تصدير

هذا الكتاب ثمرة مشروعين: المشروع الأول كان تأليف مدخل أو تمهيد، يُشجع على أن يكون علم الأنثروبولوجيا في متناول فهم كل من له رغبة أو حاجة إلى معرفته. واستهدف هذا المشروع عرض علم الأنثروبولوجيا، باعتباره نشاطًا يساعدنا على فهم التنوع البشري اجتماعيًّا وثقافيًّا، ويكشف لنا عن سبل التعامل مع هذا التنوع. أما المشروع الثاني فكان معنيًّا أيضًا بهذا التنوع، وإن كنت عمدتُ إلى أن يكون بمنزلة دعوة موجَّهة إلى زملائي في ميدان البحث الأنثروبولوجي ومجالات البحوث الأخرى ذات الصلة. واتخذت منطلقي إليه السؤال التالي: لماذا تنوعت ثقافات وسبل حياة البشر؟ وينصبُّ سؤالي هذا على أسس التنوع في حقيقته. ومن ثم فإن أحد المشروعين موجهٌ إلى أولئك الذين يقفون على عتبة البحث الأنثروبولوجي؛ بينما الآخر موجَّهٌ إلى أولئك الذين يحتلون منه مكان المركز.

ترى هل بالإمكان الجمع بين هذين الغرضين المختلفين، وبين نوعي القراء المتباينين الذين يهتمون بكل منهما؟ وبينما أنا ماضٍ في طريقي لأنجز ما عزمت عليه، بدا لي واضحًا أن الجمع بينهما ليس ممكنا فحسب؛ بل هو واجب أيضًا، وأن هذا الكتاب يكشف عن إحدى طرق تحقيق هذا الجمع، ومن أسباب ذلك أن المهارات اللازمة لعلم الأنثروبولوجيا لا تزال وثيقة الصلة نسبيًّا بمهارات القرَّاء العاديين، والعاملين في عالم اليوم الشديد التعقيد. وسبب ذلك أن المرء ليس بحاجةٍ إلى تحصيل طرق تفكير جديدة ومعقدة، تكون مدخلَه إلى العلم، شأن الحال بالنسبة للمشتغلين بالرياضيات. والحقيقة أن بعض اتجاهات علم الأنثروبولوجيا بدأت الآن في التمازج، على نحو غير ملحوظٍ، مع الفهم المشترك في حياتنا اليومية. وهناك يقينًا بعض الدراسات العلمية، مثل الطب، لا تستلزم أن تكون مناهج ونتائج البحث واضحةً لها على نطاقٍ واسع لكي تكون ذات فعاليةٍ مؤثرة؛ إذ ما دامت تؤتي ثمرتها، فمن الذي يعينه أمر الكيفية التي تمَّت بها؟ بَيد أن علم الأنثروبولوجيا هو تحديدًا مسألة فهمٍ، أعني أن يفهم أبناءُ مجتمع ما أو ثقافة ما أبناءَ مجتمعٍ أو ثقافة أخرى. وإذا ما كان علم الأنثروبولوجيا يُقدم علاجًا لأمراض ما، أو ييسر على الأقل المقدمات الأولى لهذا العلاج؛ فإن هذا العلاج يتمثل في الفهم نفسه.

مايكل كاريذرس
شعبة الأنثروبولوجيا
جامعة دورهام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤