الفصل السابع

كلُّ ما قاله الصمت

شَمَمْتُ رائحة الخلِّ، وظننت أنني في منزلي. كان والدي دائمًا يعود إلينا يوم الجمعة بعشاء من السمك والبطاطس المقلية، وكان يحبُّ أن يصبَّ الخل على نصيبه من ذلك الطعام، حتى إن رائحة الخلِّ كانت تشيع في المنزل طول المساء. وفتَحتُ عيني. كان الظلام يدلُّ على أننا في المساء، لكنني لم أكن في منزلي. كنت في كهف ما، لكنه لم يكن كهفي. واستطعت أن أَشُمَّ رائحة دُخَان أيضًا. كنت راقدًا على فراش من حصير وأتغطَّى بملَاءة تكسوني حتى ذقني. حاولت أن أجلس حتى أتطلع إلى ما حولي لكنني لم أستطع الحركة. حاولت أن أدير رأسي، ولكن رقبتي كانت متصلبة. لم أكن أستطيع تحريك شيء سوى عينيَّ، لكنني كنت لا أزال قادرًا على الإحساس. كانت بَشَرَتي بل كان كل جسمي يرتجف من الألم المُبَرِّح، كأنما اكتوَى جسدي كله بنار حارقة. حاولت أن أنادي، ولكنني لم أستطع سوى الهمس بصعوبة. وعندها تذكرتُ قنديل البحر. تذكرت تلك الحادثة كلَّها.

كان العجوز منحنيًا فوقي، ويده تمسح جبيني برفق. وقال: «لقد شُفِيتَ الآن. اسمي كنسوكي. لقد شُفيتَ الآن.» وأردْتُ أن أسأل عن ستلا، فأجابتْني بنفسها بأن دَسَّتْ أنفها البارد في أذني.

لا أعرفُ كم يومًا قضيت هناك، أنام وأصحو على فترات، ولا أعرف إلا أنني كلما صَحَوْتُ وَجَدْتُ كنسوكي يجلس بجانبي دائمًا. نادرًا ما كان يتكلم، ولم أكن أنا أستطيع الكلام، ولكن الصمت بيننا كان يقول أكثر مما تقوله أية كلمات. وهكذا، فإن هذا الرجل الذي كان عَدُوًّا لي حتى الآن. هذا الذي كان سجَّاني، قد أصبح مُنْقِذِي ومُخلِّصي. كان يرفَعُني بيديه حتى يَصُبَّ عصيرَ الفواكه أو الحساء الساخن في حلقي. كان يمسح جسدي بإسفنجة مُلِئَتْ بالماء البارد، وعندما كنت أصرخ من فرط الألم، كان يَحْضُنُني ويُغَنِّي لي أغانيَ رقيقًة حتى أعودَ للنوم. كان الأمر غريبًا، فعندما كان يغني لي، كان صوته يبدو رجعًا لأصداء الماضي؛ ربما كان صوت والدي، لا أدري. وببطء رحل عني الألم. وظلَّ يتولى تمريضي حتى عُدْتُ للحياة. وعندما استطعت من جديد تحريك أصابعي رأيته يبتسم لأولِّ مرة.

وعندما استطعت أخيرًا أن أُدير رأسي، كنت أشاهِدُه وهو يدخل ويخرج، وهو يقوم بالعمل في أرجاء الكهف، وكانت ستلا كثيرًا ما تأتي وترقد إلى جواري، وعيناها تتابعان ما يفعله أيضًا.

وفي كل يوم كان إدراكي يزداد للمكان الذي أرقد فيه. كان مكانًا شاسعًا بالمقارنة بكهفي على شاطئ البحر. ولولا سقفه الصخري المرتفع ما أدركت تقريبًا أنه كهف. ولم يكن فيه ما يدل إطلاقًا على أنه كهف بدائي. كان أشبه بمنزل أُزيلت الجدران بين غُرَفِه منه إلى الكهف. فكان به مطبخ، وغرفة جلوس، وغرفة مكتب، وغرفة نوم، وكأنما جُمِعَت جميعًا في مكان واحد.

كان يقوم بطهو الطعام على موقد صغير يتصاعدُ منه الدُّخَان دائمًا في آخر الكهف، وكان الدُّخَان يتصاعد ويخرج من فتحة صغيرة في الصخر فوق رءوسنا، وقلتُ في نفسي إن ذلك قد يكون سبب عدم وجود بعوض يضايقني. وكان يبدو لي دائمًا وجودُ شيء معلَّق في حامل خشبي له ثلاث أرجل فوق الموقد، إما أنه قِدْر سَوَّده السناج، وإما ما يبدو في شكله ورائحته مثل شرائح طويلة من السمك المُدَخَّن.

كنت أستطيع رؤية البريق المعتم لأواني الطهو المعدنية المصفوفة على رف خشبي قريب. وكانت هناك أَرْفُف أخرى اصْطَفَّتْ عليها العُلَبُ الصفيح والقدور الفَخَّارية، من عشرات الأشكال والأحجام المختلفة، وتتدلَّى تحتها حُزَم لا تُحصَى من الأعشاب والأزهار المجففة. وكثيرًا ما كان يقوم بخلط هذه أو طحنها، لكنني لم أكن واثقًا من غرضه. وأحيانًا كان يقوم بإحضارها لي حتى أشمها.

لم يكن في بيت الكهف أثاث كثير. كانت في أحد جوانب الكهف منضدة خشبية غير عالية، لا تكاد ترتفع عن الأرض بما يزيد على ثلاثين سنتيمترًا أو نحو ذلك. وكان يضع عليها الفُرْشات التي يستخدمها في الرسم، وكانت دائمًا مصفوفة بعناية، والمزيد من القدور الفخارية والزجاجات والأطباق الصغيرة.

وكان كنسوكي يقوم بعمله دائمًا تقريبًا بالقرب من مدخل الكهف حيث ضوء النهار. وكان في الليل يَبْسُطُ الحصير الذي ينام عليه في المكان المواجه لمرقدي في الكهف، في ظلِّ الجدار. وأحيانًا ما كنت أصحو في الصباح مبكرًا وأظلُّ أرقبه وهو نائم. وكان دائمًا ما ينام على ظهره، وقد لفَّ ملاءته حول جسمه، دون أن تصدر عنه أية حركة.

وكان من عادة كنسوكي أن يقضي ساعات طويلة كل يوم منحنيًا فوق المنضدة مستغرقًا في الرسم. كان يرسم ما يرسمه على أصداف بحرية ضخمة، لكنه لم يُطْلِعْني يومًا ما على ما رَسَمَه، وهو ما كان يصيبني بالإحباط. والواقع أنه نادرًا ما كان يبدو راضيًا عن عمله، إذ كان عادة عندما ينتهي منه يمسح الرسم ويبدأ العمل من جديد.

وكان في الجانب الأقصى من باب الكهف نَضَد طويل مخصص للعمل، وتتدلى عاليًا فوقه صفوف منتظمة من الأدوات: مناشير ومطارق وأزاميلُ، وغيرها. وكانت خلف نضد العمل ثلاثة صناديق خشبية ضخمة، كان كثيرًا ما يبحث فيها عن قوقعة أو صدفة — ربما — أو ملاءة نظيفة. كنا نستعمل ملاءات نظيفة كلَّ ليلة.

وكان يرتدي داخل الكهف رداءً طويلًا يلفُّ به جسده (عرفت فيما بعد أنه يُسمى «كيمونو»). وكان يحافظ على النظافة المطلقة لبيت الكهف، فيقوم بكنسه مرة كل يوم على الأقل. وكان يضع إناءً كبيرًا مليئًا بالماء في داخل باب الكهف، وكان كلما عاد يغسل قدميه ويجففهما قبل الولوج إلى داخل الكهف.

وكانت أرضية الكهف مغطاة تمامًا بِحُصُر منسوجة من الأَسَلِ المُضَفَّر، مثل الحُصُرِ التي ننام عليها. وكانت جدران الكهف كلها مُبطَّنة بالخيزران، من الأرض وحتى مسافة تعادل أو تزيد على طول القامة. كان المنزل بسيطًا، لكنه كان منزلًا. كان لكل شيء مكانه وغرض يؤديه.

وعندما تحسنت صحتي، كان كنسوكي يخرج ويتركني وحدي، والحمد لله أن ذلك لم يكن لفترات طويلة. وكان عندما يعود، وهو يغنِّي في أحيان كثيرة، كان يحمل السمك، وقد يحمل الفواكه أيضًا أو جوز الهند أو الأعشاب، وكان يعرضها عليَّ مزهوًّا. وكانت قِرَدَةُ السعالي تعود أحيانًا معه، لكنها كانت تتوقف عند مدخل الكهف. وكانت تحدق في وجهي، وفي ستلا التي كانت دائمًا ما تحافظ على ابتعادها عنها. ولم يكن يحاول الدخول إلا الصغار، ولم يكن على كنسوكي إلا أن يصفق في وجهها وسرعان ما تبتعد مهرولة.

كم كنت أتمنى في تلك الأيام الأولى في الكهف لو استطعنا التحادث: كان هناك ألفُ لغز ولغز، وألف شيء وشيء أريد أن أعرفه. ولكن الكلام كان لا يزال يؤلمني، كما أنني كنت سعيدًا تمامًا بالصمت الذي يسود بيننا، وأحسست أنه يفضله كذلك بصورة ما. كان يبدو أنه شخص شديد التكتم، وأنه راض بأن يظل كذلك.

وذات يوم، بعد أن قضى كنسوكي عدة ساعات منحنيًا يرسم إحدى لوحاته، جاءني وأراني إياها. كانت صورة شجرة، شجرة مزهرة. وقالت بسمته كل شيء. ثم قال: «لك! شجرة يابانية. أنا من اليابان.» وبعد ذلك أراني كنسوكي جميع اللوحات التي رسمها، حتى تلك التي مسحها فيما بعد. كانت جميعًا باللونين الأبيض والأسود، لقرود السعالي والجيبون، والفراشات، والدلافين، والطيور، والفواكه. لم يكن يحتفظ بإحداها إلا فيما ندر، فيقوم بتخزينها بعناية في أحد الصناديق. ولاحظت أنه يحتفظ بعدة لوحات للأشجار، وكانت دائمًا أشجارًا مزهرة، أو «شجرة يابانية»، كما كان يسميها، وكنت أدرك أنه يجد متعة خاصة في عرضها عليَّ. كان من الواضح أنه يريدني أن أشاركه شيئًا عزيزًا جدًّا على قلبه. وأحسستُ أن في ذلك تكريمًا لي.

وكان يجلس بجواري يرقبني عندما يخبو ضوء النهار كل يوم، وقد سقطت آخر أشعة شمس الغروب على وجهه. كنت أحسُّ أن نظرات عينيه تجلب لي الشفاء. وكنت في الليل كثيرًا ما أفكر في أبي وأمي. لَكَمْ تمنيتُ أن أراهما من جديد، وأن أخبرهما أنني ما زلت حيًّا، ولكن الغريب أنني لم أعد أفتقدهما.

وبمرور الوقت عادت قدرتي على الكلام، إذ فقد الشلل سيطرته عليَّ وعادت لي قوتي، فأصبحت أستطيع الخروج مع كنسوكي، كلما دعاني إلى ذلك، وكثيرًا ما كان يدعوني. كنت في البداية أجلس القرفصاء على الشاطئ مع ستلا وأشاهده وهو يصيد السمك في المياه الضحلة. كان يقف ثابتًا ساكنًا ثم يضرب السمكة بسرعة البرق. ثم قام ذات يوم بصنع رمح لي، إذ أصبح عليَّ أن أشاركه صيد السمك. أرشدني إلى مكان الأسماك الكبيرة. وأراني أماكن اختفاء الأخطبوط تحت الصخور، وعلمني كيف أقف ساكنًا مثل طائر مالك الحزين وأنتظر، وقد جهزت رمحي وصوبته فوق الماء، وظلِّي يمتد خلفي حتى لا تخاف الأسماك فتهرب. والحق أن صيد سمكة بالرمح لأول مرة كان يشبه إحراز هدف لفريق «مدلاركس» لكرة القدم في الوطن؛ سأفضل إحساس تقريبًا يمكن أن يحسه الإنسان.

كان كنسوكي، فيما يبدو، يعرف كل شجرة في الغابة، ويعرف مكان كل شجرة من أشجار الفاكهة، ما كان ناضجًا من الثمار وما كان فجًّا، وما كان جديرًا بتسلق الشجرة من أجله. كان يستطيع أن يتسلق الأشجار التي قد يستحيل تسلقها بخفة وثباتِ قدم ودون خوف. لم يكن يزعجه شيء في الغابة، لا قرود الجيبون التي تعوي وتتأرجح فوق رأسه لِتَصْرِفَهُ عن ثمارها، ولا النحل الذي يحتشد حوله حين يعود هابطًا بقُرص الشهد من فجوة في شجرة عالية (كان يستخدم عسل النحل في تسكير الفواكه وحفظها في زجاجات). وكانت أسرته من السعالي تصحبنا دائمًا، فتتبعنا كظلِّنا في الغابة، وقد تستطلع المسارب التي سنسير فيها أو تهرول خلفنا في الطريق. لم يكن على كنسوكي إلا أن يغني فتأتي، وكانت تبدو جميعًا مسحورة برنين صوته. كانت تشعر بالحيرة إزائي وإزاء ستلا، ولكنها كانت تقلق منا ونقلق منها، وهكذا حافظنا مؤقتًا على ابتعادنا عن بعضنا البعض.

وذات مساء، بينما كنت أرقب كنسوكي وهو يصيد السمك، فوجئت بأحد قرود السعالي الصغيرة يصعد ركبتي ويقبع في حجري ويبدأ في فحص أنفي بإصبعه، ثم انتقل إلى فحص أذني. وشدَّها بقوة لم أسترح لها؛ لكنني لم أصرخ. وبعد ذلك حَذَتِ الأخرى حَذْوه، كأنما كنت جهاز تسلق تلعب فوقه. بل إن الكبار أنفسها، الأضخم جسمًا كانت تمدُّ أيديها وتلمسني من وقت لآخر، لكنها والحمد لله كانت دائمًا متحفظة، أشدَّ حذرًا من الصغار. وأما ستلا فكانت لا تزال تراعي المسافة التي تفصلها عن القرود، وتفصل القرود عنها.

وعلى مدى هذه الفترة الزمنية كلها — ولا بد أنني كنت قضيت عدة شهور، على ما أظن، في الجزيرة — لم يكن كنسوكي قد قال إلا أقل القليل. كان يصعب عليه بوضوح أن ينطق بالألفاظ الإنجليزية القليلة التي يعرفها. وعندما كانت أية ألفاظ تُستخدم في الحديث بيننا لم تكن تساعد كثيرًا في التفاهم. وهكذا لجأنا في معظم الأحيان إلى البسمات والإيماءات، وإلى التلويحات والإشارات، بل إننا كنا أحيانًا نرسم صورًا في الرمل لشرح مقاصدنا. كان ذلك يكفي وحسب لاستمرار التواصل، ولكنني أتحرق شوقًا إلى معرفة الكثير. ما السبب الذي جعله يعيش هنا وحده في هذه الجزيرة؟ وكم مضى عليه هنا؟ وكيف تَأتَّى له الحصول على كل هذه القدور والأواني والأدوات، وعلى السكين التي يحملها دائمًا في حزامه؟ كيف أصبح أحد صناديقه الخشبية مكدسًا بالملاءات؟ من أين أتت؟ ما موطنه؟ ولماذا يُبْدي كل هذا العطف تجاهي الآن، ويحافظ على مشاعري بهذه الصورة، بعد أن كان يُظْهر استياءه الشديد مني بوضوح أول الأمر؟

لكنني كنت إذا طرحت عليه أيًّا من هذه الأسئلة هزَّ رأسه وحسب وأشاح عني كأنه رجل أصم يشعر بالعار من صممه. ولم أكن واثقًا في يوم من الأيام إن كان لا يفهمني حقًّا أو لا يريد وحسب أن يفهم. ومهما يكن الأمر كنت أرى أنه يقلقه فأقلعتُ عن طرح المزيد من الأسئلة. كانت الأسئلة فيما يبدو تدخلًا في حياته الخاصة، فَوطَّنتُ نفسي على الانتظار.

كانت حياتنا معًا عامرة بالنشاط دائمًا، ومنتظمة مثل عقارب الساعة. كنا نستيقظ في الفجر وننطلق في أحد المسارب فنسير قليلًا للاستحمام في الجدول حيث ينحدر بمياهه الباردة العذبة من جانب التل فَيَصِل إلى مِرْجَل عظيم من الصخور الملساء. وكنا نغسل ملاءاتنا وملابسنا فيه هنا أيضًا (وكان قد صنع لي الثوب الفضفاض، أي الكيمونو، الخاص بي من قبل)، فكنا نضرب الصخور بالملابس ونقرعها فيها قبل أن ننشرها لتجف على أحد فروع الأشجار القريبة. كان الإفطار يتكون من عصير الفواكه الغليظ السميك، وكانت الفاكهة تختلف من يوم ليوم، فيما يبدو، إلى جانب الموز أو جوز الهند. لم أشعر بالملل من الموز يومًا ما، لكنني سرعان ما سئمتُ جوز الهند. وكنا نقضي الصباح إما في صيد السمك في المياه الضحلة أو في جمع الفواكه من الغابة. وكنا أحيانًا نقوم بعد هبوب إحدى العواصف، بتمشيط الشاطئ بحثًا عن الأصداف التي كان يرسم عليها — ولم تكن تصلح إلا أكبر الأصداف وأشدها تسطيحًا — أو بحثًا عن الرُّكام الطافي الذي يلقيه البحر حتى نُضِيفَهُ إلى مخزون الخشب في آخر الكهف. كان من الواضح أن المخزون ينقسم إلى قسمين، الأول يُستخدم بوضوح حطبًا، وأما الثاني فأظن أنه كان مُخَصَّصًا لأشغاله اليدوية، وكنا بعد ذلك نعود إلى البيت — في الكهف — لتناول الغداء الذي كان يتكون من السمك النَّيِّئ (وهو دائمًا لذيذ) وفاكهة الخبز عادة (وكانت دائمًا لطيفة الطعم يصعب بلعها)، وبعد أن ينام كلانا فترة قصيرة بعد الغداء، يشرع هو في الرسم على منضدته، وأنهمك أنا في مشاهدته ومتابعة عمله حتى يستغرقني تمامًا فأتمنى ألا تغرب شمس النهار. وقد نطبخ حساء السمك فوق الموقد، دون أن نستبعد أي جزء من أجزاء السمكة، لا رأسها ولا ذيلها، ونضيف عشرة أعشاب مختلفة، فلم يكن كنسوكي يفرِّط في شيء على الإطلاق، وبعد ذلك يأتي الموز الأحمر، وكان لي أن آكل منه كل ما أريد. لم أكن أحسُّ مطلقًا بالجوع. وعندما ينتهي العشاء كنا نجلس عند باب الكهف ونشهد غروب الشمس في البحر، وبعد ذلك، ودون أن يتفوَّه بكلمة واحدة، ينهض. ومن ثَمَّ ينحني كل منا لصاحبه، فينشر هو حصير فراشه ويتركني أنشر حصيري.

كانت مشاهدة كنسوكي وهو يعمل مصدر عجب دائم لي، فلقد كان يتمتع بالقدرة على التمعُّن والتركيز الشديد في كلِّ شيء يفعله. ولكن مشاهدته وهو يرسم تأتي في المرتبة الأولى. كان أولًا لا يسمح لي إلا بأن أنحني بجواره لأراقبه. وكنت أشعر أنه حتى في ذلك أيضًا كان يحبُّ التكتم و«الخصوصية» بحيث لا يزعجه أحد. كان يضع على المنضدة أمامه ثلاثة أطباق صغيرة: أحدها لحبر الأخطبوط (فلم يكن كنسوكي يعتبر الأخطبوط طعامًا فقط) والثاني فيه ماء، والثالث لخلط الحبر بالماء. وكان دائمًا يمسك بريشته منتصبة بزاوية قائمة وهي دائمًا ثابتة في يده، وأصابعه تقبض عليها من جانب وإبهامه عليها من الجانب الآخر. وهو ينحني مُنكبًّا على عمله، حتى تكاد شعرات لحيته تلمس الصَّدَفَةَ التي يرسم عليها، وأظن أنه ربما كان يعاني قليلًا من قِصَر النظر، وكنت أقضي ساعات طويلة في مشاهدته، دَهِشًا من دقة عمله ورهافته، ومن الثقة البادية في إتقانه.

وذات يوم أثناء هطول المطر عصرًا — وكان المطر عندما ينهمر، ينهمر مدرارًا — وجدت أنه قد جهز لي صدَفة، وثلاثة أطباق وفرشاةَ رسم. كان يستمتع كثيرًا بتعليمي، وبكل محاولة عرجاء أقوم بها. وأذكر أنني في أول عهدي بالرسم حاولت أن أرسم قنديل البحر الذي هاجمني، فإذا به يضحك ملء شدقيه، لا سخرية مني بل اعترافًا وتذكرًا بما جمع بين قلبينا. كنت دائمًا أحب الرسم، لكنني تعلمت من كنسوكي أن أعشقه، وتعلمت منه أن الرسم أو التلوين يحتاج مني أولًا إلى دقة الملاحظة، ثم تكوين شكل الصورة في ذهني قبل أن أرسل بها عبر ذراعي إلى طرف الفرشاة، ومنها إلى الصدَفة. وقد علمني ذلك كله دون كلام، كان يُبيِّن لي ذلك وحسب.

كانت الأدلةُ على أنه فنان بارع عظيم بادية حولي في كل مكان، فلا بد أنه هو الذي قام بتأثيث بيته في هذا الكهف كله، ومعظمه من الركام الطافي: الصناديق، ونَضُدِ العمل نفسه، والرفوف، والمنضدة. ولا بد أنه هو الذي نسج الحصير من الأسَل، وما يغطي الجدران من الخيزُران، وكل شيء. وعندما فحصتُه بدقة وجدت أنه يتميز بكمال التشطيب وجماله، فلا مسامير، ولا براغي، بل تضفير وتشبيك دقيق مُحكَم. كان يستخدم بعض أشكال الصمغ إذا اقتضى الأمر، وكذلك الدوبار أو خيوط القنب. وكانت الحبال اللازمة للتسلق والرماح المستخدمة في صيد الأسماك، وشباك الصيد، وقصب صيد الأسماك كلها موضوعة في أحد أركان الكهف (ولو أنني لم أشاهده يستخدم قصبة صيد السمك مرة واحدة). كان لا بد أنه هو الذي صَنَعَها كلها.

وكان قد صنع فُرْشات الرسم أيضًا، وسرعان ما عَرَفْتُ طريقة صُنْعها. كانت لكنسوكي سعلاة يحبها، أنثى ضخمة كان يسميها «توموداكي»، وكانت كثيرًا ما تأتي وتجلس إلى جواره كي يُمَشِّط شعرها وينظفه. وكان منهمكًا في ذلك ذات يوم خارج باب الكهف، وعلى مقربة منه، والسعالي الأخرى تشهد ما يفعل، حين رأيته يعمد إلى نزع أطول الشعرات وأشدها سوادًا من ظهرها. وأمسك الشعرات بيده فأراني إياها، وهو يبتسم ابتسامة عريضة تعبيرًا عن نية مُبيَّتة. لم أفهم حقًّا حينذاك ما كان يعتزمه، ثم رأيته فيما بعد عند نضد العمل يُشذِّب الشعرات بسكينة، ثم يَغْمِسُها في سائل كنت شاهدته يستخرجه من إحدى الشجرات في ذلك الصباح نفسه، ثم يقطع قطعة صغيرة مجوَّفة من الخيزُران ويملؤها بشعر «توموداكي». وبعد مرور يوم واحد كان الصمغ قد جفَّ وأصبحت لديه فرشاة رسم، ويبدو أن كنسوكي قد وجد السبل الكفيلة بتلبية جميع احتياجاته.

كنا صامتَين مستغرقَين في الرسم ذات يوم، والمطر يهطل بغزارة وصخب على الغابة، عندما توقف، ووضع فرشاة الرسم، وقال ببطء شديد وبأسلوب محسوب بدقة، كأنما كان يفكر في صياغته منذ وقت طويل: «أُعلمك الرسم يا ميكا» (وكانت هذه أول مرة يناديني فيها باسمي) «وتعلمني أن أتكلم الإنجليزية. أريد أن أتحدث الإنجليزية. علمني أنت.»

كانت تلك بداية درس في اللغة الإنجليزية قُدِّرَ له أن يستمر شهورًا. كنت في كل يوم، من الفجر إلى الغسق، «أُترجم» له الدنيا من حوله إلى اللغة الإنجليزية. كنا ما زلنا نفعل ما كنا نفعله دائمًا؛ ولكنني كنت الآن أتكلم طول الوقت وهو يردد كل كلمة أقولها، وكل عبارة يريدها. وكانت الغضون تبدو على جبينه من فرط الجهد المبذول.

كان كأنما يكفيه ترديد الكلمة لابتلاعها في ذهنه. وما إن ينطقها ويستعملها حتى تثبت في عقله فلا ينساها أبدًا، وإذا تصادف أن نسى كلمة ما، كان دائمًا يبدي غضبه الشديد من نفسه. وكنت أحيانًا ألاحظه وأنا أتلفظ بكلمة جديدة فأجد عينيه تبرقان. كان يومئ ويبتسم كأنما تعرَّف على الكلمة، أو كأنما يُحيِّي صديقًا قديمًا. كان يكررها مرات ومرات، كأنما يتلذذ بمذاق رنينها قبل أن يحفظها في ذاكرته إلى الأبد. وكان كلما ازدادت معرفته بكلمات جديدة، ازدادت محاولته — بطبيعة الحال — لتجربتها. وسرعان ما نمت الكلمات المفردة فأصبحت عبارات مبتورة ثم غدت جُملًا كاملة. ومع ذلك، فإن أسلوب نطقه لم يتحسن قط، مهما يحاول تحسينه. مايكل كان دائمًا ميكا، وأحيانًا ميكاسان، وغدونا الآن نستطيع على الأقل أن نتحادث معًا بسهولة أكبر، وانتهى عهد الصمت الطويل الذي تشكلت فيه صداقتنا. لم يكن الصمت في يوم ما حاجزًا يفصل بيننا، لكنه كان يفرض علينا حدودًا.

كنا نجلس بجوار باب الكهف عند غروب الشمس عندما قال: «انظر الآن إذا كنت أستطيع الفهم يا ميكاسان. قصَّ عليَّ قصتك. أين تعيش. لماذا أتيتَ إلى جزيرتي هنا. منذ أن كنتَ طفلًا حتى الآن. وسوف أستمع.»

وقصصتُ عليه قصَّتي. حكيتُ له عن أمي وأبي، وعن إغلاق مصنع الطوب. عن كرة القدم مع إدي وفريق «مدلاركس» وعن السفينة بيجي سو ورحلتنا حول العالم، وعن كرة القدم في البرازيل، والأُسود في أفريقيا والعناكب في أستراليا، وعن مرض والدتي، وعن الليلة التي سَقَطْتُ فيها من السفينة.

وقال عندما انتهيت: «ممتاز. أفهم. ممتاز. إذن تحب كرة القدم. عندما كنتُ صغيرًا كنت ألعب كرة القدم أيضًا. وقت سعيد جدًّا، من زمن طويل، في اليابان، في وطني.» وجلس صامتًا برهة، ثم عاد يقول: «أنت بعيد جدًّا عن وطنك يا ميكاسان. تبدو حزينًا جدًّا أحيانًا. أفهم. وإذن، أجعلك سعيدًا. نذهب غدًا لصيد السمك وربما أحكي لك قصتي أنا أيضًا. قصتي وقصتك. ربما تكون نفس القصة الآن.» كانت الشمس قد غربت، فوقفنا وانحنينا نُحيِّي بعضنا البعض. وقال: «أوياسومي ماساي.»

وقلت له: «تصبح على خير.» لم يكن تكلم باليابانية طول النهار إلا في تلك اللحظة، ولكنه كان يغني باليابانية غالبًا، كنت علمته أغنية «عشر زجاجات خضراء»، وكانت تجعله يضحك كلما غناها. وكنت أحب ضحكته. لم تكن قهقهة مجلجلة قط، بل أقرب إلى الضحكة الخافتة المديدة. لكنها كانت دائمًا تثلج صدري.

وفي صباح اليوم التالي حمل قصبتين من قصبات صَيْد السمك، وشبكة، وسار أمامي إلى داخل الغابة، ثم قال لي: «نَصِيدُ اليوم سمكًا كبيرًا يا ميكا، لا سمكًا صغيرًا.» كان يسير بي إلى ذلك الجانب الذي قَذَفَتْني الأمواج عليه منذ شهور طويلة، وإن لم أكن أجد ما يدعوني إلى زيارته من جديد، بسبب ندرة الفواكه فيه أو انعدامها. وكان علينا أن نسلك دربًا شاقًّا خلال الغابة قبل أن نمضي في طريق صخري يتلوَّى منحدرًا إلى خليج رملي خفي. وما إن خرجْنا من الغابة إلى الشاطئ، حتى انطلقتْ ستلا تعدو وتتواثب فورًا في المياه الضحلة، وهي تنبح داعية إيَّاي إلى اللعب معها.

وفجأة قبض كنسوكي على ذراعي قائلًا: «انظر يا ميكاسان. ماذا ترى؟» كانت عيناه تنمَّان عن الإثارة والاستفزاز. ولم أعرف ما المفترض أن أَنْشُده. فقال: «لا شيء هنا؟ صحيح؟ أنا رجل ماهر جدًّا. انظر وسوف أريك.» واتجه إلى آخر الشاطئ، وسرت خلفه. وعندما وصل بدأ يَشُدُّ ويسحبُ طبقة النباتات الصغيرة النامية بين الأشجار، ودهشت حين رأيته ينتزعها بسهولة. وشاهدت أولًا ما بدا كأنه كتلة خشبية في وسط الرمل، لكنه عندما أزال المزيد من الفروع أدركْتُ أنه جانب من قارب، زورق بمسندين خشبيين، بل كان قاربًا مصنوعًا من جذع شجرة مُقَوَّر، وله هيكل من المساند الخشبية على الجانبين. وكان مُغطًّى بالخَيْش، ومن ثَمَّ بدأ يطوي الغطاء ببطء شديد ليكشف عن القارب وهو يضحك ضحكته الخافتة.

وكانت في قاع القارب، بجوار مجداف طويل، كرةُ القدم المهداة لي، ومَدَّ يَدَه فالتقطها وألقاها إليَّ. كانت قد فقدت شدة انتفاخها، كما كان جانب كبير من الجلد الأبيض مُشَقَّقًا حائل اللون، لكنني كنت أستطيع أن أرى بصعوبة اسم إدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤