الفصل الثامن

كلُّ مَن في نجاساكي مات

طِرْتُ فَرَحًا. لقد وجدتُ جزءًا مني كنت ظننت أنني فقدته إلى الأبد. وقال كنسوكي ناظرًا إليَّ بوجه مشرق بالبسمات: «أنت الآن سعيد يا ميكاسان. وأنا أيضًا سعيد. نذهب لصيد السمك. أقول لك بعد قليل أين وَجَدْتُ هذه الكرة. سرعان ما أحكي لك كل شيء. لم تعد الأسماك الصغيرة طيبة المذاق الآن. وليست كثيرة أيضًا. نحتاج إلى أسماك كبيرة أحيانًا من البحر العميق. نُدَخِّن السمك، وعندها يصبح عندنا دائمًا سمك كثير جاهز للأكل، تفهم؟»

كان الزورق ذو المسندين أثقل كثيرًا مما بدا لي. وساعدْتُ كنسوكي في جره على الشاطئ وإنزاله إلى الماء. وقال ونحن نحمل ستلا إلى داخل القارب: «هذا قارب ممتاز. هذا القارب لا يغرق أبدًا. صَنَعْتُهُ بنفسي. قارب مأمون تمامًا.» ودَفَعَ القارب في الماء وركبنا. لن أتوقف يومًا عن الدهشة من قوته الفذة ورشاقة حركته الفائقة. كان يُجدِّف بمجداف واحد. واقفًا في مؤخرة القارب كأنه يقود قاربًا مسطحًا بمجداف واحد. وسرعان ما تجاوزنا الخليج الآمن وانطلقنا نركب أمواج البحر الشاسع.

كنت أجلس محتضنًا كُرَتي، وستلا عند قدميَّ، أتطلع إليه وأنتظر أن يبدأ قصته. كانت الحكمة تقضي بألا أضايقه بإلحاحي الآن، كما كنت أعرف. فصيد السمك له أولوية. وهكذا وضع كل منا الطُّعْم في الشصِّ، وجلسنا في صمت نصيد، كل واحد في جانب من جانبَي القارب. كانت بي رغبة شديدة في سؤاله عن كرة القدم، وكيف عثر عليها، لكنني لم أجرؤ، خوفًا من أن يتقوقع على نفسه فلا يقول شيئًا. وبعد وقت طويل بدأ يتكلم، ولكنَّ ما قاله كان جديرًا بانتظاري.

قال: «سأحكي لك الآن كل شيء يا ميكاسان، حسبما وعدتك. أنا عجوز، لكنها ليست قصة طويلة. وُلدتُ في اليابان. في نجاساكي. مدينة ضخمة جدًّا، على البحر، ونشأتُ في تلك المدينة، وعندما كبرت درست الطب في طوكيو. وسرعان ما أصبحت طبيبًا. الدكتور كنسوكي أوجاوا. وكنت فخورًا جدًّا. فأنا أرعى أمهات كثيرات، وكثيرًا من الأطفال أيضًا. كنت أول شخص يراه أطفال كثيرون في هذه الدنيا. ثم ذهبت إلى لندن. وقمت بالدراسة في لندن، في مستشفى «جاي». هل تعرف ذلك المكان؟» وهززت رأسي. «وبطبيعة الحال تعلمتُ قليلًا من الإنجليزية هناك. وبعدها عُدْتُ إلى نجاساكي. اقترنتُ بزوجة جميلة اسمها كيمي. ثم جاءني ابن صغير أيضًا، ميشيا. كنتُ بالغ السعادة في تلك الأيام. ولكنَّ الحربَ سرعان ما أتت. أصبح جميع الذكور اليابانيين جنودًا، وربما بحَّارة. ودخلتُ البحرية. أصبحتُ طبيبًا في سفينة حربية كبيرة.»

وجاءت سمكة فَشَدَّتْ خيط سنارته، لكنها أكلت الطُّعم وتفادت الشِّصَّ. واستأنف حديثه وهو يضع طُعْمًا جديدًا في الشِّصِّ، قائلًا: «مضى على هذه الحرب زمن طويل.» كنت أعرف بعض المعلومات عن نشوب حرب مع اليابان — وكنت شاهدْتُها في الأفلام — لكنني لم أكن أحيط إلا بأقل القليل عن الحرب. وهَزَّ رأسه، قائلًا: «مات الكثيرون في تلك الحرب. كانت تلك الحرب زمنًا عصيبًا جدًّا. غَرِقَتْ سفن كثيرة. وانتصر الجيش الياباني في معارك كثيرة. وكان الشعب الياباني بالغ السعادة، مثل كرة القدم، عندما تفوز تشعر بالسعادة. وعندما تخسر تحزن. كنت أعود كثيرًا إلى البيت، فأرى زوجتي كيمي وابني الصغير ميشيا في نجاساكي، كبر بسرعة، أصبح غلامًا، وكنا أسرة سعيدة جدًّا.»

«ولكن الحرب استمرت زمنًا طويلًا. جاء الكثير من الأمريكيين. سفن كثيرة، طائرات كثيرة، قنابل كثيرة. لم تعد الحرب الآن في صالح اليابان. وقت بالغ السوء. دخلنا معارك بحرية كثيرة، وجاءت الطائرات الأمريكية. وسقطت القنابل على سفينتي. اشتعلت النار وصعد الدُّخَان. دُخَان أسود. واحترق رجال كثيرون. ومات رجال كثيرون. وقفز رجال كثيرون من السفينة في البحر. لكنني بقيت. فأنا طبيب. مكثتُ مع مرضاي. وجاءت الطائرات من جديد. وألقت المزيد من القنابل الكثيرة. كنت متأكدًا أنني لا شك سوف أموت. لكنني لم أمت. نظرت حولي في السفينة. كل المرضى ماتوا. كل البحَّارة ماتوا. كنت الحيَّ الوحيدَ على ظهر السفينة، ولكن المحرك لا يزال يعمل. والسفينة تسير وحدها. كانت تسير الآن إلى أي مكان تريده. لا أستطيع أن أدير عجلة القيادة. لا أستطيع أن أفعل شيئًا. ولكنني أستمع إلى الراديو. يقول الأمريكيون في الراديو، إن قنبلة كبيرة أُلقيت على نجاساكي، قنبلة ذرية. مات الكثيرون، حزنت حزنًا شديدًا. أعتقد أن كيمي ماتت، وميشيا مات. وأمي تعيش هناك أيضًا، وكل أسرتي. أعتقد أنهم جميعًا ماتوا.

وسرعان ما قال الراديو إن اليابان استسلمت. واستَبَدَّ بي الحزن حتى أردتُ أن أموت.» وظل يركز على صيد السمك برهة ثم استأنف قصته، قائلًا: «وسرعان ما توقف محرك السفينة. ولكن السفينة لم تغرق. وهبت ريح شديدة، عاصفة شديدة. وقلت في نفسي إنني ميت الآن ولا شك. ولكن البحر حمل السفينة وأتى بي إلى هنا، إلى هذه الجزيرة. رَسَتِ السفينةُ على الشاطئ، لكنني لم أكن قد متُّ.

وسرعان ما وجدت الطعام. ووجدت الماء أيضًا. وعشت مثل الشحاذين فترة طويلة. كنت أشعر في أعماقي أني شخص سيِّئ، وأقول في نفسي: لقد مات كل أصدقائي، ومات أفراد أسرتي جميعًا، وأنا حي لم أكن أريد أن أعيش. ولكن سرعان ما قابلْتُ السعالي، كانت تلك القِرَدَةُ تشفق عليَّ. هذا مكان جميل جدًّا، مكان يسوده السلام. لا حرب هنا، لا أشرار. قلت لنفسي، يا كنسوكي أنت رجل محظوظ جدًّا لأنك حي ربما تستطيع البقاء هنا.»

«أخذتُ أشياء كثيرة من السفينة. أخذت الأغذية، وأخذت الملابس والملاءات. أخذت الأواني وأخذت الزجاجات. وأخذت السكين. وأخذت الأدوية. وجدت أشياء كثيرة، وأدوات كثيرة أيضًا. أخذت كل شيء وجدته. وعندما انتهى كنسوكي، لم يكن قد بقي في السفينة شيء يُذكَر، وأؤكد لك، ووجدت الكهف. وخَبَّأْتُ كل شيء في الكهف. وسرعان ما هَبَّتْ عاصفة رهيبة، وتحطمت السفينة على الصخور، وسرعان ما غاصت في البحر.»

«وجاء الجنود الأمريكيون ذات يوم. فاختبأتُ. لم أكن أريد أن أستسلم، فهو ليس شيئًا مُشَرِّفًا. كنت خائفًا جدًّا أيضًا. واختبأت في الغابة مع السعالي. وأشعل الأمريكيون النار على الشاطئ. وكانوا يضحكون بالليل. كنت أسمعهم. كانوا يقولون إن كل من في نجاساكي ماتوا. وكانوا سعداء جدًّا بذلك. ويضحكون. وعندها تأكدتُ أنني سوف أبقى في هذه الجزيرة. لماذا أعود إلى الوطن؟ وسرعان ما رحل الأمريكيون. كانت سفينتي قد غرقت من قبل. فلم يستطيعوا العثور عليها. وسفينتي لا تزال هنا، تحت الرمال الآن، أصبحت الآن جزءًا من الجزيرة.»

وتذكرتُ هيكل السفينة الذي علاه الصدأ وشاهدته في أول يوم لي في الجزيرة! لقد بَدَأتْ أمور كثيرة تتضح لي الآن. وفجأة ابْتَلَعَتْ سمكة الطُّعْمَ من سِنَّارتي، فكادت تنتزع القصبة كلها من يدي. وانحنى كنسوكي ليساعدني. وقضينا عدة دقائق ونحن نرفع السمكة من الماء إلى السطح، ولكننا نجحنا معًا في حملها إلى القارب. وجلسنا ونحن نشعر بالإرهاق بعدها، والسمكة تتلوَّى متواثبة في قاع القارب، عند أقدامنا. كانت هائلة الحجم، أكبر حتى من أكبر سمكة رأيتها في حياتي، وهي سمكة الكراكي التي صادها أبي في مياه الخزان، في الوطن. وأخمد كنسوكي حركتها بسرعة، بضربة حادة خلف عنقها بمقبض سِكِّينه، قائلًا: «سمكة جيدة، بل سمكة ممتازة، أنت صياد سمك ماهر يا ميكا. نعمل جيدًا معًا، ربما استطعنا صيد المزيد الآن.»

ولكنَّ ساعات طويلة مَضَتْ قبل أن نصيدَ سمكة أخرى، وإن لم تكن تشبه هذه. وحكى لي كنسوكي عن حياته وحيدًا على الجزيرة، كيف تعلم أساليب البقاء، وكيف يعيش من خير الأرض. وقال إنه تعلَّم معظم ما تعلَّمه من مراقبة السعالي وما تأكله، وما لا تأكله. وتعلَّم تسلُّق الأشجار مثلها، وتعلَّم أن يفهم لغتها، وأن يراعي إشارات تحذيرها، مثل البريق في العينين وحَكِّ الجسم بقلق شديد. واستطاع ببطء أن يُنْشِئ رابطة ثقة معها، وأن يُصْبِحَ واحدًا منها.

وبحلول موعد عودتنا إلى البيت في ذلك المساء، ونحن نحمل ثلاث سمكات كبيرة في قاع القارب — وأظن أنها كانت من سمك التونة — كان قد انتهى من قصته. كان يتحدث وهو يضرب المجداف في الماء. «بعد الأمريكيين، لم يأت رجال آخرون إلى جزيرتي. عشتُ وحدي سنوات كثيرة. أنا لم أنسَ كيمي، لم أنسَ ميشيا، ولكنني أحيا، وبعد ذلك ربما بسنوات أتى الرجال. رجال بالِغُو السوء، رجال قَتَلَة، معهم بنادق. وهم يصيدون الحيوان. ويطلقون الرصاص، كنتُ أُغَنِّي للسعالي صديقتي، فكانت تأتي إليَّ حين أغني، وهي خائفة جدًّا. كانت تأتي وتختبئ جميعًا في كهفي. ونختبئ معًا فلا يستطيع القتلة أن يعثروا علينا. ولكنهم يطلقون النار في الغابة على قرود الجيبون، وهو الاسم الذي قُلتَه لي. كانوا يطلقون النار على الأُمَّهات، ويأخذون الأطفال. ما الذي يدعوهم إلى ذلك؟ وكنت غاضبًا جدًّا. كنت أعتقد أن كل الناس قتلة. كنت أكره جميع الناس، فيما أظن. لم أكن أريد أن أرى الناس مرة أخرى.

وحدث ذات يوم أن أرَدْتُ صيدَ سمكة كبيرة لتدخينها، فذهبتُ للصيد في هذا القارب. وهبت الريح في الاتجاه المعاكس فابتعدتُ عن الشطِّ. كان البحر يجذبني بقوة شديدة. حاولت العودة إلى جزيرتي لكنني لم أستطع. فأنا عجوز، وذراعاي لَيْسَتَا قويتين، وعندما أتى الليل كنت لا أزال بعيدًا. وشعرت بخوف شديد، فجعلت أغني؛ فالغناء يمنحني الشجاعة، وسمعت صرخة، وأبصرت ضوءًا، وظننت أنني أحلم، ثم سمعت أغنية أخرى في البحر، في الظلام، وأتيت مسرعًا قدر طاقتي، فوجدتُكَ ووجدتُ ستلا والكرة. كنتَ شبه ميت يا ميكاسان، وكانت ستلا كلبة شبْه ميتة.» إذن كان كنسوكي هو الذي انتشلني من البحر، كنسوكي هو الذي أنقذني. لم يَجُلْ ذلك بخاطري قط.

وعاد يقول: «وفي الصباح أعادنا البحر إلى جزيرتي. كنت سعيدًا جدًّا لأنك لم تمت، لكنني كنت غاضبًا جدًّا أيضًا. فأنا أرَدْتُ أن أكون وحدي. لم أكن أريد أن أرى الناس. إذ كان جميع الناس في نظري قَتَلَة. لم أكن أريدك في جزيرتي. حَمَلْتُكَ. تَرَكْتُكَ على الشاطئ. كنت أترك لك ماءً حتى لا تموت. لكنك أَشْعَلْتَ النار. وأنا لا أريد أن يأتي الناس. لا أريد الناس أن يأتوا فيجدوني هنا على جزيرتي، وربما يأتون، وربما يطلقون النار فيقتلون السعالي، ويقتلون قرود الجيبون. وربما يجدونني، ويأخذونني معهم أيضًا. كنت غاضبًا جدًّا، فأطفأْتُ النار، ولم أكن أريد أن أتكلم معك، ولم أكن أريد أن أراك، فرسمتُ خطَّ الحدود الفاصل في الرمل.

وهبت عاصفة كبيرة، أكبر عاصفة رأيتها في حياتي، وامتلأ البحر بعد العاصفة بقناديل البحر البيضاء، وأنا أعرف قناديل البحر هذه، بالغة السوء، إذا لمستك تموت في الحال. أعرف ذلك. أقول لك لا تسبح، فهو خطر جدًّا. وسرعان ما أرى أنك أشعلت نارًا كبيرة على قمة التل، واعتقدتُ أنك شخص شرير جدًّا. كنت غاضبًا جدًّا هذه المرة، وكنت أنت غاضبًا جدًّا أيضًا. فسبحتَ في البحر. ولدغتك قناديل البحر. وقلتُ من المؤكد أنك متَّ. ولكنك قوي جدًّا، فعشتَ. أتيتُ بك إلى الكهف. عندي خل أصنعه من النبق، والخَلُّ يقتلُ السُّمَّ. أنت حي يا ميكا، لكنك كنت مريضًا جدًّا زمنًا طويلًا. أصبحتَ الآن قويًّا، وأصبحنا الآن أصدقاء. بيننا صداقة متينة.»

هذا إذن ما حدث؛ القصة كلها، وتوقَّف عن التجديف برهة وتبسم لي من جديد، قائلًا: «أنت مثل ابني الآن، ونحن سعداء؛ فنحن نرسم، ونصيد السمك، ونحن سعيدان، نمكث معًا. لقد أَصْبَحْتَ الآن أسرتي، يا ميكاسان. صحيح؟»

وقلت له: «نعم! صحيح!» وكنت أعني ما أقول وأشعر به.

وتركني أقوم بالتجديف، وبيَّن لي كيف أجدِّف بأسلوبه، وأنا واقف وقدماي منفرجتان ثابتتان. لم يكن الأمر بالسهولة التي صَوَّرَها لي. كان من الواضح أنه يثق في قدرتي على التجديف حتى يعود بنا القارب إلى الشاطئ، إذ اضطجع في جلسته في مقدم الزورق ذي المسندين، حتى يستريح واستغرق في النوم حالَمَا جلس تقريبًا، فاتحًا فاه، وخداه غائران. كان دائمًا يبدو في سُباته أكثر هرمًا مما هو عليه. وأثناء تطلعي إليه حاولت أن أرسم في خيالي صورة لوجهه في الماضي، ما لا بد أنه كان عليه حين قدم أول مرة إلى هذه الجزيرة، منذ هذه السنين الكثيرة البعيدة، منذ أربعين عامًا. كنت مَدينًا له بِدَيْن كبير، كبير جدًّا، فقد أنقذ حياتي مرتين وأطعمني وصادقني. كان على صواب. كنا سعيدَين، وكنت أنا «أسرته».

لكنه كانت لي أسرة أخرى. وتذكرت آخر مرة ركبت فيها سفينة، وفكرت في أمي وأبي، وكيف أنهما لا شك يحزنان لفقدي كل يوم وكل ليلة، وبعد هذا الوقت الطويل لا بد أنهما يعتقدان أنني غرقت، قطعًا، وأن احتمال وجودي على قيد الحياة معدوم، لكنني لم أغرق، بل أنا حي لا بد أن أجعلهما يعرفان ذلك بوسيلة ما، وبينما كنت أكافح عصر ذلك اليوم للعودة بالزورق ذي المساند إلى الجزيرة غمرني إحساس مفاجئ قوي بالشوق إلى رؤيتهما من جديد، إلى صُحْبَتِهما، وخطر لي أن أسرق القارب. من الممكن أن أجدف به حتى أبتعد، ومن الممكن أن أشعل النار مرة أخرى، لكنني كنت أعرف حتى أثناء هذه الخواطر أنني لن أستطيع تنفيذها. كيف يمكنني الآن أن أتخلى عن كنسوكي بعد كل ما فعله من أجلي؟ كيف أخون ثقته؟ وحاولت إبعاد الفكرة بِرُمَّتِها عن ذهني، وكنت أعتقد حقًّا أنني نجحت في استبعادها، لولا أنني — في الصباح التالي مباشرة — رأيت زجاجةَ الكوكاكولا البلاستيك على الشاطئ بعد أن جَرَفَتْها الأمواج، فعادت فكرةُ الهروب من جديد، وتملَّكتني من جديد ليلًا ونهارًا، ولم تكن تتركني إطلاقًا.

وقمت بدفن زجاجة الكوكاكولا في الرمل عدَّة أيام كنت أثناءها أصارع ضميري، أو بالأحرى أبرر لنفسي ما أريد أن أفعله، وقلت لنفسي إنها لن تكون خيانة حقيقية، أعني ليست خيانة بالمعنى المفهوم، وحتى لو وَجَدَ أحدهم الزجاجة فلن يعرف أحد المكان الذي يأتي إليه، ولن يعرف إلا أنني على قيد الحياة، وعقدت العزم على تنفيذ خطتي، وأن يكون ذلك في أقرب الآجال.

كان كنسوكي قد ذهب إلى البحر لصيد الأخطبوط، وكنت قد لزمت الكهف لأنتهي من الرسم على صَدَفَة، أو ذلك ما قلت له. وجدت مُلاءَة قديمة في قاع صندوق من صناديقه، فقطعت ركنًا صغيرًا من أركانها، ثم انحنيت على المنضدة، وبسطتُها أمامي وكتبتُ رسالتي عليها بحبر الأخطبوط، وهي:

إلى السفينة بيجي سو، فيرهام، إنجلترا

عزيزيَّ أمي وأبي،

أنا حي في صحة جيدة. وأعيش في جزيرة لا أعرف مكانها. تعاليا وخذاني.

مع حبي
مايكل

وانتظرتُ حتى تجفَّ تمامًا، ثم طويتها، وأخرجت زجاجة الكوكاكولا من الرمل، وأدخلت رسالتي فيها ثم أغلقت فُوَّهَةَ الزجاجة إغلاقًا محكمًا. تأكدتُ تمامًا أن كنسوكي كان لا يزال منهمكًا في الصيد، ثم انطلقت. وأخذت أجري من أول الجزيرة إلى آخرها ملتزمًا دائمًا بالغابة، حتى لا تُتَاحَ لكنسوكي فرصةُ رؤية المكان الذي أقصده أو ما عقدت العزم عليه، وكانت قرود الجيبون تعوي باتهاماتها لي طول الطريق، والغابة توقوق وتصرخ بإدانتي. كل ما كنت أرجوه ألَّا تَرُدَّ ستلا على ذلك بنباحها فتكشف مكاني، لكنها لحسن الحظ لم تنبح.

ووصلت أخيرًا إلى الصخور أسفل تل المراقبة. وجعلت أقفز من صخرة لصخرة حتى أصبحتُ أقفُ في أقصى أطراف الجزيرة، والأمواج تتكسر عند أقدامي. ونظرت حولي، فلم أجد شاهدًا عليَّ سوى ستلا، وقذفتُ بالزجاجة إلى أبعد مدى استطعته في البحر، ثم وقفتُ أنظرها وهي تتواثب بعيدًا فوق صفحة ماء البحر وقلت في نفسي لقد بدأت الرحلة.

لم أستطع أن أذوق حساء السمك الذي قدمه لي كنسوكي ذلك المساء، فظنَّ أنني مريض. لم أكن قادرًا تقريبًا أن أتحدث إليه، ولم أستطع أن أجعل عينيَّ تواجه عينيه. وظللت راقدًا طول الليل في عذاب مُمضٍّ يؤرقني الإحساس بالذنب، ومع ذلك — وفي نفس الوَقت — آملًا، على استحالة الأمل، أن يلتقط أحدهم زجاجتي.

كنت مع كنسوكي نقوم بالرسم في عصر اليوم حين دخلت ستلا الكهف بخطًى خافتة. وكانت زجاجة الكوكاكولا في فمها، وألقت بها أمامي وتطلعتْ إليَّ، وهي تلهث وتشعر بالسعادة والزهو بما فَعلَتْ.

وضحك كنسوكي وانحنى ومَدَّ يَدَهُ فالتقط الزجاجة، وأعتقِد أنه يوشك أن يعطيها لي عندما لاحظ وجودَ شيء فيها. وأدركتُ من الطريقة التي حَدَجَني بها بنظره، بل تأكدت أنه عرف على الفور ما كانت تحتويه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤