مقدمة المترجم

تنوع ثقافي ووحدة إنسانية

«وامتد بين الإنسان والطبيعة حجاب الثقافة»

م. كاريذرس

ما أحوجنا إلى أن نفهم أنفسنا، أن نتأمل حياتنا، وأن نعرف، عن وعيٍ نقديٍّ وبصيرة علمية، سبيلنا إلى النهوض وتطوير حياتنا، والارتقاء بها. والشرط الأول لهذا كله أن ندرك معنى المجتمع، من حيث هو بنية قائمةٌ على التكافل والتفاعل والتضامن المشترك أو المتبادل. لعل أخطر مشكلاتنا أننا نعيش وقد استقرَّ في وعينا الباطن، دون ظاهر القول، أننا تجمعٌ بشريٌّ … لا مجتمع، أفراد … لا بنية مترابطة. كلٌّ يرسم مصيره ومستقبله … لا مصير المجتمع ومستقبله. وكلٌّ يتحدث عن الثقافة وعن الذاتية الثقافية حديثًا غائمًا معمًّى، دون أن نملك وعيًا علميًّا بمعنى الثقافة الاجتماعية وضرورتها وأسس نشأتها وتطورها وتوارثها. ثم بعد هذا، وعلى الرغم منه، كل يُباهي بثقافةٍ مجهولةٍ له تأريخًا وتأصيلًا وحركة اجتماعية، ومنطلقُه نزعة محورية عصبوية دون أن يدرك، أو دون أن ندرك، ومن ثم نقبل تنوع الثقافات، بوصفها ضرورة اجتماعية تاريخية، أساسًا للتسامح، وتعزيزًا لدينامية التطور الاجتماعي، وضمانًا للنهوض، وأن ارتقاء حياة الإنسانية في شتى المجتمعات، وعلى مدى التاريخ، رهن تنوع الثقافات وتفاعلها. وتباين الرؤى، واختلاف الآراء، وتوافر آلية اجتماعية تكفل التفاعل الإيجابي الحر.

ويأتي هذا الكتاب ضرورةً ثقافية؛ لأنه يُحفزنا إلى طرح تساؤلات تنفث في الفكر النقدي نبض حياة، وتنزع عن العقل الراكد غمامة طال أمدها … إنه يحفزنا إلى أن نتأمل حياتنا، أن نفهمها، وأن نسأل، كما يقول الكتاب، ليس «من أنا» …؟ بل من نحن في علاقتنا الاجتماعية في الحاضر وفي التاريخ؟ ولماذا تفكَّكت أواصر روابطنا الاجتماعية؟ ثم كيف نترابط معًا …؟ وأن نسأل أولًا: «ما الذي حدث في تاريخنا الاجتماعي؛ فأصبحنا على ما نحن عليه من وضاعة حالٍ، وقناعة بماضي الأجيال البعيدة؟» ثم نعقب على هذا، وبناء عليه، بسؤال: «ما الذي ينبغي عمله ونعقد عليه العزم؟» … وهكذا نبدأ المسيرة ونحن، كما يُقال، على نورٍ من أمرنا.

نحن نعيش حياتنا اطرادًا قدريًّا عفويًّا، وفكرنا أو ثقافتنا معلبات تاريخ. الذات عندنا جوهر ثابت اكتمل مرة وإلى الأبد، لا يتغير مع الزمان. وآحاد البشر شأنهم، شأن وحدات الأرابيسك، تكرار نمطيٌّ وعدديٌّ. والامتداد الزماني لا يعني أولًا وأساسًا فعلًا إنسانيًّا نشطًا وتغييرًا متصلًا … مجتمع الأمس مثل مجتمع اليوم، ومجتمع الآخر نريده مثل مجتمع الأنا ثقافةً اجتماعية وسلوكًا، أو هكذا نرى قدره المرسوم، وإن اختلف زعمنا أنه ضلَّ السبيل … الجميع سواء، وما يصدق على هذا يصدق على ذاك. ولا مجال للتنوع، ومن ثم لا مجال للحوار مع الآخر، ولا مجال للتسامح مع مخالف في الرأي. ولا نسعى إلى فهم أسباب الاختلاف، أو السبيل إلى الوحدة مع التباين والتنوع والاختلاف … وسبب هذا الخطأ — أو قل هذه الخطيئة — أننا نظن أن الحقيقة واحدة مطلقة في الزمان وفي المكان. فهكذا تُعلمنا ثقافتُنا المعيشةُ، مثلما تعلمنا أن الحقيقة مصدرها خارج الذات، وأنها يقينٌ مطلق، وليست وليدة فعل وتفاعل وحوار بين الذوات المشتركة وتفاعلهم مع الواقع ومع أنفسهم … ونغفل أن تعدد الواقع وتغير الزمان يعنيان تعدد الحوار، وتغير مضمون هذا الحوار على مستوى المجتمعات زمانًا ومكانًا.

وأحرى بنا أن نتأمل حياتنا … لا أن نتأملها باعتبارها تجليًا إعجازيًّا، ولكن باعتبارها فعالية الإنسان/المجتمع في التاريخ لتغيير الواقع، أو أن هذه الفعالية هي عين التاريخ الذي هو أيضًا رهن شروط وجودية. وأحرى بنا أن نتأمل حياتنا الاجتماعية، باعتبارها حدثًا زمانيًّا مكانيًّا، له سيرورته وصيرورته، لنستكشف ذواتنا الجمعية أو الاجتماعية، لا الفردية في تنوعها … فنعيها بعقلانية، ونعي حركتها المستقبلية بإرادتنا … حركة قوامها وركيزتها حوار علمي سمْح بين ثقافات الشعوب، وحوار عقلاني إراديٌّ بين الإنسان/المجتمع وبين الطبيعة … حوار هو التفاعل الحي أو الحيوي، هو إرادة الإنسان/المجتمع مجسدة في فعالية واقعية وتفاعلية اجتماعية، تصنع التاريخ ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا.

وهذه الفاعلية والتفاعلية التي تنتج المجتمع تتسم بخاصية أولية وأساسية؛ هي قابليتها للتنوع الثري والتعدد الخصب في أنماط الاستجابات، وليس شأنها الاطراد العشوائي النمطي شأن الحيوان … ولهذا كل إنسان/مجتمع يبني مجتمعه، وينتج ثقافته على النحو الخاص به زمانًا ومكانًا، ويكتسب خصوصيته من إطاره الإيكولوجي ومحيطه العقلي ونهجه في الحوار وفي التعامل … ومن ثم تتعدد المجتمعات، وتتنوع الثقافات على مدى الزمان في إطار الشروط الوجودية. وبات التنوع والتغير هما في ذاتيهما شرطين وجوديين أساسيين من شروط وجود الحياة الاجتماعية … هما سمة وضمان الحياة الاجتماعية في اطرادها الدينامي المتجدد المتفاعل، وهما مجلى الإرادة الإنسانية والابتكار والتجديد، ومناط فعالية وارتقاء الفعل والفكر العقلانيين.

إن التماس الوحدة والتجانس والتماثل أبدًا هو التماس لموات الوجود، والتماس لخاصية التحجر والجمود … الإنسان بطبيعته السوية لديه استعداد وقابلية هائلة للتنوع والتغير في حركةٍ حيَّة دينامية، وهذا هو ما أفضى إلى تباين أشكال الحياة، وأشكال فهم الحياة، وصور التعبير عن الحياة، وسبل الأخذ بالحياة والتعامل معها … تنوع في النظر إلى الكون والوجود وعناصر الحياة … ففي التنوع والتعدد والاختلاف حياة الإنسانية وارتقاؤها.

ومع إيماننا بالتعدد والتنوع نؤمن أيضًا بأن هناك ما يجمع بين البشر … إنها وحدةٌ مع الاختلاف، أو لِنَقُل: التباين في إطار الوحدة … فالتنوع الثقافي لا يعني التنافر الإنساني المطلق، ولا يعني النفي الوجودي المتبادل، وإنما يعني أنه مع الإيمان بضرورة التعدد والتنوع ضمانًا للحركة، فإن ثمة ضرورة للفهم العقلاني لتأكيد تكامل عنصر أو عامل التكافل الإنساني الأشمل، ووحدة الجوهر الإنساني … إن التباين ليس عاملَ هدمٍ، بل حافز حركة قائمة على التفاعل في إطار فهم عقلاني ووحدة إنسانية … ومن ثم يكون ضروريًّا أن ندقق النظر في كيفية ترابط الناس بعضهم ببعض داخل مجتمع ما.

إن فرصة المجتمع للتطور الارتقائي، وكذا فرصة الإنسانية، تكون أكبر كلما زادت درجة التشابك وعمق الترابط المتبادل بين بعضهم والبعض الآخر، في إطار صورة عقلانية مشتركة للمجتمع … فهذا هو جوهر الانتماء الإيجابي. هنا تتوحد اللغة، أي الفكر، وتتماثل الأهداف، وتتكامل الجهود، وتتعزز الروابط.

الحياة البشرية بطبيعتها متحورة … تاريخ … إنها حياةٌ ذات تاريخٍ وطبيعة تفاعلية تحولية دائمًا وأبدًا. هي التجربة الإنسانية القائمة على الفعل/الفكر، وعلى التفاعل الذي هو جوهر روح المعاشرة الاجتماعية وجذر نشأة الثقافة. فالثقافة منتج اجتماعيٌّ لتكييف فرص ومناخ الفعل والتفاعل الاجتماعيين؛ فتكون الثقافة إطارهما وليست علتهما … ومن ثم فإن دراسة ثقافة مجتمع ما باعتبارها نتاجًا مجتمعيًّا تاريخيًّا؛ تعني بالضرورة دراسة الفعل الاجتماعي وعلاقات التفاعل داخل المجتمع، ومع مجتمعات خارجية؛ سواء في صورةٍ تبادليةٍ حرة، أو في صورة ما نسميه غزوات أو فتوحات، أو غير ذلك من أسماء؛ وتعني أيضًا استبيان الآثار المتولدة والعلاقات التبادلية الجديدة الناجمة وتحوراتها، وما أفضت إليه الظروف والملابسات الجديدة من ابتكارات الفعل والفكر الاجتماعيين. فالثقافة نهج تعامل تبادلي مشترك، ولا نفهمها إلا في إطار العلاقات المتبادلة عمليًّا وتطبيقيًّا، أي في إطار الاستخدام، أو من حيث هي ثقافةٌ معيشةٌ اجتماعيًّا يُجسدها سلوك … هكذا يكون وجودها الحي، وما عداها أمر غير واقع، مهما ألحفْنا في الادعاء بها، وألححنا في الدعوة إليها.

وبناء على ما سبق فإن بيئة الإنسان/المجتمع ليست شيئًا خارجيًّا فقط، وليست موضوعًا مستقلًّا فقط، وإنما يُضاف إليها — وجزءٌ منها — الوضع الاجتماعي ذاته وروابطه، ونهج التفاعل داخله، وفكر الإنسان/المجتمع عن هذا كله، وعن الوجود من حوله. ذلك أن رؤية الإنسان/المجتمع إلى العالم، وكذا رفاق كل فرد في العلاقات المتبادلة، وشكل التنظيم الاجتماعي، كل هذا يُشكل جزءًا حيويًّا من هذه البيئة المحيطة والمؤثرة، أي تشكل جانب المحيط العقلي الذي يصدر في إطاره فعل وفكر الإنسان/المجتمع.

وخاصية المرونة لدى الإنسان/المجتمع، تتسق مع قابلية التغير في الطبيعة، وتغير الفعل الإنساني/الاجتماعي. ومن ثم فإن هذا الوضع يستلزم مهارةً وإبداعًا وتجديدًا في الفكر وفي السلوك وفي تقدير نتائج التغير … أي مهارةً وإبداعًا قرينَ القدرة على التكيف اجتماعيًّا … التكيف المقترن بروح المعاشرة الاجتماعية، وطبَعي أنه كلما تعززت الروح الاجتماعية بفعل النظام الاجتماعي المواتي، تعززت قدرة المجتمع على التكيف وعلى مرونة التغيير واكتساب الخبرات، عن طريق الذات أو الغير ومواجهة التحديات. ويتجسَّد هذا كله في الفكر والفعل الاجتماعيين المتجددين أبدًا. وهذا عين الذكاء الاجتماعي.

ويُمثل هذا الكتاب مناقشةً علميةً منهجيةً جريئةً وجديدة لأسس الروح الاجتماعية المميزة للمجتمع البشري. ولا يملك القارئ إزاء هذه المناقشة إلا أن يجد نفسه في خضمِّ القضايا والتساؤلات المطروحة. ولن يجد القارئ مناصًا من أن يُناقش نفسه ويتساءل، وينقد واقعًا يُحيط به، وتاريخًا ثقافيًّا اغتذى عليه يظنه حقيقة مبرأة من الغرض، وثقافة حاصرت ذهنه، أو حصرته. ومن ثم يحاول، وبنفس القدر من الجرأة، أن يُناقش نفسه وفكره وعلاقاته الاجتماعية، شريطة أن يلتمسَ المنهجية العلمية نفسها في البحث والنظر. إن الكتاب قد يُثير لدى القارئ حافزَ التفكير والتأمل الذي يصل به إلى حدِّ مناقشة الجذور الثقافية لحياته الاجتماعية، ليبني أو ليتبنَّى فكرًا جديدًا دافعًا للحركة والتغيير على المستوى الاجتماعي.

ولعل حديث الكتاب عن الفكر الروائي يعنينا كثيرًا، نظرًا لأننا لا نزال أسرى حقبة الثقافة الاجتماعية الشفاهية التي تعيش على الرواية دون رؤيةٍ نقدية. ومن ثَم نحن بحاجةٍ إلى تأمل الفكر الروائي الذي يملأ جنبات حياتنا حاضرًا وماضيًا، لنستخرج العبرة ويكون لنا منهجنا النقدي وصولًا إلى عقلانية التفكير، ذلك أن الفكر الروائي تدخُل في سدَاه ولُحمته قدرات الإنسان على الفهم والتفسير والتأويل والتخيل، وما قد تتصف به هذه القدرات أو يصيبها من عوامل سلبية وانحيازات متأصلة في طبيعة البشر، تمتد مع الزمان ويكون لها أثرها في علاقات المجتمع وحركته، ويضع هذا الفكر حجابًا ثقافيًّا بين العقل والواقع الحي. ومن ثم يكون هذا الفكر في دراستنا النقدية مادة لفهم الحياة الاجتماعية، ولدراسة تأويل النص في التاريخ وتعدد قراءات النصوص وتأويلاتها؛ لنصنع حياة ثقافية مغايرة اتساقًا مع مطالب اجتماعية راهنة.

وهنا نرى الكتاب تطبيقًا جديدًا وإبداعيًّا لمنهج التفكيك في مجال الدراسات الأنثروبولوجية، وهو منهجٌ جديد من ثمار فكر ما بعد الحداثة. ويقوم بذلك شاهدًا على جدوى وفعالية فكر ما بعد الحداثة، وكيف أنه يُمثل إضافة جديدة لتيارات الفكر الإنساني، على نقيض ما يظن البعض. ويعمد المنهج إلى تفكيك النص، وتجاوز حدود البناء اللغوي-النحوي، إلى الكشف عن التفاعلات الاجتماعية؛ أي عن بيئة النص، وإلى الكشف عمَّا وراء النص، أي ما يُخفيه أو يضمره النص، ولكنه جزء منه وفي صُلبه؛ ومن ثم يحاول إبرازه وإشهاره ليكتمل المعنى في زمان ومكان محددَين.

أو لنقُل: بمعنى آخر — وتأسيسًا على تطبيقات هذا المنهج بين دفتي الكتاب — إن النص يُشير إلى ما هو أبعد من حدود المعاني القاموسية. إنه موقف وسياق حياة دافقةٍ فياضة زاخرة بالعلاقات والتفاعلات والمعاني المضمرة؛ بل والخافية. وإن النص — وإن جاءت روايته على لسان فردٍ — إنما هو عملٌ جماعيٌّ أو مجتمعي بمعنًى من المعاني وتتمثل مهمة الباحث الملتزم بهذا المنهج التفكيكي في التماس الكشف عن هذه الحياة المتجسدة في عناصر كثيرة: المؤلف في التاريخ، والمتلقي في بيئته الأشمل، وعلاقاته المعقدة، وموقف كل منهما، وما يقترن بذلك من حالات ذهنيةٍ وبنيةٍ فكرية وبيئة اجتماعية متباينة، وربما متصادمة العناصر والتوجهات. ثم إن النص بعد هذا كله — وتأسيسًا عليه — هو حلقةٌ في سلسلة من المتواليات التي لا تنتهي … وهكذا فإن تفسير وتأويل النصوص لا يتمَّان إلا عن طريق رد النص إلى رابطته ونواته الاجتماعية، في ضوء فهم الإطار الاجتماعي لإنتاج النص وسياق حياة النص في تفاعله بين أطرافه وعناصره. ويخلق النص — بحكم وضعه هذا — مناخًا، أو ربما يستلزم جوًّا خاصًّا يجري فيه فهم النص واستيعابه داخل إطاره، أو يستلزم نشوء علاقةٍ خاصة بين الطرفين: المؤلف والمتلقي في مناخ بذاته، مثال ذلك أن يتخذ راوي النص صورة المتسلط أو الحكيم المتفوق، ويأخذ المتلقي صورة من يسمع ويطيع في إذعان … إلخ، وتكون هذه العلاقة الناشئة جزءًا من بنية النص ومن معناه اجتماعيًّا؛ وتكون كذلك إطارًا لطبيعة التفاعل ومقتضياته في المجتمع … كأن النص له طقوسه وشعائره التي يكتمل بها الاعتقاد … ومن ثم يُقال: إن معنى النص معنًى تفاعلي … وإن رواية النص رهن إطارها ووصفها … فليس للنص أبدًا معنًى واحد، وإنما معانٍ متوالية مواكبة لفيض الحياة، وتحول النص شاهدَ صدقٍ على تحول المجتمع، والنقيض صحيح أيضًا؛ إذ لا يوجد مجتمعٌ منعزل عن التفاعل، وجودًا وفكرًا وثقافة، مع المجتمعات الأخرى أو الانفعال بها، ومن ثم لا توجد مجتمعات بقيت على مدى التاريخ على حالها أسيرةَ ثقافة نقية أو فكر جامد لا يتحول. ولكن تظل المجتمعات في حالة انفعال عند الضعف، والتفاعل عند القوة والحياة الإيجابية السوية.

ونجد في هذا الكتاب إطلالة عقلانية نقدية على ثقافةٍ عالميةٍ هي البوذية. وهذه هي إحدى الثقافات الأولى في العالم، من حيث تعداد المؤمنين بها وعراقة تاريخهم الحضاري. ومن المؤسف أن غابت معالم هذه الثقافة عن أذهاننا، بعد أن كانت وغيرها ثقافاتٍ مألوفةً لنا أو قريبةً منَّا. وما أحوجنا إلى تأملها، والنظر إليها في إطار دراسة مقارنة تغرس خلق التسامح والإيمان بالتنوع والتعدد.

ويُبيِّن الكتاب أن هذه الثقافة — شأن جميع الثقافات — ابتكار بشري في مواجهة الإنسان/المجتمع للحياة. إنها صورةٌ مبتكرة عن الحياة، ونهجٌ إنساني إبداعي للتعامل والتفاعل، لكي تمضي الحياة ولا تتوقف أمام ألغاز. والجدير بالذكر أن هذه الإطلالة سوف تجعل القارئ يجد نفسه وفكره وموروثه الثقافي هنا بين أسطر الكتاب، وإذا به يبدل صورة بصورة، وحدثًا بحدثٍ، وكلمات بكلمات أخرى مناظرة، فيستكشف أعماق نفسه على نحوٍ جديدٍ، اتساقًا مع منهج البحث التفكيكي. وسوف يُحفزه هذا، إذا ما كان تأملُه منصفًا نزيهًا، إلى أن يعي واقعه وحياته وتاريخه في إطارٍ جديد، إطار من التسامح والعقلانية النقدية، ويحفزه إلى رؤيةٍ إنسانية أشمل، تصدق معها مقولة الفيلسوف الهندي رادهاكريشنان الذي قال: «إذا ما تعالينا عن مظاهر الاختلاف بين المعتقدات والثقافات، فسنجدها جميعًا واحدة؛ لأن الإنسانية في جوهرها واحدة، وإن تنوعت وتعددت ثقافتها.» وهذا هو عين ما يكشف عنه الكتاب: الجوهر الواحد للإنسانية، روح المعاشرة الاجتماعية، علة نشوء الثقافات، وإن تعددت وتنوعت. إن فكر الكتاب نزعةٌ إنسانية جديدة، نحن في مسيس الحاجة إلى أن نعيها ونعقلها. ونسوس حياتنا على هديها، فإذا بنا لا نستنزف طاقاتنا الإبداعية في مساربَ وهمية خارج الإنسان والمجتمع والطبيعة؛ ولكن نُوظفها ونصبها عن وعي عقلاني في قنوات الارتقاء بالمجتمع الإنساني، بديلًا عن مهاوي الجمود والتخلف.

شوقي جلال
القاهرة ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤