدركت عندها أنني فَقَدْتُ لتوِّي ما يزيد كثيرًا عن مجرد كرة قدم.

كنت غاضبًا من ستلا، إذ كانت السبب في هذا كله. كانت لا تزال تنبح. ولم أعد أستطيع سماع الغناء. ناديتها من جديد، ودعوتها بالصفير للعودة، لكنها لم تأتِ. نهضتُ واقفًا وتَقَدَّمْتُ، وأمسكتُ بطوقها الجلدي وشددتها ولكنها رفضت أن تتحرك. لم أكن أستطيع أن أَجُرَّها للعودة بها هذه المسافة كلها فانحنيت حتى أحملها. كانت لا تزال رافضة. ثم احتَضَنْتُها بين ذراعيَّ وهي تجاهد للتحرر من قبضتي.

وسمعت زفيف الريح من فوقي في الأشرعة، وما زلت أذكر أنني قلت في نفسي: هذا حمق! إنك لا ترتدي سترة الأمان ولا سترة النجاة وعليك أن تتوقف عما تفعله. ثم إذا بالسفينة تميل بعنف وتُلقي بي جانبًا. ولما كنت أقبض بذراعيَّ على ستلا لم أجد الوقت اللازم لأمسك بسور السفينة الحديدي. وقبل أن أستطيع حتى أن أفتح فمي لأصرخ أصبحنا في وسط مياه البحر الباردة.

figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤