الفصل الرابع

قرود وأشباح

تتابعتْ أهوالُ الرعب بسرعة. وابْتَعَدَتْ أضواءُ السفينة بيجي سو ثم اخْتَفَتْ في ظلام الليل، تاركة إياي وحيدًا في المحيط، وحيدًا مع ثقتي بأن الأضواء قد بَعُدَتْ بُعْدًا شديدًا وأن صرخات استغاثتي من المحال أن يسمعها أحد. وخطر ببالي وجود أسماك القرش السابحة في المياه السوداء من تحتي، تتشمم رائحتي وتتعقبني وتشق طريقها إليَّ، وعَرَفْتُ أنه لا أمل. سوف تأكلني حيًّا. إما ذاك أو أن أغرق ببطء. لا يمكن أن ينقذني الآن شيء.

وضربت الماء بأقدامي فطفوت، وأنا أبحث بجنون في الظُّلمة الصَّمَّاء من حولي عن شيء؛ عن أي شيء يمكن أن أسبح لأصل إليه. لكنه لم يكن هناك شيء.

ثم لمحت فجأة شيئًا أبيض في الماء، ربما كان زَبَدَ موجة. لكنه لا توجد أمواج، ستلا! لا بد أن تكون ستلا، حمدت الله كثيرًا وشعرت براحة عميقة لأنني لم أكن وحدي، وناديتُها وسبحتُ تجاهها، لكنها كانت دائمًا بعيدة، تختفي وتعود للظهور ثم تختفي من جديد. كانت تبدو قريبة جدًّا، لكنني اضطررت إلى السباحة بشدة عدة دقائق قبل أن أقترب منها اقترابًا يكفي لمدِّ يدي ولمسها. وعند ذلك فقط أدركْتُ خطئي. رأس ستلا يغلب عليه السواد، وأما هذه فبيضاء. كانت كرة القدم. أمسكتُها وتَعَلَّقْتُ بها وقد أحسستُ بقدرتها الرائعة وغير المتوقعة على الطفو، وثابرتُ وأنا أضربُ الماء بقدميَّ وأنادي ستلا، لكنني لم أَلْقَ جوابًا. ناديتُ وناديت، لكنني كلما فتحتُ فمي الآن دَخَلَتْ فيه مياه البحر. كان عليَّ أن أكُفَّ عن النداء، فالواجب أن أُنقذ نفسي إذا استطعت.

لم يكن هناك جدوى من إهدار الطاقة بمحاولة السباحة. وعلى أية حال، لم يكن هناك مكان أسبح نحوه. وقررت بدلًا من ذلك أن أطفو وحسب. ومن ثَمَّ قررت أن أتعلق بكرة القدم، وأن أضرب الماء بقدميَّ ضربًا خفيفًا وأن أنتظر عودة السفينة بيجي سو. لا بد أن والديَّ سوف يكتشفان عاجلًا أو آجلًا أنني وقعت في البحر، وأن يأتيَا للبحث عني عاجلًا أو آجلًا. يجب ألا أرفس الماء بشدة، بل بما يكفي فقط للطفو، لإبقاء ذقني فوق سطح الماء. فكثرة الحركة سوف تجتذب أسماك القرش، ولا بد أن الصبح قريب، لا بد أن أثابر إذن حتى يطلع الصبح، لا مفر من ذلك. لم تكن برودة المياه قارسة، وكانت معي كرة القدم، والفرصة لا تزال قائمة.

ظللت أقول ذلك لنفسي المرة بعد المرة. ولكن الدنيا ظلت سوداء لا تريد التخفيف من سوادها من حولي، كما بدأت أشعر أن برودة الماء تُجَمِّدُني حتى الموت. حاولت أن أُغَنِّيَ حتى أتوقَّفَ عن الارتجاف وحتى أُبعد صور أسماك القرش عن بالي، غنَّيْتُ جميع الأغاني التي أذكرها، لكنني كنت بعد قليل أنسى كلمات الأغنية، ودائمًا كنت أعود إلى الأنشودة التي كنت واثقًا من إتمامها وهي «عشر زجاجات خضراء». غَنَّيْتُها بأعلى صوتي مرات كثيرة. كنت أستمد الاطمئنان من رنين صوتي، الأمر الذي جعلني أحسُّ بوحشة أقلَّ في البحر، وكنت دائمًا أبحث عن لمعة الفجر الخضراء، لكنها تأبى أن تأتي وتأبى أن تأتي.

وسَكَتُّ آخر الأمر ولم تعد رجْلاي تضربان الماء. وتعلَّقْتُ بكرة القدم، ورأسي ينساق إلى النوم. كنت أعرف أنني يجب ألا أنام، لكنني لم أستطع المقاومة. وكانت يدي كثيرًا ما تنزلق من الكرة. كنت أفقد بسرعة آخر ما لديَّ من قوة، وهكذا كنت سأهبط، وأهبط إلى قاع البحر وأرقد في قبري وسط الطحالب البحرية وعظام الملاحين الغرقى وحطام السفن.

والغريب أنني لم آبَه لذلك حقًّا. لم أكن أكترث، أو لم أعد أكترث. وجَعَلْتُ أطفو حتى غلبني النعاس، وجاءت الأحلام. ورأيت في حُلْمي سفينة تتقدم نحوي ساكنة فوق صفحة البحر. إنها بيجي سو! بيجي سو العزيزة الحبيبة! لقد عادا يبحثان عني، كنت أعرف أنهما سيعودان، وأَمْسَكَتْني أَذْرُع قوية، وحملتني إلى أعلى خارج الماء، ورقدتُ هناك فوق ظهر السفينة أنشق الهواء بصعوبة مثل سمكة حَطًّتْ على اليابسة.

كان شخص ما قد انحنى فوقي، وأخذ يهزني ويحادثني. لم أفهم كلمة واحدة مما قاله، لكن ذلك لم يهمني. شعرت بأنفاس ستلا على وجهي، وأحسست بلسانها يلعق أُذُني. لقد كُتِبَتْ لها السلامة. وكُتِبَت لي السلامة. كل شيء على ما يرام.

استيقظت على صوت عواء يشبه صوت عصف الريح الشديدة من خلال سواري السفينة. ونظرت حولي فلم أجد سارية واحدة فوقي، ولا شراعًا واحدًا، ولم أشعر بحركة تحتي أيضًا، ولا بأي نسيم يهب، كانت ستلا أرتوا تنبح، ولكنها على مبعدة ما مني، لم أكن فوق ظهر أيَّة سفينة على الإطلاق، بل راقدًا مُمَدَّدًا على الرمال، وتحوَّل صوت العواء إلى صياح، بل إلى صراخ حاد متصاعد ومخيف يخبو صوته فيما يُحُدثُهُ من أصداء.

وجَلَسْتُ. كنتُ على شاطئ البحر، منطقة رملية بيضاء عريضة، ومن خلفي أشجار كثيفة وكَثَّة حتى الشاطئ. ثم رأيتُ ستلا تتواثب في المياه الضحلة. ناديتُها فجاءت قفزًا من البحر لتحيتَّي، وذيلها يدور في الهواء بعنف. وبعد أن انْتَهَتْ من التنطيط ولعقي بلسانها واحتضاني، اجْتَهَدْتُ حتى وَقَفْتُ على قَدَمَيَّ.

كنت أشعر بضعف في جسمي كله. ونظرت حولي. كان البحر الأزرق الواسع خاويًا مثل السماء الصافية الخالية من السحب من فوقي. لم تكن هناك بيجي سو. لم تكن هناك أية سفن. لا شيء. لا أحد. ناديتُ وناديتُ مرات على أمي وأبي، وظللت أنادي حتى اغرورقت عيناي بالدموع ولم أعُد أستطيع النداء، وحتى أدركت أنه لا فائدة في النداء، ووقفتُ هنالك بعض الوقت أحاولُ أن أفهم كيف انتهيتُ إلى هذا المكان، وكيف تسنَّى لي أن أنجو، وقد اخْتَلَطَت الذكرياتُ في رأسي، بعضها يقول إنهما أنقذاني، وبعضها يقول إنني على متن السفينة بيجي سو، لكنني الآن واثق أن هذا محال، لا بد أنني رأيت ذلك في المنام، وحلمت بكل ذلك. لا بد أنني تعلقت بكرة القدم فظللتُ طافيًا حتى ألقتني الأمواج على الشاطئ. وخطرتْ ببالي كرة القدم عندها، لكنني لم أستطع رؤيتها في أي مكان.

ولم يكن يعني ستلا، بطبيعة الحال، تساؤلي عن الأسباب والعلل، بل ظلت تأتي لي ببعض العِصِيِّ حتى أقذفها فتجري خلفها ركضًا لتحضرها من البحر دون أن يقلقها شيء في الدنيا.

ثم عادت أصوات العواء القادمة من جهة الأشجار، فاستفزت ستلا حتى وَقَفَ شعرُ رقبتها، وانْطَلَقَتْ تجري على الشاطئ وهي تنبحُ وتنبحُ حتى تَأكَّدَتْ أنها قد أسكَتَتْ آخر الأصداء. ولكنَّ العواء هذه المرة كان موسيقيًّا يشبه النواح ولا يوحي بأي تهديد على الإطلاق. وقلت في نفسي إنني أعرف مصدر هذه الأصوات. فلقد سمعتُ أصواتًا تشبهها ذات يوم في زيارة إلى حديقة الحيوان في لندن. إنها أصوات قردة «الجيبون»، وكان والدي يسميها «الجيبون الجبانة». ولا أزال أجهل سر هذه التسمية، وإن كان جَرْسُ الألفاظ يستهويني. وربما كان ذلك هو السبب الذي جعلني أتذكرها، وقلت لستلا: «ليست سوى قردة الجيبون! الجيبون الجبانة! وهي لن تؤذينا.» ولكنني لم أكن واثقًا أنني كنت على صواب.

وكنت أستطيع من الموقع الذي وقفت فيه أن أرى أن الغابة تَخِفُّ كثافة أشجارها على جانب تل عظيم يقع على مبعدة من الشاطئ، وخطر لي عندها أنني لو استطعت الوصول إلى الصخور الناتئة الجرداء عند القمة فسوف أتمكن من مَدِّ بصري إلى مسافة أبعد في البحر. أو ربما كان هناك منزل أو مزرعة إذا ابتعدنا أكثر عن الشاطئ، وقد يكون هناك طريق من الطرق، وعندها أَجِدُ من يمدُّ لي يَدَ المساعدة. لكنني قلت في نفسي: لنفرض أنني غادرت الشاطئ فعادَا للبحث عني، فماذا يكون حالي؟ وقررت أن من واجبي أن أغتنم تلك الفرصة.

وانطلقتُ أجري، وستلا أرتوا في أعقابي، وسرعان ما وجدت نفسي في ظل الغابة الرطيب. واكتشفت مسلكًا ضيِّقًا صاعدًا في التل، ورأيت أنه يمثل الوجهة الصحيحة. وهكذا سرت فيه جريًا ثم أبطأتُ السرعة عندما أصبح التلُّ شديدَ الانحدار. كانت الغابة عامرة بالكائنات الحية. كنت أسمع وقوقة الطيور وصرخاتها عند ذوائب الأشجار العالية من فوقي، وأصوات العواء القديم ينقلها الهواء كأنها النواح من خلال الأشجار، وإن بدا أنني ابتعدت عنها الآن.

ولكن مصدر قلقي لم يكن أصوات الغابة، بل العيون! إذ شعرتُ بأن ألف عين مستطلعة تراقبني. وأظن أن ستلا شعرتْ بذلك أيضًا، إذ إنها التزمت بصمت غريب منذ أن دخلنا الغابة، وكانت دائمًا ما تتطَلَّعُ إليَّ طلبًا للاطمئنان والراحة. وبَذَلُتُ قصارى جهدي في ذلك، ولكنها كانت تشعر أيضًا أنني كنت خائفًا.

ولكن مسيرتي التي كنت أظنها جولة قصيرة بدت لي الآن رحلة كبيرة في داخل تلك الأرض، فبعد أن خرجنا مُنْهَكَيْن من وسط الأشجار، صعدنا بصعوبة وجَهْد جهيد ركامًا صخريًّا حتى استطعنا أخيرًا أن نقف فوق القمة.

كانت الشمس الساطعة شديدة الحرارة. ولم أكن قد أحسست بحرارتها اللافحة حتى تلك اللحظة. وألقيت نظري على الأفق كله. وأمعنت النظر حتى أرى إن كان هناك شراع ما يلوحُ على البعد، لكنني لم أشاهدْ شيئًا. ثم قلتُ في نفسي: فلنفرض أنني شاهدت شراعًا ما، ماذا يمكنني أن أفعل؟ لم أكن أستطيع إشعال نار، فليست معي أعواد ثقاب. كنت أعرف أن إنسان الكهوف كان يُشْعِلُ النار بحكِّ العصيِّ بعضها بالبعض، لكنني لم أجرب ذلك من قبل، ونظرت حولي الآن في كل اتجاه. البحر. البحر. البحر. لا شيء سوى البحر من جميع الاتجاهات. كنت في جزيرة. وأنا وحدي هنا.

لم يكن يبدو أن الجزيرة يزيد طولها على ثلاثة كيلو مترات أو أربعة، لا أكثر. وكان شكلها يشبه قليلًا حبة فول سوداني طويلة، وإن كانت أَعْرَضَ في جانب منها من الجانب الآخر. ورأيت على كل جانب منها شاطئًا يمتد كأنه شريط أبيض لامع، وفي آخرها الآخر، وجوانبه أشد انحدارًا وتنمو عليها غابات أشد كثافة، لكنه لا يبلغ ارتفاع التل الذي أقف فوقه، وكانت الجزيرة كلها تبدو مغطاة تمامًا بالغابات باستثناء القمة الجرداء لكل من هذين التَّلَّيْن. وحسبما استطعت أن أرى، لم أجد أي دليل على أيَّة حياة بشرية. وأنا أذكر الآن — حتى أثناء وقوفي هناك في أول صباح أقضية في ذلك المكان، وقد غمرتني المخاوف من عواقب وقفي الرهيب — أنني قلت في نفسي ما أروع تلك الجزيرة؛ فهي كالزمردة الخضراء في إطار أبيض، والبحر يحيط بها من كل مكان، بلون أزرق حريري متلألئ. ومن الغريب أنني لم أشعر إطلاقًا بالاكتئاب، وربما كان الجمال الفذ لذلك المكان هو الذي أتاني بالتسرية والراحة.

ومن الغريب أيضًا أنني أحسست، على العكس من ذلك، بالزهو! كنت على قيد الحياة! وكذلك كانت ستلا أرتوا! لقد نجونا!

وجلست في ظل صخرة كبيرة، وقامت قردة الجيبون بتشكيل جوقة إنشاد جديدة من العواء والنعيب في الغابة، وجعلَت جماعة من الطير ذات أصوات جَشَّاء تُردِّد صياحًا كالصليل من خميلة الأشجار تحت موقعنا ثم طارت فعبرت الجزيرة لتحطَّ فوق الأشجار القائمة على جانب التل المقابل.

وقلت لستلا: «سنكون بخير! أمي وأبي سوف يعودان إلينا لا بد أن يعودا، بل من المؤكد أن يعودَا، سوف تُشفى والدتي ويعودان إلينا، لن تتركنا هنا، سوف تعثر علينا وسوف تَرَيْن. ليس علينا إلا أن نواصل ترقبنا لهما، وأن نظل على قيد الحياة. الماء! سوف نحتاج إلى الماء. ألا تحتاج إليه هذه القرَدَةُ؟ كل ما علينا هو أن نحاول العثور عليه، لا أكثر. ولا بد أن يكون هنا أغذية أيضًا؛ فواكه أو بندق، أو أي شيء. ومهما يكن ما تأكله القردة فسوف نأكله.»

وساعدني التعبير بصوت عال عن أفكاري لستلا، وأعانني على إخماد الذُّعر الذي كان يدهمني الآن في موجات، وأما أهم ما ساعدني على تحمل تلك الساعات الأولى في الجزيرة، فكان صحبة ستلا لي.

بدا لي من المعقول ألا أغوص في أعماق الغابة فورًا بحثًا عن الماء، والحق أن خوفي كان يمنعني على أية حال، بل أن أستكشف منطقة الشاطئ أولًا، فربما عثرت على جدول أو نهر يصب في البحر، وإذا صادفني بعض الحظ فربما وجدت شيئًا أستطيع أن آكله أيضًا.

وانطلقْتُ مستبشرًا، هابطًا الركام الصخري وَثْبًا كأنني من الماعز الجبلي. وقال لي عقلي إننا نستطيع أن نعيش حيث يعيش القرود. وجعلت أقول ذلك لنفسي. وسرعان ما اكتشفتُ أن الطريق الذي يتوسط الأشجار لم تكن فيه أية نباتات تؤكل. شاهدتُ فعلًا فواكه من نوع ما، أو ما بدا لي أنه فواكهُ على أية حال. كانت هناك أشجار جوز الهند أيضًا، لكنه كان من المستحيل تسلقها. كان طول بعضها يزيد على ثلاثين مترًا، والبعض الآخر يزيد على ستين. لم أر في حياتي قط مثل هذه الأشجار العملاقة.

كان الخميلة المتشابكة الأغصان تمثل المأوى المنشود هربًا من قيظ النهار، على الأقل، ومع ذلك فقد غدوت أشعر بالعطش الشديد، وكذلك غدت ستلا. كانت تمشي بجواري بخطًى خافتة طول الطريق، وقد أخرجت لسانها. كانت ترمقني بنظرات الألم كلما التقت عيوننا، لكنني لم أكن أستطيع التسرية أو التخفيف عنها.

وعدنا إلى شاطئنا من جديد ثم انطلقنا نطوف بالجزيرة، ملتزمين قدر الطاقة بحافة الغابة، حتى نسير في الظل. لكننا أيضًا لم نجد أي جداول. ورأيت من جديد فواكه كثيرة، لكنها كانت في أشجار بالغة الارتفاع، كما كانت جذوعها ملساء ناعمة من المحال تسلقها. وعثرت على كثير من ثمار جوز الهند على الأرض، ولكنها كانت دائمًا مكسورة ومفتوحة وخاوية.

وعندما وصلنا إلى قرب نهاية الشاطئ اضطُررنا إلى أن نضرب في شعاب الغابة نفسها. وهنا وجدت طريقًا ضيقًا أستطيع السير فيه، وأصبحَت الغابة في هذه اللحظة صَمَّاء ظلماء تنذر بالأخطار. توقفت أصوات العواء، وحل محلها شيء أشد إنذارًا بالشر؛ أصوات ارتجاف أوراق الأشجار، وقعقعة تكسير الغصون، وخشخشات خفية مفاجئة، وكانت جميعًا قريبة مني وتحيط بي في كل مكان. وعرفت، بل أصبحت على ثقة تامة، أن هناك عيونًا تراقبنا. كان هناك من يقتفي خطانا.

وأسرعت الخُطَى وأنا أحاول قدر الطاقة أن أبتلع مخاوفي. وجالت بخاطر صُوَرُ قِرَدَةِ الجيبون التي رأيتها في حديقة الحيوان، وحاولت أن أَقنع نفسي بأنها كانت تبدو بريئة أبعد ما تكون عن إيذاء أحد. وقلت في نفسي: لسوف تتركنا وما نحن فيه ولن تهاجمنا أبدًا؛ إنها لا تأكل لحم البشر، ولكنه عندما زاد اقتراب أصوات الخشخشة، وزاد ما يَكمُن فيها من نُذُر الخطر، ازدادت صعوبة إقناع نفسي بما أقول، وبدأتُ أجري، وظللتُ أجري حتى انتهى الطريق بنا إلى الصخور، إلى ضوء النهار الرحيم الجميل، ورأيتُ البحر من جديد.

كان هذا الطرف من طرفَي الجزيرة يبدو ساحة تناثرت فيها الجلاميد الهائلة القائمة مثل الصخور السامقة التي سقطت على طول البحر. وجعلنا نثب من جلمود إلى جلمود، وقد ركَّزْتُ بصري بحثًا عن قطرات المياه التي يمكن أن تصبح جدولًا يجري بين الصخور منحدرًا من الغابة العالية، لكنني لم أجد شيئًا.

وشعرتُ آنذاك بالإرهاق الشديد. فجلست لأستريح، وقد جَفَّ حلقي وأحسستُ برأسي ينبض ويخفق، وعَذَّبَتْني خواطر اليأس فقلت ربما أموت عطشًا وربما مَزَّقَتِ القرودُ جسمي وقَطَّعَتْني إرْبًا إرْبًا.

وتَطَلَّعَتْ عينا ستلا إلى عينيَّ، فقلت لها: «لا بد أن يكون هنا ماء، لا بد.» وقالت عيناها: إذن، ماذا تفعل بجلوسك هنا تتأسى على حالك؟

أرغمْتُ نفسي على الوقوف وواصلتُ المسير. كانت مياه البحر في الغدران بين الصخور باردة ومغرية، وذقتها، لكنها كانت مَلِحَة ومُرَّة غليظة، فلفظتُها من فمي فورًا. كل من يشربُها يصابُ بالجنون. كنتُ متأكدًا من ذلك.

كانت الشمس قد هبطت في السماء عندما وصلنا إلى شط البحر على الجانب الآخر من الجزيرة، ووفقًا لحساباتي لم نكن قطعنا سوى نصف المسافة حول الجزيرة. كان هذا المكان أكبر كثيرًا مما بدا لي من موقعي فوق التل السامق هذا الصباح. وعلى كثرة ما بحثتُ وفتشتُ لم أجدْ أيَّ ماء، ولا طعام. لم أكن أستطيع الاستمرار في السير، ولا ستلا، كانت ترقد متمددة بجواري على الرمال وهي تلهثُ من فَرْط الجَهْد. كان لا بد لنا من قضاء الليل حيث كُنَّا، خطرَ لي أن أدخلَ الغابة قليلًا حتى أرقدَ على الأرض تحت الأشجار، وقد أستطيع أن أصنع لنفسي فِراشًا من الأوراق الجافة اللينة، فأرضيَّة الغابة زاخرة بها، ولكنني لم أجرؤ على المغامرة بالدخول، خصوصًا وظلال الليل تهبط بسرعة على الجزيرة.

وكانت أصوات العواء قد بدأت من جديد في أقاصي الغابة، فبدت أنشودة مساء رخيمة أخيرة، واستمر ذلك الغناء دون توقف حتى غشي الظلام الجزيرة كلها. وكانت أصوات أزيز وأنين الحشرات (أو ما افترضت أنها حشرات على أية حال) تصلني من الغابة. وسَمِعْتُ أصوات نَقْر أجوف، مثل أصوات طائر نقار الخشب إذا انهمك في نقر جذع شجرة بمنقاره. وسَمِعْتُ أصوات صرير وخدْش ونخر وحز مثل نقيق الضفادع، كانت فرقةُ الغابة الموسيقية كلها تضبط أوتارها، ولكن مصدر خوفي لم يكن الأصوات، بل العيون الخفية مثل الأشباح، كنت أريد أن أبتعد قدر طاقتي عن تلك العيون، فوجدت كهفًا صغيرًا في أحد طرفَي الشاطئ، أرضيته من الرمل الجاف.

واستلقيت على الأرض وحاولت النوم، ولكن ستلا لم تسمح لي بالنوم، إذ ظلت تئن إلى جواري من ألم الجوع والعطش، فلم أستطع أن أنام إلا نومًا متقطعًا.

كانت الغابة تَطنُّ وتُوَقْوِقُ وتنعقُ، ولم يتركني البعوضُ طول الليل كذلك. كان يئز فوق أذنيَّ فيصيبني بالجنون، وسَدَدْتُ أذنيَّ بيديَّ حتى لا أسمع أصواته. وتكوَّرْتُ حول ستلا، محاولًا أن أنسى أين كنت وأن أُغْرقَ نفسي في أحلامي، وتذكرت عندئذ أن اليومَ عيدُ ميلادي، وذكرت آخر عيد ميلاد لي في الوطن مع إدي ومع مَطْ، وحفل الشواء الذي أقمناه في الحديقة، وطِيْب رائحة السجق الرائعة. وخَلَدْتُ إلى النوم أخيرًا.

واستيقظتُ في الصباح وأنا أشعرُ بالبرد والجوع وأرتجف، وقد مَلأَتْ جسمي لَدَغَاتُ البعوض، واستغرقْتُ لحظات في تذكُّر أين كنتُ وكلَّ ما حدث لي. وغلبني فجأة إحساسي بأهوال الواقع المرير هولًا بعد هول: وحدتي التامة، وانفصالي عن أمي وأبي، والأخطار المحيقة بي.

وبكيتُ بصوت عال لما أنا فيه من شقاء، حتى أدركتُ أن ستلا قد ذهبت، فخرجت أجري من الكهف، لكنني لم أجِدْها في أي مكان. ناديتُها، وأصَخْتُ السمع، ولكن قرود الجيبون فقط هي التي أجابتني، ثم استدرتُ فرأيتُها. كانت تقف على الصخور العالية المطلة على الكهف، شبه مختفية عن نظري، ومع ذلك فقد استطعتُ أن أرى أنها قد انحنتْ برأسها على الأرض. كانت بوضوح تركز اهتمامها على شيء ما، ومن ثَمَّ صعدتُ الصخور لاستجلاء الأمر.

سمعتُ صوتَها وهي تشربُ قبل أن أصلَ، إذ كانت تلعقُ الماء بانتظام وبصوت عال كشأنها دائمًا، بل إنها لم ترفعْ رأسها حين اقتربْتُ منها، وعندها رأيتُ أنها تشرب من وعاء صغير؛ وعاء من الصفيح القديم، ثم لاحظتُ وجود شيء غريب على رف مسطح من الصخر فوقها.

وتركت ستلا تهنأ بالارتواء وتسلَّقْتُ صخورًا أخرى لفحص الموضوع. كان على الرف وعاء آخر به ماء، وبجواره بعض خوص النخيل المرصوص على الصخرة وشبه مغطى بوعاء مقلوب من الصفيح. وجلستُ وشربتُ الماء فورًا دون أن أتوقف لالتقاط أنفاسي. لم أشرب في حياتي ماءً أطيب مذاقًا من هذا الماء. كنت لا أزال ألهث، لكنني أزحت الغطاء الصفيح. سمك! شرائح رقيقة من السمك الأبيض شبه الشفاف، عشرات منها، مصفوفة بعناية فوق الخوص، وخمس أو ست بل سبع موزات حمراء صغيرة. موز أحمر!

بدأت بأكل السمك، متلذذًا بكل شريحة ثمينة على حدَة، لكنني كنت، حتى أثناء الأكل، أنظر حولي بحثًا عن أي ارتجاف لأوراق الأشجار على حافة الغابة ينبئني بما وراءه، أو عن آثار أقدام في الرمال. لكنني لم أرَ شيئًا. ولكنْ لا بد أن شخصًا ما قد أحضر هذا كله من أجلي، لا بد أن يكون هناك شخص ما، لا بد أن شخصًا ما يراقبني. ولم أكن واثقًا إن كان عليَّ أن أخاف من هذا الاكتشاف أو أن أطير فرحًا به.

لكنَّ ستلا كانت تقاطع أفكاري. كانت تُصْدر نشيجًا يثير الأسى وهي واقفة تنظر إليَّ من الصخرة من تحتي، وكنت أعرف أنها لا تطلب الحب أو التَّسْرية. كانت تلتقط كل شريحة سمك أُلقيها إليها، وتلتهمها دفعة واحدة وتنتظر شريحة أخرى، وقد مال رأسها إلى جانبها، وانتصبت إحدى أذنيها. وبعد ذلك كنت آكل شريحة وألقى لها بشريحة. لم تكن نظراتها المستعطفة تسمح لي بغير هذا.

لم يكن السمك مطبوخًا، لكنني لم آبه. لم يكن جوعي الشديد يسمح لي بأن آبه، وكذاك كانت ستلا. أما الموز الأحمر فقد احتفظْتُ به لنفسي. وأكلتُ جميع الموزات. لم تكن مثل الموز الذي اعتدناه في الوطن، بل كانت ذات مذاق أحلى بكثير، وأكثر عصارة، وأشهى وألذ كثيرًا. كان يمكنني أن آكل عشر موزات أخرى.

وعندما انتهيت من الطعام وقفت وألقيت نظرة فاحصة على الغابة. إنَّ من أسدَى إليَّ هذا المعروف — مهما يكن، ورجلًا كان أو امرأة — لا بد أن يكون قريبًا مني. كنت واثقًا أنه لا يوجد ما يدعوني للخوف. وكان عليَّ أن أتصل به اتصالًا ما، فوضعت يدي كالبوق حول فمي وجعلت أهتف مرارًا «شكرًا لك! شكرًا لك! شكرًا لك!» وتَردَّدَتْ أصداء كلماتي في أرجاء الجزيرة. وفجأة سَرَتِ الحياة في الغابة وانطلقت الأصوات: نشاز عظيم من الغناء والنعيب والعواء والنعيق والنقيق. وجَعَلَتْ ستلا ترد عليها بنباحها الشديد. وأما أنا فأحسست بالفرح، والزهو، والسعادة، والنشوة. وجعلت أتواثب وأنا أضحك وأضحك، حتى تحولت ضحكاتي إلى دموع الفرح. لم أكن وحدي في هذه الجزيرة! ومهما يكن ذلك الشخص فهو يُضْمِرُ لي الود. وإلا فلماذا أطعمنا؟ ولكن لماذا لا يُظهر نفسه؟

وقلت في نفسي إنه لا بد أن يعود ليأخذ الأوعية. وقررت أن أترك له رسالة. وجدت حجرًا حاد الطرف فانحنيت، ونقشت رسالتي على الصخرة بجوار الأوعية، وهي: «شكرًا لك. اسمي مايكل. سَقَطْتُ من سفينة. من أنت؟»

وقررت بعد ذلك أن أبقى على الشاطئ طول ذلك النهار، قريبًا من كهفي والصخرة التي تطل عليه حيث ترك صاحبنا السمك لنا. لا بد ألا تغفل عيني عنها، حتى أستطيع على الأقل أن أشاهد الذي ساعدني.

وانْطَلَقَتْ ستلا تجري أمامي فَنَزَلَت البحر، وهي تنبح لي كي تدعوني لمشاركتها. لم أكن بحاجة إلى إقناع. فألقيت بنفسي في الماء وأنا أتواثب وألهو وأهتف وأضْرِبُهُ بِيَدَيَّ ورجليَّ، وكانت هي أثناء مرحي الطليق تنطلق سابحة لا تلوي على شيء. كانت تبدو عليها سيماء الجد دائمًا عندما تسبح، رافعة ذقنها، وتضرب الماء بقوائمها في ثقة.

كان البحر ساجيًا هادئًا ولا تكاد ترى فيه أدنى حركة للموج. لم أجرؤ على السباحة في المنطقة العميقة، فلقد نلْتُ ما يكفيني العمر كله من جَرَّاء ذلك! وخرجت من البحر أشعر بالنظافة والانتعاش والحيوية — خرجتُ شخصًا جديدًا. كان البحر مصدر شفاء عظيم. كانت آثار لذع البعوض ما زالت موجودة ولكنها لم تعد تؤلمني.

وقررت اكتشاف المزيد من منطقة الشاطئ، وحتى آخره إذا استطعت، بشرط أَلَّا يغيب كهفي عن بصري لحظة واحدة. كانت هنا قواقع بحرية، ملايينُ القواقع، بعضها ذهبي اللون وبعضها وردي، ملقاة في صفوف طويلة بحذاء الشاطئ، وقبل وقت طويل شاهدت ما بدا لي من مسافة بعيدة نُتُوءًا صخريًّا مسطحًا لا يخرج إلا قليلًا عن مستوى الرمال. وكانت ستلا تخمش الأرض بحماس في طرفه، واتضح أنه لم يكن من الصخر على الإطلاق بل كان لوحًا معدنيًّا طويلًا علاه الصدأ — والواضح أنه كان كل ما بقي من جانب هيكل سفينة غدا الآن دفينًا في أعماق الرمال، وقلت في نفسي تُرى ماذا كانت تلك السفينة، وكم مضى من الزمن على تحطمها. تُرى هل دَفَعَتها عاصفة رهيبة نحو الجزيرة؟ هل نجا من ركابها أحد؟ أيمكن أن يكون أحدهم مقيمًا هنا حتى الآن؟ وانحنيتُ على الرمل وتحسستُها بيدي. وعندها لاحظت وجود قطعة من الزجاج الشفاف فوق الرمل على مسافة قريبة، وربما كانت ما بقي من إحدى الزجاجات. كانت بالغة السخونة فلم أستطع أن ألمسها، ناهيك بأن أمسكها بيدي.

وخَطَرَ لي خاطر كالبرق. كان إدي قد علمني الطريقة، وكنا جربناها في فناء المدرسة، مختبئين خلف صناديق القمامة حيث لا يشاهدنا أحد. قطعة من الورق وشظية من الزجاج والشمس، وأشعلنا النار! لم تكن لدي أية أوراق، ولكن أوراق الشجر تصلح. وانطلقتُ أجري على الشاطئ وجمعتُ ما استطعت أن أَجِدَهُ من تحت الأشجار؛ قطع من العِصِىِّ والأغصان وشتى أنواع ورق الشجر — ما رقَّ منها — حتى أصبح مثل ورق الكتابة وجفَّ جفافًا تامًّا. ووضعتُها في كومة صغيرة على الرمل وجَلَسْتُ بجوارها. وأمسكتُ بقطعة الزجاج في يدي بالقرب من ورق الشجر وضبطت الزاوية حتى تجمع ضوء الشمس. كان عليَّ أن أجلس ساكنًا، بل ساكنًا تمامًا، وأنتظر أول بشائر الدُّخان.

وجلست طويلًا، وجاءت ستلا فأزعجتني، إذ كانت تريد أن تلعب، فدفعتُها بعيدًا عني، وذَهَبَتْ آخر الأمر ممتعضة واجمة، وجعلت تتمدد وهي تتنهد في ظل أشجار النخيل، كانت حرارة الشمس حارقة، ولكنْ لم يحدث شيء. وبدأت ذراعي تؤلمني، وهكذا أقمتُ هيكلًا من الغصون فوق أوراق الشجر، ووضعتُ الزجاجة فوقه، وقبعتُ بجواره وانتظرت. ولكن لم يحدث شيء أيضًا.

وفجأة هَبَّتْ ستلا من رقادها، وفي حَلْقها صوت زمجرة عميقة. والتفتتْ وانطلقتْ تجري نحوي، ثم استدارت كي تُوَجِّه نباحها الغاضب إلى الغابة، ثم رأيت ما أزعجها.

كان تحت الأشجار ظل يتحرك قادمًا بخُطى متثاقلة نحونا. كان قردًا، قردًا عملاقًا، لم يكن من قرود الجيبون على الإطلاق. كان يمشي الهُوَيْنى على أطرافه الأربعة، لونه بني؛ بني ضارب إلى الصُّفرة. كان سِعْلاة، أو ما يُسمى أيضًا إنسان الغابة، وكنت واثقًا من ذلك. وقعد ذلك القرد على مبعدة خطوات معدودة مني وأخذ يحدق فيَّ، لم أجرؤ على الحركة، ولما شاهد ما يكفيه، حكَّ رقبته دون اهتمام واستدار، ثم عاد يسير على أربع ببطء عائدًا إلى الغابة. واستمرت ستلا في زمجرتها حتى بعد أن مضى بفترة طويلة.

إذن كانت هنا السعالي أيضًا إلى جانب قِرَدَةِ الجيبون. بل ربما كانت السعالي هي التي كانت تصدر أصوات العواء لا قرود الجيبون، ربما كنت مخطئًا منذ البداية. كنت شاهدت ذات يوم فيلمًا يلعب فيه كلينت إيستوود دور البطولة ويصور أحد السعالي، كان ذلك القرد في الفيلم وَدُودًا إلى حد كبير. وتمنيت أن يكون هذا مثله.

ثم رأيت الدُّخَان. شممتُ رائحة الدخان. ظهر بصيصُ نار وسط كومة الأوراق التي وضعتُها، فقبعتُ على الفور وجعلت أنفخ فيها نفخًا لطيفًا. وتحول البصيص إلى ألسنة لهب، فأضفتُ المزيد من ورق الشجر، ثم وضعتُ غصنًا جافًّا أو غصنين، ثم بعضَ الأغصَانِ الكبيرة. وأشعلتُ النار! أشعلتُ النار!

وانطلقْتُ مسرعًا في الغابة فجمعتُ كل الرُّكام الذي وَجَدْتُه، كل قشور جوز الهند الجافة، وكل ما وجدته من حطب. وجعلت أتحركُ جيئة وذهابًا حتى أصبحت النار تتأجج ولها عجيج مسموع كالجحيم! كان الشرر يتطاير عاليًا في الهواء، والدخان يرتفع وسط الأشجار من خلفي. وعرفت أنني لا أستطيع أن أستريح الآن، فالنار تحتاج المزيد من الحطب، وقِطَعًا أكبر من الخشب، بل ومن فروع الأشجار، وأنَّ عليَّ أن أذهب لإحضار ذلك حتى أتأكد أنني جمعت ما يلزم لاستمرارها، وجمعت الكفاية من المخزون.

ولاحظت أن ستلا رفضت أن تصحبني إلى الغابة، وبَقِيَتْ في مكانها تنتظرني بجوار النار. وكنت أعرف السبب خير المعرفة، بل إنني كنت أنا نفسي أَحْذَر عودة السعلاة، لكنني كنت أركز انتباهي كله على النار فلم أكترث كثيرًا لذلك القرد.

كانت كومةُ الحطب التي جمعتها قد أَصْبَحَتْ هائلة، لكنني مع ذلك ذهبتُ إلى الغابة مرة أخيرة، خشية أن تلتهم النار كل شيء فتنطفئ بأسرع مما توقعت. وكان عليَّ أن أذهب إلى مسافة أبعد في الغابة، وهو ما استغرق وقتًا أطول.

كنت خارجًا من وسط الأشجار، وقد حملتُ مقدارًا كبيرًا من الحطب بين يديَّ، حين أدركتُ أن الدخان المتصاعد قد قَلَّ، وأن ألسنة اللهب اختفتْ، وعندها، ومن خلال الدخان، شاهدتُ القرد، تلك السعلاة. كان يقبع على الأرض، وقد أخذ يُهيلُ الرمل على النار. ونهض وسار نحوي، فانْحَسَرَتْ عنه سحائبُ الدخان واتضحت حَقِيقَتُه. لم يكن سعلاة على الإطلاق: كان رجلًا.

figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤