الفصل الخامس

أنا، كنسوكي

كان رجلًا ضئيل الجرم، لا يزيد طوله عن طولي، ولم أشهد في حياتي عجوزًا أكبر منه سنًّا. لم يكن يرتدي إلا سروالًا باليًا ذا حزام في وسطه، وتحت الحزام سكين كبيرة، كان نحيفًا أيضًا، وفي بعض أجزاء جسمه — تحت إبطَيْه، وحول رقبته وبطنه — كان جلدُ بشرته النحاسية مجعدًا مطويًّا كأنما انكمش جسمه وتقلَّص داخل جلده. وأما الشعرات القليلة في رأسه وذقنه فكانت طويلة ونحيلة وبيضاء.

أدركت على الفور أنه ثائر، فذقنه ترتعش، وعيناه اللتان تَدَلَّى جفناهما غاضبتان ترمقانني بنظرات اتهام، وصرخ صرخة حادة في وجهي وهو يقول: «داميدا! داميدا!» كان جسده كله يرتجف من فرط الغضب. وتراجعت وهو يهرول نحوي على الشطِّ، ملوِّحًا بعصاه في انفعال شديد، ويخاطبني بحماس. وعلى الرغم من تقدمه في السن ونحافته الشديدة، كان يتقدم نحوي بسرعة، بل يكاد يجري. وهتف من جديد «داميدا! داميدا!» لم أكن أعرف معنى تلك الكلمة، وربما كانت صينية أو يابانية.

كنت أوشك أن أستدير وأجري عندما رأيت ستلا التي امتنعت بغرابة عن أن تنبحه على الإطلاق، تتركني فجأة وتجري متواثبة نحوه. كان شعر رقبتها منتصبًا، لكنها لم تكن تزمجر، ودهشت حين شاهدتها تحييه كأنها تحيي صديقًا قديمًا لم تره من زمن طويل.

وحين وقف لم يكن يبعد عني سوى خطوات معدودة، وقفنا نُحَدِّقُ في بعضنا البعض صامتَين لحظات قليلة. كان يتكئُ على عصاه، ويحاول التقاط أنفاسه. ثم سألني: «أمريكاجين؟ أمريكاجين؟ أمريكاجين؟ إيكوكويين؟ بريطاني؟»

قلت له: «نعم»، وأحسست بالراحة لأنني فهمت شيئًا ما أخيرًا. وقلت: «إنجليزي، أنا إنجليزي.»

وبدا أنه يكافح حتى يُخْرجَ الكلمات من فمه، وهو يقول: «خطأ. النار خطأ. تفهم؟ لا نار.» وبدا أنه أقل غضبًا الآن.

«ولكنْ والدتي، والدي، قد يشاهدان النار، يشاهدان الدخان» كان واضحًا أنه لم يفهمني. فأشرت إلى البحر لأشرح له الأمر قائلًا: «هناك! إنهما هناك. سوف يشاهدان النار ويحضران لأخذي.»

وعادت لهجته العدوانية على الفور فصرخ قائلًا: «داميدا!» وهو يُلَوِّحُ بعصاه في وجهي. «لا نار!» وظننت لحظة أنه سوف يهاجمني، لكنه لم يفعل، بل بدأ ينبش الرمل بعصاه عند قدميَّ. كان يرسم خطوط شيء ما، ويتفوه بألفاظ غير مفهومة طيلةَ الوقت. وبدا ما رسمه في البداية مثل ثمرة فاكهة من نوع ما، ربما مثل لوزة، أو حبة الفول السوداني. وعندها فهمت، كانت خريطة للجزيرة. وعندما انتهى جلس على ركبتيه بجوار الرسم، وأهال كومتين من الرمال، كومة عند كل طرف، كانتا تمثلان التَّلَّيْن. وبعدها رسم، بدقة شديدة، خطًّا مستقيمًا يقسم الرسم نصفين ويفصل نصف الجزيرة الأصغر عن نصفها الأكبر.

وقال: «أنت يا غلام، أنت هنا.» وأشار إلى كهفي في أحد طرفَي الشاطئ. وأضاف «أنت»، وهو يغرس إصبعه في كومة الرمل التي تمثل التلَّ الذي أقيم عنده، ثم بدأ يكتب شيئًا على الخريطة الرملية كلها، لم تكن الحروف حروفًا على الإطلاق، بل كانت رموزًا — شتَّى ألوان العلامات والأهرام والصلبان والخطوط الأفقية والمائلة والخربشة — وكتب ذلك كله في الاتجاه العكسي، في أعمدة، من اليمين إلى الشمال.

وجلس على عَجُزه ودق صدره، قائلًا: «كنسوكي. أنا كنسوكي. جزيرتي»، ثم هوى بيده على الرسم بحدة مثل السكين فقسم الجزيرة قسمين، قائلًا: «أنا، كنسوكي، هنا. أنت يا غلام هنا.» ولم يكن لديَّ الآن أدنى شكّ فيما يعنيه. وفجأة وقف من جديد وأشار لي بعصاه أن أبتعد.

«اذهب يا غلام. لا نار. داميدا. لا نار. هل تفهم؟»

لم أناقشْه، بل مضيتُ في سبيلي فورًا. وعندما جرؤتُ بعد فترة أن ألتفتَ وأنظر، كان لا يزال راكعًا بجانب ما بقي من النار، وهو يهيل المزيد من الرمال عليها.

كانت ستلا لا تزال في صحبته. فصفَّرْتُ أستدعيها. وجاءتني، وإن كان ذلك بعد فترة. كان من الواضح أنها ترفض مفارقته. كان سلوكها بالغ الغرابة، فلم تكن ستلا أرتوا تأنس في يوم من الأيام إلى صحبة الغرباء قط! وأحسست أنها خذلتني، بل وأنها خانتني قليلًا.

وعندما نظرت إلى الوراء في المرة التالية لم تكن النار تُصْدر أي دخان، فقد انطفأت تمامًا، واختفى الرجل الهَرِمُ من ناظريَّ.

ومكثتُ بقية ذلك اليوم في كهفي. كنت، لسبب ما، أشعر بالأمان فيه. وربما كنت بدأت أعتبره بيتي. لم يكن لي بيت سواه. وأحسست بما يحس به اليتيم، مَن تخلَّى الناس عنه فأصبح وحيدًا في الدنيا. كنت أشعر بالخوف، وبالجوع، وبالحيرة الغامرة.

وجلست في الكهف أحاول أن أجمع شتات أفكاري. ففي حدود ما أعرف — وإن لم أكن واثقًا من صحة ذلك — لم يكن في هذه الجزيرة سوى اثنين، العجوز وأنا. وفي هذه الحالة، يقول المنطق إنه لا أحد سواه قد ترك لي السمك والموز والماء. ولا بد أن يكون ذلك بادرة عطف، دليلًا على الصداقة، أو على الترحيب؟ ومع ذلك، فإن هذا الرجل نفسه قد نفاني الآن إلى طرف من طرَفَي الجزيرة كأنني مجذُوم، وبيَّن لي بوضوح وجلاء أنه لا يرغب في أن نلتقي مرة أخرى. هل ينحصر السبب في أنني استوقدتُ نارًا؟ كل ذلك يجافي المنطق تمامًا، إلا إذا كان الرجل مخبولًا فقد عقله تمامًا.

وجعلت أتأمل وأتملَّى موقفي طويلًا. لقد ألقت بي السفينة وحدي على جزيرة في مجاهل الدنيا، وربما كان رفيقي فيها مجنونًا، إلى جانب حشد من القرود التي تعوي (ومن بينها سعلاة واحدة على الأقل) — والله أعلم بما تُخَبِّئُه الغابةُ وتخفيه عني أيضًا — وملايين البعوض التي تلتهمني حيًّا كلَّ ليلة، كنت واثقًا من شيء واحد: يجب عليَّ أن أهرب، ولكن كيف؟ كيف يمكنني أن أخرج من هذه الجزيرة إلا إذا استطعت أن أجعل إحدى السفن العابرة تنتبه لوجودي؟ البديل أن أبقى هنا لآخر عمري. وهو ما لا أحتمل التفكير فيه.

وتساءلت في نفسي عن الزمن الذي قضاه ذلك الرجل في الجزيرة، وعما أتى به إليها أول الأمر. تُرى مَن هو؟ وبأية سلطة يمنح نفسه الحقَّ في أن يأمرني وينهاني؟ ولماذا أطفأ النار التي أوقدتُها؟

وتكوَّرتُ في كهفي، وأغمضتُ عينيَّ، وتمنيتُ لو عُدْتُ وحَسْب إلى الوطن، أو إلى السفينة بيجي سو مع أمي وأبي. وكادت هذه الأحلام الرائعة أن تأتيني بالنوم، ولكن البعوض والعواء الصادر من الغابة سرعان ما عادَا بي إلى الوعي، حتى أواجه من جديد كلَّ العواقب الرهيبة لما أنا فيه من محنة مُزْرية.

وخطر لي فجأة أنني سبق لي أن شاهدت وجه الرجل العجوز في مكان ما. ولم أعرف كيف يكون ذلك، وبينما كنت راقدًا أُقلِّبُ هذا الأمر على وجوهه، أحسست بقطعة الزجاج في جيبي تضغط على فخذي، واستبشرت فجأة. كانت زجاجة إشعال النار لا تزال معي، لسوف أوقد النار من جديد، ولكن هذه المرة في مكان لا يستطيع اكتشافه. لسوف أنتظر مَقْدم سفينة، ولسوف أنجح في البقاء على قيد الحياة حتى ذلك الحين، لقد نجح العجوز من قبلي في هذا المكان. فإذا كان قد نجح فسوف أنجح، وأستطيع أن أعتمد على نفسي أيضًا، ولن أحتاج إليه.

شعرتُ من جديد بالجوع والعطش. سأذهبُ غدًا إلى الغابة وأُحضر الطعام لنفسي. وسوف أجد الماء. وبطريقة ما سوف أصيد السمك. فأنا ماهر في صيد السمك. وما دمت استطعت صَيْدَ السمك في مياه الخزان وعلى ظهر السفينة بيجي سو، فسوف أصيدُه هنا أيضًا.

وقضيتُ تلك الليلةَ ألعن أسراب الحشرات الطَّنَّانة التي تنقضُّ عليَّ، وأصوات الثرثرة في الغابة التي لا تسكت، ولا تريدني أن أسكت. وظللتُ أتصور مياه الخزان في خيالي، ووالدتي وهي تضحك لابسة قبعة ربان السفينة. وأحسست بالدموع في عينيَّ وحاولت ألا أفكر فيها. وفكرت في الرجل، وكنت لا أزال أحاول أن أتذكر اسمه عندما غلبني النعاس.

واستيقظتُ وعَرَفْتُ على الفور أنه جاءنا. كان الأمر يبدو كالحلم. ويبدو أن ستلا رأت في منامها الحلم نفسه، إذ بدأت فورًا تتواثب فوق الصخور المطلة على الكهف. ووَجَدَتْ ما كانت تتوقع بوضوح أن يكون موجودًا؛ إناء الماء الخاص بها وقد امتلأ من جديد. وكان هناك أيضًا، على الرفِّ الصخريِّ المرتفع وراءها، نفس الصفيحة المقلوبة وبجوارها وعاء الماء الخاصُّ بي، تمامًا مثلما حدث في صباح اليوم السابق، كنت أعرف أنه سيكون ممتلئًا، وكنت أعرف وأنا أُزيح الصفيحة أن الطعام سيكون موجودًا.

وجلستُ فوق الصخرة واضعًا ساقًا على ساق، أمضغ بنَهَم شرائح السمك وأُلقي بقطعة منه إلى ستلا حتى تلتقطها، وعندها أدركت المعنى الذي كان يرمي إليه بذلك تمامًا. لم نكن أصدقاء، بل ولن نكون أصدقاء. فهو يريدني أن أبقى على قيد الحياة، وكذلك ستلا، بشرط أن أتَّبع القواعد التي يضعها. فكان عليَّ أن ألتزم بجانبي من الجزيرة، وألا أشعل النار أبدًا. كان كل ذلك واضحًا تمامًا.

ومع تضاؤل أيِّ رجاء حقيقي في الإنقاذ العاجل، ازداد تقبلي لحالي يومًا بعد يوم. كنت أعرف أنه لا خَيار لي سوى أن أقبل شروطه، وأتَّبع النظام الذي وضعه، مؤقتًا. كان قد وضع الآن الحدود الجغرافية، إذ رسم على الرمال خطًّا يمتد من الغابة إلى البحر على جانبي الجزيرة، وكان كثيرًا ما يُجَدِّدُه، كلما احتاج إلى تجديد. كانت ستلا تتجاوزه بطبيعة الحال، فلم أكن أستطيع أن أمنعها، لكنني لم أتجاوزْه. لم تكن لذلك قيمة. وعلى الرغم من العداء الذي رأيتُه في عينيه والسكين الضخمة التي شاهدتها في حزامه، فلم أكن أتصور حقًّا أنه يمكن أن يؤذيني يومًا ما لكنني كنت أخشاه، وبسبب هذه الخشية، ولأنني كنت أعرف أنني سأفقد الكثير، لم أكن أريد أن أواجهه، فهو على أية حال يقدِّم لنا كل ما نحتاجه من طعام وماء كلَّ يوم.

كنت قد بدأت العثور على بعض الثمار الصالحة للأكل بنفسي، وخصوصًا ثمرة ذات قشرة شائكة (اكتشفت فيما بعد أن اسمها «رامبوتان» أي ذات الشَّعْر)، كان طعمها لذيذًا لكنني لم أكن أجد ما يكفي منها، كما أن ستلا ترفض أن تأكلها. كنت أحيانًا أجد ثمار جوز الهند السليمة، ولكن لبنها ولحمها كثيرًا ما كانَا فاسِدَي المذاق. وحاولت مرة أو مرتين أن أتسلَّق بعض أشجار جوز الهند، لكنها كانت بالغة الارتفاع، وسرعان ما تَوَقَّفَتُ عن المحاولة.

حاولتُ صيدَ السمك في المياه الضحلة، بعد أن أعددتُ لذلك حربة بدائية، وهي عصًا طويلة سَنَنْتُ طرفها بالصخور، ولكن السمك كان يفلت مني لبطءِ ضربتي. كانت المياه تزخر بالأسماك في حالات كثيرة، لكنها كانت بالغةَ الصِّغَرِ وشديدةَ السرعةِ. وهكذا، وسواء شئنا أم أبينا، كنا لا نزال في مسيسِ الحاجة إلى حصة الطعام اليومية من السمك والفواكه والماء التي كان العجوز يأتي بها إلينا.

وكنت قد بحثت في طرف الجزيرة الذي أقيم فيه عن الماء العذب فلم أجد أيًّا منه. وكثيرًا ما خطر لي أن أتخطى الحدود فأدخل جانب الغابة المخصصَّ للعجوزِ، لكنني لم أجرؤ على ذلك. كنت في الغالب الأعمِّ ألتزم بعدمِ الابتعاد عن مسالك الغابة.

لم يكن ما يمنعني من المغامرة بدخول جانب الغابة المخصص للرجل العجوز يقتصر على القوانين التي وضعها، ولا على عواء القِرَدَةِ — وهو ما انتهيت إلى إدراك أنه تحذير أو إنذار — بل كان يضمُّ أيضًا خوفي من السعلاة. كان ذلك القرد يبدو هادئًا مسالمًا، ولكنني لم أكن أستطيع التنبؤ بما عساه أن يفعل هو وأصدقاؤه إذا وجدونا في منطقتهم. وكنت أتساءل في نفسي أيضًا عما تخفيه الغابة عن عيني من مخلوقات أخرى، تتربص بي أو تكمن لي في الظُّلمة الرطبة داخل الغابة. فإذا كانت الأصوات الدائمة الصادرة من الغابة تصلح أساسًا للحكم عليها، قلت إن ذلك المكان يزخر بشتى الأنواع الزاحفة من المخلوقات الرهيبة.

كان مجرد التفكير في السعلاة وأهوال مجاهل الغابة كافيًا لردعي، وكافيًا لِوَأْدِ فضولي وشجاعتي. وهكذا التزمتُ في أغلب الأوقات بالبقاء على الشاطئ، وفي كهفي، وبطريق الغابة الموصِّل إلى قمة التل الخاصِّ بي.

ومن موقعي المرتفع على ذلك التلِّ كنتُ أستطيع أحيانًا أن ألمح العجوز. كنت أراه كثيرًا في الصباح وهو يصيد السمك بِرُمْحِهِ في المياه الضحلة، وكان أحيانًا وحده، وإن كان الأعم أن تصحبه مجموعة من السعالي، وكانت هذه القِرَدَةُ تجلس على الشاطئ ترقبه، وكان عددها يبلغ ذات يوم أربعة عشر أو خمسة عشر. وأحيانًا كان يحمل أحد صغارها على ظهره، وكان حين يمشي وسطها، يبدو كأنما كان واحدًا منها.

وحاولت مرارًا أن أظل مستيقظًا حتى يأتي العجوز ليلًا بالطعام، لكنني لم أفلح قط. لم أستطعْ قط أن أسمعه على الإطلاق. ولكنني كنت أجد الماء كلَّ صباح، والسمكَ (وكثيرًا ما كان بطعم السمك المُدَخَّن هذه الأيام، وهو ما كنت أفضله). ولكن الفاكهة كانت تختلف من يوم ليوم. وكانت كثيرًا ما تفوح برائحة غريبة لا تستهويني إطلاقًا. لكنني كنت آكلها. فإلى جانب الموز وجوز الهند والنبق، كان يترك لي أحيانًا فواكه تُسمى «فاكهة الخبز» و«فاكهة البحَّارة» (وإن كنت آنذاك لا أدري، بطبيعة الحال، ما يمكن أن تكون). كنت آكل كلَّ شيء، ولكن ليس بنفس النَّهم القديم، فكنت أحاول ادِّخار بعض الفواكه للعشاء، لكنني لم أكن قادرًا قط على إجبار نفسي على ادخار الموز الأحمر، إذ كان مذاقه الرائع يرغمني على التهامه فورًا.

كان كابوسي المتكرر هو البعوض ليلًا، فمنذ أن يبدأ الغسق، يشرع في البحث عني، فيئزُّ ويَطِنُّ حولي، ويأكلني حيًّا. لم أكن أجد مهربًا منه. كانت كل ليلة عذابًا طويلًا ممدودًا، وكنت في الصباح أحكُّ بشرتي ألمًا حتى أجرحها في عدة أماكن. وقد تورمت بعض اللدغات، وخصوصًا في رجليَّ، فأصبحتْ دمامل حمراء لها رءوس صفراء، ولم أكن أجد الراحة من الألم إلا بغمر جسدي كثيرًا في مياه البحر الباردة.

وحاولت الرقاد في كهف آخرَ، أَعْمَقَ وأظلم، ولكن الرائحة كانت بشعة. وما إن اكتشفت أنه يزخر بالخفافيش، حتى تركْتُه على الفور. وأينما رقدتُ كان البعوض لا يتأخر في اكتشاف مكاني. وساء الحال حتى أصبحتُ أخشى مَقدِم الليل كل يوم، وكنت أتوق إلى الصباح، إلى برودة البحر وبرد النسيم على قمة التل الذي يخصني.

وهناك كنت أقضي سحابة يومي، جالسًا على القمة نفسها، أتطلع إلى البحر، وأنا أتمنى، وأحيانًا أدعو الله أيضًا، أن تظهر في الأفق سفينة. كنت أُغمض عينيَّ تمامًا وأدعو الله أطول مدة ممكنة ثم أفتحهما من جديد، وكنت أحسُّ في كلِّ مرة، بل أعتقد حقًّا، أن الله سوف يستجيب لدعواتي، وأنني حين أفتح عينيَّ هذه المرة سوف أجد بيجي سو وهي تبحر عائدة لإنقاذي، ولكن المحيط الشاسع العظيم كان دائمًا خاويًا، وخط الأفق مستمرًّا دون انقطاع. كنت دائمًا أحسُّ بخيبة الأمل، بطبيعة الحال، وكثيرًا ما يصيبني الاكتئاب، لكنني لم أكن أصل إلى الإحباط التام في تلك الأسابيع الأولى.

كنت أواجه مشكلات أخرى أيضًا بسبب لَفْح الشمس الحارق. ولم أتعلم إلا بعد وقت طويل أن أظل مرتديًا جميع ملابسي دائمًا. كنت صنعتُ لنفسي قبعة لحماية وجهي ورقبتي من الشمس. كانت القبعة عريضة جدًّا وتشبه القبعات الصينية، صنعتُها من خوص النخيل، بعد تضفيره في بعضه البعض، وكنت سعيدًا إلى حد كبير بما صنعَته يداي.

واكتشفت أن لفح الشمس الحارق من المنغصات التي أستطيع تفاديها، وأن ماء البحر قادر على تلطيف معاناتي. فعند الظهيرة كنت أهبط من التل قاصدًا الاحتماء في كهفي من لَظَى الهجير وقَيْظِ شمس العصر، وبعدها أذهب للسباحة. وكانت هذه هي اللحظة التي تتوق إليها ستلا كل يوم. كنت أقضي ساعات طويلة أقذف لها فيها بالعصيِّ حتى تحضرها. كانت تستمتع بذلك، والحقُّ أنني كنت أيضًا أستمتع به. كان ذلك يمثل ذروة نشاط اليوم. لم نكن نتوقف إلا عندما يهبط الظلام — وكان يهبط دائمًا بسرعة تدهشني — ويَضْطَرُّنا إلى العودة من جديد إلى معركتي الليلية مع مصَّاصات الدماء التي تعذبني.

وذات يوم، بعد قضاء صباح عقيم آخر في التطلع إلى البحر من فوق التلِّ، كنت خارجًا مع ستلا من الغابة حين لمحتُ شيئًا فوق الرمل قريبًا من كهفنا. بدا لي على البُعد قطعة من ركام الخشب الطافي. ووَصَلَتْ ستلا إليه قبلي وجَعَلَتْ تتشمَّمه في حماس. وعندما اقتربْتُ أدركْتُ أنه ليس خشبًا على الإطلاق، بل حصيرة من القش مطوية. ونَشَرْتُها فوجدتُ داخلها مُلاَءَة مطوية بعناية، ملاءة بيضاءَ. إذن كان يعرف! كان الرجل العجوز يعرف ألوان معاناتي ومنغصاتي، ويدرك كل ما أحتاج إليه. لا بد أنه كان يراقبني طول الوقت، وعن كَثَب أيضًا. لا بد أنه رآني وأنا أحكُّ بشرتي. وشاهد العلامات الحمراء في رجليَّ وعلى ذراعيَّ، وأبصرني وأنا أجلس في البحر كلَّ صباح لتخفيف آلام اللدغات. أفلا يعني هذا أنه صفح الآن عن إشعالي النار؟

حملتُ الحصيرة إلى داخل الكهف، ونشرْتُها، ولففتُ جسمي بالملاءة، وظللت في مكاني لا أفعل سوى أن أقهقه فرحًا، كنت أستطيع أن أغطي وجهي بالملاءة أيضًا، وإذن فلن تستطيع تلك البعوضات الملعونة أن تجد سبيلًا إلى لدغي الليلة. لسوف تبيت جائعة هذه الليلة.

وذهبتُ جريًا على الشاطئ حتى وَصَلْتُ إلى خَطِّ الحدود الذي رَسَمَهُ فوقفت، وجعلتُ من يَدَيَّ بوقًا أمام فمي وهتفت: «شكرًا لك! شكرًا على سريري! شكرًا لك! شكرًا لك!» لم أكن في الواقع أتوقع ردًّا، ولم يأتني الرد على أية حال. كنت آمل أن يأتي هو نفسه، لكنه لم يأتِ. وهكذا كتبتُ عبارات الشكر في الرمل إلى جانب خطِّ الحدود ووَقَّعْتُه باسمي. لَكَمْ كنت أرجو أن أراه من جديد، وأن أتحدث إليه، وأن أسمع صوتًا بشريًّا. كانت ستلا أرتوا أروع رفيق لي، تُحسْن كتمان السر، ورائعة لتبادل الأحضان، ورائعة في اللعب معي، ولكنني كنت أفتقد بشدة صحبةَ البشر؛ والدتي، ووالدي، اللذين كانا غائبين عني الآن، وربما إلى الأبد. كنت أتشوق لرؤية الرجل العجوز، وللحديث معه، حتى ولو كان مخبولًا بعض الشيء، وحتى مع أنني لم أكن أستطيع أن أفهم الكثير مما يقوله.

كنت قد اعتزمت تلك الليلة أن أظلَّ مستيقظًا حتى يأتي، ولكنني كنت أحسُّ بالراحة في فراشي الجديد على الحصيرة، وأستمتع بالالتفاع بالملاءة التي تحميني، فسرعان ما جاءني النوم ولم أَصْحُ مرة واحدة طول الليل.

وفي صباح اليوم التالي، بعد إفطاري الذي كان يتكون من السمك وفاكهة البَحَّارة وجوز الهند، قمت أنا وستلا بصعود التل الخاصِّ بي إلى قمته، وقد أصبحتُ أُطْلقُ عليه اسم «تل المراقبة»، وأما التلُّ الآخر فقد أسميته «التلَّ الخاصَّ به» وحسب. كنت أقوم بإصلاح قبعتي الصينية، وتغيير بعض الخوص فيها، إذ لم تكن، فيما يبدو، قادرة على التماسك معًا فترة طويلة، ونَظَرْتُ إلى البحر فإذا بي أرى سفينة في الأفق. لم أكن مخطئًا، كان ما أرى هو الصورة الجانبية الطويلة لإحدى الناقلات العملاقة.

figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤