الفصل الرابع والعشرون

ترجمة (الأستاذ الشيخ سلامة حجازي)

هو الممثل المطرب البارع. والنجم الزاهر الساطع. رافع لواء التمثيل العربي. (الشيخ سلامة حجازي).

وُلد المترجم سنة ١٢٧٨ هـ وذلك على التقريب بمدينة الإسكندرية. وبعد أن حضر مبادئ العلوم اشتغل بفن الإنشاد على الأذكار الصوفية. فلما جاز قصب السبق على معاصريه هناك بما كان يودعه في المسامع من طيب ألحانه، لهجت الألسنة بذكره ورفع الناس من قدره وشأنه. حتى وصلت شهرته إلى مسامع رئيس جمعية من جمعيات التمثيل، فسعى إليه وحسن له الدخول في هذا الفن الجليل. شارحًا له فضائله ومزاياه. كاشفًا له عن حسن مستقبله إذا أطاع أمره ولباه. قال له مثلاً: واعلم أن التمثيل أنفع صناعة. وأربح بضاعة. يكسو صاحبه ثوب الجمال والجلال. ويصيره معدودًا من أفاضل الرجال. الذين يرفلون في حلل الرفاهية. ويتنعمون في عيشة راضية. فبفضل تلاوة الروايات يمكنك أن تخرج للناس إبريز البلاغة. وتصوغ لحين الكلام أحسن صياغه. فإذا ما تكلمت رأيت آذانًا صاغية. وقلوبًا واعية. وسيتضح لك صدق قولي أيُّها النبيل. حيثما ترى إخوانك هذه الليلة في التمثيل. بملابسهم الفاخرة، ومحاسنهم الباهرة، وشمائلهم اللطيفة، ونفوسهم الشريفة. وهم يهدون إلى الأسماع أنواع البديع من الأناشيد والألحان. وينزهون الأحداق في حدائق المناظر مع محاسن الأشعار وسحر البيان. فينشرح منك الصدر ويقر الناظر. وتود أن تكون بين النجوم الزواهر.

فجنح الأستاذ إلى الطاعة ولبى الطلب. بكل أدب. لعلمه أن ليس أحسن من الخضوع والانقياد. إلى ذوي الدراية والرشاد. فكان أول دور مثله في رواية (مي) — هو (كورياس). مع حضرة أستاذه الأول (سليمان أفندي حداد) الذي مثل أمامه (هوراس).

وكان الملعب في تلك الليلة غاصًا بوجهاء القوم من جميع الطوائف وفضلائهم. وشعرائهم وأدبائهم. وكلهم أجمع على رخامة صوت الأستاذ وبزوغ سعده إذا ثبت وثابر على العمل، فأجاب الله سؤلهم وبلغهم رجاءهم والأمل.

وقد مكث بعد ذلك زهاء الخمس عشرة سنة في جوق حضرة (إسكندر أفندي فرح). وهو يزيل عن قلوب الناس الهمّ والترح. ثم انفصل عنه حبًا في أن يرتقي به هذا الفن النفيس١.

فأصبح مديرًا لهذا الجوق، وأَنعِم به من رئيس، قد كملت فيه أسباب الظرف. واللياقة واللطف. حلو الشمائل نبيل. وقدره بين الناس أثيث أثيل. فهمه صحيح. ولسانه فصيح. يرى بأول رأيه آخر الأمور. ويهتك عن مبهماتها ظلم الستور. بحكمته يؤلف بين الجمر والماء. كما جمع بين حسن التمثيل مع صعوبته وطيب الغناء.

يا من تجمَّع من حسن الخلال له
ما قد غدا في جميع الناس مفترقا
يا أكرم الناس أفعالاً وأكملهم
فضلاً وأشرفهم إن ميزوا خلقًا

وبالجملة فقد أجمع الناس على تفضيله. في غنائه وتمثيله، ما زال عاقدًا ألوية أهل الألحان، ورئيس الممثلين في كل زمان ومكان. إن شاء الله.

ويحق لنا الآن نحن — معشر الشرقيين — الفخر بوجود مثل هذا الجوق الوطني الكبير الذي يضارع أجواق أوروبا الشهيرة — أبقى الله رئيسه وصحبه قدوة حسنة نقتدي بأعماله وتستضيء بنبراسه الجمعيات الشرقيات الأخرى، إنه سميع الدعاء. مجيب النداء.

وعلى ذكر ذلك أنشر هنا ما كتبته جريدة الأفكار الغراء في عددها ٢٩٣ من سنتها السابعة الصادر في يوم الجمعة غرة الحجة سنة ١٣٢٣ بخصوص حضرة الشيخ المذكور وجوقته تحت عنوان (التمثيل والممثلون):

إن كان للمدارس فضل في تربية عقول الناشئة وتشحيذ أذهانهم. وللجمعيات مزية لتيقيظ ذاكرات كبار الطلبة ومتخرجي دور العلوم. وللجرائد فائدة ونفع لنبهاء الأمة ورجال العمل فيها. فللتمثيل الفوائد الممتازة والمنافع العميمة لكل واحد في كل طبقة ووسط، فقد أفادت التجارب والاختبارات أن المرئيات أقرب إلى الحافظة والتصور والمسموعات أوكد آثارًا في النفس، وأكثر إثارة لتأثرها فإذا اجتمع الأمران وازدوج الخبران كان أثراهما أمكن وقعًا وأشد انفعالاً بالنفس التي لا تلبث خافقة ترفرف كالطير وراء حركات المناظر وتغيراتها — وقد عرف سكان العرب للتمثيل هذه المحامد الجميلة فصرفوا لتكثير دورها كل عناية والتفات حتى أصبحت متعددة المحال متنوعة المناظر منبثة في كل النواح. ومنذ العهد الأقرب شعر بالحاجة للتمثل في ترقية النفوس وتعديل الأمزجة واعتدال المشارب — بنو مصرنا العزيزة فشغفوا به وولعوا بكل جديد فيه، خصوصًا منه الغريب الرؤية الحكمي الوضع المهذب المؤدب وعلم كبار رجال هذا الفن من ناس هذا الميل الكبير الفائدة، فاهتموا به ولا كاهتمام حضرة الممثل الوحيد المطرب المجيد الشيخ سلامة حجازي صاحب الشهرة الذائعة والصيت البعيد فإنه طفق — أعانه الله منذ استقلاله بهذه الفن — يجيء لنا بالمستغرب من القصص الحلوة الحديث، المدهشة المناظر ولسنا وحدنا في امتداح هذا النابغة الموسيقي المعجب فقد امتلأت نواحي بلاد القطر من الثناء على اجتهاده والمدح لاهتمامه حتى قال أحد الإفرنج (العارفين بالعربية طبعًا) وقد حضره في تمثيله وأبصره وقت إلقائه التلحينات وهو يترنم بصوته الرخيم وينظر للذي جانبه مستلفتًا إياه إلى انتظامه معه في الإيقاع والتنغيم: لا بد أن يكون لهذا الرجل في دماغه مخان يضبط بأحدهما تصويته ويزن بالثاني أصوات رفقائه، أو يكون الذي يصوت بما نسمعه منه سواه — وليس بعد هذا من حاجة لامتداح، فإن شهادة الأجنبي بعشرة (خصوصًا الغربي في هذه الأيام) ولم نرد أن ما يحمد عليه حضرة الشيخ هو حسن التنغيم فقط، فإنه لم يُنسَ أنه هو بذاته ذاك المؤسس لأول جوق تمثيل في وإنه الذي أدهش بإتقان هذا الفن كل واحد وساق الممثلين بتعاليمه وإرشاده لإحسان الحركة والرشاقة والمهارة في أعمالهم فهو أبو هذا الفن ومبدع وجوده ورئيس فنه في مصر وكل من جاء فتابع بلا ريب لآثاره وممثل لوصاياه. وهذا من حوله من رجال جوقة البارعين قد بلغوا من أعلى هذا الفن قمته حتى صار في قدرة كل واحد منهم أن يظهر بأشكال تذهل الرائين بدون أن يلحظ واحد أنه هو — وهذا غاية في الاقتدار ونهاية في التحكم على الإرادة ومصائر ما يمكن أن يبلغه الممثل في إتقان فنه سواء الشرقي أو الغربي ولا بدع إذا افتخرت الصحافة بالشيخ وجوقه عن لسان بني وطنه المصري ورجت له أن يتقدم في فنه وأن يعرف الناس فضله ومزاياه فيقبلوا عليه ولا يحجبهم عن الرغبة فيه متحيز بذم الورد على احمراره وبحد البدر على أنواره.

(تنبيه) لعموم الأجواق العربية — قد أشرت منذ سنتين على حضرة (إسكندر أفندي فرح) حينما رغب إليّ أن أشتغل معه بعد أن انفصل عنه الأستاذ (الشيخ سلامة) بأن يشكل (جوقة موسيقية تركية) لاتحادها تمامًا مع الألحان العربية — وتشتغل مع جوقة الغناء سواء بسواء؛ حيث أكون ربطت القطعة بالنوتة أولاً وأعطيتها للجوقة الموسيقية ثانيًا — فتكون في هذه الحالة كل رواية (أوبرت) — وبعد ذلك يمكنني أن ألحن رواية برمتها (أوبرا) — ودللته على من يكون رئيسًا لهذه الجوقة — وبالفعل جعلني الواسطة بينه وبينه — وبعد أن قمت بهذه المأمورية خير قيام وأعجب بمهارة هذا الأستاذ الذي انتخبته الحضور — ضن بالمصاريف فضرب صفحًا عن هذا العمل الجليل — فلم آلُ جهدًا في أن نبهت إلى هذه الفكرة حضرة صديقي الفاضل الشيخ (سلامة حجازي) — فعسى بهمته الشماء وما عهد فيه من ميله لرقي فنه أن يتمم هذا العمل العظيم الذي شرعت فيه لرقي فنين في الحقيقة هما (التمثيل والموسيقى) وما على من يريد التفرد ويود أن يعمل عملاً عظيمًا يدوّن له في التاريخ هذا الأمر بعزيز، سيّما بعد بذل كثيرًا من المصاريف التي سيجني أكثر منها أضعافًا إن شاء الله إذا أطاع ما يشير به عليه محبوه. ولكي يكون له من جهة أخرى فضل السبق على سواء في إحياء (فن التمثيل) الذي لا يتم ولا تقوم له قائمة إلا إذا حلت في جسمه روح (فن الموسيقى) — وإني لا أخشى أن أقول بصراحة وحرية ضمير بأني مستعد لخدمة أية جمعية تمثيلية في مصر توَّد أن تكون البادئة بهذا العمل — وعسى أن تكون (جمعية المعارف) لأنه من السهل عليها عمله الآن لوجودي رئيسًا لها — ولي أمل وطيد في نجاحها؛ لذكاء شبانها وميلهم إلى الآداب.

المختارات من تلاحين الأستاذ الشيخ سلامة حجازي

(تنبيه) اعلم أن ما سنذكره هنا هو عبارة عن الألحان التي تنشدها الجوقة بمناسبات الوقائع التي تتخلل بين الفصول.

(سماعي ثقيل — نهاوند)

شكرنا للمليك اغنموه
وعلى كل البرايا قدموه
فهو فرد مثل بدر في سماء
رب فضل لا يضاهَى
قطب عدل لا يباهى
يا رفاقي كل حين عظموه

(نهاوند — زرفكند)

أيها الغفار
يا مولى الأنام
هب لنا الغفران
من كل الأنام

دور

واحبنا بالفضل
وامنحنا السلام
يا إله الناس
يا مولى الأنام

(نهاوند ٢ من ٤)

طف بالكؤوس على الندامى
وارو النفوس من المدامه
وزوج ابن غمام بنت عنقود
فنحن أهلا لغرام من الشهود
واشرب واشرب واطرب واطرب
وانهب فرص اللذات

(حجاز كار — نوخت)

العدل والإنصاف روح الوطن
والعفو والإحسان أصل المنن
فأنت مولانا إمام الهدى
بالعدل تحمينا وحسن الفطن

(حجاز — سماعي ثقيل)

دام مولانا المليك الأفضل
بالعلا والافتخار
رأيه السامي سديد أكمل
بالوفا والاقتدار

(حجاز كار — سماعي ثقيل)

أنار سعدي — وتم قصدي
ونلت وعدي — على الرشد
ولاح مجدي — بخير رقدي
وليس عندي — سوى المجد

خانه

فما الأزمان
بهذا الآن
سوى الألحان
بها قصدي

(حجاز — أقصاق)

أنعمت بالخير الجزيل
يا أيُّها المولى الجليل
فاسلم ودمْ طول المدى
بالأمن يا شافي الغليل

(حجاز — دارج)

أيها المولى تأن
إن في الصبر المرام
سوف يمضي الهم عنا
ليس في ذاك كلام

خانه

وتلاقى الأنس دومًا
بالتهاني والسلام
فاشكر المولى العظيم
كلما ناح الحمام
واحسن الصنع إلينا
واحبنا حسن الختام

(بوسليك — أقصاق)

أيا كترين بالإنصاف
ترين الموت بالهند
فذوقي ضربة السياف
جزاء النكث بالعهد
أيا أتلاود سامحني
وهيا بالعجل نهرب
وبالإنصاف عاملْني
فعنك الآن لا أرغب

(حسيني دوكاه — نوخت)

مرحبًا أهلاً ببدر
ساطع البشرى
من غدا للشمس يزري
وجهها الدريّ

خانه

أشرقتا والسعد وافى
وزهى البشر
وزمان الأنس صافي
وأتى اليُسر

(حسيني عشيران — أقصاق)

يا مليكًا ساد كل الملوك
بجلال أعظم لا يرام
قد كفى الأعداء أن يرهبوك
يوم حرب أشأَم أو سلام

دور

قد حباك الله عرشًا مجيد
يا عليَّ الشيم والمقام
فاحتكم فينا برأي سديد
قدوة للعالم في الأنام

(سيكاه — نوخت)

ملك الألباب خفف
حر نيران الغرام
يا نسيم الصبح لطِّف
شرَّ لوعات الغرام

سلسله

كيد البعاد آسي
يُبلي ولا يرحم
قلبي وأنفاسي
والروح قد أعدم
يا لقومي والديار
زاد نوحي والسقام

(سيكاه — سماعي ثقيل)

يا أميرًا بالسجايا الغر ساد
بالعلا والعدل أرضيت العباد
جِئتنا بالنصر والفتح المبين
وكفيت الناس شر الظالمين
فاغتنم صفو الليالي والزمان
وليلاقي الضد أنواع الهوان

(جهاركاه — واحدة من نوع النوار)

هلمَّ يا أخا العُلا إلى الوغا
فقد بدا وقت الانتقام
أين السلاح لاح النجاح خذوا الرماح
قد انتهى كل ما يرام
إذا نسير لا نستشير هيا إذًا
نحمي الوطن من العدى
يا ربنا هبنا على أعدائنا فوزًا ونصرًا
ويل لمن يرمي الوطن سهم الحَزَن
من العدى من ضرب الحسام في الصدامْ

(بوسليك — نوخت)

لها الهنا لها الرضا
يا ربنا في جنتك
تلقى هناك ربي هداك
بل في عُلاك ومحبتك

دور

حب أكيد حظ سعيد
دومًا يزيد في حضرتك
عن الغرام من فيك هام
حسن الختام في نعمتك

(بوسليك — مصمودي)

هات لي خمرة الشفا من شفاهك
واسقنيها على فخامة جاهك
واعطنيها يا أوحد العصر لطفًا
وبديع المثال في أشباهك

(عجم عشيران — ظرفات)

يا مليكًا فضله عم الوجود
وله في الناس إحسانٌ وجود
ولدى الهيجا له باس الأسود
يورد الأعدا إلى شر الورود

(عجم بوسليك — سماعي ثقيل)

يا أيُّها الملك السعيد
قد فزت بالعيش الرغيد
كترين في ثوب إليها
زفت إليك كما تريد

(عجم بوسليك — ٣ من ٨)

ذا مقام الغرام
وفعال الهيام
لك أجرُ الهوى
فعلى الدنيا السلام

أما افتتاحاته واختتامته التمثيلية — فنجدُها في كتابي (نيل الأماني — في ضروب الأغاني) بغاية الدقة والتصحيح.

هوامش

(١) أجل — فبمثل هذا الرجل العظيم ترتقي مثل هذه الفنون النفيسة الدقيقة — بيد أنه لا يخفى على فطنة الناقد البصير مقدار ما بذله هذا الغيور على رقي فنه من أثمان الملابس الفاخرة والمناظر المدهشة التي استحضرت من أوربا — وأجور كبار الممثلين والملحنين المجيدين — والاشتغال في أكابر تياترو في العاصمة بعد (الأوبرا) خلا شهرته الخاصة وقوته النادرة اللتين لا يناظره فيهما مناظر، ولا يضارعه مدع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤